ما هو الراجح في مسألة صلاة تحية المسجد في وقت النهي ؟
A-
A=
A+
السائل : ... بعد صلاة الصبح إذا دخل أحدكم المسجد ؟
الشيخ : والجواب بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... من المسائل الفقهية التي اختلف فيها الفقهاء على قولين اثنين ؛ القول الأول الجواز ، وهو الذي نختاره ، والقول الثاني المنع ، وهو عندنا مرجوح غير مختار ، والسبب في ذلك الترجيح هو أنَّنا نظرنا إلى أدلة المخالفين فوجدناهم ليس عندهم إلا الأدلة العامة التي يعتزُّ بها كلُّ فقيه ، وهي الأصل في النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ؛ كمثل قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلعَ الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغربَ الشمس ) ، وقد نظرنا في هذا الحديث فوجدناه قد دخله مُخصِّصات كثيرة كالأحاديث الأخرى التي في معناه ، فأول مُخصَّص طرأ على هذا الحديث في شطره الثاني هو حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، فقد خصَّص هذا الحديثُ الحديثَ الثاني في شطره الحديثَ الأول في شطره الثاني ، وهو قوله : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) ، فخصَّص هذا العموم الحديثُ الثاني ؛ " نهى عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، فصار حديث : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) من المُخصَّص بالحديث الثاني ، ومعناه حين ذاك : " لا صلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، والنتيجة الفقهية منه أن الصلاة بعد العصر مباشرةً جائزة مطلقًا حتى تُصبح الشمس صفراء ، فحين ذاك يأتي النهي الوارد في الحديث الأول .
ثم دخل الحديثَ في شطره الأول مُخصِّصات - أيضًا - أخرى كالشطر الثاني ، فمِن ذلك - مثلًا - قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( مَن نَسِيَ صلاةً أو نامَ عنها فليصلِّها حين يذكُرُها لا كفَّارة لها إلا ذلك ) ، فيدل هذا الحديث على أن النَّاسي لصلاته أو النائم عنها فوقت هذه الصلاة حين يستيقظ لها أو يتذكَّرها ، وهذا الحديث يُعتبر مخصِّصًا بالحديث الأول ، ويكون النتيجة من الناحية الفقهية : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس إلا الصلاة المنسيَّة أو التي نامَ عنها ؛ فيصليها ولو بعد الفجر أو ولو بعد العصر " .
فهذا - أيضًا - من المخصِّصات للحديث الأول ، ومن تلك المخصِّصات - أيضًا - حديث : ( يا بني عبد مناف ، لا يمنعنَّ أحدُكم رجلًا طافَ في أيِّ ساعة من ليل أو نهار في مكة ) ، فهذا الحديث - أيضًا - يُخصِّص النهي العام المذكور في الحديث الأول فتكون النتيجة .
... كما جاء في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لبلال ذاتَ يومٍ : ( يا بلال ، إني دخلتُ الجنة فسمعتُ دفَّ نعليك بين يديَّ ؛ فَبِمَ ذلك ؟ ) . قال : يا رسول الله ، لا أدري إلا أنَّني كلما توضَّأتُ رأيتُ أن لله عليَّ ركعتين . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فهو ذاك ) . فكل هذه الأحاديث تُخصِّص النهي المذكور في الحديث الأول كما ذكرنا فيما سبق من المخصِّصات ، وههنا بحديث بلال هذا يُضاف مخصِّص آخر ، فيصبح الحديث : ( لا صلاة بعد الفجر إلا أن تطلع الشمس وبعد العصر إلا أن تغرب الشمس ) إلا سنة الوضوء .
كذلك من المخصِّصات التي طرأت على الحديث الأول بقسمه الأول ما رواه الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى الصبح ذاتَ يومٍ في المسجد كما هي عادته ، فلما سلم رأى رجلًا قام يصلي ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( آلصُّبح أربعًا ؟! آلصُّبح أربعًا ؟! ) ينكر عليه هذه الزيادة التي ألحَقَها في فريضة الفجر ، فلما انتهى ذلك الرجل من صلاته وكانت ركعتين ؛ قال : يا رسول الله ، إني دخلت المسجد ، فوجدتك تصلي الفرض ، فصليت ، وهما هاتان سنة الفجر ، فأقرَّه - عليه الصلاة والسلام - ولم ينكر ذلك عليه ؛ فصار من المستثنى من قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ) ركعتا الفجر ، فتُستثنى ؛ فيُقال : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلعَ الشمس إلا ركعتي الفجر " .
والغرض من هذه من ذكرها لهذه المخصِّصات لحديث النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر هو لِنُبيِّن ما يأتي ؛ وهو أن هناك علمًا في مصطلح الحديث يُسمَّى بعلم مختلف الحديث ، ويذكرون به أنه إذا جاء حديثان اثنان من قسم المقبول ، وكانا متعارضَين وجَبَ التوفيق بينهما بوجهٍ من وجوه التوفيق إذا أمكن ، فإن لم يُمكن صِيرَ إلى اعتبار الناسخ من المنسوخ ؛ يعني إذا أمكن إثبات أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ كان التوفيق بهذا الاعتبار . =
السائل : ... .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله .
= فإن لم يُمكن اعتبار الناسخ من المنسوخ من بينهما صِيرَ إلى الترجيح من حيث السند ، فيُؤخذ بالأقوى إسنادًا ، ويُترك ما دونه قوَّة ، فإن لم يُمكن الترجيح وهو المرتبة الثالثة حين ذاك يُتوقَّف ويُترك العلم إلى عالمه .
نعود إلى الوجه الأول من وجوه التوفيق بين الحديثين المختلفين اللذين هما من قسم المقبول ، فنقول : قد ذكر علماء الحديث وعلماء الأصول وجوهًا كثيرة جدًّا في سبيل التوفيق بين النَّصَّين المختلفَين دون أن يُصارَ إلى اعتبار الناسخ والمنسوخ ، إلا إذا لم يُمكن التوفيق بين الحديثين على وجهٍ من الوجوه هذه الكثيرة التي أبلَغَها الحافظ العراقي في " حاشيته " على " مقدمة علوم ابن الصلاح " أكثر من مئة وجه ، كلُّ وجهٍ من هذه المئة وجه يُوفَّق بين الحديثين المتعارضين ؛ بمعنى أنه إذا لم يتيسَّر للباحث التوفيق بالوجه الأول انتقل إلى الثاني ، فإن لم يمكن فالثالث ، وهكذا فالرابع إلى مئة وزيادة ؛ ولذلك فمن النادر جدًّا ألَّا يمكن التوفيق بين الحديثين المتعارضين حتى يضطرَّ الإنسان إلى أن يلجأَ إلى المرتبة الثانية من مراتب التوفيق ؛ ألا وهي مرتبة اعتبار الناسخ من المنسوخ .
والشاهد أنهم ذكروا في تلك الوجوه المئة فزيادة وهي التوفيق بين حديثين متعارضين هو : أنه إذا تعارَضَ نصَّان كلٌّ منهما عامٌّ نُظِر إلى هذَين النَّصَّين ؛ فإذا كان أحدهما عام مخصوص ، والآخر عام غير مخصوص ؛ سُلِّط العام هذا غير المخصوص على العام المخصوص فخَصَّصه .
... هذا الكلام مُغلق على كثير من الناس ؛ لأنه اصطلاح محض من علوم الحديث وأصول الفقه ، إلا أن المثل الذي نحن في صدده سيوضِّح لكم هذا الاصطلاح وضوحًا تامًّا ؛ لا سيما بعد أن قدَّمنا الأحاديث المُخصِّصة لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الأول : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلُعَ الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرُبَ الشمس ) .
... فنجد في حديث التحية حديثين اثنين ؛ أحدُهما عامٌّ يشمل كلَّ الأوقات بعمومه ؛ أَلَا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي قتادة الأنصاري أنه دخَلَ المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جالسٌ فيه ، فجلس إلى جانبه ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( أَصَلَّيت ؟ ) . قال : لا . قال : ( قُمْ فصلِّ ) . وأنبِّهكم بأن هذا الحديث غير الحديث الثاني الآتي وهو حديث سُلَيك الغطفاني ، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي قتادة هذا : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلِسْ حتى يصلِّي ركعتين ) ، وفي رواية أخرى : ( فليصلِّ ركعتين ، ثم ليجلِسْ ) ، هذا حديث أبي قتادة الأنصاري في " الصحيحين " .
وهذا كما ترون بعمومه يشمل كل وقت ؛ لأنه قال : ( إذا دخَلَ أحدكم المسجد فلا يجلِسْ حتى يصلي ركعتين ) ، أو ( فليصلِّ ركعتين ، ثم ليجلِسْ ) ، لم يخصَّ وقتًا دون وقت ، وإنما عمَّمَ وأطلق ، يؤكد لنا العموم وأنه عام إلى أبعد حدود العموم بحيث أنه يشمل - أيضًا - وقتًا من الأوقات المكروهة ، يؤيِّد هذا الحديث الثاني ، هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخل رجلٌ يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب على المنبر ، فجلس ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( يا فلان ) ، وكان اسمه سُلَيك قال : ( يا فلان ، أَصَلَّيتَ ؟ ) . قال : لا . قال : ( قُمْ فصلِّ ركعتين ) . ثم التفت إلى الحاضرين جميعًا فقال لهم : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين ، وليتجوَّز فيهما ) متفق عليه كما ذكرنا من حديث جابر .
نجد في هذا الحديث أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أمَرَ بصلاة التحية أمرًا عامًّا لكل مَن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب بأن يصلي ركعتين ، فإذا تذكَّرنا اتفاقَ أهل العلم على النهي عن الصلاة ، الصلاة النافلة المطلقة يوم الجمعة والخطيب يخطب ؛ إذا علمِنا أن وقت كوْنِ الخطيب يخطب يوم الجمعة هو من الأوقات التي لا تُشرع فيها صلاة النوافل ، بل لا يُشرع فيه ما هو آكد من صلاة النافلة ؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما ثبت - أيضًا - في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب : أنصِتْ ؛ فقد لَغَا ) ؛ إذًا قول القائل لِمَن يتكلَّم والخطيب يخطب يوم الجمعة " أنصِتْ " يعتبره الشارع الحكيم لغوًا من القول . ومعنى هذا أنه لا يجوز لِمَن سمع رجلًا يتكلَّم والخطيب يخطب يوم الجمعة أن يقول له : أنصِتْ ، ولازمه أن الأمر بالمعروف الذي هو واجب معروف يسقط في حالة كون الخطيب يخطب يوم الجمعة .
فإذا كان هذا كذلك ، وتذكَّرنا حديث سُلَيْك الغطفاني آنفًا ، وفيه أمر الرسول إيَّاه بأن يصلي التحية ، وأمر الرسول جميع الحاضرين بأنَّ أحدهم إذا دخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب ؛ فعليه - أيضًا - أن يصلي ركعتين ؛ نَتَجَ معنا أنَّ ما يُكْرَه من الأمر بالمعروف في وقت خطبة الخطيب يوم الجمعة يجوز من التحية في ذلك الوقت ما لا يجوز من الواجبات الأخرى ؛ فهل هناك دليل أوضح من هذا الحديث مِن أن صلاة التحية تُصلَّى في وقت الكراهة ؟! فقد عرفنا وتبيَّن لنا بوضوح أن وقت الخطيب يخطب يوم الجمعة هو وقت كراهة ، مع ذلك فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمَرَ بالتحية في وقت هذه ، في هذا الوقت المكروه ، ونعلم حين ذاك أنه لا فرق بين وقت مكروه ووقت آخر ... .
الشيخ : والجواب بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... من المسائل الفقهية التي اختلف فيها الفقهاء على قولين اثنين ؛ القول الأول الجواز ، وهو الذي نختاره ، والقول الثاني المنع ، وهو عندنا مرجوح غير مختار ، والسبب في ذلك الترجيح هو أنَّنا نظرنا إلى أدلة المخالفين فوجدناهم ليس عندهم إلا الأدلة العامة التي يعتزُّ بها كلُّ فقيه ، وهي الأصل في النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ؛ كمثل قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلعَ الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغربَ الشمس ) ، وقد نظرنا في هذا الحديث فوجدناه قد دخله مُخصِّصات كثيرة كالأحاديث الأخرى التي في معناه ، فأول مُخصَّص طرأ على هذا الحديث في شطره الثاني هو حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، فقد خصَّص هذا الحديثُ الحديثَ الثاني في شطره الحديثَ الأول في شطره الثاني ، وهو قوله : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) ، فخصَّص هذا العموم الحديثُ الثاني ؛ " نهى عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، فصار حديث : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) من المُخصَّص بالحديث الثاني ، ومعناه حين ذاك : " لا صلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة نقيَّة " ، والنتيجة الفقهية منه أن الصلاة بعد العصر مباشرةً جائزة مطلقًا حتى تُصبح الشمس صفراء ، فحين ذاك يأتي النهي الوارد في الحديث الأول .
ثم دخل الحديثَ في شطره الأول مُخصِّصات - أيضًا - أخرى كالشطر الثاني ، فمِن ذلك - مثلًا - قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( مَن نَسِيَ صلاةً أو نامَ عنها فليصلِّها حين يذكُرُها لا كفَّارة لها إلا ذلك ) ، فيدل هذا الحديث على أن النَّاسي لصلاته أو النائم عنها فوقت هذه الصلاة حين يستيقظ لها أو يتذكَّرها ، وهذا الحديث يُعتبر مخصِّصًا بالحديث الأول ، ويكون النتيجة من الناحية الفقهية : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس إلا الصلاة المنسيَّة أو التي نامَ عنها ؛ فيصليها ولو بعد الفجر أو ولو بعد العصر " .
فهذا - أيضًا - من المخصِّصات للحديث الأول ، ومن تلك المخصِّصات - أيضًا - حديث : ( يا بني عبد مناف ، لا يمنعنَّ أحدُكم رجلًا طافَ في أيِّ ساعة من ليل أو نهار في مكة ) ، فهذا الحديث - أيضًا - يُخصِّص النهي العام المذكور في الحديث الأول فتكون النتيجة .
... كما جاء في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لبلال ذاتَ يومٍ : ( يا بلال ، إني دخلتُ الجنة فسمعتُ دفَّ نعليك بين يديَّ ؛ فَبِمَ ذلك ؟ ) . قال : يا رسول الله ، لا أدري إلا أنَّني كلما توضَّأتُ رأيتُ أن لله عليَّ ركعتين . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فهو ذاك ) . فكل هذه الأحاديث تُخصِّص النهي المذكور في الحديث الأول كما ذكرنا فيما سبق من المخصِّصات ، وههنا بحديث بلال هذا يُضاف مخصِّص آخر ، فيصبح الحديث : ( لا صلاة بعد الفجر إلا أن تطلع الشمس وبعد العصر إلا أن تغرب الشمس ) إلا سنة الوضوء .
كذلك من المخصِّصات التي طرأت على الحديث الأول بقسمه الأول ما رواه الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى الصبح ذاتَ يومٍ في المسجد كما هي عادته ، فلما سلم رأى رجلًا قام يصلي ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( آلصُّبح أربعًا ؟! آلصُّبح أربعًا ؟! ) ينكر عليه هذه الزيادة التي ألحَقَها في فريضة الفجر ، فلما انتهى ذلك الرجل من صلاته وكانت ركعتين ؛ قال : يا رسول الله ، إني دخلت المسجد ، فوجدتك تصلي الفرض ، فصليت ، وهما هاتان سنة الفجر ، فأقرَّه - عليه الصلاة والسلام - ولم ينكر ذلك عليه ؛ فصار من المستثنى من قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ) ركعتا الفجر ، فتُستثنى ؛ فيُقال : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلعَ الشمس إلا ركعتي الفجر " .
والغرض من هذه من ذكرها لهذه المخصِّصات لحديث النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر هو لِنُبيِّن ما يأتي ؛ وهو أن هناك علمًا في مصطلح الحديث يُسمَّى بعلم مختلف الحديث ، ويذكرون به أنه إذا جاء حديثان اثنان من قسم المقبول ، وكانا متعارضَين وجَبَ التوفيق بينهما بوجهٍ من وجوه التوفيق إذا أمكن ، فإن لم يُمكن صِيرَ إلى اعتبار الناسخ من المنسوخ ؛ يعني إذا أمكن إثبات أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ كان التوفيق بهذا الاعتبار . =
السائل : ... .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله .
= فإن لم يُمكن اعتبار الناسخ من المنسوخ من بينهما صِيرَ إلى الترجيح من حيث السند ، فيُؤخذ بالأقوى إسنادًا ، ويُترك ما دونه قوَّة ، فإن لم يُمكن الترجيح وهو المرتبة الثالثة حين ذاك يُتوقَّف ويُترك العلم إلى عالمه .
نعود إلى الوجه الأول من وجوه التوفيق بين الحديثين المختلفين اللذين هما من قسم المقبول ، فنقول : قد ذكر علماء الحديث وعلماء الأصول وجوهًا كثيرة جدًّا في سبيل التوفيق بين النَّصَّين المختلفَين دون أن يُصارَ إلى اعتبار الناسخ والمنسوخ ، إلا إذا لم يُمكن التوفيق بين الحديثين على وجهٍ من الوجوه هذه الكثيرة التي أبلَغَها الحافظ العراقي في " حاشيته " على " مقدمة علوم ابن الصلاح " أكثر من مئة وجه ، كلُّ وجهٍ من هذه المئة وجه يُوفَّق بين الحديثين المتعارضين ؛ بمعنى أنه إذا لم يتيسَّر للباحث التوفيق بالوجه الأول انتقل إلى الثاني ، فإن لم يمكن فالثالث ، وهكذا فالرابع إلى مئة وزيادة ؛ ولذلك فمن النادر جدًّا ألَّا يمكن التوفيق بين الحديثين المتعارضين حتى يضطرَّ الإنسان إلى أن يلجأَ إلى المرتبة الثانية من مراتب التوفيق ؛ ألا وهي مرتبة اعتبار الناسخ من المنسوخ .
والشاهد أنهم ذكروا في تلك الوجوه المئة فزيادة وهي التوفيق بين حديثين متعارضين هو : أنه إذا تعارَضَ نصَّان كلٌّ منهما عامٌّ نُظِر إلى هذَين النَّصَّين ؛ فإذا كان أحدهما عام مخصوص ، والآخر عام غير مخصوص ؛ سُلِّط العام هذا غير المخصوص على العام المخصوص فخَصَّصه .
... هذا الكلام مُغلق على كثير من الناس ؛ لأنه اصطلاح محض من علوم الحديث وأصول الفقه ، إلا أن المثل الذي نحن في صدده سيوضِّح لكم هذا الاصطلاح وضوحًا تامًّا ؛ لا سيما بعد أن قدَّمنا الأحاديث المُخصِّصة لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الأول : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلُعَ الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرُبَ الشمس ) .
... فنجد في حديث التحية حديثين اثنين ؛ أحدُهما عامٌّ يشمل كلَّ الأوقات بعمومه ؛ أَلَا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي قتادة الأنصاري أنه دخَلَ المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جالسٌ فيه ، فجلس إلى جانبه ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( أَصَلَّيت ؟ ) . قال : لا . قال : ( قُمْ فصلِّ ) . وأنبِّهكم بأن هذا الحديث غير الحديث الثاني الآتي وهو حديث سُلَيك الغطفاني ، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي قتادة هذا : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلِسْ حتى يصلِّي ركعتين ) ، وفي رواية أخرى : ( فليصلِّ ركعتين ، ثم ليجلِسْ ) ، هذا حديث أبي قتادة الأنصاري في " الصحيحين " .
وهذا كما ترون بعمومه يشمل كل وقت ؛ لأنه قال : ( إذا دخَلَ أحدكم المسجد فلا يجلِسْ حتى يصلي ركعتين ) ، أو ( فليصلِّ ركعتين ، ثم ليجلِسْ ) ، لم يخصَّ وقتًا دون وقت ، وإنما عمَّمَ وأطلق ، يؤكد لنا العموم وأنه عام إلى أبعد حدود العموم بحيث أنه يشمل - أيضًا - وقتًا من الأوقات المكروهة ، يؤيِّد هذا الحديث الثاني ، هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخل رجلٌ يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب على المنبر ، فجلس ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( يا فلان ) ، وكان اسمه سُلَيك قال : ( يا فلان ، أَصَلَّيتَ ؟ ) . قال : لا . قال : ( قُمْ فصلِّ ركعتين ) . ثم التفت إلى الحاضرين جميعًا فقال لهم : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين ، وليتجوَّز فيهما ) متفق عليه كما ذكرنا من حديث جابر .
نجد في هذا الحديث أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أمَرَ بصلاة التحية أمرًا عامًّا لكل مَن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب بأن يصلي ركعتين ، فإذا تذكَّرنا اتفاقَ أهل العلم على النهي عن الصلاة ، الصلاة النافلة المطلقة يوم الجمعة والخطيب يخطب ؛ إذا علمِنا أن وقت كوْنِ الخطيب يخطب يوم الجمعة هو من الأوقات التي لا تُشرع فيها صلاة النوافل ، بل لا يُشرع فيه ما هو آكد من صلاة النافلة ؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما ثبت - أيضًا - في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب : أنصِتْ ؛ فقد لَغَا ) ؛ إذًا قول القائل لِمَن يتكلَّم والخطيب يخطب يوم الجمعة " أنصِتْ " يعتبره الشارع الحكيم لغوًا من القول . ومعنى هذا أنه لا يجوز لِمَن سمع رجلًا يتكلَّم والخطيب يخطب يوم الجمعة أن يقول له : أنصِتْ ، ولازمه أن الأمر بالمعروف الذي هو واجب معروف يسقط في حالة كون الخطيب يخطب يوم الجمعة .
فإذا كان هذا كذلك ، وتذكَّرنا حديث سُلَيْك الغطفاني آنفًا ، وفيه أمر الرسول إيَّاه بأن يصلي التحية ، وأمر الرسول جميع الحاضرين بأنَّ أحدهم إذا دخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب ؛ فعليه - أيضًا - أن يصلي ركعتين ؛ نَتَجَ معنا أنَّ ما يُكْرَه من الأمر بالمعروف في وقت خطبة الخطيب يوم الجمعة يجوز من التحية في ذلك الوقت ما لا يجوز من الواجبات الأخرى ؛ فهل هناك دليل أوضح من هذا الحديث مِن أن صلاة التحية تُصلَّى في وقت الكراهة ؟! فقد عرفنا وتبيَّن لنا بوضوح أن وقت الخطيب يخطب يوم الجمعة هو وقت كراهة ، مع ذلك فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمَرَ بالتحية في وقت هذه ، في هذا الوقت المكروه ، ونعلم حين ذاك أنه لا فرق بين وقت مكروه ووقت آخر ... .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 273
- توقيت الفهرسة : 00:42:16
- نسخة مدققة إملائيًّا