ما حكم تقبيل اليدين خاصَّة الوالدين مع أن العُرْف تعارَفَ على ذلك ؟
A-
A=
A+
عيد عباسي : من الأسئلة السؤال التالي : ما حكم تقبيل يدي الوالدين ؟ وما الجواب على الشبهة القائلة : إنه لم يرد شيء في الشرع للأمر بذلك أو النهي عنه ، وإنما ورد الأمر بالتذلُّل لهما وبرِّهما وخفض الجناح لهما ؟ كما وَرَدَ تقبيل غير واحد ليد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره والأساليب التي تحقِّق ذلك تخضع للعرف ، وقد تعارف الناس في مجتمعنا على أن ذلك من البرِّ ؛ فما الجواب على هذه الشبهة ؟ وما حكم المسألة ؟
الشيخ : أقول - والله المستعان - : هذه الشبهة قائمة على جهل بالإسلام مع الأسف ، هذا الإسلام الذي من قواعده ما يقرِّره شيخ الإسلام ابن تيمية بأوجز عبارة حين يقول : " الأصل في العبادات المنع إلا لدليل ، والأصل في العادات الجواز إلا لدليل " ، وهذا طبعًا لم تكن هذه الجملة قاعدة إلا لأن الأدلة الشرعية توارَدَتْ عليها ، ولهذا فكلُّ مَن يريد أن يستحسنَ أمرًا بزعم أن الناس تعارفوا عليه أو اصطلحوا عليه ، ولم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعليه أن يستحضرَ هذه القاعدة ، وبناءً عليها ينبغي أن ينظر أن هذا الأمر المُستحدَث المتعارَف بين الناس ؛ هل المقصود فقط القول بجوازه لأنه لم يأتِ نهي صريح عنه ، أم المقصود أكثر من ذلك ؛ وهو القول باستحبابه ؟ فإن كان الأمر الأول أعود الآن إلى السؤال : إن كان السَّائل يقصد القول بجواز تقبيل يد الوالدين جوازًا لا يقترن معه ترجيح وتفضيل له على العكس وهو الترك ، إن كان يعني هذا فكلامه الذي يشبه كلام الفقهاء وارد ههنا ؛ إن كان يعني بهذا الكلام أن هذا أمر جائز ، والأمر الجائز في الفقه هو مستوي الطرفين فعلًا وتركًا ؛ أي : مَن فَعَلَ لا يُلام ، ومن تَرَكَ لا يُلام ؛ فهل أوَّلًا ، هل السَّائل يقصد هذا ؟ الجواب عندي : لا .
ثانيًا : هل للتقبيل شرعًا أمر عادي أم هو أمر تعبُّدي يُفعل حيث جاء ، ويُترك حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ؟ أما أن السَّائل لا يقصد فقط القول بأن هذا التقبيل ليد الوالدين هو أمر جائز مستوي الطرفين فذلك واضح ؛ لأنه استدلَّ بالآية ، والآية أقل ما تُفيد استحباب الخضوع للوالدين ، (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ، (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) ، هذا أمر ، هذا أمر ، وأقل ما يُفيد هذا الأمر بخفض الجناح للوالدين هو الاستحباب لا شك ولا ريب ، فإذ هو استدل بالآية فإنما يعني بذلك أن يُثبِتَ أن تقبيل يد الوالد أو الوالدة إنما هو أمر مستحبٌّ وليس أمرًا جائزًا فقط ، وحين ذاك نقول له : إن العرف الذي يستدل به على تجويزه بل استحبابه لهذه العادة لا يصلح أن يكون مشرِّعًا ؛ لا سيما إذا كان هذا العرف أمرًا طارئًا حادثًا مُبتَدَعًا كما هو الشأن في حياتنا اليوم ؛ ذلك لأنَّ العرف الذي يُخالف الآداب الإسلامية المتوارثة في كتب الحديث وكتب أهل العلم المحقِّقين منهم لا قيمة له ولا وزن له مطلقًا .
وقلت : إن التقبيل ليس مجرَّد عادة ، وإنما هو إما عبادة مشروعة ، أو أنها عبادة غير مشروعة ، فحينما تكون عبادة مشروعة فهي مستحبة أو فوق ذلك ، وحينما تكون عبادةً غير مشروعة دخلت في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، وهذه الكلية وهذه القاعدة الشرعية الإسلامية - مع الأسف الشديد - يغفل عنها كثير من العلماء ، فضلًا عن طلاب العلم ، فضلًا عمَّن ليس لهم من العلم إلا الاسم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة بين يدي خطبة الجمعة كما تسمعوننا بين يدي كل درس اتباعًا للرسول - عليه السلام - يقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الكلام كلام الله ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، كان - عليه الصلاة والسلام - يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ؛ لماذا ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " قال : " لترسخ هذه القاعدة في أذهان السامعين فلا يضلُّوا عنها " ، مع الأسف الشديد ضلَّ عنها عامة المسلمين ، بل وكثير من خاصَّتهم ؛ فها أنتم تسمعون يقول : لا يوجد هناك نهي عن تقبيل الولد ليد والده أو والدته ، وما وزن هذا الحديث حين ذاك عنده وأمثاله موجود في قوله - عليه السلام - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) ؟
الجهل بهذه القاعدة وأمثالها يؤدي بعض الناس من المتعالمين إلى أن يقولوا في كل أمر حادث : يا أخي ، ما فيه نهي عنه !! يا حبيبي ، الرسول - عليه السلام - وضع لك قاعدة قال : ( كل بدعة ضلالة ) ، هذا يُغنيك عن عشرات المئات بل الألوف من نصوص ؛ ليقول لك : الأمر الفلاني منهي عنه ، الأمر الفلاني منهي عنه ؛ يعني هذه البدعة التي تحدث في كل يوم بدعة لا يمكن حصرها ، فجاءك بقاعدة لِيُريحك من هذه النصوص التي لا يمكن الإحاطة بها : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) . الغفلة عن هذه القاعدة يؤدي بهؤلاء الناس إلى أن يستسيغوا كثيرًا من البدع بدَعوى أن النبي - عليه السلام - لم ينْهَ عنها ، ونحن نحاجِجُهم بكثير من البدع التي لا نعدم عشرات ... .
... السلف الصالح كانوا قد تفقَّهوا في الدين حقيقةً ، وفهموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرمي إليه بمثل هذه القاعدة : ( كل بدعة ضلالة ) ؛ لذلك نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما حَجَّ في خلافته ووقف أمام الحجر الأسود يريد أن يقبِّلَه قال : " والله إني لَأعلَمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك " ، ماذا يعطينا هذا الكلام من عمر بن الخطاب وهو يصدع به على ملأٍ من الناس حجَّاج وكُثُر ؟ يعني أن التقبيل داخل في موضوع الاتِّباع حيث جاء ، وداخل في موضوع الابتداع حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ، هذا معنى كلام الخليفة الراشد . وسبحان الله !! ما أسرع أمثال هؤلاء الناس إلى الاحتجاج ببعض الأقوال عن الخلفاء الراشدين أو بعضهم إذا كانت لهم في ذلك مصلحة !! وما أشدَّ نسيانهم لِمثل هذا الاستدلال فيما إذا كان عليهم !! فهذا عمر بن الخطاب يقول يخاطب الحجر الأسود ، طبعًا الحجر الأسود لا يسمع ، ولكن هذا من باب : " الكلام إلك يا كنَّة واسمعي يا جارة " ؛ يعني اسمعوا أيها الناس ، أنا أقول : الحجر الأسود إني لَأعلَمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ، لكن اعلموا أني ما أقبِّله إلا لأني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّله ؛ إذًا هذا الحديث وحدَه يعطينا أن التقبيل لا يمكن حشرُه في زمرة الأمور العادية التي إذا جرى العرف عليها فالأمر في ذلك واسع ؛ لا ، التقبيل عبادة حيث شُرعت ، وبدعة حيث لم تُشرع .
من هنا نحن نقول : إن هذا الاستدلال فيه أوَّلًا انحراف عن القاعدة الشرعية السابقة الذكر نقلتُها لكم عن ابن تيمية ، وذكرت لكم بعض أدلتها ؛ ( كل بدعة ضلالة ) ، ( مَن أحدث في أمرنا هذا ) ، ثم فيه غفلة أخرى عن التفقُّه بمثل تفقُّه الصحابة ، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ؛ حيث قال : لا أريد أن أقبِّل الحجر ؛ لأنه لا يضرُّ ولا ينفع ، لكنه رأى الرسول يقبِّله فيستسلم ، هذا هو شأن المؤمن . إذًا نحن لو أردنا أن نقتدي بعمر بن الخطاب فندخل على أبينا وأمِّنا ، فقلنا للأب المحترم والأم المحترمة : لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرَعْ لنا تقبيل يد الوالد أو الوالدة لَقبَّلت ؛ يعني على عكس إيه ؟ موقف عمر ؛ لأنُّو الموقف هناك يختلف هنا ، هناك يعلم أن الرسول قبَّل فهو يقبِّل ، لكن لو علم أنه ما قبَّل ؛ ما قبَّل ؛ فهل نحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعَ للصحابة أن يقبِّلوا أيدي آبائهم وأمهاتهم ؟ الجواب : لا . هل جاء خبر ولو في حديث ضعيف ، بل نتنزَّل فنقول : ولو في حديث موضوع ؛ أن أحدًا من الصحابة كان إذا دخل على أبيه أو أمه قبَّلَ يده أو يدها ؟ كل ذلك لم يكن ، فكيف يجوز لِمَن كان عنده علم صحيح بعد ذلك أن يستدلَّ في مثل هذا الموضوع بالعرف الطارئ ، بالعرف الحادث ، الناس تعارفوا هذا .
تُرى لو أن الناس تعارفوا بينهم أن يقبِّلوا شيئًا آخر ، وأنا أضرب لكم مثلًا حسَّاسًا مُبتلى به هؤلاء الناس ، تعارفوا تقبيل القرآن الكريم ؛ فماذا يقولون ؟ لا شك سيقولون بمثل ما قالوا بالنسبة لتقبيل يد الوالد ؛ لأنُّو يد الوالد أو يد الوالدة ليست مقدَّسة أكثر بالنسبة للقرآن الكريم الذي فيه كلام الله القدير ، تُرى هل يُسَنُّ هل يُستحبُّ تقبيل القرآن الكريم ؟ طبعًا ستجد الناس يقولون : نعم يا أخي ، هذا تعظيم لكلام الله وإلى آخره . نحن نقول : لا ، تعظيم كلام الله باتباعه ، وليس تعظيم كلام الله بتقبيل أوراقه وبزخرفة صفحاته ، وهذا في الواقع مما يزيِّن الشيطان لبني الإنسان يصرفه عمَّا هو مهم إلى ما ليس بمهمٍّ مطلقًا ، يقنعه حسبك مِن احترامك وتعظيمك للقرآن أن تقبِّلَه .
هذا له أمثلة كثيرة جدًّا في حياتنا اليوم ؛ أنا أشاهد وأنا أمشي في الطريق نُبتلى أن نمرَّ - مثلًا - بقهوة فيها لعب الشطرنج ، وفيها الطاولة ، وفيها النرد المحرَّم وما شابه ذلك وإلى آخره ؛ فأول ما يسمع بعضهم - مش كلهم ! - يسمع بعضهم الأذان قاموا ، ما هذا القيام ؟ تعظيم يا أخي لجلال الله - عز وجل - ، وأذان الذي فيه التوحيد وفيه الشهادتان وإلى آخره ! أقنَعَهم الشيطان أنُّو هذا القيام يُغنيهم عن الذهاب إلى المسجد ، هَيْ تعظيم وانتهى الأمر ، بينما القيام الحقيقي هو تسمعه يقول : الله أكبر ، لستَ على وضوء ، تنطلق ، تسمعه بعد ذلك وأنت على وضوء يقول : حي على الصلاة ؛ فعلًا تذهب وتصلي مع جماعة المسلمين ، هذا هو التعظيم الحقيقي لهذا الأذان ، فصَرَفَ الشيطان هؤلاء المسلمين عن هذا التعظيم الذي جاء به سيد المرسلين إلى تعظيم صوري شكلي ، وهذا يمكن أن نجعله مطَّردًا في جلِّ إن لم أقل كل ما أحدثه الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وَلْنَعُدْ إلى التقبيل هذا تقبيل يد الوالد ؛ هذا البحث يذكِّرني بأخ لنا تُوفي منذ شهور - رحمه الله - ، كان رجلًا عامِّيًّا ، وكان يحضر دروسنا القديمة مع بعض إخواننا القدامى ، وكان صاحب نكتة ودعابة مع أمِّيَّته ، وكنت يومئذٍ لا أزال أتعاطى مهنة تصليح الساعات في دكاني ، فكان وكان داره قريب من دكاني ، ففي أكثر الأيام يتردَّد عليَّ ، ما بين آونة وأخرى يأتيني بشخص ويدخل بكل هدوء وبكل يعني تواضع متكلَّف بعض الشيء ، يظهر المسكنة ، هو جيد يعني ؛ يقول : بعرفك بفلان ، فلان بن فلان ، بر بالوالدين ، كل يوم الصبح بيفيق بيقبِّل إيد إمه وأبوه ، لكن ما بيصلي لله صلاة !! فهو مرضي الوالدين مغضوب رب العالمين !! [ الجميع يضحك ! ] .
نحن نشاهد في الواقع هذه الظاهرة ، يقنَع الوالد والوالدة بصورة أخص بأن يظهر الولد هالمسكنة وهالخضوع وهالخشوع للوالدين ، أما أن يأمُراه بالمحافظة على الصلاة على طهارة النفس على كذا إلى آخره ، قنعانين هنّ مع بعضهم البعض بهالنفاق اللي أنا أسمِّيه بالنفاق الاجتماعي ، هنّ اثنين متزوجين الوالدين قنعانين من الولد بهذه الطاعة اللي ما بتكلّفه غير إيش مج هاليد هذه ، وهو قنعان بهذه الطاعة أيضًا ؛ لا سيما وقد يجد مَن إيش ؟ يفتيه بأنُّو هذا من التذلل ومن الخضوع للوالدين الذي جاء الأمر به في القرآن الكريم ، من هنا من مثل هذا المثال والأمثلة كثيرة وكثيرة جدًّا نحن نزداد كل يوم إيمانًا بأن الحقَّ كما كان الرسول - عليه السلام - يقول : ( خير الهدى هدى محمد ) ، يا جماعة ، إذا ما دخل في عقلكم هذا الكلام على طريقة العملية الحسابية - مثلًا - اللي يشترك في معرفتها جميع الناس ، فآمنوا ، آمنوا خير لكم ، آمنوا بأن خير الهدى هدى محمد ، آمنوا بأنُّو هالقيام هادا الذي يعتاده الناس للمشايخ ولغير المشايخ هذا ليس من الإسلام في شيء ، وليس من الدين من شيء ، وليس من الأمور المستحبَّة في شيء ، ليس من التعظيم والإجلال للمسلم أبدًا ، آمنوا بأن هذا التقبيل الذي يفعله اليوم الناس مع المشايخ فضلًا عن آبائهم وأمهاتهم ليس من الإسلام في شيء ؛ فلازم نطوِّر حياتنا ونجعلها تقترب كل يوم ولو خطوة خطوة إلى ما كانت عليه الحياة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد خير القرون التي لن تَجِدَ الأرض بعد ذلك العهد أطهر وخيرًا وأبعد ما يكون عن الشَّرِّ من ذلك العهد الطاهر .
هذه كلمة حول جواب عن السؤال السابق ، تقبيل يد الوالدين ليس عبادة مطلقًا ، وليس مما تشمله الآية التي ذَكَرَها ؛ لأن الأمر لو كان كذلك لَكان أسرع الناس مبادرةً إلى تنفيذ ذلك هم الصحابة مع آبائهم وأمهاتهم ؛ لا سيما وكما ذكر لي عرضًا هذا التقبيل ليس بالأمر الحادث لحتى يقول : والله هم ما انتبهوا له ؛ لا ، التقبيل معروف عادة قديمة وقديمة جدًّا ، حتى وصل التقبيل إلى الأحجار ، لكن منه ما هو شرع كما سمعتم بالنسبة للحجر الأسود ، ومنه ما ليس بشرع ، وذلك تقبيل كل الأحجار ، تقبيل نوافذ الأولياء والصالحين ، قبورهم ونحو ذلك ، كل ذلك مما يصرِّح بعض العلماء حتى من المتأخرين حتى ممَّن لا يُعرفون بأنهم مدقِّقون في علم السنة والبدعة كالشَّيخ " محمد الغزالي " ؛ حيث يذكر أن تقبيل القبور ولمسها من صنيع اليهود والنصارى ؛ فإذًا التقبيل ليس شيئًا جديدًا كواقع ، لكنه شيء جديد كجعله دين يُثنى على مَن فعل ، ثم يُذَمُّ مَن ترك .
وهنا لا بد أن أذكِّر بشيء وننتهي بعد ذلك من هذا الاجتماع إلى اجتماع آخر - إن شاء الله - ؛ نشاهد أبًا يثور أو أمًّا تثور ؛ لأن هناك ولدًا صالحًا نشأ إلى حدٍّ ما على طاعة الله ، أقول إلى حدٍّ ما ؛ لأن الزمن لا يساعد الشباب - مع الأسف - اليوم أن يكونوا كشباب الصحابة ، ثم نشأ - أيضًا - على السنة أيضًا إلى حدٍّ ما ، فهو يسمع ويتعلم ، فيقبِّل لا يقبِّل يد أبيه أو أمه ، فيثوران عليه ، نعلم مِن كثير من الآباء يثورون لِترك بعض الأبناء شيئًا أقل ما يقال : إنه لم يعصِ الله ورسوله ، مع ذلك يثورون ، بينما هناك أبناء آخرون لا يصلون ، ربما لا يصومون ؛ مع ذلك الآباء هم عنهم راضون ؛ لماذا ؟ لأنهم لهم ينافقون ، يقبلوا اليد ؛ لأنُّو مثل هذا الذي لا يصلي ولا يصوم ما بيهمُّه بقى تقبيل يد حتى لو كان حرام ما دام أبوه رضيان عنه ، أمه رضيانة عنه ؛ فهو سيفعل هذا التقبيل . هذه الفارقة ظاهرة جدًّا ، فهذا الذي لا يصلي ولا يصوم ويقصِّر في طاعة الله - عز وجل - في كثير من الأمور لا يقومون عليه شيئًا ، وهذا الشاب الناشئ في طاعة الله الذي ينبغي أن يُشجَّع في أن يستمرَّ على هذه الطاعة ، وأن يزداد منها ؛ يثور عليه الآباء والأمهات ؛ لماذا ؟ لأنه خَرَجَ عن العرف السائد وهو تقبيل اليد صباح مساء .
هذه ذكرى ، والذكرى تنفع المؤمنين ، وذكرى أخرى للشباب أنفسهم ؛ لأني أعلم - أيضًا - بتجربتي الخاصة أن بعض هؤلاء الشباب - أيضًا - يسيئون معاملتهم لآبائهم ؛ أي : يخالفون الشرع ، نحن لا نحابي الشباب على حساب إيش ؟ آبائهم وأمهاتهم ، كما أننا لا نفعل العكس ، وإنما نقول الحق : بعض الأبناء من إخواننا الناشئين السلفيين على الكتاب والسنة يسيئون معاملتهم لآبائهم ؛ مثلًا كأن يصيحوا في وجوههم وهم يقرؤون القرآن معنا ، الآية التي سبق ذكرها : (( لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ )) ، فأنت أيها الشاب لما تدَّعي أنك تريد العمل بالكتاب والسنة فلا تجعلَنْ حرصك هذا محصورًا في المسائل التي نخالف فيها المجتمع ؛ لأن في بعض الناس يقتلهم إيش ؟ حبُّ الظهور ، و " حبُّ الظهور يقطع الظهور " كما يقول الصوفية ، وقلت لكم مرارًا : مش كل كلام يقوله الصوفية كلام باطل ، هم يقولون معنا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، نبطِّل نقول نحن ؟! لا ، كذلك هم يقولون : " حبُّ الظهور يقطع الظهور " ، هذا كلام صحيح ؛ لذلك فبعض إخواننا من الناشئين قد يغلب عليهم ، قد يغلب عليهم وأنا لا أسمِّي شخصًا منهم ، كل واحد بيعرف حاله ، قد يغلب عليهم الظُّهور في هذا المجتمع بأنُّو أنا سلفي ، أنا متَّبع الكتاب والسنة ، أنا أخالف المجتمع كله في كل عاداته إلى آخره ، يغلب عليه هذا ، ثم ينسى أن يُشارك هذا المجتمع في أعماله الصحيحة المطابقة للكتاب والسنة ، من ذلك : (( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا )) .
فإذًا إذا كنا أردنا أن نكون صادقين في تمسُّكنا بالكتاب والسنة مع آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا ؛ فيجب أن لا يكون هذا فقط محصورًا في الأمور السلبية ، أنا ما أقبِّله ، أنا ما أقبِّل يده ، لكن أنت عم تجي تسيء له وتنهر بوجهه وتقول له : أفّ ، شو هاد ؟ ... هذا لا ينبغي أبدًا ، إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حقِّ النساء مع الرجال يخاطب الرجال فيقول : ( إنهنَّ عوانٌ عندكم ) ، النساء كالأسيرات عند إيش ؟ الأزواج ؛ لأن الله - عز وجل - جَعَلَ لهم السلطة عليهنَّ ، فالولد يجب أن يعرف نفسه أنه كالأسير عند أبيه وأمه ؛ ماذا يفعل الأسير مع سيده ؟ هل يصيح في وجهه ؟ هل يتعالى عليه ؟ كلُّ ذلك لا يُفعل ، يخاف ، يجب أن تخاف ربَّك في معاملتك لأبيك وأمك ؛ فلا تسيء إليهما ولو أساؤوا إليك ، عليك أن تتحمَّل ، ولكن هذا لا يحمِلُك على أن تخالف الكتاب والسنة .
فإذًا هناك أمران يجب الفصل بينهما ، لا تطِعْ والدك فيما تُخالف فيه الكتاب والسنة ، ولكن قدِّم إليهم شيئًا تُظهِرُ لهم أنك أنت تطبِّق الكتاب والسنة في الأمور الأخرى التي جاءت في الكتاب والسنة ، من ذلك : (( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا )) .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
الشيخ : أقول - والله المستعان - : هذه الشبهة قائمة على جهل بالإسلام مع الأسف ، هذا الإسلام الذي من قواعده ما يقرِّره شيخ الإسلام ابن تيمية بأوجز عبارة حين يقول : " الأصل في العبادات المنع إلا لدليل ، والأصل في العادات الجواز إلا لدليل " ، وهذا طبعًا لم تكن هذه الجملة قاعدة إلا لأن الأدلة الشرعية توارَدَتْ عليها ، ولهذا فكلُّ مَن يريد أن يستحسنَ أمرًا بزعم أن الناس تعارفوا عليه أو اصطلحوا عليه ، ولم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعليه أن يستحضرَ هذه القاعدة ، وبناءً عليها ينبغي أن ينظر أن هذا الأمر المُستحدَث المتعارَف بين الناس ؛ هل المقصود فقط القول بجوازه لأنه لم يأتِ نهي صريح عنه ، أم المقصود أكثر من ذلك ؛ وهو القول باستحبابه ؟ فإن كان الأمر الأول أعود الآن إلى السؤال : إن كان السَّائل يقصد القول بجواز تقبيل يد الوالدين جوازًا لا يقترن معه ترجيح وتفضيل له على العكس وهو الترك ، إن كان يعني هذا فكلامه الذي يشبه كلام الفقهاء وارد ههنا ؛ إن كان يعني بهذا الكلام أن هذا أمر جائز ، والأمر الجائز في الفقه هو مستوي الطرفين فعلًا وتركًا ؛ أي : مَن فَعَلَ لا يُلام ، ومن تَرَكَ لا يُلام ؛ فهل أوَّلًا ، هل السَّائل يقصد هذا ؟ الجواب عندي : لا .
ثانيًا : هل للتقبيل شرعًا أمر عادي أم هو أمر تعبُّدي يُفعل حيث جاء ، ويُترك حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ؟ أما أن السَّائل لا يقصد فقط القول بأن هذا التقبيل ليد الوالدين هو أمر جائز مستوي الطرفين فذلك واضح ؛ لأنه استدلَّ بالآية ، والآية أقل ما تُفيد استحباب الخضوع للوالدين ، (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ، (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) ، هذا أمر ، هذا أمر ، وأقل ما يُفيد هذا الأمر بخفض الجناح للوالدين هو الاستحباب لا شك ولا ريب ، فإذ هو استدل بالآية فإنما يعني بذلك أن يُثبِتَ أن تقبيل يد الوالد أو الوالدة إنما هو أمر مستحبٌّ وليس أمرًا جائزًا فقط ، وحين ذاك نقول له : إن العرف الذي يستدل به على تجويزه بل استحبابه لهذه العادة لا يصلح أن يكون مشرِّعًا ؛ لا سيما إذا كان هذا العرف أمرًا طارئًا حادثًا مُبتَدَعًا كما هو الشأن في حياتنا اليوم ؛ ذلك لأنَّ العرف الذي يُخالف الآداب الإسلامية المتوارثة في كتب الحديث وكتب أهل العلم المحقِّقين منهم لا قيمة له ولا وزن له مطلقًا .
وقلت : إن التقبيل ليس مجرَّد عادة ، وإنما هو إما عبادة مشروعة ، أو أنها عبادة غير مشروعة ، فحينما تكون عبادة مشروعة فهي مستحبة أو فوق ذلك ، وحينما تكون عبادةً غير مشروعة دخلت في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، وهذه الكلية وهذه القاعدة الشرعية الإسلامية - مع الأسف الشديد - يغفل عنها كثير من العلماء ، فضلًا عن طلاب العلم ، فضلًا عمَّن ليس لهم من العلم إلا الاسم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة بين يدي خطبة الجمعة كما تسمعوننا بين يدي كل درس اتباعًا للرسول - عليه السلام - يقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الكلام كلام الله ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، كان - عليه الصلاة والسلام - يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ؛ لماذا ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " قال : " لترسخ هذه القاعدة في أذهان السامعين فلا يضلُّوا عنها " ، مع الأسف الشديد ضلَّ عنها عامة المسلمين ، بل وكثير من خاصَّتهم ؛ فها أنتم تسمعون يقول : لا يوجد هناك نهي عن تقبيل الولد ليد والده أو والدته ، وما وزن هذا الحديث حين ذاك عنده وأمثاله موجود في قوله - عليه السلام - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) ؟
الجهل بهذه القاعدة وأمثالها يؤدي بعض الناس من المتعالمين إلى أن يقولوا في كل أمر حادث : يا أخي ، ما فيه نهي عنه !! يا حبيبي ، الرسول - عليه السلام - وضع لك قاعدة قال : ( كل بدعة ضلالة ) ، هذا يُغنيك عن عشرات المئات بل الألوف من نصوص ؛ ليقول لك : الأمر الفلاني منهي عنه ، الأمر الفلاني منهي عنه ؛ يعني هذه البدعة التي تحدث في كل يوم بدعة لا يمكن حصرها ، فجاءك بقاعدة لِيُريحك من هذه النصوص التي لا يمكن الإحاطة بها : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) . الغفلة عن هذه القاعدة يؤدي بهؤلاء الناس إلى أن يستسيغوا كثيرًا من البدع بدَعوى أن النبي - عليه السلام - لم ينْهَ عنها ، ونحن نحاجِجُهم بكثير من البدع التي لا نعدم عشرات ... .
... السلف الصالح كانوا قد تفقَّهوا في الدين حقيقةً ، وفهموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرمي إليه بمثل هذه القاعدة : ( كل بدعة ضلالة ) ؛ لذلك نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما حَجَّ في خلافته ووقف أمام الحجر الأسود يريد أن يقبِّلَه قال : " والله إني لَأعلَمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك " ، ماذا يعطينا هذا الكلام من عمر بن الخطاب وهو يصدع به على ملأٍ من الناس حجَّاج وكُثُر ؟ يعني أن التقبيل داخل في موضوع الاتِّباع حيث جاء ، وداخل في موضوع الابتداع حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ، هذا معنى كلام الخليفة الراشد . وسبحان الله !! ما أسرع أمثال هؤلاء الناس إلى الاحتجاج ببعض الأقوال عن الخلفاء الراشدين أو بعضهم إذا كانت لهم في ذلك مصلحة !! وما أشدَّ نسيانهم لِمثل هذا الاستدلال فيما إذا كان عليهم !! فهذا عمر بن الخطاب يقول يخاطب الحجر الأسود ، طبعًا الحجر الأسود لا يسمع ، ولكن هذا من باب : " الكلام إلك يا كنَّة واسمعي يا جارة " ؛ يعني اسمعوا أيها الناس ، أنا أقول : الحجر الأسود إني لَأعلَمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ، لكن اعلموا أني ما أقبِّله إلا لأني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّله ؛ إذًا هذا الحديث وحدَه يعطينا أن التقبيل لا يمكن حشرُه في زمرة الأمور العادية التي إذا جرى العرف عليها فالأمر في ذلك واسع ؛ لا ، التقبيل عبادة حيث شُرعت ، وبدعة حيث لم تُشرع .
من هنا نحن نقول : إن هذا الاستدلال فيه أوَّلًا انحراف عن القاعدة الشرعية السابقة الذكر نقلتُها لكم عن ابن تيمية ، وذكرت لكم بعض أدلتها ؛ ( كل بدعة ضلالة ) ، ( مَن أحدث في أمرنا هذا ) ، ثم فيه غفلة أخرى عن التفقُّه بمثل تفقُّه الصحابة ، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ؛ حيث قال : لا أريد أن أقبِّل الحجر ؛ لأنه لا يضرُّ ولا ينفع ، لكنه رأى الرسول يقبِّله فيستسلم ، هذا هو شأن المؤمن . إذًا نحن لو أردنا أن نقتدي بعمر بن الخطاب فندخل على أبينا وأمِّنا ، فقلنا للأب المحترم والأم المحترمة : لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرَعْ لنا تقبيل يد الوالد أو الوالدة لَقبَّلت ؛ يعني على عكس إيه ؟ موقف عمر ؛ لأنُّو الموقف هناك يختلف هنا ، هناك يعلم أن الرسول قبَّل فهو يقبِّل ، لكن لو علم أنه ما قبَّل ؛ ما قبَّل ؛ فهل نحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعَ للصحابة أن يقبِّلوا أيدي آبائهم وأمهاتهم ؟ الجواب : لا . هل جاء خبر ولو في حديث ضعيف ، بل نتنزَّل فنقول : ولو في حديث موضوع ؛ أن أحدًا من الصحابة كان إذا دخل على أبيه أو أمه قبَّلَ يده أو يدها ؟ كل ذلك لم يكن ، فكيف يجوز لِمَن كان عنده علم صحيح بعد ذلك أن يستدلَّ في مثل هذا الموضوع بالعرف الطارئ ، بالعرف الحادث ، الناس تعارفوا هذا .
تُرى لو أن الناس تعارفوا بينهم أن يقبِّلوا شيئًا آخر ، وأنا أضرب لكم مثلًا حسَّاسًا مُبتلى به هؤلاء الناس ، تعارفوا تقبيل القرآن الكريم ؛ فماذا يقولون ؟ لا شك سيقولون بمثل ما قالوا بالنسبة لتقبيل يد الوالد ؛ لأنُّو يد الوالد أو يد الوالدة ليست مقدَّسة أكثر بالنسبة للقرآن الكريم الذي فيه كلام الله القدير ، تُرى هل يُسَنُّ هل يُستحبُّ تقبيل القرآن الكريم ؟ طبعًا ستجد الناس يقولون : نعم يا أخي ، هذا تعظيم لكلام الله وإلى آخره . نحن نقول : لا ، تعظيم كلام الله باتباعه ، وليس تعظيم كلام الله بتقبيل أوراقه وبزخرفة صفحاته ، وهذا في الواقع مما يزيِّن الشيطان لبني الإنسان يصرفه عمَّا هو مهم إلى ما ليس بمهمٍّ مطلقًا ، يقنعه حسبك مِن احترامك وتعظيمك للقرآن أن تقبِّلَه .
هذا له أمثلة كثيرة جدًّا في حياتنا اليوم ؛ أنا أشاهد وأنا أمشي في الطريق نُبتلى أن نمرَّ - مثلًا - بقهوة فيها لعب الشطرنج ، وفيها الطاولة ، وفيها النرد المحرَّم وما شابه ذلك وإلى آخره ؛ فأول ما يسمع بعضهم - مش كلهم ! - يسمع بعضهم الأذان قاموا ، ما هذا القيام ؟ تعظيم يا أخي لجلال الله - عز وجل - ، وأذان الذي فيه التوحيد وفيه الشهادتان وإلى آخره ! أقنَعَهم الشيطان أنُّو هذا القيام يُغنيهم عن الذهاب إلى المسجد ، هَيْ تعظيم وانتهى الأمر ، بينما القيام الحقيقي هو تسمعه يقول : الله أكبر ، لستَ على وضوء ، تنطلق ، تسمعه بعد ذلك وأنت على وضوء يقول : حي على الصلاة ؛ فعلًا تذهب وتصلي مع جماعة المسلمين ، هذا هو التعظيم الحقيقي لهذا الأذان ، فصَرَفَ الشيطان هؤلاء المسلمين عن هذا التعظيم الذي جاء به سيد المرسلين إلى تعظيم صوري شكلي ، وهذا يمكن أن نجعله مطَّردًا في جلِّ إن لم أقل كل ما أحدثه الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وَلْنَعُدْ إلى التقبيل هذا تقبيل يد الوالد ؛ هذا البحث يذكِّرني بأخ لنا تُوفي منذ شهور - رحمه الله - ، كان رجلًا عامِّيًّا ، وكان يحضر دروسنا القديمة مع بعض إخواننا القدامى ، وكان صاحب نكتة ودعابة مع أمِّيَّته ، وكنت يومئذٍ لا أزال أتعاطى مهنة تصليح الساعات في دكاني ، فكان وكان داره قريب من دكاني ، ففي أكثر الأيام يتردَّد عليَّ ، ما بين آونة وأخرى يأتيني بشخص ويدخل بكل هدوء وبكل يعني تواضع متكلَّف بعض الشيء ، يظهر المسكنة ، هو جيد يعني ؛ يقول : بعرفك بفلان ، فلان بن فلان ، بر بالوالدين ، كل يوم الصبح بيفيق بيقبِّل إيد إمه وأبوه ، لكن ما بيصلي لله صلاة !! فهو مرضي الوالدين مغضوب رب العالمين !! [ الجميع يضحك ! ] .
نحن نشاهد في الواقع هذه الظاهرة ، يقنَع الوالد والوالدة بصورة أخص بأن يظهر الولد هالمسكنة وهالخضوع وهالخشوع للوالدين ، أما أن يأمُراه بالمحافظة على الصلاة على طهارة النفس على كذا إلى آخره ، قنعانين هنّ مع بعضهم البعض بهالنفاق اللي أنا أسمِّيه بالنفاق الاجتماعي ، هنّ اثنين متزوجين الوالدين قنعانين من الولد بهذه الطاعة اللي ما بتكلّفه غير إيش مج هاليد هذه ، وهو قنعان بهذه الطاعة أيضًا ؛ لا سيما وقد يجد مَن إيش ؟ يفتيه بأنُّو هذا من التذلل ومن الخضوع للوالدين الذي جاء الأمر به في القرآن الكريم ، من هنا من مثل هذا المثال والأمثلة كثيرة وكثيرة جدًّا نحن نزداد كل يوم إيمانًا بأن الحقَّ كما كان الرسول - عليه السلام - يقول : ( خير الهدى هدى محمد ) ، يا جماعة ، إذا ما دخل في عقلكم هذا الكلام على طريقة العملية الحسابية - مثلًا - اللي يشترك في معرفتها جميع الناس ، فآمنوا ، آمنوا خير لكم ، آمنوا بأن خير الهدى هدى محمد ، آمنوا بأنُّو هالقيام هادا الذي يعتاده الناس للمشايخ ولغير المشايخ هذا ليس من الإسلام في شيء ، وليس من الدين من شيء ، وليس من الأمور المستحبَّة في شيء ، ليس من التعظيم والإجلال للمسلم أبدًا ، آمنوا بأن هذا التقبيل الذي يفعله اليوم الناس مع المشايخ فضلًا عن آبائهم وأمهاتهم ليس من الإسلام في شيء ؛ فلازم نطوِّر حياتنا ونجعلها تقترب كل يوم ولو خطوة خطوة إلى ما كانت عليه الحياة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد خير القرون التي لن تَجِدَ الأرض بعد ذلك العهد أطهر وخيرًا وأبعد ما يكون عن الشَّرِّ من ذلك العهد الطاهر .
هذه كلمة حول جواب عن السؤال السابق ، تقبيل يد الوالدين ليس عبادة مطلقًا ، وليس مما تشمله الآية التي ذَكَرَها ؛ لأن الأمر لو كان كذلك لَكان أسرع الناس مبادرةً إلى تنفيذ ذلك هم الصحابة مع آبائهم وأمهاتهم ؛ لا سيما وكما ذكر لي عرضًا هذا التقبيل ليس بالأمر الحادث لحتى يقول : والله هم ما انتبهوا له ؛ لا ، التقبيل معروف عادة قديمة وقديمة جدًّا ، حتى وصل التقبيل إلى الأحجار ، لكن منه ما هو شرع كما سمعتم بالنسبة للحجر الأسود ، ومنه ما ليس بشرع ، وذلك تقبيل كل الأحجار ، تقبيل نوافذ الأولياء والصالحين ، قبورهم ونحو ذلك ، كل ذلك مما يصرِّح بعض العلماء حتى من المتأخرين حتى ممَّن لا يُعرفون بأنهم مدقِّقون في علم السنة والبدعة كالشَّيخ " محمد الغزالي " ؛ حيث يذكر أن تقبيل القبور ولمسها من صنيع اليهود والنصارى ؛ فإذًا التقبيل ليس شيئًا جديدًا كواقع ، لكنه شيء جديد كجعله دين يُثنى على مَن فعل ، ثم يُذَمُّ مَن ترك .
وهنا لا بد أن أذكِّر بشيء وننتهي بعد ذلك من هذا الاجتماع إلى اجتماع آخر - إن شاء الله - ؛ نشاهد أبًا يثور أو أمًّا تثور ؛ لأن هناك ولدًا صالحًا نشأ إلى حدٍّ ما على طاعة الله ، أقول إلى حدٍّ ما ؛ لأن الزمن لا يساعد الشباب - مع الأسف - اليوم أن يكونوا كشباب الصحابة ، ثم نشأ - أيضًا - على السنة أيضًا إلى حدٍّ ما ، فهو يسمع ويتعلم ، فيقبِّل لا يقبِّل يد أبيه أو أمه ، فيثوران عليه ، نعلم مِن كثير من الآباء يثورون لِترك بعض الأبناء شيئًا أقل ما يقال : إنه لم يعصِ الله ورسوله ، مع ذلك يثورون ، بينما هناك أبناء آخرون لا يصلون ، ربما لا يصومون ؛ مع ذلك الآباء هم عنهم راضون ؛ لماذا ؟ لأنهم لهم ينافقون ، يقبلوا اليد ؛ لأنُّو مثل هذا الذي لا يصلي ولا يصوم ما بيهمُّه بقى تقبيل يد حتى لو كان حرام ما دام أبوه رضيان عنه ، أمه رضيانة عنه ؛ فهو سيفعل هذا التقبيل . هذه الفارقة ظاهرة جدًّا ، فهذا الذي لا يصلي ولا يصوم ويقصِّر في طاعة الله - عز وجل - في كثير من الأمور لا يقومون عليه شيئًا ، وهذا الشاب الناشئ في طاعة الله الذي ينبغي أن يُشجَّع في أن يستمرَّ على هذه الطاعة ، وأن يزداد منها ؛ يثور عليه الآباء والأمهات ؛ لماذا ؟ لأنه خَرَجَ عن العرف السائد وهو تقبيل اليد صباح مساء .
هذه ذكرى ، والذكرى تنفع المؤمنين ، وذكرى أخرى للشباب أنفسهم ؛ لأني أعلم - أيضًا - بتجربتي الخاصة أن بعض هؤلاء الشباب - أيضًا - يسيئون معاملتهم لآبائهم ؛ أي : يخالفون الشرع ، نحن لا نحابي الشباب على حساب إيش ؟ آبائهم وأمهاتهم ، كما أننا لا نفعل العكس ، وإنما نقول الحق : بعض الأبناء من إخواننا الناشئين السلفيين على الكتاب والسنة يسيئون معاملتهم لآبائهم ؛ مثلًا كأن يصيحوا في وجوههم وهم يقرؤون القرآن معنا ، الآية التي سبق ذكرها : (( لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ )) ، فأنت أيها الشاب لما تدَّعي أنك تريد العمل بالكتاب والسنة فلا تجعلَنْ حرصك هذا محصورًا في المسائل التي نخالف فيها المجتمع ؛ لأن في بعض الناس يقتلهم إيش ؟ حبُّ الظهور ، و " حبُّ الظهور يقطع الظهور " كما يقول الصوفية ، وقلت لكم مرارًا : مش كل كلام يقوله الصوفية كلام باطل ، هم يقولون معنا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، نبطِّل نقول نحن ؟! لا ، كذلك هم يقولون : " حبُّ الظهور يقطع الظهور " ، هذا كلام صحيح ؛ لذلك فبعض إخواننا من الناشئين قد يغلب عليهم ، قد يغلب عليهم وأنا لا أسمِّي شخصًا منهم ، كل واحد بيعرف حاله ، قد يغلب عليهم الظُّهور في هذا المجتمع بأنُّو أنا سلفي ، أنا متَّبع الكتاب والسنة ، أنا أخالف المجتمع كله في كل عاداته إلى آخره ، يغلب عليه هذا ، ثم ينسى أن يُشارك هذا المجتمع في أعماله الصحيحة المطابقة للكتاب والسنة ، من ذلك : (( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا )) .
فإذًا إذا كنا أردنا أن نكون صادقين في تمسُّكنا بالكتاب والسنة مع آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا ؛ فيجب أن لا يكون هذا فقط محصورًا في الأمور السلبية ، أنا ما أقبِّله ، أنا ما أقبِّل يده ، لكن أنت عم تجي تسيء له وتنهر بوجهه وتقول له : أفّ ، شو هاد ؟ ... هذا لا ينبغي أبدًا ، إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حقِّ النساء مع الرجال يخاطب الرجال فيقول : ( إنهنَّ عوانٌ عندكم ) ، النساء كالأسيرات عند إيش ؟ الأزواج ؛ لأن الله - عز وجل - جَعَلَ لهم السلطة عليهنَّ ، فالولد يجب أن يعرف نفسه أنه كالأسير عند أبيه وأمه ؛ ماذا يفعل الأسير مع سيده ؟ هل يصيح في وجهه ؟ هل يتعالى عليه ؟ كلُّ ذلك لا يُفعل ، يخاف ، يجب أن تخاف ربَّك في معاملتك لأبيك وأمك ؛ فلا تسيء إليهما ولو أساؤوا إليك ، عليك أن تتحمَّل ، ولكن هذا لا يحمِلُك على أن تخالف الكتاب والسنة .
فإذًا هناك أمران يجب الفصل بينهما ، لا تطِعْ والدك فيما تُخالف فيه الكتاب والسنة ، ولكن قدِّم إليهم شيئًا تُظهِرُ لهم أنك أنت تطبِّق الكتاب والسنة في الأمور الأخرى التي جاءت في الكتاب والسنة ، من ذلك : (( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا )) .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 302
- توقيت الفهرسة : 00:21:16
- نسخة مدققة إملائيًّا