حديث أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قام على المنبر ثم بكى ، فقال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ أَوَّلَ عَلَى المِنبَرِ ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ : ( سَلُوا اللهَ العَفوَ والعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَم يُعطَ بَعدَ اليَقِينِ خَيرًا مِنَ العَافِيَةِ ) .
A-
A=
A+
الشيخ : أما الثاني فهو صحيح ؛ وهو قوله - رحمه الله - : وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قام على المنبر ، ثم بكى ، فقال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عام أول على المنبر ، ثم بكى ، فقال : ( سَلُوا اللهَ العَفوَ والعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَم يُعطَ بَعدَ اليَقِينِ خَيرًا مِنَ العَافِيَةِ ) ، رواه الترمذي من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقال : حديث حسن غريب ، ورواه النسائي من طرق ، وعن جماعة من الصحابة ، وأحد أسانيده صحيح .
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة كما قال المؤلف وكما سمعتم ، وفيه أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - خطَبَ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بسنتين ، ولما قام فيهم يخطب بكى ، متأثِّرًا أوَّلًا ببكاء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه بين يدي خطبته في أمته ، قال أبو بكر : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عام أول على المنبر ، ثم بكى ، فقال : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فهذا من خير الأدعية التي ثبتَتْ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعلًا منه وأمرًا لنا به ، ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فالعفو هو أن يعفو الله - تبارك وتعالى - عن ذنوبنا وعن آثامنا ، وأن لا يؤاخذنا بما اجترحنا واقترفنا من ذنوب وآثام ؛ ذلك لأن الإنسان مهما سَمَا وعَلَا ، ومهما حاول أن يتطهَّر ويتنزَّه من الذنوب والآثام ؛ فلا بد أنه واقع في شيء منها ، فإن كان الله - عز وجل - لم يُعامِلْه بعفوه ومغفرته هَلَكَ هذا الإنسان ؛ لأنه آثم ولا بد من ذلك ؛ لذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته أنهم إذا سألوا الله - عز وجل - شيئًا أن يسألوه أول ما يسألوه إنما هو العفو ؛ أن يتجاوز الله - عز وجل - عن ذنوبنا وعن آثامنا ، ثم أتبع ذلك بسؤال - أيضًا - المعافاة أو العافية ، في بعض الأحاديث الأخرى : ( المعافاة ) ، ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فالعافية هو السلامة ، السلامة وهي العافية ضد الصحة وقد فُسَّر .
نعم .
السائل : مرادف .
الشيخ : عفوًا ، مرادفة للصحة .
وقد فسَّر العلماء هذه اللفظة بالعافية المادية ، الصحة المادية البدنية الجسدية ، ويمكن أن نجعل معناها أوسع من ذلك بأن تكون العافية شاملةً للصحة المادية والمعنوية في آن واحد ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك الخطبة يقول : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، وإذا كانت العافية قد فسَّرها العلماء بالصحة البدنية المادية ففي ذلك لفتة نظر جيدة إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يطلب وأن يسأل الله - عز وجل - أن يبتليه بالأمراض والآفات بزعم ماذا ؟ تكفير السيئات ؛ ولذلك جاء في حديث أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عاد رجلًا من المسلمين كان مريضًا قد خَفَتَ فصار مثل الفرخ ؛ صار هزيلًا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه ؟ ) . قال : نعم ، كنت أقول ذاك المريض الذي عاده الرسول - عليه السلام - وصار هزيلًا كالفرخ كان يقول فيدعو : " اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا " . فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( سبحان الله ! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - ؛ أَفَلَا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقِنَا عذاب النار ) . قال : فدعا الله له فشفاه .
ففي هذا الحديث الذي نقلتُه إليكم من " صحيح مسلم " التقاء واضح مع حديث الباب : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، هذا الرجل المريض كان يظنُّ أنه لا خلاص له ولا نجاة له من عذاب الله - عز وجل - في الآخرة ذاك العذاب الذي يستحقُّه بسبب ذنوبه إلا أن يُجرِيَ مع ربه - عز وجل - مقايضةً أو ما يُشبه المقايضة ، أنُّو العذاب الذي تريد أن تعذِّبه أو تعذِّبَني به في الآخرة اجعله في الدنيا ؛ بدل مبادلة ، فدَلَّه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على طريق هو سليم من أيِّ عذاب ؛ لا سيما عذاب الآخرة الذي قال له الرسول - عليه السلام - : ( إنك لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أن تسأل الله العافية ، هلَّا قلت : اللهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ؟! ) ، فالحسنة هنا في هذه الآية - وهي آية كما تعلمون - : (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) تشمل كلَّ حسنة في الدنيا وفي الآخرة ، ويدخل في ذلك هذه العافية التي أمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نسألها ربُّنا - عز وجل - .
ومن هذا الحديث وذاك وأمثالهما من أحاديث كثيرة وَرَدَتْ في السنة الصحيحة يتبيَّن لنا انحراف طائفة من الصوفية أيضًا في هذا الباب كما انحرفوا في باب الدعاء الذي كنت تحدَّثت إليكم عنه ؛ لما جاءت الأحاديث تذكر أن الدعاء هو من عبادة الله - عز وجل - ذكرنا لكم أن بعض غُلاة الصوفية انحرفوا عن هذه القضية ، فرأوا أن الدعاء لا يصلح إلا لعامة الناس ، أما خاصَّتهم فهم يقولون قالًا وحالًا : " علمُه بحالي يُغني عن سؤالي " ، ويروون ذلك عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كذب وافتراء عليه كما بيَّنَّا لكم انحراف بعض الصوفية عن مطلق الدعاء ، فقد انحرف بعضهم عن خصوص هذا الدعاء العافية ، ( سلوا الله العافية ) ، وكيف كان ذلك ؟ فهناك مَن قال ويصفه بعض الناقلين عنه بأنه من الكبار - يعني كبار الصالحين والصوفية - ، كان يدعو ربَّه - عز وجل - أن يجعله جسرًا في جهنم تمرُّ الناس عليه ويبقى هو في النار ، المعنى معنى شعري جميل ، لكنه معنى خيالي قبيح ، الجمال فيه - وهو صوري - أنُّو هو كبش الفداء تمرُّ الناس عليه جسر في جهنم ، وَلْتَنجُ الناس وليهلَكْ هو ، (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ )) "" كانت "" (( بِهِمْ خَصَاصَةٌ )) .
عيد عباسي : (( كَانَ )) .
الشيخ : وصل بهم الأمر إلى هذا الحد ، لكن هذا لو ذاقَ ، ماذا نقول ؟ إذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يقول : ( نارُكم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ) ، فلو أن هذا الإنسان مدَّ إصبعه في النار البسيطة في الدنيا ؛ هل سيصبر من أجل غيره ؟ كلام خيال في خيال ؛ فكيف يصبر على نار هي أشد من هذه النار يعني دار الدنيا مش شمعة أو فتيلة أو سراج أو كهرباء أو أي شيء ، مجموع نار الدنيا عبارة عن جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، كيف يصبر هذا الإنسان ؟ لكن هذا هو الخيال الذي كان يعيش فيه الصوفية في أفكارهم وفي عقائدهم فضلًا عن شطحاتهم ؛ لذلك لما كانوا ينقلون مثل هذه العبارة عن هذا الإنسان يقولون : هذا شطحة من شطحات العاشقين ، وهؤلاء غير مؤاخذين ؛ أي : إذًا ليسوا قدوة فيما يصدر منهم مثل هذه الأقوال التي تخالف السنة .
ومن هذا القبيل - أيضًا - ما يروُونه عن شخص منهم كان يقول : فليس لي في هواك ، إيش ؟ فليس لي في هواك ، بعدين : إني كيفما ، " فكيفما شئت فامتحني " ، هنا الشاهد ، يخاطب ربَّه أنُّو هو ليس له هوى في أحد سواه ، فكيفما شئتَ يا ربي فامتحنِّي ، هذا من السنة ؟!! الرسول يقول : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، وفي حديث أنس لما رأى الرجل المريض صار كالفرخ قال له : ( هلَّا قلت : اللهم ربنا آتنا في الدنيا ؟! ) إلى آخره ، أما هذا فيقول كأنه يتحدَّى رب العالمين ويقول : فكيفما شئت فامتحنِّي !
السائل : ... في قول .
الشيخ : فماذا كان عاقبة هذا الإنسان ؟ لقد ابتلاه الله - عز وجل - ببلاء بسيط جدًّا ؛ ألا وهو حصر البول ، ففعلًا صار مجنونًا ، هو بيسمُّونه بـ " سحنون المجنون " ، صار مجنون مو من الهوى كما يزعمون ، وإنما من المرض الذي طلبه من الله - عز وجل - أن يبتله به ، فكان يمشي في الطرقات ، وحينما يرى أطفال الكتاتيب يخرجون يقول لهؤلاء الأطفال الصغار ادعوا لعمِّكم الكذَّاب ؛ يعني ما صبر ، قال كلام خيالي : " فكيفما شئت فامتحنِّي " ، فامتحنه ببلاء بسيط من بلاء الدنيا ، (( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى )) ، فما صبر على ذلك ولا أطاقَه ، فكان إذا مرَّت به الأطفال الصغار يقول لهم : ادعوا لعمِّكم الكذاب ! فعلًا ثبت كذبه ؛ لأنه لم يصبر على هذا البلاء البسيط ، فصلى الله على محمد الذي دلنا على خير الهدى ، يقول في خطبه دائمًا : أبدًا ، وخير الهدى هدى محمد ، فهو يأمرنا جميعًا أن نتوجَّه إلى الله - عز وجل - بأن نسأله العفو عن ذنوبنا ، والعافية في أبداننا وفي ذوات نفوسنا ، ذلك خير لنا من أن نسألَه أن يبتلِيَنا ثم لا نصبر على بلاه ؛ لذلك أحبُّ شيء إلى الرسول - عليه السلام - هو العفو والعافية .
قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في تمام الحديث : ( سلوا الله العفو والعافية ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية ) ، المقصود هنا في اليقين بطبيعة الحال إنما هو الإيمان الجازم المقطوع الذي لا شكَّ فيه ولا ريب ، فبعد اليقين يأتي في الخيرية هو العافية السلامة ، فالصحة ظاهرًا وباطنًا .
فنسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا اليقين أوَّلًا ، ثم العفو والعافية ثانيًا .
( سلوا الله العفو والعافية ؛ فإن أحدًا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرًا من العافية ) .
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة كما قال المؤلف وكما سمعتم ، وفيه أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - خطَبَ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بسنتين ، ولما قام فيهم يخطب بكى ، متأثِّرًا أوَّلًا ببكاء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه بين يدي خطبته في أمته ، قال أبو بكر : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عام أول على المنبر ، ثم بكى ، فقال : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فهذا من خير الأدعية التي ثبتَتْ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعلًا منه وأمرًا لنا به ، ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فالعفو هو أن يعفو الله - تبارك وتعالى - عن ذنوبنا وعن آثامنا ، وأن لا يؤاخذنا بما اجترحنا واقترفنا من ذنوب وآثام ؛ ذلك لأن الإنسان مهما سَمَا وعَلَا ، ومهما حاول أن يتطهَّر ويتنزَّه من الذنوب والآثام ؛ فلا بد أنه واقع في شيء منها ، فإن كان الله - عز وجل - لم يُعامِلْه بعفوه ومغفرته هَلَكَ هذا الإنسان ؛ لأنه آثم ولا بد من ذلك ؛ لذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته أنهم إذا سألوا الله - عز وجل - شيئًا أن يسألوه أول ما يسألوه إنما هو العفو ؛ أن يتجاوز الله - عز وجل - عن ذنوبنا وعن آثامنا ، ثم أتبع ذلك بسؤال - أيضًا - المعافاة أو العافية ، في بعض الأحاديث الأخرى : ( المعافاة ) ، ( سلوا الله العفو والعافية ) ، فالعافية هو السلامة ، السلامة وهي العافية ضد الصحة وقد فُسَّر .
نعم .
السائل : مرادف .
الشيخ : عفوًا ، مرادفة للصحة .
وقد فسَّر العلماء هذه اللفظة بالعافية المادية ، الصحة المادية البدنية الجسدية ، ويمكن أن نجعل معناها أوسع من ذلك بأن تكون العافية شاملةً للصحة المادية والمعنوية في آن واحد ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك الخطبة يقول : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، وإذا كانت العافية قد فسَّرها العلماء بالصحة البدنية المادية ففي ذلك لفتة نظر جيدة إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يطلب وأن يسأل الله - عز وجل - أن يبتليه بالأمراض والآفات بزعم ماذا ؟ تكفير السيئات ؛ ولذلك جاء في حديث أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عاد رجلًا من المسلمين كان مريضًا قد خَفَتَ فصار مثل الفرخ ؛ صار هزيلًا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه ؟ ) . قال : نعم ، كنت أقول ذاك المريض الذي عاده الرسول - عليه السلام - وصار هزيلًا كالفرخ كان يقول فيدعو : " اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا " . فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( سبحان الله ! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - ؛ أَفَلَا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقِنَا عذاب النار ) . قال : فدعا الله له فشفاه .
ففي هذا الحديث الذي نقلتُه إليكم من " صحيح مسلم " التقاء واضح مع حديث الباب : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، هذا الرجل المريض كان يظنُّ أنه لا خلاص له ولا نجاة له من عذاب الله - عز وجل - في الآخرة ذاك العذاب الذي يستحقُّه بسبب ذنوبه إلا أن يُجرِيَ مع ربه - عز وجل - مقايضةً أو ما يُشبه المقايضة ، أنُّو العذاب الذي تريد أن تعذِّبه أو تعذِّبَني به في الآخرة اجعله في الدنيا ؛ بدل مبادلة ، فدَلَّه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على طريق هو سليم من أيِّ عذاب ؛ لا سيما عذاب الآخرة الذي قال له الرسول - عليه السلام - : ( إنك لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أن تسأل الله العافية ، هلَّا قلت : اللهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ؟! ) ، فالحسنة هنا في هذه الآية - وهي آية كما تعلمون - : (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) تشمل كلَّ حسنة في الدنيا وفي الآخرة ، ويدخل في ذلك هذه العافية التي أمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نسألها ربُّنا - عز وجل - .
ومن هذا الحديث وذاك وأمثالهما من أحاديث كثيرة وَرَدَتْ في السنة الصحيحة يتبيَّن لنا انحراف طائفة من الصوفية أيضًا في هذا الباب كما انحرفوا في باب الدعاء الذي كنت تحدَّثت إليكم عنه ؛ لما جاءت الأحاديث تذكر أن الدعاء هو من عبادة الله - عز وجل - ذكرنا لكم أن بعض غُلاة الصوفية انحرفوا عن هذه القضية ، فرأوا أن الدعاء لا يصلح إلا لعامة الناس ، أما خاصَّتهم فهم يقولون قالًا وحالًا : " علمُه بحالي يُغني عن سؤالي " ، ويروون ذلك عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كذب وافتراء عليه كما بيَّنَّا لكم انحراف بعض الصوفية عن مطلق الدعاء ، فقد انحرف بعضهم عن خصوص هذا الدعاء العافية ، ( سلوا الله العافية ) ، وكيف كان ذلك ؟ فهناك مَن قال ويصفه بعض الناقلين عنه بأنه من الكبار - يعني كبار الصالحين والصوفية - ، كان يدعو ربَّه - عز وجل - أن يجعله جسرًا في جهنم تمرُّ الناس عليه ويبقى هو في النار ، المعنى معنى شعري جميل ، لكنه معنى خيالي قبيح ، الجمال فيه - وهو صوري - أنُّو هو كبش الفداء تمرُّ الناس عليه جسر في جهنم ، وَلْتَنجُ الناس وليهلَكْ هو ، (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ )) "" كانت "" (( بِهِمْ خَصَاصَةٌ )) .
عيد عباسي : (( كَانَ )) .
الشيخ : وصل بهم الأمر إلى هذا الحد ، لكن هذا لو ذاقَ ، ماذا نقول ؟ إذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يقول : ( نارُكم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ) ، فلو أن هذا الإنسان مدَّ إصبعه في النار البسيطة في الدنيا ؛ هل سيصبر من أجل غيره ؟ كلام خيال في خيال ؛ فكيف يصبر على نار هي أشد من هذه النار يعني دار الدنيا مش شمعة أو فتيلة أو سراج أو كهرباء أو أي شيء ، مجموع نار الدنيا عبارة عن جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، كيف يصبر هذا الإنسان ؟ لكن هذا هو الخيال الذي كان يعيش فيه الصوفية في أفكارهم وفي عقائدهم فضلًا عن شطحاتهم ؛ لذلك لما كانوا ينقلون مثل هذه العبارة عن هذا الإنسان يقولون : هذا شطحة من شطحات العاشقين ، وهؤلاء غير مؤاخذين ؛ أي : إذًا ليسوا قدوة فيما يصدر منهم مثل هذه الأقوال التي تخالف السنة .
ومن هذا القبيل - أيضًا - ما يروُونه عن شخص منهم كان يقول : فليس لي في هواك ، إيش ؟ فليس لي في هواك ، بعدين : إني كيفما ، " فكيفما شئت فامتحني " ، هنا الشاهد ، يخاطب ربَّه أنُّو هو ليس له هوى في أحد سواه ، فكيفما شئتَ يا ربي فامتحنِّي ، هذا من السنة ؟!! الرسول يقول : ( سلوا الله العفو والعافية ) ، وفي حديث أنس لما رأى الرجل المريض صار كالفرخ قال له : ( هلَّا قلت : اللهم ربنا آتنا في الدنيا ؟! ) إلى آخره ، أما هذا فيقول كأنه يتحدَّى رب العالمين ويقول : فكيفما شئت فامتحنِّي !
السائل : ... في قول .
الشيخ : فماذا كان عاقبة هذا الإنسان ؟ لقد ابتلاه الله - عز وجل - ببلاء بسيط جدًّا ؛ ألا وهو حصر البول ، ففعلًا صار مجنونًا ، هو بيسمُّونه بـ " سحنون المجنون " ، صار مجنون مو من الهوى كما يزعمون ، وإنما من المرض الذي طلبه من الله - عز وجل - أن يبتله به ، فكان يمشي في الطرقات ، وحينما يرى أطفال الكتاتيب يخرجون يقول لهؤلاء الأطفال الصغار ادعوا لعمِّكم الكذَّاب ؛ يعني ما صبر ، قال كلام خيالي : " فكيفما شئت فامتحنِّي " ، فامتحنه ببلاء بسيط من بلاء الدنيا ، (( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى )) ، فما صبر على ذلك ولا أطاقَه ، فكان إذا مرَّت به الأطفال الصغار يقول لهم : ادعوا لعمِّكم الكذاب ! فعلًا ثبت كذبه ؛ لأنه لم يصبر على هذا البلاء البسيط ، فصلى الله على محمد الذي دلنا على خير الهدى ، يقول في خطبه دائمًا : أبدًا ، وخير الهدى هدى محمد ، فهو يأمرنا جميعًا أن نتوجَّه إلى الله - عز وجل - بأن نسأله العفو عن ذنوبنا ، والعافية في أبداننا وفي ذوات نفوسنا ، ذلك خير لنا من أن نسألَه أن يبتلِيَنا ثم لا نصبر على بلاه ؛ لذلك أحبُّ شيء إلى الرسول - عليه السلام - هو العفو والعافية .
قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في تمام الحديث : ( سلوا الله العفو والعافية ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية ) ، المقصود هنا في اليقين بطبيعة الحال إنما هو الإيمان الجازم المقطوع الذي لا شكَّ فيه ولا ريب ، فبعد اليقين يأتي في الخيرية هو العافية السلامة ، فالصحة ظاهرًا وباطنًا .
فنسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا اليقين أوَّلًا ، ثم العفو والعافية ثانيًا .
( سلوا الله العفو والعافية ؛ فإن أحدًا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرًا من العافية ) .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 255
- توقيت الفهرسة : 00:02:02
- نسخة مدققة إملائيًّا