ما حكم الشرب والأكل قائمًا ؟
A-
A=
A+
الشيخ : والأمثلة على ذلك تكثر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ولعلَّه يحسن بي في ختام الجواب على هذا السؤال أن أضرب مثلًا آخر حسَّاسًا له علاقة بحياتنا الاجتماعية في هذا الزمان ؛ حيث أننا نُخالف قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - مُحتجِّين بفعله مع أنَّه يرد عليه ما ذكرته من الاحتمالات الثلاثة ؛ ألا وهو شرب كثير من الناس قيامًا ، وهم يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد " نهى عن الشرب قائمًا " كما جاء في " صحيح مسلم " من حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " ، وفي رواية : " زجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " . فقيل له : أرأيت الأكل ؟ قال : ( شرٌّ ) ؛ أي : الأكل من قيام شرٌّ من الشرب من قيام .
كثير من الناس نراهم يتساهلون فيشربون قيامًا ، وإذا ما أوردْتَ عليهم هذا الحديث مُذكِّرا لهم بنهيه بل بزجره - صلى الله عليه وآله وسلم - لنا - معشر المسلمين - عن الشرب قائمًا بادَرُوك بقوله : ألم يشرب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قائمًا ؟
جوابنا : نعم ، قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير ما حديث ، وفي غير ما حالة واحدة ؛ أنه شرب قائمًا ، ولكن ما العمل وأمامنا حديث من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو زجره عن الشرب قائمًا ، وعندنا - أيضًا - فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو شربه قائمًا ؟
إذا عرفتم القاعدة السابقة ، وحاولتم التوفيق بين نهيه وفعله لا بدَّ أنكم ستجدون أنفسكم إذا سلَّمتم بها للعلم أن تقولوا ربما أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شرب قائمًا ؛ لأنَّه لم يتمكَّن من الشرب قاعدًا ، وهذا يُلاحظه الباحثون المتفقِّهون في أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض الأحاديث التي جاء فيها أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - شرب قائمًا ؛ حيث في هذا الحديث وهو في " سنن الترمذي " وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء إلى قِرْبة معلَّقة فحلَّ وكاءَها ، وشرب منها قائمًا ) ؛ أي : إن القربة كانت مُعلَّقة ، وليس من السهل من إنزال القربة والشرب منها وهو - عليه الصلاة والسلام - جالس ، تصوُّر هذه القصة يُغنينا عن محاولة التكلُّف في بيان السبب الذي شرب - عليه الصلاة والسلام - قائمًا .
فالأحاديث التي ليس فيها بيان السبب تُحمل إمَّا على هذا المحمل ؛ وهو العذر ، وإما على محملٍ ثانٍ ؛ وهو أن يكون الشرب قبل النهي ، وإما على المحمل الأخير أن يكون ذلك حكمًا خاصًّا به - عليه الصلاة والسلام - .
بعض العلماء ممَّن عالجوا هذه المسألة حاولوا الجمع بين الفعل والقول ، والمحاولة في الأصل أمرٌ مطلوبٌ ؛ ولكن بشرط أن تكون المحاولة ليس فيها تكلُّف ، وليس فيها تعطيلٌ لقوله - عليه الصلاة والسلام - بوجهٍ من وجوه التأويل كما سترون فيما يأتي :
قالوا - توفيقًا بين فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين شربه قائمًا وبين نهيه عن الشرب قائمًا - : نحمل النهي على التنزيه ؛ أي يكون الحكم أن الشرب قيامًا هو مكروه وليس بحرام ، فالأَولى أن يشرب الشارب جالسًا ، هذا ما قاله بعض أهل العلم ، ومنهم الإمام النووي ، لكن هذا الجمع وقف عند لفظ " نهى " ، لكنه لو تعدَّى نظرُ الجامع المذكور إلى الرواية الأخرى التي تقول : " زجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " لَوَجَدَ نفسه غير مُوفَّق في ذلك التوفيق ؛ لأن الزجر أقوى من النهي ، الزجر كما لو كان النَّصُّ حَرَّم رسول الله الشرب قائمًا ؛ حينئذٍ لا سبيل إلى تأويل التحريم إلى الكراهة التنزيهية ، ولذلك فالتأويل السابق كان يمكن أن يكون سائغًا ومقبولًا لولا الرواية الأخرى : " زجرَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " ، أَمَا وهي - أيضًا - صحيحة وفي " صحيح مسلم " ؛ فبذلك يثبت أن ذلك التأويل تأويل هزيل لا ينبغي الاعتماد عليه .
يزداد التأويل المذكور ضعفًا على ضعف فيما إذا تذكَّرنا حديثًا آخر أخرجه الإمام مسلم ، - عفوًا - أخرج معناه الإمام مسلم في " صحيحه " ، أما اللفظ فأخرجه الإمام أحمد في " مسنده " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى رجلًا يشرب قائمًا فقال له : ( يا فلان أترضى أن يشرب معك الهرُّ ؟! ) . قال : لا ، يا رسول الله . قال : ( فقد شرب معك من هو شرٌّ من الهرِّ الشيطان ) ، شرب معك الشيطان ! لأنك شربت قائمًا ، ثم قال له - عليه الصلاة والسلام - أو لغيره ممن شرب قائمًا : ( قِئْ قِئْ ) ؛ أمره بأن يستفرغ الماء الذي شربه قائمًا ، أَهَذا حكم المكروه كراهة تنزيهية أن يُكلَّف من ارتكب مكروهًا أن يشقَّ على نفسه وأن يستفرغَ ما في بطنه من الماء ؟ ليس هذا سبيل المكروهات ، وإنما هو سبيل المحرَّمات ، ثم إذا كان الشيطان قد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد شارك هذا الشارب للماء قائمًا ؛ أفيكون هذا - أيضًا - مكروهًا كراهةً تنزيهيَّةً ؟ الجواب : كلَّا ، ثم كلَّا ، ثم كلَّا .
وختام القول : أن هذا مثال صالح كيف ينبغي أو لماذا قال أهل العلم بأنه إذا تعارض القول مع الفعل قُدِّم القول على الفعل ، هذا أمرٌ لا يشكُّ فيه من تتبَّع أحكام الشريعة في أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فإنه سيجد نفسه مضطرًّا إلى القول بما قاله هؤلاء العلماء ؛ أنه : " إذا تعارضَ فعله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله قُدِّم القول على الفعل " ؛ هذا حينما لا يمكن التوفيق بين فعله وقوله كما ضربنا لكم آنفًا ؛ مثل الشرب قيامًا ، ومثل التزوّج بأكثر من أربع .
وفي هذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
كثير من الناس نراهم يتساهلون فيشربون قيامًا ، وإذا ما أوردْتَ عليهم هذا الحديث مُذكِّرا لهم بنهيه بل بزجره - صلى الله عليه وآله وسلم - لنا - معشر المسلمين - عن الشرب قائمًا بادَرُوك بقوله : ألم يشرب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قائمًا ؟
جوابنا : نعم ، قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير ما حديث ، وفي غير ما حالة واحدة ؛ أنه شرب قائمًا ، ولكن ما العمل وأمامنا حديث من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو زجره عن الشرب قائمًا ، وعندنا - أيضًا - فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو شربه قائمًا ؟
إذا عرفتم القاعدة السابقة ، وحاولتم التوفيق بين نهيه وفعله لا بدَّ أنكم ستجدون أنفسكم إذا سلَّمتم بها للعلم أن تقولوا ربما أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شرب قائمًا ؛ لأنَّه لم يتمكَّن من الشرب قاعدًا ، وهذا يُلاحظه الباحثون المتفقِّهون في أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض الأحاديث التي جاء فيها أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - شرب قائمًا ؛ حيث في هذا الحديث وهو في " سنن الترمذي " وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء إلى قِرْبة معلَّقة فحلَّ وكاءَها ، وشرب منها قائمًا ) ؛ أي : إن القربة كانت مُعلَّقة ، وليس من السهل من إنزال القربة والشرب منها وهو - عليه الصلاة والسلام - جالس ، تصوُّر هذه القصة يُغنينا عن محاولة التكلُّف في بيان السبب الذي شرب - عليه الصلاة والسلام - قائمًا .
فالأحاديث التي ليس فيها بيان السبب تُحمل إمَّا على هذا المحمل ؛ وهو العذر ، وإما على محملٍ ثانٍ ؛ وهو أن يكون الشرب قبل النهي ، وإما على المحمل الأخير أن يكون ذلك حكمًا خاصًّا به - عليه الصلاة والسلام - .
بعض العلماء ممَّن عالجوا هذه المسألة حاولوا الجمع بين الفعل والقول ، والمحاولة في الأصل أمرٌ مطلوبٌ ؛ ولكن بشرط أن تكون المحاولة ليس فيها تكلُّف ، وليس فيها تعطيلٌ لقوله - عليه الصلاة والسلام - بوجهٍ من وجوه التأويل كما سترون فيما يأتي :
قالوا - توفيقًا بين فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين شربه قائمًا وبين نهيه عن الشرب قائمًا - : نحمل النهي على التنزيه ؛ أي يكون الحكم أن الشرب قيامًا هو مكروه وليس بحرام ، فالأَولى أن يشرب الشارب جالسًا ، هذا ما قاله بعض أهل العلم ، ومنهم الإمام النووي ، لكن هذا الجمع وقف عند لفظ " نهى " ، لكنه لو تعدَّى نظرُ الجامع المذكور إلى الرواية الأخرى التي تقول : " زجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " لَوَجَدَ نفسه غير مُوفَّق في ذلك التوفيق ؛ لأن الزجر أقوى من النهي ، الزجر كما لو كان النَّصُّ حَرَّم رسول الله الشرب قائمًا ؛ حينئذٍ لا سبيل إلى تأويل التحريم إلى الكراهة التنزيهية ، ولذلك فالتأويل السابق كان يمكن أن يكون سائغًا ومقبولًا لولا الرواية الأخرى : " زجرَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الشرب قائمًا " ، أَمَا وهي - أيضًا - صحيحة وفي " صحيح مسلم " ؛ فبذلك يثبت أن ذلك التأويل تأويل هزيل لا ينبغي الاعتماد عليه .
يزداد التأويل المذكور ضعفًا على ضعف فيما إذا تذكَّرنا حديثًا آخر أخرجه الإمام مسلم ، - عفوًا - أخرج معناه الإمام مسلم في " صحيحه " ، أما اللفظ فأخرجه الإمام أحمد في " مسنده " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى رجلًا يشرب قائمًا فقال له : ( يا فلان أترضى أن يشرب معك الهرُّ ؟! ) . قال : لا ، يا رسول الله . قال : ( فقد شرب معك من هو شرٌّ من الهرِّ الشيطان ) ، شرب معك الشيطان ! لأنك شربت قائمًا ، ثم قال له - عليه الصلاة والسلام - أو لغيره ممن شرب قائمًا : ( قِئْ قِئْ ) ؛ أمره بأن يستفرغ الماء الذي شربه قائمًا ، أَهَذا حكم المكروه كراهة تنزيهية أن يُكلَّف من ارتكب مكروهًا أن يشقَّ على نفسه وأن يستفرغَ ما في بطنه من الماء ؟ ليس هذا سبيل المكروهات ، وإنما هو سبيل المحرَّمات ، ثم إذا كان الشيطان قد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد شارك هذا الشارب للماء قائمًا ؛ أفيكون هذا - أيضًا - مكروهًا كراهةً تنزيهيَّةً ؟ الجواب : كلَّا ، ثم كلَّا ، ثم كلَّا .
وختام القول : أن هذا مثال صالح كيف ينبغي أو لماذا قال أهل العلم بأنه إذا تعارض القول مع الفعل قُدِّم القول على الفعل ، هذا أمرٌ لا يشكُّ فيه من تتبَّع أحكام الشريعة في أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فإنه سيجد نفسه مضطرًّا إلى القول بما قاله هؤلاء العلماء ؛ أنه : " إذا تعارضَ فعله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله قُدِّم القول على الفعل " ؛ هذا حينما لا يمكن التوفيق بين فعله وقوله كما ضربنا لكم آنفًا ؛ مثل الشرب قيامًا ، ومثل التزوّج بأكثر من أربع .
وفي هذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .