سؤال حول كتابكم " صفة الصلاة " وما ورد فيها من تغيير الصحابة لصيغة السلام في التشهد ؛ فكيف نوجِّه هذا التغيير ؟
A-
A=
A+
عيد عباسي : هناك سؤال في كتاب " صفة الصلاة " ذكرتم حديث ، الحديث المروي عن الصحابة في كيفية التشهد الصحابة قد غيَّروا صيغة : " السلام عليك " لـ " السلام على النبي ورحمة الله وبركاته " ؛ كيف نوفِّق الأمر الثاني بالأول ؛ علمًا بأن بعض السلفية منهجها الأخذ بالقرآن والسنة وفهم الصحابة لهما ؟
الشيخ : كأن السَّائل فهم أن الصحابة غيَّروا النَّصَّ الذي تلقَّوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الذي هو بصيغة الخطاب : " السلام عليك أيها النبي " ؛ كأنه فَهِمَ أنهم غيَّروه من عند أنفسهم ، وهذا ما نبرِّئ به أقلَّ الناس فهمًا للسنة حتى لو كان خلفيًّا سلفيًّا ؛ أعني حتى لو كان من الخلف الذين يتبنَّون مذهب السلف ؛ لا نتصوَّر رجلًا من المتأخرين يفقه أن الأوراد توقيفية يتجرَّأ على أن يغيِّر حرفًا واحدًا في وردٍ تلقَّاه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالأسانيد ؛ فكيف نتصوَّر صحابيًّا واحدًا كمثل ، لا سيما إذا كان مثل ابن مسعود يُقدِم على تغيير نصٍّ تلقَّاه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرةً ؟! هذا الخاطر يجب أن لا يخطر على بال السَّائل أو غيره أبدًا . وإنما يقول العلماء في مثل هذا : إن ذلك الذي فعلوه هو بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم ، ومعنى التوقيف ؛ أي : إن الرسول - عليه السلام - هو الذي ألمَحَ وأشار إليهم أن هذا هو في حياتي ، أما بعد وفاتي فتتكلَّمون بصغة الغيبة ليس بصيغة الحاضر ، فتقولون في التشهد : " السلام على النبي " .
ونحن نعرف بُعدَ الصحابة عن الابتداع بصورة عامة ، وبعدهم عنه في الأذكار بصورة خاصَّة ، وبالأخصِّ منهم عبد الله بن مسعود الذي جاء النَّصُّ الصحيح في البخاري عنه أنه قال : " علَّمَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الصلاة وكفِّي بين كفيه " ، كفِّي بين كفَّيه : كناية عن اهتمام المعلِّم بالمتعلِّم بتلقينه ما هو في طريق تعليمه إياه . قال ابن مسعود : " علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التشهد وكفِّي بين كفَّيه ؛ التحيات لله " وذكر التشهد المعروف عن ابن مسعود والذي عليه الحنفية : " التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله " . قال ابن مسعود بعد أن ذكر النَّصَّ الذي لقَّنَه إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفُّه بين كفَّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ونحن بين ظهرانيه ، وهو بين ظهرانينا " ؛ يعني علَّمَه أن يقول هذا وهو بين ظهرانيهم ؛ يعني وهو حيٌّ معهم - عليه الصلاة والسلام - ، قال : فلمَّا مات قلنا : " السلام على النبي " ، ما قال هو : قلت ، وحاشاه أن يقول كما قلت لكم آنفًا ، حاشاه أن يتصرَّف في مثل هذا النَّصِّ الذي تلقَّاه من الرسول مباشرةً وبهذا الاهتمام الذي عبَّرَ عنه بقوله : " وكفِّي بين كفَّيه " ، وإنما ذلك مما فهمه في أثناء التلقين ؛ لذلك قال في آخر الحديث : " وهو بين ظهرانينا ، فلما مات قال : قلنا " ، ما قال : قلت . كيف هو يقول من عند نفسه شيئًا يغيِّر فيه نصَّ الرسول - عليه السلام - وهو يعلم أن تعليم الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - هو وحيٌ من الله ، هو وحيٌ من الله ؟
والذين يجهلون هذه الحقيقة أو يغفلون أو يتغافلون عنها هم في الواقع في خطأ كبير جدًّا ؛ الذين يتقدَّمون إلى أوراد الرسول - عليه السلام - وإلى أذكاره فيزيدون فيها ما شاؤوا من الزيادات لا يتصوَّرون أبدًا أنهم يزيدون على الوحي ، لا يخطر في بالهم هذا ، وهذا في الواقع تفريق خبيث لا يتنبَّهون له بين الله ورسوله ، تفريق خبيث بين الكتاب والسنة ، بين ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة ، وإلا هل يجرؤ أحد هؤلاء أن يزيد في نصِّ القرآن حرفًا واحدًا من أجل إشباعِ نهمَتِه وغلوِّه في حبيبه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مثلًا ؟ هل يقول أحدهم حين قال الله : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ )) إلى آخره ؛ هل يقول أحدهم : محمد سيدنا محمد رسول الله ؟ ما أحد يقول هذا ، هيك رأسًا بيقول لك : هذا زيادة على القرآن ما بيجوز .
طيب ؛ والزيادة على ما ليس من القرآن وهو وحيٌ - أيضًا - ؛ - أيضًا - لا يجوز ، لكنهم يفرِّقون كما قلت لكم بجهلهم ، كذلك ما يقول أحدهم : محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - رسول الله ؛ لأنُّو هذا الزيادة على النَّصِّ ، فنحن - معشر الذين ينتمون إلى السلف - لا نفرِّق بين الله ورسوله أبدًا ، لا نفرِّق بين كتاب الله وحديث رسول الله ، بين تعليم الله وتعليم رسول الله ؛ كلاهما يصدران من مشكاة واحدة هي مشكاة الوحي من السماء .
لذلك لما علَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - البراءَ بن عازب وِرْدَ الاضطجاع حين النوم : ( اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجَّهت وجهي إليك ، وفوَّضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ؛ رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ، وبنبيِّك الذي أرسلت ) . قال له : ( إذا أنت قلت ذلك ومتَّ من ليلتك متَّ على الفطرة ) . فأعاد هذا الدعاء البراء بن عازب بين يدي الرسول - عليه السلام - ليتمكَّنَ من حفظه ، فلما وصل إلى قوله الأخير : " آمنتُ بكتابك الذي أنزلت وبنبيِّك " ، إيش قال هو ؟ " وبرسولك الذي أرسلت " ، بدل أن يقول : " وبنبيِّك الذي أرسلت " قال : " وبرسولك الذي أرسلت " ، فصدَّه الرسول - عليه السلام - ورَدَّه عن ذلك ، وقال له : ( قُلْ : وبنبيِّك الذي أرسلت ) .
لو سألنا هؤلاء المغيِّرين والمبدِّلين في أذكار الرسول - عليه السلام - : هل هناك فرق يفسد المعنى الذي جاء به الرسول - عليه السلام - في هذا الورد بين تعليم الرسول الذي هو " وبنبيِّك الذي أرسلت " وبين ما أخطأ فيه براء فقال : ( وبرسولك الذي أرسلت ) ؛ هل هناك فرق ؟
لو لم يكن محمد - عليه السلام - رسولًا وكان نبيًّا فقط صار فيه تغيير للمعنى ؛ لأنُّو الرسول أعم من النبي ، كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولًا ، لكن نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - هو ليس فقط رسول ، بل هو خاتم الأنبياء والرسل جميعًا ، فحينما قال البراء : " وبرسولك الذي أرسلت " ما خالف الواقع أبدًا ، لكنه خالف التعليم النبوي ، يا إخواننا انتبهوا لهذا ، كل شيء هو أنه خالف تعليم الرسول إياه ، أما المعنى فماشي مستقيم تمامًا ؛ لذلك قال له : ( قُلْ : وبنبيِّك الذي أرسلت ) ، على هذا جرى الصحابة ، وذكرت لكم مرارًا بمثل هذه المناسبة عن كثير من الصحابة كيف كانوا يفرُّون من أن يعدل الرجل عن لفظ الرسول إلى لفظ من عنده .
فهناك مثلًا في " مسند الإمام أحمد " أن سعد بن أبي وقاص سمع رجلًا يقول في التلبية في الحج : " لبيك ذا المعارج " ، قال له - وهذا من حكمة الصحابة أيضًا في إنكار المنكر - قال : إنه لذو المعارج ، ولكن ما هكذا كنا نقول في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كنا نقول : لبيك اللهم لبيك ، إلى آخر التلبية المعروفة ، قال له : لبيك ذو المعارج هو ذو المعارج ، لكن التلبية ما هكذا كانت في عهد الرسول - عليه السلام - .
وأبدع من هذا - أيضًا - في أسلوب الإنكار قصة ابن عمر التي ذكرتها لكم أكثر من مرة - أيضًا - ؛ سمع رجلًا عطس فقال : الحمد لله والصلاة على رسول الله . قال : وأنا أقول معك : الحمد لله والصلاة على رسول الله ، لكن ما هكذا علمنا رسول الله ؛ قل : الحمد لله رب العالمين .
كأنُّو القضية الآن تتكرَّر تمامًا لكن - مع الأسف - دون أن يكون هناك متجاوبين مع المنكرين ، هذه زيادة اليوم في عباداتنا تأتي بصور عجيبة ، وأكثرها الزيادة في الأذان ، الصلاة على الرسول - عليه السلام - كما قال ابن عمر : وأنا أقول معك : والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكن الرسول ما هكذا علَّمنا .
فهكذا الصحابة - والآثار كثيرة جدًّا جدًّا - كانوا يتورَّعون أن يأتوا بتغيير للفظ الرسول - عليه السلام - ، ومن أشهرهم في ذلك وأدقِّهم صاحبنا صاحب حديث التشهد الذي علَّمه الرسول إياه وكفُّه بين كفَّيه ؛ ألا وهو عبد الله بن مسعود ؛ حيث روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه " شرح معاني الآثار " بالسند الصحيح عن ابن مسعود أنه كان إذا علَّمَ أصحابه التشهد يأخذ عليهم الحرف الواحد ، يأخذ عليهم الحرف الواحد ؛ يعني إذا - مثلًا - زاد حرف أو نقص حرف يقول له : لا ، ارجع وقلها كما تلقيتها عن الرسول - عليه السلام - . فهل نتصوَّر مثل هذا الصحابي لو كان وحده ؛ هل نتصوَّره يأتي إلى التعليم الذي لقَّنَه الرسول - عليه السلام - إياه مباشرة : " السلام عليك أيها النبي " فيأتي ويعدِلُ منه إلى " السلام على النبي " دون أن يكون عنده تعليم وتوجيه من الرسول - عليه السلام - له بذلك ؟ حاشاه من ذلك !! فكيف وليس هو في الميدان وحده ؟ هو أوَّلًا يروي لنا فيقول : فلما مات رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - قلنا - يعني نحن معشر الصحابة - " السلام على النبي " ؛ ولذلك تأكيدًا لهذا المعنى الذي رواه لنا ابن مسعود بصيغة الجمع قلنا : " السلام على النبي " جاء هذا التشهد مع اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في " صفة الصلاة " عن السيدة عائشة بـ " السلام على النبي " ، جاء عن عمر بن الخطاب في " موطأ مالك " : " السلام على النبي " وهكذا ، إذًا هذا نقوله هو اتفاق وإجماع من الصحابة ذهبوا إليه ليس اجتهادًا منهم وتغييرًا للنَّصِّ كما يتبادر من سؤال السَّائل ، وإنما هذا بتوقيف من الرسول - صلوات الله وسلامه - إياهم .
وما أبدع هذا الأمر فيما إذا عرفنا اليوم غلوَّ الناس في دُعاء الموتى والاستغاثة بغير الله - عز وجل - ، فكأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أومَأَ وأشار إلى هؤلاء الصحابة من باب سدِّ الذريعة أنُّو أنا إذا متُّ قولوا : " السلام على النبي " ؛ ذلك لأنَّ كثيرًا من الناس اليوم يتوهَّمون أوهام كثيرة ؛ منها أن الموتى يسمعون ، الموتى جميعًا ، يتوهَّمون كثير من الناس اليوم - إذا ما قلنا كلهم - أن الموتى يسمعون ؛ فمن باب أولى سيدهم سيد المسلمين جميعًا محمد - عليه السلام - يسمع من باب أولى ؛ فما بالكم إذا كان الرسول هو لا يسمع ؟! هو لا يسمع حتى الصلاة عليه وهو أفضل ما يُقال في حقِّه - عليه السلام - ؛ فهل يسمع استغاثة المستغيثين به من دون الله - عز وجل - ؟ هل يسمع توسُّل المتوسِّلين به من دون الله - عز وجل - ؟
الصلاة على الرسول لا يسمعها هو ، وقد يستغرب بعضكم ممَّن لم يطرق سمعَه مثلُ هذا الكلام من قبل ؛ كيف الرسول - عليه السلام - لا يسمع الصلاة عليه ؟
نعم ، اسمعوا حديث الرسول - عليه السلام - الذي قد تسمعونه وهو : ( أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة ؛ فإن صلاتكم تبلُغُني ) ، اسمعوا قال : ( فإن صلاتكم تبلغني ) ما قال : أسمعها ، قالوا : " كيف ذاك وقد أرمْتَ ؟ قال : ( إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) . ويوضِّح هذا التبليغ ( فإن صلاتكم تبلغني ) يوضِّحه حديث آخر يرويه - أيضًا - عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وأرضاه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إن لله ملائكة سيَّاحين يبلِّغوني عن أمَّتي السلام ) ، ( يبلِّغوني عن أمَّتي السلام ) ؛ فإذًا الرسول - عليه السلام - إذا صلَّى أحدنا عليه لا يسمع هذا السلام كما يتوهَّم جميع الناس تقريبًا ، وإنما هناك ملائكة مخصَّصين موظَّفين من رب العالمين ينقلوا سلام المصلِّين عليه إليه - صلوات الله وسلامه عليه - . فإذا كان - عليه الصلاة والسلام - لا يسمع فإذًا نحن نخاطبه حيث جاء الخطاب فقط كما نخاطب الموتى ؛ نقول لهم : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين " إلى آخر الدعاء المعروف ، لكن هذا لا يعني أننا نخاطب مَن يسمع !
الموتى لا يسمعون بنصِّ القرآن ونصِّ السنة ، وقد شرحت هذا شرحًا وافيًا في مقدمتي لكتاب : " الآيات البيِّنات في عدم سمع الأموات عند الحنفية السادات " ، مقدمة ضافية هناك ، فَمَن شاء منكم رجع إليها للتوسُّع في هذا الموضوع .
خلاصة القول : السلام على النبي هذا توقيف من النبي للصحابة وليس تغييرًا منهم - وحاشاهم من مثل ذلك ! - .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
الشيخ : كأن السَّائل فهم أن الصحابة غيَّروا النَّصَّ الذي تلقَّوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الذي هو بصيغة الخطاب : " السلام عليك أيها النبي " ؛ كأنه فَهِمَ أنهم غيَّروه من عند أنفسهم ، وهذا ما نبرِّئ به أقلَّ الناس فهمًا للسنة حتى لو كان خلفيًّا سلفيًّا ؛ أعني حتى لو كان من الخلف الذين يتبنَّون مذهب السلف ؛ لا نتصوَّر رجلًا من المتأخرين يفقه أن الأوراد توقيفية يتجرَّأ على أن يغيِّر حرفًا واحدًا في وردٍ تلقَّاه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالأسانيد ؛ فكيف نتصوَّر صحابيًّا واحدًا كمثل ، لا سيما إذا كان مثل ابن مسعود يُقدِم على تغيير نصٍّ تلقَّاه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرةً ؟! هذا الخاطر يجب أن لا يخطر على بال السَّائل أو غيره أبدًا . وإنما يقول العلماء في مثل هذا : إن ذلك الذي فعلوه هو بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم ، ومعنى التوقيف ؛ أي : إن الرسول - عليه السلام - هو الذي ألمَحَ وأشار إليهم أن هذا هو في حياتي ، أما بعد وفاتي فتتكلَّمون بصغة الغيبة ليس بصيغة الحاضر ، فتقولون في التشهد : " السلام على النبي " .
ونحن نعرف بُعدَ الصحابة عن الابتداع بصورة عامة ، وبعدهم عنه في الأذكار بصورة خاصَّة ، وبالأخصِّ منهم عبد الله بن مسعود الذي جاء النَّصُّ الصحيح في البخاري عنه أنه قال : " علَّمَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الصلاة وكفِّي بين كفيه " ، كفِّي بين كفَّيه : كناية عن اهتمام المعلِّم بالمتعلِّم بتلقينه ما هو في طريق تعليمه إياه . قال ابن مسعود : " علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التشهد وكفِّي بين كفَّيه ؛ التحيات لله " وذكر التشهد المعروف عن ابن مسعود والذي عليه الحنفية : " التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله " . قال ابن مسعود بعد أن ذكر النَّصَّ الذي لقَّنَه إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفُّه بين كفَّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ونحن بين ظهرانيه ، وهو بين ظهرانينا " ؛ يعني علَّمَه أن يقول هذا وهو بين ظهرانيهم ؛ يعني وهو حيٌّ معهم - عليه الصلاة والسلام - ، قال : فلمَّا مات قلنا : " السلام على النبي " ، ما قال هو : قلت ، وحاشاه أن يقول كما قلت لكم آنفًا ، حاشاه أن يتصرَّف في مثل هذا النَّصِّ الذي تلقَّاه من الرسول مباشرةً وبهذا الاهتمام الذي عبَّرَ عنه بقوله : " وكفِّي بين كفَّيه " ، وإنما ذلك مما فهمه في أثناء التلقين ؛ لذلك قال في آخر الحديث : " وهو بين ظهرانينا ، فلما مات قال : قلنا " ، ما قال : قلت . كيف هو يقول من عند نفسه شيئًا يغيِّر فيه نصَّ الرسول - عليه السلام - وهو يعلم أن تعليم الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - هو وحيٌ من الله ، هو وحيٌ من الله ؟
والذين يجهلون هذه الحقيقة أو يغفلون أو يتغافلون عنها هم في الواقع في خطأ كبير جدًّا ؛ الذين يتقدَّمون إلى أوراد الرسول - عليه السلام - وإلى أذكاره فيزيدون فيها ما شاؤوا من الزيادات لا يتصوَّرون أبدًا أنهم يزيدون على الوحي ، لا يخطر في بالهم هذا ، وهذا في الواقع تفريق خبيث لا يتنبَّهون له بين الله ورسوله ، تفريق خبيث بين الكتاب والسنة ، بين ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة ، وإلا هل يجرؤ أحد هؤلاء أن يزيد في نصِّ القرآن حرفًا واحدًا من أجل إشباعِ نهمَتِه وغلوِّه في حبيبه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مثلًا ؟ هل يقول أحدهم حين قال الله : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ )) إلى آخره ؛ هل يقول أحدهم : محمد سيدنا محمد رسول الله ؟ ما أحد يقول هذا ، هيك رأسًا بيقول لك : هذا زيادة على القرآن ما بيجوز .
طيب ؛ والزيادة على ما ليس من القرآن وهو وحيٌ - أيضًا - ؛ - أيضًا - لا يجوز ، لكنهم يفرِّقون كما قلت لكم بجهلهم ، كذلك ما يقول أحدهم : محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - رسول الله ؛ لأنُّو هذا الزيادة على النَّصِّ ، فنحن - معشر الذين ينتمون إلى السلف - لا نفرِّق بين الله ورسوله أبدًا ، لا نفرِّق بين كتاب الله وحديث رسول الله ، بين تعليم الله وتعليم رسول الله ؛ كلاهما يصدران من مشكاة واحدة هي مشكاة الوحي من السماء .
لذلك لما علَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - البراءَ بن عازب وِرْدَ الاضطجاع حين النوم : ( اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجَّهت وجهي إليك ، وفوَّضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ؛ رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ، وبنبيِّك الذي أرسلت ) . قال له : ( إذا أنت قلت ذلك ومتَّ من ليلتك متَّ على الفطرة ) . فأعاد هذا الدعاء البراء بن عازب بين يدي الرسول - عليه السلام - ليتمكَّنَ من حفظه ، فلما وصل إلى قوله الأخير : " آمنتُ بكتابك الذي أنزلت وبنبيِّك " ، إيش قال هو ؟ " وبرسولك الذي أرسلت " ، بدل أن يقول : " وبنبيِّك الذي أرسلت " قال : " وبرسولك الذي أرسلت " ، فصدَّه الرسول - عليه السلام - ورَدَّه عن ذلك ، وقال له : ( قُلْ : وبنبيِّك الذي أرسلت ) .
لو سألنا هؤلاء المغيِّرين والمبدِّلين في أذكار الرسول - عليه السلام - : هل هناك فرق يفسد المعنى الذي جاء به الرسول - عليه السلام - في هذا الورد بين تعليم الرسول الذي هو " وبنبيِّك الذي أرسلت " وبين ما أخطأ فيه براء فقال : ( وبرسولك الذي أرسلت ) ؛ هل هناك فرق ؟
لو لم يكن محمد - عليه السلام - رسولًا وكان نبيًّا فقط صار فيه تغيير للمعنى ؛ لأنُّو الرسول أعم من النبي ، كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولًا ، لكن نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - هو ليس فقط رسول ، بل هو خاتم الأنبياء والرسل جميعًا ، فحينما قال البراء : " وبرسولك الذي أرسلت " ما خالف الواقع أبدًا ، لكنه خالف التعليم النبوي ، يا إخواننا انتبهوا لهذا ، كل شيء هو أنه خالف تعليم الرسول إياه ، أما المعنى فماشي مستقيم تمامًا ؛ لذلك قال له : ( قُلْ : وبنبيِّك الذي أرسلت ) ، على هذا جرى الصحابة ، وذكرت لكم مرارًا بمثل هذه المناسبة عن كثير من الصحابة كيف كانوا يفرُّون من أن يعدل الرجل عن لفظ الرسول إلى لفظ من عنده .
فهناك مثلًا في " مسند الإمام أحمد " أن سعد بن أبي وقاص سمع رجلًا يقول في التلبية في الحج : " لبيك ذا المعارج " ، قال له - وهذا من حكمة الصحابة أيضًا في إنكار المنكر - قال : إنه لذو المعارج ، ولكن ما هكذا كنا نقول في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كنا نقول : لبيك اللهم لبيك ، إلى آخر التلبية المعروفة ، قال له : لبيك ذو المعارج هو ذو المعارج ، لكن التلبية ما هكذا كانت في عهد الرسول - عليه السلام - .
وأبدع من هذا - أيضًا - في أسلوب الإنكار قصة ابن عمر التي ذكرتها لكم أكثر من مرة - أيضًا - ؛ سمع رجلًا عطس فقال : الحمد لله والصلاة على رسول الله . قال : وأنا أقول معك : الحمد لله والصلاة على رسول الله ، لكن ما هكذا علمنا رسول الله ؛ قل : الحمد لله رب العالمين .
كأنُّو القضية الآن تتكرَّر تمامًا لكن - مع الأسف - دون أن يكون هناك متجاوبين مع المنكرين ، هذه زيادة اليوم في عباداتنا تأتي بصور عجيبة ، وأكثرها الزيادة في الأذان ، الصلاة على الرسول - عليه السلام - كما قال ابن عمر : وأنا أقول معك : والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكن الرسول ما هكذا علَّمنا .
فهكذا الصحابة - والآثار كثيرة جدًّا جدًّا - كانوا يتورَّعون أن يأتوا بتغيير للفظ الرسول - عليه السلام - ، ومن أشهرهم في ذلك وأدقِّهم صاحبنا صاحب حديث التشهد الذي علَّمه الرسول إياه وكفُّه بين كفَّيه ؛ ألا وهو عبد الله بن مسعود ؛ حيث روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه " شرح معاني الآثار " بالسند الصحيح عن ابن مسعود أنه كان إذا علَّمَ أصحابه التشهد يأخذ عليهم الحرف الواحد ، يأخذ عليهم الحرف الواحد ؛ يعني إذا - مثلًا - زاد حرف أو نقص حرف يقول له : لا ، ارجع وقلها كما تلقيتها عن الرسول - عليه السلام - . فهل نتصوَّر مثل هذا الصحابي لو كان وحده ؛ هل نتصوَّره يأتي إلى التعليم الذي لقَّنَه الرسول - عليه السلام - إياه مباشرة : " السلام عليك أيها النبي " فيأتي ويعدِلُ منه إلى " السلام على النبي " دون أن يكون عنده تعليم وتوجيه من الرسول - عليه السلام - له بذلك ؟ حاشاه من ذلك !! فكيف وليس هو في الميدان وحده ؟ هو أوَّلًا يروي لنا فيقول : فلما مات رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - قلنا - يعني نحن معشر الصحابة - " السلام على النبي " ؛ ولذلك تأكيدًا لهذا المعنى الذي رواه لنا ابن مسعود بصيغة الجمع قلنا : " السلام على النبي " جاء هذا التشهد مع اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في " صفة الصلاة " عن السيدة عائشة بـ " السلام على النبي " ، جاء عن عمر بن الخطاب في " موطأ مالك " : " السلام على النبي " وهكذا ، إذًا هذا نقوله هو اتفاق وإجماع من الصحابة ذهبوا إليه ليس اجتهادًا منهم وتغييرًا للنَّصِّ كما يتبادر من سؤال السَّائل ، وإنما هذا بتوقيف من الرسول - صلوات الله وسلامه - إياهم .
وما أبدع هذا الأمر فيما إذا عرفنا اليوم غلوَّ الناس في دُعاء الموتى والاستغاثة بغير الله - عز وجل - ، فكأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أومَأَ وأشار إلى هؤلاء الصحابة من باب سدِّ الذريعة أنُّو أنا إذا متُّ قولوا : " السلام على النبي " ؛ ذلك لأنَّ كثيرًا من الناس اليوم يتوهَّمون أوهام كثيرة ؛ منها أن الموتى يسمعون ، الموتى جميعًا ، يتوهَّمون كثير من الناس اليوم - إذا ما قلنا كلهم - أن الموتى يسمعون ؛ فمن باب أولى سيدهم سيد المسلمين جميعًا محمد - عليه السلام - يسمع من باب أولى ؛ فما بالكم إذا كان الرسول هو لا يسمع ؟! هو لا يسمع حتى الصلاة عليه وهو أفضل ما يُقال في حقِّه - عليه السلام - ؛ فهل يسمع استغاثة المستغيثين به من دون الله - عز وجل - ؟ هل يسمع توسُّل المتوسِّلين به من دون الله - عز وجل - ؟
الصلاة على الرسول لا يسمعها هو ، وقد يستغرب بعضكم ممَّن لم يطرق سمعَه مثلُ هذا الكلام من قبل ؛ كيف الرسول - عليه السلام - لا يسمع الصلاة عليه ؟
نعم ، اسمعوا حديث الرسول - عليه السلام - الذي قد تسمعونه وهو : ( أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة ؛ فإن صلاتكم تبلُغُني ) ، اسمعوا قال : ( فإن صلاتكم تبلغني ) ما قال : أسمعها ، قالوا : " كيف ذاك وقد أرمْتَ ؟ قال : ( إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) . ويوضِّح هذا التبليغ ( فإن صلاتكم تبلغني ) يوضِّحه حديث آخر يرويه - أيضًا - عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وأرضاه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إن لله ملائكة سيَّاحين يبلِّغوني عن أمَّتي السلام ) ، ( يبلِّغوني عن أمَّتي السلام ) ؛ فإذًا الرسول - عليه السلام - إذا صلَّى أحدنا عليه لا يسمع هذا السلام كما يتوهَّم جميع الناس تقريبًا ، وإنما هناك ملائكة مخصَّصين موظَّفين من رب العالمين ينقلوا سلام المصلِّين عليه إليه - صلوات الله وسلامه عليه - . فإذا كان - عليه الصلاة والسلام - لا يسمع فإذًا نحن نخاطبه حيث جاء الخطاب فقط كما نخاطب الموتى ؛ نقول لهم : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين " إلى آخر الدعاء المعروف ، لكن هذا لا يعني أننا نخاطب مَن يسمع !
الموتى لا يسمعون بنصِّ القرآن ونصِّ السنة ، وقد شرحت هذا شرحًا وافيًا في مقدمتي لكتاب : " الآيات البيِّنات في عدم سمع الأموات عند الحنفية السادات " ، مقدمة ضافية هناك ، فَمَن شاء منكم رجع إليها للتوسُّع في هذا الموضوع .
خلاصة القول : السلام على النبي هذا توقيف من النبي للصحابة وليس تغييرًا منهم - وحاشاهم من مثل ذلك ! - .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 148
- توقيت الفهرسة : 00:47:31
- نسخة مدققة إملائيًّا