ما حكم تقبيل يدي الوالدين ؟ وشرح قاعدة : " الأصل في العبادات الوقف ، والأصل في المعاملات الإباحة " .
A-
A=
A+
عيد عباسي : من الأسئلة السؤال التالي : ما حكم تقبيل يدي الوالدين ؟ وما الجواب على الشبهة القائلة : إنه لم يَرِدْ شيء في الشرع بالأمر بذلك أو النهي عنه ، وإنما وَرَدَ الأمر بالتذلُّل لهما وبرِّهما وخفض الجناح لهما ، كما وَرَدَ تقبيل غير واحد ليد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره ، والأساليب التي تحقِّق ذلك تخضع للعرف ، وقد تعارف الناس في مجتمعنا على أن ذلك من البرِّ ؛ فما الجواب على هذه الشبهة ؟ وما حكم المسألة ؟
الشيخ : أقول - والله المستعان - : هذه الشبهة قائمة على جهل بالإسلام مع الأسف ، هذا الإسلام الذي من قواعده ما يقرِّره شيخ الإسلام ابن تيمية بأوجز عبارة حين يقول : " الأصل في العبادات المنع إلا لدليل ، والأصل في العادات الجواز إلا لدليل " ، وهذا طبعًا لم تكن هذه الجملة قاعدة إلا لأن الأدلة الشرعية توارَدَتْ عليها ، ولهذا فكلُّ مَن يريد أن يستحسن أمرًا بزعم أن الناس تعارفوا عليه أو اصطلحوا عليه ، ولم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فعليه أن يستحضر هذه القاعدة ، وبناءً عليها ينبغي أن ينظر أن هذا الأمر المُستحدث المُتعارف بين الناس هل المقصود فقط القول بجوازه لأنه لم يأتِ نهي صريح عنه أم المقصود أكثر من ذلك وهو القول باستحبابه ؟ فإن كان الأمر الأول أعود الآن إلى السؤال ؛ إن كان السَّائل يقصد القول بجواز تقبيل يد الوالدين جوازًا لا يقترن معه ترجيح وتفضيل له على العكس وهو الترك ؛ إن كان يعني هذا فكلامه الذي يُشبه كلام الفقهاء وارد ههنا ، إن كان يعني بهذا الكلام أنَّ هذا أمر جائز ، والأمر الجائز في الفقه هو مستوي الطرفين فعلًا وتركًا ؛ أي : مَن فعل لا يُلام ، ومَن ترك لا يُلام ؛ فهل أوَّلًا هل السَّائل يقصد هذا ؟ الجواب عندي : لا .
ثانيًا : هل التقبيل شرعًا هو أمر عادي أم هو أمر تعبُّدي يُفعل حيث جاء ويُترك حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ؟ أما أن السَّائل لا يقصد فقط القول بأن هذا التقبيل ليد الوالدين هو أمر جائز مستوي الطرفين ؛ فذلك واضح ؛ لأنه استدَلَّ بالآية ، والآية أقل ما تُفيد استحباب الخضوع للوالدين : (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ، (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) هذا أمر ، هذا أمر ، وأقل ما يُفيد هذا الأمر بخفض الجناح للوالدين هو الاستحباب لا شك ولا ريب ؛ فإذ هو استدل بالآية فإنما يعني بذلك أن يُثبِتَ أن تقبيل يد الوالد أو الوالدة إنما هو أمر مستحب وليس أمرًا جائزًا فقط ، وحين ذاك نقول له : إن العُرْفَ الذي يستدلُّ به على تجويزه بل استحبابه لهذه العادة لا يصلح أن يكون مُشرِّعًا ؛ لا سيما إذا كان هذا العرف أمرًا طارئًا حادثًا مبتَدَعًا كما هو الشأن في حياتنا اليوم .
ذلك لأنَّ العرف الذي يُخالف الآداب الإسلامية المُتوارَثَة في كتب الحديث وكتب أهل العلم المحقِّقين منهم لا قيمة له ولا وزن له مطلقًا ، وقلت : إنَّ التقبيل ليس مجرَّد عادة ، وإنما هو إما عبادة مشروعة أو أنها عبادة غير مشروعة ، فحينما تكون عبادة مشروعة فهي مستحبة أو فوق ذلك ، وحينما تكون عبادة غير مشروعة دخلت في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، وهذه الكلية وهذه القاعدة الشرعية الإسلامية - مع الأسف الشديد - يغفل عنها كثير من العلماء فضلًا عن طلاب العلم ، فضلًا عمَّن ليس لهم من العلم إلا الاسم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ، بين يدي خطبة الجمعة كما تسمعوننا بين يدي كل درس اتباعًا للرسول - عليه السلام - يقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الكلام كلام الله ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، كان - عليه الصلاة والسلام - يُكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ، لماذا ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " قال : لترسَخَ هذه القاعدة في أذهان السامعين فلا يضلُّوا عنها " ، مع الأسف الشديد ضلَّ عنها عامة المسلمين ، بل وكثير من خاصَّتهم ، فها أنتم تسمعون يقول : لا يوجد هناك نهي عن تقبيل الولد ليد والده أو والدته ، وما وزن هذا الحديث حينَ ذاك عنده وأمثاله من مثل قوله - عليه السلام - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) ؟
الجهل بهذه القاعدة وأمثالها يؤدِّي بعض الناس من المتعالمين إلى أن يقولوا في كلِّ أمر حادث : يا أخي ، ما فيه نهي عنه ! يا حبيبي ، الرسول - عليه السلام - وضع لك قاعدة قال : ( كل بدعة ضلالة ) ، هذا يُغنيك عن عشرات المئات بل الألوف من نصوص يقول لك : الأمر الفلاني منهي عنه ، الأمر الفلاني منهي عنه ؛ يعني هذه البدع التي تحدث في كلِّ يوم بدع لا يمكن حصرها ، فجاءك بقاعدة لِيُريحك من هذه النصوص التي لا يمكن الإحاطة بها : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) .
الغفلة عن هذه القاعدة يؤدِّي بهؤلاء الناس إلى أن يستسيغوا كثيرًا من البدع بدعوى أن النبي - عليه السلام - لم ينهَ عنها ، ونحن نحاجِجُهم بكثير من البدع التي لا نعدَم عشرات من أمثالهم يعترفون معنا بأنها من البدع ، فنقول لكلٍّ منهم : أين النهي ؟ لا يوجد هناك نهي ، ولكن النهي المفهوم عند العلماء هو في هذه القاعدة وأمثالها كما ذكرنا .
السلف الصالح كانوا قد تفقَّهوا في الدين حقيقةً ، وفهموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرمي إليه بمثل هذه القاعدة : ( كل بدعة ضلالة ) ؛ لذلك نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما حَجَّ في خلافته ووقف أمام الحجر الأسود يريد أن يقبِّلَه قال : " والله إني لَأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك " .
ماذا يعطينا هذا الكلام من عمر بن الخطاب وهو يصدع به على ملإ من الناس حجَّاج و ... ؟ يعني أن التقبيل داخل في موضوع الاتِّباع حيث جاء ، وداخل في موضوع الابتداع حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ، هذا معنى كلام الخليفة الراشد ، وسبحان الله ! ما أسرع أمثال هؤلاء الناس إلى الاحتجاج ببعض الأقوال عن الخلفاء الراشدين أو بعضهم إذا كانت لهم في ذلك مصلحة ، وما أشدَّ نسيانهم لمثل هذا الاستدلال فيما إذا كان عليهم ، فهذا عمر بن الخطاب يقول يُخاطب الحجر الأسود ، طبعًا الحجر الأسود لا يسمع ، ولكن هذا من باب : " الكلام إليك يا كنَّة واسمعي يا جارة " ؛ يعني اسمعوا أيها الناس ، أنا أقول للحجر الأسود : " إني لَأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع ، لكن اعلموا أني ما أقبِّله إلا لأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّله " .
إذًا هذا الحديث وحده يعطينا أن التقبيل لا يمكن حشره في زمرة الأمور العادية التي إذا جرى العرف عليها فالأمر في ذلك واسع ؛ لا ، التقبيل عبادة حيث شُرعت ، وبدعة حيث لم تُشرَعْ ، من هنا نحن نقول : إن هذا الاستدلال فيه أوَّلًا انحراف عن القاعدة الشرعية السابقة الذكر ، نقلتُها لكم عن ابن تيمية ، وذكرت لكم بعض أدلَّتها : ( كل بدعة ضلالة ) ، ( مَن أحدث في أمرنا هذا ) ، ثم فيه غفلة أخرى عن التفقُّه بمثل تفقُّه الصحابة ، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ؛ حيث قال : " لا أريد أن أقبِّل الحجر لأنه لا يضرُّ ولا ينفع " ، لكنه رأى الرسول يقبِّله فيستسلم ؛ هذا هو شأن المؤمن .
إذًا نحن لو أردنا أن نقتديَ بعمر بن الخطاب فندخل على أبينا وأمِّنا ، فقلنا للأب المحترم والأم المحترمة : لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لنا تقبيل يد الوالد أو الوالدة لَقبَّلت ، يعني على عكس إيه ؟ موقف عمر ؛ لأنُّو الموقف هنا يختلف هناك ، هناك يعلم أن الرسول قبَّل فهو يُقبِّل ، لكن لو علم أنه ما قبَّل ما قبَّل ؛ فهل نحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرَعَ للصحابة أن يُقبِّلوا أيدي آبائهم وأمهاتهم ؟ الجواب : لا ، هل جاء خبر ولو في حديث ضعيف ؟ بل نتنزَّل فنقول : ولو في حديث موضوع أن أحدًا من الصحابة كان إذا دخل على أبيه أو أمه قبَّلَ يده أو يدها ؟ كلُّ ذلك لم يكن ؛ فكيف يجوز لِمَن كان عنده علم صحيح بعد ذلك أن يستدل في مثل هذا الموضوع بالعُرْف الطارئ ، بالعرف الحادث ؟ ناس تعارفوا هذا ، تُرى لو أن الناس تعارفوا بينهم أن يقبِّلوا شيئًا آخر ، وأنا أضرب لكم مثلًا حسَّاسًا مُبتلى به هؤلاء الناس ، تعارفوا تقبيل القرآن الكريم ؛ فماذا يقولون ؟ لا شك سيقولون بمثل ما قالوا بالنسبة لتقبيل يد الوالد ؛ لأن يد الوالد أو يد الوالدة ليست مقدَّسة أكثر بالنسبة للقرآن الكريم الذي فيه كلام الله القديم .
الشيخ : أقول - والله المستعان - : هذه الشبهة قائمة على جهل بالإسلام مع الأسف ، هذا الإسلام الذي من قواعده ما يقرِّره شيخ الإسلام ابن تيمية بأوجز عبارة حين يقول : " الأصل في العبادات المنع إلا لدليل ، والأصل في العادات الجواز إلا لدليل " ، وهذا طبعًا لم تكن هذه الجملة قاعدة إلا لأن الأدلة الشرعية توارَدَتْ عليها ، ولهذا فكلُّ مَن يريد أن يستحسن أمرًا بزعم أن الناس تعارفوا عليه أو اصطلحوا عليه ، ولم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فعليه أن يستحضر هذه القاعدة ، وبناءً عليها ينبغي أن ينظر أن هذا الأمر المُستحدث المُتعارف بين الناس هل المقصود فقط القول بجوازه لأنه لم يأتِ نهي صريح عنه أم المقصود أكثر من ذلك وهو القول باستحبابه ؟ فإن كان الأمر الأول أعود الآن إلى السؤال ؛ إن كان السَّائل يقصد القول بجواز تقبيل يد الوالدين جوازًا لا يقترن معه ترجيح وتفضيل له على العكس وهو الترك ؛ إن كان يعني هذا فكلامه الذي يُشبه كلام الفقهاء وارد ههنا ، إن كان يعني بهذا الكلام أنَّ هذا أمر جائز ، والأمر الجائز في الفقه هو مستوي الطرفين فعلًا وتركًا ؛ أي : مَن فعل لا يُلام ، ومَن ترك لا يُلام ؛ فهل أوَّلًا هل السَّائل يقصد هذا ؟ الجواب عندي : لا .
ثانيًا : هل التقبيل شرعًا هو أمر عادي أم هو أمر تعبُّدي يُفعل حيث جاء ويُترك حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ؟ أما أن السَّائل لا يقصد فقط القول بأن هذا التقبيل ليد الوالدين هو أمر جائز مستوي الطرفين ؛ فذلك واضح ؛ لأنه استدَلَّ بالآية ، والآية أقل ما تُفيد استحباب الخضوع للوالدين : (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ، (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) هذا أمر ، هذا أمر ، وأقل ما يُفيد هذا الأمر بخفض الجناح للوالدين هو الاستحباب لا شك ولا ريب ؛ فإذ هو استدل بالآية فإنما يعني بذلك أن يُثبِتَ أن تقبيل يد الوالد أو الوالدة إنما هو أمر مستحب وليس أمرًا جائزًا فقط ، وحين ذاك نقول له : إن العُرْفَ الذي يستدلُّ به على تجويزه بل استحبابه لهذه العادة لا يصلح أن يكون مُشرِّعًا ؛ لا سيما إذا كان هذا العرف أمرًا طارئًا حادثًا مبتَدَعًا كما هو الشأن في حياتنا اليوم .
ذلك لأنَّ العرف الذي يُخالف الآداب الإسلامية المُتوارَثَة في كتب الحديث وكتب أهل العلم المحقِّقين منهم لا قيمة له ولا وزن له مطلقًا ، وقلت : إنَّ التقبيل ليس مجرَّد عادة ، وإنما هو إما عبادة مشروعة أو أنها عبادة غير مشروعة ، فحينما تكون عبادة مشروعة فهي مستحبة أو فوق ذلك ، وحينما تكون عبادة غير مشروعة دخلت في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، وهذه الكلية وهذه القاعدة الشرعية الإسلامية - مع الأسف الشديد - يغفل عنها كثير من العلماء فضلًا عن طلاب العلم ، فضلًا عمَّن ليس لهم من العلم إلا الاسم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ، بين يدي خطبة الجمعة كما تسمعوننا بين يدي كل درس اتباعًا للرسول - عليه السلام - يقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الكلام كلام الله ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، كان - عليه الصلاة والسلام - يُكرِّر هذه القاعدة في كل يوم جمعة ، لماذا ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " قال : لترسَخَ هذه القاعدة في أذهان السامعين فلا يضلُّوا عنها " ، مع الأسف الشديد ضلَّ عنها عامة المسلمين ، بل وكثير من خاصَّتهم ، فها أنتم تسمعون يقول : لا يوجد هناك نهي عن تقبيل الولد ليد والده أو والدته ، وما وزن هذا الحديث حينَ ذاك عنده وأمثاله من مثل قوله - عليه السلام - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) ؟
الجهل بهذه القاعدة وأمثالها يؤدِّي بعض الناس من المتعالمين إلى أن يقولوا في كلِّ أمر حادث : يا أخي ، ما فيه نهي عنه ! يا حبيبي ، الرسول - عليه السلام - وضع لك قاعدة قال : ( كل بدعة ضلالة ) ، هذا يُغنيك عن عشرات المئات بل الألوف من نصوص يقول لك : الأمر الفلاني منهي عنه ، الأمر الفلاني منهي عنه ؛ يعني هذه البدع التي تحدث في كلِّ يوم بدع لا يمكن حصرها ، فجاءك بقاعدة لِيُريحك من هذه النصوص التي لا يمكن الإحاطة بها : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) .
الغفلة عن هذه القاعدة يؤدِّي بهؤلاء الناس إلى أن يستسيغوا كثيرًا من البدع بدعوى أن النبي - عليه السلام - لم ينهَ عنها ، ونحن نحاجِجُهم بكثير من البدع التي لا نعدَم عشرات من أمثالهم يعترفون معنا بأنها من البدع ، فنقول لكلٍّ منهم : أين النهي ؟ لا يوجد هناك نهي ، ولكن النهي المفهوم عند العلماء هو في هذه القاعدة وأمثالها كما ذكرنا .
السلف الصالح كانوا قد تفقَّهوا في الدين حقيقةً ، وفهموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرمي إليه بمثل هذه القاعدة : ( كل بدعة ضلالة ) ؛ لذلك نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما حَجَّ في خلافته ووقف أمام الحجر الأسود يريد أن يقبِّلَه قال : " والله إني لَأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك " .
ماذا يعطينا هذا الكلام من عمر بن الخطاب وهو يصدع به على ملإ من الناس حجَّاج و ... ؟ يعني أن التقبيل داخل في موضوع الاتِّباع حيث جاء ، وداخل في موضوع الابتداع حيث لم يجِئْ ولم يأتِ ، هذا معنى كلام الخليفة الراشد ، وسبحان الله ! ما أسرع أمثال هؤلاء الناس إلى الاحتجاج ببعض الأقوال عن الخلفاء الراشدين أو بعضهم إذا كانت لهم في ذلك مصلحة ، وما أشدَّ نسيانهم لمثل هذا الاستدلال فيما إذا كان عليهم ، فهذا عمر بن الخطاب يقول يُخاطب الحجر الأسود ، طبعًا الحجر الأسود لا يسمع ، ولكن هذا من باب : " الكلام إليك يا كنَّة واسمعي يا جارة " ؛ يعني اسمعوا أيها الناس ، أنا أقول للحجر الأسود : " إني لَأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع ، لكن اعلموا أني ما أقبِّله إلا لأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّله " .
إذًا هذا الحديث وحده يعطينا أن التقبيل لا يمكن حشره في زمرة الأمور العادية التي إذا جرى العرف عليها فالأمر في ذلك واسع ؛ لا ، التقبيل عبادة حيث شُرعت ، وبدعة حيث لم تُشرَعْ ، من هنا نحن نقول : إن هذا الاستدلال فيه أوَّلًا انحراف عن القاعدة الشرعية السابقة الذكر ، نقلتُها لكم عن ابن تيمية ، وذكرت لكم بعض أدلَّتها : ( كل بدعة ضلالة ) ، ( مَن أحدث في أمرنا هذا ) ، ثم فيه غفلة أخرى عن التفقُّه بمثل تفقُّه الصحابة ، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ؛ حيث قال : " لا أريد أن أقبِّل الحجر لأنه لا يضرُّ ولا ينفع " ، لكنه رأى الرسول يقبِّله فيستسلم ؛ هذا هو شأن المؤمن .
إذًا نحن لو أردنا أن نقتديَ بعمر بن الخطاب فندخل على أبينا وأمِّنا ، فقلنا للأب المحترم والأم المحترمة : لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لنا تقبيل يد الوالد أو الوالدة لَقبَّلت ، يعني على عكس إيه ؟ موقف عمر ؛ لأنُّو الموقف هنا يختلف هناك ، هناك يعلم أن الرسول قبَّل فهو يُقبِّل ، لكن لو علم أنه ما قبَّل ما قبَّل ؛ فهل نحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرَعَ للصحابة أن يُقبِّلوا أيدي آبائهم وأمهاتهم ؟ الجواب : لا ، هل جاء خبر ولو في حديث ضعيف ؟ بل نتنزَّل فنقول : ولو في حديث موضوع أن أحدًا من الصحابة كان إذا دخل على أبيه أو أمه قبَّلَ يده أو يدها ؟ كلُّ ذلك لم يكن ؛ فكيف يجوز لِمَن كان عنده علم صحيح بعد ذلك أن يستدل في مثل هذا الموضوع بالعُرْف الطارئ ، بالعرف الحادث ؟ ناس تعارفوا هذا ، تُرى لو أن الناس تعارفوا بينهم أن يقبِّلوا شيئًا آخر ، وأنا أضرب لكم مثلًا حسَّاسًا مُبتلى به هؤلاء الناس ، تعارفوا تقبيل القرآن الكريم ؛ فماذا يقولون ؟ لا شك سيقولون بمثل ما قالوا بالنسبة لتقبيل يد الوالد ؛ لأن يد الوالد أو يد الوالدة ليست مقدَّسة أكثر بالنسبة للقرآن الكريم الذي فيه كلام الله القديم .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 244
- توقيت الفهرسة : 00:04:32
- نسخة مدققة إملائيًّا