شرح الحديث الخامس حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " تراءَى الناس الهلال ، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أني رأيتُه ؛ فصام وأمر الناس بصيامه " ، والكلام على تخريجه وفقهه . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
شرح الحديث الخامس حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " تراءَى الناس الهلال ، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أني رأيتُه ؛ فصام وأمر الناس بصيامه " ، والكلام على تخريجه وفقهه .
A-
A=
A+
الشيخ : والآن حديثنا هو الحديث الخامس ، وفيه بيان كيف يُثبَت هلال رمضان ؟ هل يحتاج الأمر إلى عديد من الشهود أم يُكتفى في ذلك بشاهد واحد عدل ؟

يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " تراءَى الناس الهلال ، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أني رأيتُه ؛ فصام وأمر الناس بصيامه " . رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان .

وهذا الحديث في الواقع من الأحاديث الصحيحة ، وقد صحَّحَه مَن ذكر المصنف من الحاكم وابن حبان ، ولكن لعل الأولى كان من الناحية الحديثية والاصطلاحية تقديم ابن حبان في الذِّكر على الحاكم ؛ لأنه قال : رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان ، فلو عكس وقال : رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم كان أقرب إلى الاصطلاح الحديثي من ناحيتين اثنتين : الناحية الأولى أن ابن حبان أعلى طبقةً ؛ أي : أقدم من الحاكم من حيث العصر ، والناحية الأخرى أنَّ تصحيح ابن حبان على ما فيه من تساهل ذكرناه في الدرس السابق ؛ ومع ذلك فلا يزال تصحيحُه أنظفَ من تصحيح الحاكم ؛ لأن الحاكم يُقال في تصحيحه ما قلناه أمس في تصحيح ابن حبان ، وزيادة شيء آخر ؛ وهو أن الحاكم ليس فقط يصحح الأحاديث التي في أسانيدها مَن لا يُعرف ، بل إنه يتعدَّى ذلك إلى أنه يصحح بعض الأحاديث وفي أسانيدها من هو متَّهم بالكذب والوضع في الحديث على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهذا مما لا يقع فيه ابن حبان ؛ ولذلك فمن المقطوع به عند أهل العلم بالحديث أن الحاكم أشدُّ تساهلًا في التصحيح من ابن حبان ، وأن " صحيح ابن حبان " أنظف من صحيح " مستدرك الحاكم " ، فلِمَا ذكرنا من علوِّ ابن حبان في الطبقة أوَّلًا ، ولأن تساهله في التصحيح أقلُّ من تساهل الحاكم ؛ كان الأولى أن يُقدَّم ابن حبان في الذكر على الحاكم فيقول : رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم .

وهذا الحديث في الواقع إسناده صحيح ، وفيه - كما هو واضح - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أثبَتَ هلال رمضان برؤية رجل واحد ؛ ألا وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ، فكان في هذا الحديث دلالة إلى المذهب الذي يقتصر في إثبات هلال رمضان على شاهد واحد ، والمسألة خلافية بين الفقهاء ؛ فمنهم مَن يقول بما دلَّ عليه هذا الحديث ، ومنهم مَن يُوجب أن يشهد اثنان فصاعدًا ، ومنهم مَن لا يقتصر في الشاهدين اثنين ، وإنما يوجب جماعة تحصل القناعة بصدقهم في رؤيتهم للهلال .

ونحن نقول : إن هذا الحديث يُعتبر أصلًا في الاكتفاء بالشاهد الواحد لإثبات هلال رمضان ، ولكن الناس يختلفون من حيث التساهل في الإخبار بما رأوا والتثبت في ما رأوا ، وحتى في الصدق ؛ فهذا يختلف باختلاف الزمان واختلاف المكان ، فالأمر حين ذاك يعود إلى القاضي الشرعي الذي أُنِيطَ به إثبات هلال رمضان ، فإذا جاءه شاهد ويعرفه جيِّدًا ، وأنه صادق وأنه كيِّس فطن ، وليس من الناس المغفَّلين الذين قد يقول أحدهم إنه رأى الهلال والواقع أنه رأى شعرةً من حاجبه بينه وبين الأفق فتوهَّمَها هلالًا ؛ فإذا جاء إلى القاضي رجل مسلم يعرف صدقه ويعرف نباهَتَه ويقظته فيجوز له شرعًا أن يثبت هلال رمضان بمجرَّد شهادة هذا المسلم الواحد ، أما إذا لم يطمئنَّ لخبره فتثبَّت وأراد شاهدًا ثانيًا أو ثالثًا على حسب بقى الأشخاص الذين يأتون ويشهدون عنده ؛ فلا مانع من ذلك حتى لا يستبق الأمر ويثبت هلال رمضان والواقع أنه لم يثبت ؛ لأنه لم يأتِ عنده شاهد يثق بشاهدته .

ونحن نعلم اليوم أن هناك عند القضاة - كما كان الأمر منذ القديم - جماعة يُعرفون بالمزكِّين يزكُّون الناس ، بتعرف فلان ؟ إي والله أعرفه ، وشو معرفته به ؟ معرفة سطحية جدًّا ؛ فلا شك أن القاضي الحريص على إثبات شهر الصيام بطريقة رضيَّة مطمئنَّة لا يقنع بمجرَّد أنُّو يقول : فلان هذا والله أعرفه رجل صادق إلا أن يتمكَّن هو من معرفته بطريقته الخاصَّة التي هو يقتنع بها .

خلاصة القول أن هذا الحديث يدل على أن الأصل في إثبات هلال رمضان يكفي فيه الشاهد الواحد ، ولكن ينبغي أن يكون هذا الشاهد معروفًا عند الوالي المسؤول الذي يُعلِنُ إثبات هلال رمضان اعتمادًا منه على هذا الشاهد الواحد .

وقد سمعتم أنَّ الذي رأى الهلال في هذا الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فهو صحابي ابن صحابي ، وهو معروف عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تمام المعرفة ؛ فلا جرم أنه - عليه الصلاة والسلام - اعتمد على خبره لرؤيته لهلال رمضان وأثبت بناءً عليه شهر الصيام ، لكن ليس كذلك هؤلاء الشهود الذين يشهدون في هذه الأيام لا سيَّما إذا أردنا أن نطبِّقَ شروط المسلمين العدول المنصوص عليها في كتب الفقه ، وبعضها بلا شك صواب لا ريب فيه ؛ فإننا لا نستطيع اليوم أن نثبت هلال رمضان إلا بواسطة أفراد قليلين جدًّا ، وَلْنذكر على ذلك مَثَلًا نضربه ونحن - كما يُقال - نرمي بذلك عصفورين بحجر واحد ؛ لقد جاء في كتب الأحناف التنصيص بأن الذي يحلق لحيته لا تُقبل شهادته ؛ فهل الحكَّام اليوم إذا جاءَهَم مخبر بإثبات هلال رمضان وهو حليق يقبلون شهادته أم لا يقبلون ؟!

يقبلون ، بينما منصوص عليه أنُّو هذا لا يقبل شهادته ، والسبب في ذلك أن حلق اللحية معصية ، وهذه المعصية باتفاق الأئمة الأربعة لا فرق بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ؛ فكلٌّ متَّفقون أن حلق اللحية معصية ؛ لأن في ذلك ارتكاب لمخالفات عديدة ثابتة في السنة ، يكفي في ذلك - مثلًا - قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - : ( حفُّوا الشارب وأعفوا اللحى ، وخالفوا اليهود والنصارى ) . اليهود والنصارى يحلقون لحاهم ، فأنتم خالفوهم ، فالذين ابتُلوا من المسلمين اليوم ولا مؤاخذة من الحاضرين المبتلين بهذه المعصية ؛ فإن ( الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ) كما قال - عليه الصلاة والسلام - . قالوا : لِمَن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المؤمنين وعامَّتهم ) . فنحن من عامة المسلمين يجب على أحدنا أن ينصح الآخرين ؛ لأن الدين النصيحة كما سمعتم .

لذلك فحلق اللحية معصية باتفاق الأئمة الأربعة ، ونَصَّ الحنفية فيما علمت - وقد يكون آخرون نصُّوا على ذلك - بأن من حلق لحيته لا تُقبل شهادته ، أما الآن فقد أصبح حلق اللحية أمرًا عاديًّا ، وعلى العكس من ذلك أصبح الذي يوفِّر لحيته موضع نظر غريب جدًّا من جماهير الناس وكأنه متوحِّش ، وكأنُّو كما يقولون اليوم رجعي ، ولا يحسُّون أبدًا أن إعفاء اللحية هو من أمور الفطرة التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها ؛ ولذلك كان الأنبياء جميعًا وبخاصَّة آخرهم محمد - عليه الصلاة والسلام - كانوا ذوي لحية ، ففي القرآن الكريم : (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )) إلى آخر الآية ، فهارون - عليه الصلاة والسلام - كسائر الأنبياء كانوا محافظين على هذه الفطرة ، فجماهير المسلمين اليوم بسبب غلبة العادات الغربية حينما غزوا الأوروبيون بلاد الإسلام بأبدانهم وبعاداتهم انتشرت هذه العادات الفاجرة الفاسقة ، وطُبِعَ بها جماهير المسلمين إلا القليل منهم ممَّن هداهم الله - عز وجل - يعرفوا أن نبيَّهم وأن أسوتهم الوحيدة كان له لحية جليلة ، وأن هذا النبيَّ الكريم أمَرَهم بأن يعفوا عن لحاهم ولا يتشبَّهوا بالكفار ؛ لما أصبح أكثر الناس مُبتلين اليوم رأى هؤلاء الحكَّام أن يتساهلوا في الموضوع وأن يقبلوا شهادة حليق اللحية .

وأريد من هذا المثال أن نقول : إن هناك تساهلًا في تعديل الشهود ؛ ولذلك فإذا تثبَّتَ الحاكم ولم يقتصر في إثبات هلال رمضان على شهادة مسلم واحد فلا مانع من ذلك ؛ لأن هذا المسلم سوف لا يكون مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب من حيث إيمانه وصدقه ويقظته ونباهته من جهة ، ومن جهة أخرى فسوف لا يكون هذا الشاهد في الغالب معروفًا عند الحاكم كما كان عبد الله بن عمر معروفًا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .

خلاصة القول : يجب على القاضي الذي يريد إثبات هلال رمضان أن يتثبَّتَ في إثبات هذا الهلال ، فإن جاء رجل يعرفه معرفة جيِّدة وهو مسلم عدل أثبَتَه بشهادة هذا المسلم الواحد كما يدل عليه هذا الحديث الصحيح .

مواضيع متعلقة