كيف الجمع بين قول الله - تعالى - : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) الآية ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ؟
A-
A=
A+
السائل : بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله :
سبق أن تحدَّثت عن هذا الذي أطرحه الآن ؛ كيف نوفِّق بين قول الله - عز وجل - : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة ) .
الشيح : ( لمن لم يقرأ ) .
السائل : ( لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) - أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - - في حال عدم سكوت الإمام ؟ وأين موضعها في القراءة ؟ وإذا لم تتمَّ قراءتها ؛ فما حكم صلاتي ؟
الشيخ : قبل الإجابة عن هذا السؤال أرى لزامًا عليَّ أن أنبِّه على خطأ شائع من كثير من طلاب العلم وغيرهم ؛ ألا وهو أنهم إذا كانوا في مجلس علم وأراد أحدهم أن ينزع بآية وأن يستدلَّ بها ، أو أراد أن يسأل عن دلالتها ، أو عمَّا ينبغي التوفيق بينها وبين حديث ما يقول السائل : قال الله - عز وجل - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن )) مثلًا ، أو قال : قال الله - تعالى - بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ونحو ذلك من الأقوال ؛ فهذا خطأ محض ، فيه نسبة شيء إلى الله لا يقصده القائل ، ولكنه يُدان بلفظه فيقع في مخالفة قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إياك وما يُعتذر منه ) ، فنحن حينما نستدرك على بعض الناس فنقول لهم : أين قال الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له )) ؟
لا يوجد شيء من هذا إطلاقًا ، لكني أدري - كما يدري كلُّ فردٍ منكم - إن هذا القارئ أو هذا المستدل أو هذا السائل إنما يقول هذه الكلمة ويذكر هذه الاستعاذة بين يدي الآية إعمالًا منه أو تطبيقًا منه لقوله - تعالى - : (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله )) ، هكذا يقولون حينما نعترض عليهم مذكِّرًا لهم بأن هذا لا ينبغي أن يكون كذلك ؛ لأنك قولك : قال الله بعد كذا ؛ يعني أن الله قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا )) ، وبخاصَّة إذا قيل : قال الله بعد أعوذ بالله ، هذه البعديَّة إنما تتعلق به ، ولا تتعلق بالله - تبارك وتعالى - .
وعلى ذلك فينبغي لكلِّ من ساق آيةً يريد الاستدلال بها أو يريد السؤال عنها أن يتلوها مباشرة ، ولا يقول : قال الله - تعالى - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن )) ، ولا يقول : قال الله بعد أعوذ بالله ، وإنما رأسًا يذكرها فيقول : ما التوفيق بين قوله - تعالى - : (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله )) وبين حديث كذا ، هكذا يجب أن تنتبهوا حتَّى لا تقعوا في مؤاخذة مُخالفة قول الرسول - عليه السلام - : ( إيَّاك وما يعتذر منه ؛ لا تكلمَنَّ بكلامٍ تعتذر به عند الناس ) ، دائمًا الناس يقولون : والله أنا قصدت كذا ، يا أخي قصدك في قلبك لا يعرفه إلا ربك ؛ لكن أحسن التعبير عن قصدك بلفظك ؛ ألم تسمعوا إنكار الرسول - عليه السلام - الشديد على ذلك الصحابي الذي سمع موعظة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقام ليظهر خضوعه واتِّباعه وإطاعته للنبي بقوله : " ما شاء الله وشئتَ يا رسول الله " ؛ فماذا كان موقفه - عليه السلام - ؟ قال : ( أجعلتني لله ندًّا ؟ قل : ما شاء الله وحده ) ، أترون بأن هذا الصحابي قصد بقوله مخاطبًا لنبيِّه : " ما شاء الله وشئتَ " أن يجعله شريكًا مع الله ؟ ما آمن برسول الله يقينًا إلا فرارًا من الشرك ، إذا لماذا بالغ الرسول - عليه السلام - في الإنكار عليه بهذه العبارة الشديدة : ( أجعلتني لله ندًّا ؟ قل ما شاء الله وحده ) ؟
إذًا لا ينبغي أن تسوِّغوا أخطاءَكم اللفظية بصوابكم القلبي ، هذا لا يسوِّغ ذاك ؛ فعلينا إذا تكلَّمنا بكلام أن يكون كلامنا مطابقًا لحُسن قصدنا ، وألا يكون كلامنا سيِّئًا وقصدنا حسنًا ؛ بل يجب أن يطابق اللفظ ما في القلب ، هذه تذكرة وهذه تنفع المؤمنين - إن شاء الله - .
والبحث الذي سأل عنه السائل طويل الذَّيل ، متشعِّب الجوانب ؛ فلا مجال الآن للإفاضة في مثل هذا السؤال جوابًا عليه ، ولكني أقول : قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) عامٌّ يشمل كل صلاة ، ويشمل كلَّ مصلٍّ ؛ سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا ؛ سواء كان أدرك الركوع أو لم يدرك الركوع ولم يقرأ الفاتحة فلا صلاة له ؛ فهل هذا العموم لا يزال باقيًا على عمومه كمثل عموم الآية التي سأل عنها السائل : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) ؟ لا شك ولا ريب أن الآية لا تزال على عمومها ؛ فلا يجوز لمسلم في أيِّ حالةٍ كان إلا أن يُنصت أن يسكت وأن يُنصت لتلاوة القرآن الكريم ، أما الحديث فقد دخله تخصيص لا بدَّ منه عند جماهير العلماء وبالحديث الصحيح ؛ حيث أن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ومن بعدهم قالوا : " إذا دخل المسلم إلى المسجد فوجد الإمام راكعًا ، فشاركه في الركوع ؛ فقد أدرك هذه الركعة " ؛ مع أنه لم يقرأ فاتحة الكتاب ، وهذا له أدلته ، ولست الآن في صددها لما أشرت أنَّني ذكرتُ ذلك في مجلس آخر ، فماذا يكون حكم هذا الحديث بالنسبة لعمومه ؟ هل عمومه لا يزال قائمًا أم قد دخله التخصيص ؟
الجواب بالإيجاب ؛ صار معنى الحديث لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن أدرك الإمام راكعًا ولم يتمكَّن من قراءة الفاتحة ؛ فسقط وجوب قراءة الفاتحة عنه ، وأدرك الركعة بإدراكه للركوع وراء الإمام ، هذا العموم ( لا صلاة ) أصبح مقيَّدًا بمن أدرك الركوع ؛ فلم يبقَ هذا العموم شاملًا ، إذا لاحظنا هذه النقطة فقط حينئذٍ ننصب الخلاف بين الآية وبين الحديث على الصور التالي : لا خلاف بين الآية والحديث لأنهما ينبعان من مشكاة واحدة ، وإنما الخلاف بين العمومين ؛ عموم الآية وعموم الحديث ، فالآن إذا تعارض عمومان فكيف التوفيق بينهما ؟
لقد ذكر الحافظ العراقي في شرحه على " مقدمة المصطلح " بأن العلماء قد ذكروا أكثر من مائة وجه من وجوه التوفيق بين الأحاديث المختلفة ، ومن ذلك أو من تلك الوجوه : " إذا تعارض عامَّان أحدهما عامٌّ مطلق ، والآخر عامٌّ مقيَّد صُرِّف العام المطلق على العام المقيَّد ؛ لأن العامَّ المطلق أقوى في دلالته بعمومه عموم المقيد " . ملاحظة هذه القاعدة يفتح لطلاب العلم بابًا من العلم رائع جدًّا ، من ذلك ما طبَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية وما رأيت ذلك لغيره وإن كان الحافظ العراقي قد أشار إلى ذلك ، ولعله اقتبسه من ابن تيمية - رحمه الله - .
الآن نعرض لكم عمومين من حديث الرسول متعارضان ، وكثيرًا ما يشكل الأمر على بعض أهل العلم فضلًا عن طلاب العلم ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) ، هذا نصٌّ عام ، قال - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، عمومان تعارضا ؛ ذاك يقول : لا تصلي ، وهذا يقول : لا تجلس حتى تصلي ؛ كيف التوفيق ؟ قال ابن تيمية : " حديث لا صلاة بعد الفجر ولا صلاة بعد العصر عامٌّ مخصَّص بكثير من الأدلة " ، وأنا أقول بأن هناك كتابًا هامًّا جدًّا لأحد علماء الحديث في الهند ؛ ألا وهو " شمس الدين العظيم الآبادي " في الكتاب الذي ألَّفه هو " إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي سنة الفجر " ، لقد ذكر في هذا الكتاب المخصِّصات الكثيرة للحديث الأول : ( لا صلاة بعد الفجر ) ، و ( لا صلاة بعد العصر ) ، من ذلك مثلًا قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من نسي صلاة أو نام عنها ؛ فليصلِّها حين يذكرها ) ، إنسان تذكَّر صلاةً ما بعد أن صلى الفجر ؛ فعليه أن يصلِّيها وقت التذكر ، ماذا فعلنا بقوله : ( لا صلاة بعد العصر ) ؟ خصَّصناه بهذا الحديث .
رجل دخل المسجد فوجد الإمام داخلًا في الصلاة ، وهو لم يكن قد صلى بعدُ سنة الفجر ، فإذا سلم مع الإمام قام وجاء بركعتي سنة الفجر بعد الفجر ؛ هذا خلاف قوله - عليه السلام - بعمومه : ( لا صلاة بعد الفجر ) .
رجل كان قد صلى الفجر الفرض في مسجد ، ثم أتى مسجدًا آخر فوجدهم يصلون ؛ فعليه أن يصلي ، فيه تكرار لفريضة ؛ وهو قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة في يوم مرتين ) ، هذا عامٌّ خُصِّص ، وهكذا يجري إعمال العام مع الخاص ، فإذا خُصِّص عموم ما ضعف دلالته من حيث عمومه ، وحينئذٍ يتسلَّط عليه بالتخصيص العام الذي لم يقع عليه تخصيص .
طيب ؛ فيما يتعلق بتحية المسجد بهذا الجمع أجاب ابن تيمية - رحمه الله - فقال : قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة بعد العصر أو بعد الفجر ) عامٌّ قد خُصِّص بكثير من المُخصِّصات ، وأشرتُ إلى بعضها آنفًا ، فحينما يأتي حديث عامٌّ آخر يُخالف هذا العام المطلق ؛ ألا وهو قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، وفي الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثم ليجلس ) ؛ يقول ابن تيمية : هذا الحديث يُخصِّص حديث : لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر ؛ لأن هذا لم يُخصَّص ، بل بقي على عمومه وشموله من ناحيتين :
الناحية الأولى : أنه لم يجرِ عليه تخصيص بتسليط حديث عامٍّ عليه .
والناحية الأخرى - وهي هامَّة جدًّا - : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد لفتَ نظر المسلمين إلى بقاء هذا العموم على عمومه حينما يكون الخطيب يخطب يوم الجمعة ؛ حيث لا يجوز والخطيب يخطب أن يأمر الجالس يسمع خطبته بمعروف أو ينهى عن منكر ، مع ذلك فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين ، وليتجوَّز فيهما ) ، لقد أمر - عليه السلام - بهاتَين الركعتين تحية المسجد والخطيب يخطب في الوقت الذي لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو واجب - والخطيب يخطب لا يجوز ، فإذ أمرَ بتحيَّة المسجد والخطيب يخطب ونهى عن أن تقول لمن يتكلَّم والخطيب يخطب : أنصت وقال : فقد لغوت ، فإذًا هذا يؤكد أن قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلِّي ركعتين ) ، أو في الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثمَّ ليجلس ) دليلٌ على أن هذا العموم لا يزال على شموله وإطلاقه ؛ حينذاك يُسلَّط هذا العموم على العموم المُخصَّص ؛ وهو : ( لا صلاة بعد الفجر ) ( لا صلاة بعد العصر ) ، هذه قاعدة مهمة جدًّا تُزيل العقبات والإشكالات أمام التوفيق بين بعض الأحاديث التي يبدو منها التعارض .
على هذا المنوال يُوفَّق بين قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) نصٌّ عامٌّ مُطلق لم يدخله تخصيص ، وبين قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ، فقد دخله التَّخصيص بإجماع علماء الجمهور ، لا أقول علماء المسلمين قاطبة ؛ لكن مع الجمهور أدلة من السنة لو كان الجمهور مخالفًا لهذه الأدلة لَمَا التَفَتْنا إلى مخالفتهم ؛ لأن الحديث صريح وصحيح خلافًا لمن يظنُّ ضعفه أن من جاء المسجد فوجد الإمام راكعًا فوجده راكعًا فقد أدرك الركعة ؛ بخلاف ما إذا لم يُدرك الركوع ، وإنما أدرك الإمام ساجدًا فلم يدرك الركعة ، فهذا يُخصِّص مع آثار سلفية صحيحة بدءًا من أبي بكر - رضي الله عنه - وانتهاءً إلى ابن عمر أنهم قالوا : من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة ؛ فحينئذٍ نخصِّص عموم قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) بعموم قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن )) ، وتكون الحصيلة وتكون النتيجة كما يأتي : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا من أدرك الإمام راكعًا فله صلاة ؛ لماذا ؟ لأننا راعينا الأدلة المثبتة لصحة هذه الصلاة ، و - أيضًا - لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن سمعها من الإمام ؛ لماذا ؟ لأنه - تعالى - يقول : (( فأنصتوا )) ، ولأن الرسول - عليه السلام - يقول : ( إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ) .
بعض العلماء يقولون : نحن نعكس القضية ؛ فنقول : نخصِّص الآية بالحديث ، والحصيلة عندهم كالتالي - لكنه خطأ - : قال - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا )) إلا في قراءة الفاتحة فلا بد من قراءتها ولو لم ينصت ولو لم يستمع ؛ أي : يخصِّصون الآية في الحديث على خلاف ما ذكرنا آنفًا ، لكن هذا قلب لما ذكرنا آنفًا ممَّا تبيَّن لعلماء الحديث والفقه أن النَّصَّ العام إذا خُصِّص لا يجوز أن يُخصَّص به النَّصُّ العام الذي لم يُخصَّص ، ولذلك فالصَّواب ما ذكرناه آنفًا من تخصيص الحديث بالآية ، وليس تخصيص الآية بالحديث .
وبهذا القدر كفاية بالنسبة لهذه المسألة .
تفضل .
سبق أن تحدَّثت عن هذا الذي أطرحه الآن ؛ كيف نوفِّق بين قول الله - عز وجل - : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة ) .
الشيح : ( لمن لم يقرأ ) .
السائل : ( لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) - أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - - في حال عدم سكوت الإمام ؟ وأين موضعها في القراءة ؟ وإذا لم تتمَّ قراءتها ؛ فما حكم صلاتي ؟
الشيخ : قبل الإجابة عن هذا السؤال أرى لزامًا عليَّ أن أنبِّه على خطأ شائع من كثير من طلاب العلم وغيرهم ؛ ألا وهو أنهم إذا كانوا في مجلس علم وأراد أحدهم أن ينزع بآية وأن يستدلَّ بها ، أو أراد أن يسأل عن دلالتها ، أو عمَّا ينبغي التوفيق بينها وبين حديث ما يقول السائل : قال الله - عز وجل - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن )) مثلًا ، أو قال : قال الله - تعالى - بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ونحو ذلك من الأقوال ؛ فهذا خطأ محض ، فيه نسبة شيء إلى الله لا يقصده القائل ، ولكنه يُدان بلفظه فيقع في مخالفة قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إياك وما يُعتذر منه ) ، فنحن حينما نستدرك على بعض الناس فنقول لهم : أين قال الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له )) ؟
لا يوجد شيء من هذا إطلاقًا ، لكني أدري - كما يدري كلُّ فردٍ منكم - إن هذا القارئ أو هذا المستدل أو هذا السائل إنما يقول هذه الكلمة ويذكر هذه الاستعاذة بين يدي الآية إعمالًا منه أو تطبيقًا منه لقوله - تعالى - : (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله )) ، هكذا يقولون حينما نعترض عليهم مذكِّرًا لهم بأن هذا لا ينبغي أن يكون كذلك ؛ لأنك قولك : قال الله بعد كذا ؛ يعني أن الله قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا )) ، وبخاصَّة إذا قيل : قال الله بعد أعوذ بالله ، هذه البعديَّة إنما تتعلق به ، ولا تتعلق بالله - تبارك وتعالى - .
وعلى ذلك فينبغي لكلِّ من ساق آيةً يريد الاستدلال بها أو يريد السؤال عنها أن يتلوها مباشرة ، ولا يقول : قال الله - تعالى - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( فإذا قرئ القرآن )) ، ولا يقول : قال الله بعد أعوذ بالله ، وإنما رأسًا يذكرها فيقول : ما التوفيق بين قوله - تعالى - : (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله )) وبين حديث كذا ، هكذا يجب أن تنتبهوا حتَّى لا تقعوا في مؤاخذة مُخالفة قول الرسول - عليه السلام - : ( إيَّاك وما يعتذر منه ؛ لا تكلمَنَّ بكلامٍ تعتذر به عند الناس ) ، دائمًا الناس يقولون : والله أنا قصدت كذا ، يا أخي قصدك في قلبك لا يعرفه إلا ربك ؛ لكن أحسن التعبير عن قصدك بلفظك ؛ ألم تسمعوا إنكار الرسول - عليه السلام - الشديد على ذلك الصحابي الذي سمع موعظة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقام ليظهر خضوعه واتِّباعه وإطاعته للنبي بقوله : " ما شاء الله وشئتَ يا رسول الله " ؛ فماذا كان موقفه - عليه السلام - ؟ قال : ( أجعلتني لله ندًّا ؟ قل : ما شاء الله وحده ) ، أترون بأن هذا الصحابي قصد بقوله مخاطبًا لنبيِّه : " ما شاء الله وشئتَ " أن يجعله شريكًا مع الله ؟ ما آمن برسول الله يقينًا إلا فرارًا من الشرك ، إذا لماذا بالغ الرسول - عليه السلام - في الإنكار عليه بهذه العبارة الشديدة : ( أجعلتني لله ندًّا ؟ قل ما شاء الله وحده ) ؟
إذًا لا ينبغي أن تسوِّغوا أخطاءَكم اللفظية بصوابكم القلبي ، هذا لا يسوِّغ ذاك ؛ فعلينا إذا تكلَّمنا بكلام أن يكون كلامنا مطابقًا لحُسن قصدنا ، وألا يكون كلامنا سيِّئًا وقصدنا حسنًا ؛ بل يجب أن يطابق اللفظ ما في القلب ، هذه تذكرة وهذه تنفع المؤمنين - إن شاء الله - .
والبحث الذي سأل عنه السائل طويل الذَّيل ، متشعِّب الجوانب ؛ فلا مجال الآن للإفاضة في مثل هذا السؤال جوابًا عليه ، ولكني أقول : قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) عامٌّ يشمل كل صلاة ، ويشمل كلَّ مصلٍّ ؛ سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا ؛ سواء كان أدرك الركوع أو لم يدرك الركوع ولم يقرأ الفاتحة فلا صلاة له ؛ فهل هذا العموم لا يزال باقيًا على عمومه كمثل عموم الآية التي سأل عنها السائل : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) ؟ لا شك ولا ريب أن الآية لا تزال على عمومها ؛ فلا يجوز لمسلم في أيِّ حالةٍ كان إلا أن يُنصت أن يسكت وأن يُنصت لتلاوة القرآن الكريم ، أما الحديث فقد دخله تخصيص لا بدَّ منه عند جماهير العلماء وبالحديث الصحيح ؛ حيث أن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ومن بعدهم قالوا : " إذا دخل المسلم إلى المسجد فوجد الإمام راكعًا ، فشاركه في الركوع ؛ فقد أدرك هذه الركعة " ؛ مع أنه لم يقرأ فاتحة الكتاب ، وهذا له أدلته ، ولست الآن في صددها لما أشرت أنَّني ذكرتُ ذلك في مجلس آخر ، فماذا يكون حكم هذا الحديث بالنسبة لعمومه ؟ هل عمومه لا يزال قائمًا أم قد دخله التخصيص ؟
الجواب بالإيجاب ؛ صار معنى الحديث لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن أدرك الإمام راكعًا ولم يتمكَّن من قراءة الفاتحة ؛ فسقط وجوب قراءة الفاتحة عنه ، وأدرك الركعة بإدراكه للركوع وراء الإمام ، هذا العموم ( لا صلاة ) أصبح مقيَّدًا بمن أدرك الركوع ؛ فلم يبقَ هذا العموم شاملًا ، إذا لاحظنا هذه النقطة فقط حينئذٍ ننصب الخلاف بين الآية وبين الحديث على الصور التالي : لا خلاف بين الآية والحديث لأنهما ينبعان من مشكاة واحدة ، وإنما الخلاف بين العمومين ؛ عموم الآية وعموم الحديث ، فالآن إذا تعارض عمومان فكيف التوفيق بينهما ؟
لقد ذكر الحافظ العراقي في شرحه على " مقدمة المصطلح " بأن العلماء قد ذكروا أكثر من مائة وجه من وجوه التوفيق بين الأحاديث المختلفة ، ومن ذلك أو من تلك الوجوه : " إذا تعارض عامَّان أحدهما عامٌّ مطلق ، والآخر عامٌّ مقيَّد صُرِّف العام المطلق على العام المقيَّد ؛ لأن العامَّ المطلق أقوى في دلالته بعمومه عموم المقيد " . ملاحظة هذه القاعدة يفتح لطلاب العلم بابًا من العلم رائع جدًّا ، من ذلك ما طبَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية وما رأيت ذلك لغيره وإن كان الحافظ العراقي قد أشار إلى ذلك ، ولعله اقتبسه من ابن تيمية - رحمه الله - .
الآن نعرض لكم عمومين من حديث الرسول متعارضان ، وكثيرًا ما يشكل الأمر على بعض أهل العلم فضلًا عن طلاب العلم ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) ، هذا نصٌّ عام ، قال - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، عمومان تعارضا ؛ ذاك يقول : لا تصلي ، وهذا يقول : لا تجلس حتى تصلي ؛ كيف التوفيق ؟ قال ابن تيمية : " حديث لا صلاة بعد الفجر ولا صلاة بعد العصر عامٌّ مخصَّص بكثير من الأدلة " ، وأنا أقول بأن هناك كتابًا هامًّا جدًّا لأحد علماء الحديث في الهند ؛ ألا وهو " شمس الدين العظيم الآبادي " في الكتاب الذي ألَّفه هو " إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي سنة الفجر " ، لقد ذكر في هذا الكتاب المخصِّصات الكثيرة للحديث الأول : ( لا صلاة بعد الفجر ) ، و ( لا صلاة بعد العصر ) ، من ذلك مثلًا قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من نسي صلاة أو نام عنها ؛ فليصلِّها حين يذكرها ) ، إنسان تذكَّر صلاةً ما بعد أن صلى الفجر ؛ فعليه أن يصلِّيها وقت التذكر ، ماذا فعلنا بقوله : ( لا صلاة بعد العصر ) ؟ خصَّصناه بهذا الحديث .
رجل دخل المسجد فوجد الإمام داخلًا في الصلاة ، وهو لم يكن قد صلى بعدُ سنة الفجر ، فإذا سلم مع الإمام قام وجاء بركعتي سنة الفجر بعد الفجر ؛ هذا خلاف قوله - عليه السلام - بعمومه : ( لا صلاة بعد الفجر ) .
رجل كان قد صلى الفجر الفرض في مسجد ، ثم أتى مسجدًا آخر فوجدهم يصلون ؛ فعليه أن يصلي ، فيه تكرار لفريضة ؛ وهو قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة في يوم مرتين ) ، هذا عامٌّ خُصِّص ، وهكذا يجري إعمال العام مع الخاص ، فإذا خُصِّص عموم ما ضعف دلالته من حيث عمومه ، وحينئذٍ يتسلَّط عليه بالتخصيص العام الذي لم يقع عليه تخصيص .
طيب ؛ فيما يتعلق بتحية المسجد بهذا الجمع أجاب ابن تيمية - رحمه الله - فقال : قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة بعد العصر أو بعد الفجر ) عامٌّ قد خُصِّص بكثير من المُخصِّصات ، وأشرتُ إلى بعضها آنفًا ، فحينما يأتي حديث عامٌّ آخر يُخالف هذا العام المطلق ؛ ألا وهو قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، وفي الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثم ليجلس ) ؛ يقول ابن تيمية : هذا الحديث يُخصِّص حديث : لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر ؛ لأن هذا لم يُخصَّص ، بل بقي على عمومه وشموله من ناحيتين :
الناحية الأولى : أنه لم يجرِ عليه تخصيص بتسليط حديث عامٍّ عليه .
والناحية الأخرى - وهي هامَّة جدًّا - : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد لفتَ نظر المسلمين إلى بقاء هذا العموم على عمومه حينما يكون الخطيب يخطب يوم الجمعة ؛ حيث لا يجوز والخطيب يخطب أن يأمر الجالس يسمع خطبته بمعروف أو ينهى عن منكر ، مع ذلك فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين ، وليتجوَّز فيهما ) ، لقد أمر - عليه السلام - بهاتَين الركعتين تحية المسجد والخطيب يخطب في الوقت الذي لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو واجب - والخطيب يخطب لا يجوز ، فإذ أمرَ بتحيَّة المسجد والخطيب يخطب ونهى عن أن تقول لمن يتكلَّم والخطيب يخطب : أنصت وقال : فقد لغوت ، فإذًا هذا يؤكد أن قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلِّي ركعتين ) ، أو في الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثمَّ ليجلس ) دليلٌ على أن هذا العموم لا يزال على شموله وإطلاقه ؛ حينذاك يُسلَّط هذا العموم على العموم المُخصَّص ؛ وهو : ( لا صلاة بعد الفجر ) ( لا صلاة بعد العصر ) ، هذه قاعدة مهمة جدًّا تُزيل العقبات والإشكالات أمام التوفيق بين بعض الأحاديث التي يبدو منها التعارض .
على هذا المنوال يُوفَّق بين قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) نصٌّ عامٌّ مُطلق لم يدخله تخصيص ، وبين قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ، فقد دخله التَّخصيص بإجماع علماء الجمهور ، لا أقول علماء المسلمين قاطبة ؛ لكن مع الجمهور أدلة من السنة لو كان الجمهور مخالفًا لهذه الأدلة لَمَا التَفَتْنا إلى مخالفتهم ؛ لأن الحديث صريح وصحيح خلافًا لمن يظنُّ ضعفه أن من جاء المسجد فوجد الإمام راكعًا فوجده راكعًا فقد أدرك الركعة ؛ بخلاف ما إذا لم يُدرك الركوع ، وإنما أدرك الإمام ساجدًا فلم يدرك الركعة ، فهذا يُخصِّص مع آثار سلفية صحيحة بدءًا من أبي بكر - رضي الله عنه - وانتهاءً إلى ابن عمر أنهم قالوا : من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة ؛ فحينئذٍ نخصِّص عموم قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) بعموم قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن )) ، وتكون الحصيلة وتكون النتيجة كما يأتي : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا من أدرك الإمام راكعًا فله صلاة ؛ لماذا ؟ لأننا راعينا الأدلة المثبتة لصحة هذه الصلاة ، و - أيضًا - لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن سمعها من الإمام ؛ لماذا ؟ لأنه - تعالى - يقول : (( فأنصتوا )) ، ولأن الرسول - عليه السلام - يقول : ( إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ) .
بعض العلماء يقولون : نحن نعكس القضية ؛ فنقول : نخصِّص الآية بالحديث ، والحصيلة عندهم كالتالي - لكنه خطأ - : قال - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا )) إلا في قراءة الفاتحة فلا بد من قراءتها ولو لم ينصت ولو لم يستمع ؛ أي : يخصِّصون الآية في الحديث على خلاف ما ذكرنا آنفًا ، لكن هذا قلب لما ذكرنا آنفًا ممَّا تبيَّن لعلماء الحديث والفقه أن النَّصَّ العام إذا خُصِّص لا يجوز أن يُخصَّص به النَّصُّ العام الذي لم يُخصَّص ، ولذلك فالصَّواب ما ذكرناه آنفًا من تخصيص الحديث بالآية ، وليس تخصيص الآية بالحديث .
وبهذا القدر كفاية بالنسبة لهذه المسألة .
تفضل .