قراءة الشيخ مقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتعليقه عليه .
A-
A=
A+
الشيخ : يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )) ، العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون ، الذي (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) ، الذي (( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )) ، (( وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) ، الذي دلَّ على وحدانيَّته في إلهيته أجناس الآيات ، وأبانَ علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات ، وأظهر قدرته على بريَّته ما أبدَعَه من أصناف المحدثات ، وأرشد إلى فعله بسنَّته تنوُّع الأحوال المختلفات ، وأهدى لرحمته لعباده نعمَه التي لا يحصيها إلا ربُّ السماوات ، وأعلَمَ بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقُّه من جميع الحالات ، لا يحصي العبادُ ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه لما له من الأسماء والصفات ، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يُماثله فيها شيء من الموجودات ، وهو القدُّوس السلام المتنزِّه أن يماثله شيء في نعوت الكمال أو يلحقه شيء من الآفات ، فسبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ، (( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )) .
أرسل الرسل (( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )) ، مبشِّرين لِمَن أطاعَهم بغاية المراد من كلِّ ما تحبُّه النفوس وتراه نعيمًا ؛ ومنذرين لِمَن عصاهم باللَّعن والإبعاد وأن يُعذَّبوا عذابًا أليمًا ، وأمَرَهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره المشركون ، كما قال - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) ، (( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )) ، وجعل لكلٍّ منهم شرعةً ومنهاجًا ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجًا ، وخَتَمَهم بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الأولين والآخرين ، وصفوة ربِّ العالمين ، الشاهد البشير النذير ، الهادي السراج المنير ، الذي أخرج به الناسَ من الظلمات إلى النور ، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد ، (( اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) ، بَعَثَه بأفضل المناهج والشِّرَع ، وأحبط به أصناف الكفر والبدع ، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء ، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من كتب السماء .
وجعل أمَّتَه خير أمَّة أُخرِجَت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ، يوفون سبعين أمَّة هم خيرها وأكرمها على الله ، هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة بما أسبَغَه عليهم من النِّعم الباطنة والظاهرة ، وعَصَمَهم أن يجتمعوا على ضلالة إذ لم يبْقَ بعده نبيٌّ يبيِّن ما بُدِّل من الرسالة ، وأكمل لهم دينَهم وأتمَّ عليهم نعمَه ورضيَ لهم الإسلام دينًا ، وأظهره على الدين كله إظهارًا بالنصرة والتمكين ، وإظهارًا بالحجة والتبيين ، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء يقومون مقامَهم في تبليغ ما أُنزِلَ من الكتاب ، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خَذَلَهم إلى حين الحساب ، وحفظَ لهم الذِّكر الذي أنزَلَه من الكتاب المكنون كما قال - تعالى - : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ؛ فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع في أصحاب التوراة والإنجيل ، وخَصَّهم بالرواية والإسناد الذي يُميِّز به بين الصدق والكذب الجهابذة النُّقَّاد ، وجعل هذا الميراث يحمله من كلِّ خَلَفٍ عدولُه أهل العلم والدين ؛ ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ؛ لتدومَ بهم النعمة على الأمة ، ويظهر بهم النور من الظُّلمة ، ويحيا بهم دين الله الذي بعثَ به رسوله ، وبيَّنَ الله بهم للناس سبيله ، فأفضل الخلق أتبَعُهم لهذا النبيِّ الكريم المنعوت في قوله - تعالى - : (( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له رب العالمين ، وإله المرسلين ، وملك يوم الدين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسلَه إلى الناس أجمعين ، أرسله والناس من الكفر والجهل والضَّلال في أقبح خيبة وأسوأ حال ؛ فلم يزَلْ - صلى الله عليه وآله وسلم - يجتهد في تبليغ الدين وهدي العالمين وجهاد الكفار والمنافقين حتى طلعَتْ شمس الإيمان ، وأدبَرَ ليلُ البهتان ، وعزَّ جند الرحمن ، وذلَّ حزب الشيطان ، وظهر نور الفرقان ، واشتهرت تلاوة القرآن ، وأُعلِنَ بدعوة الأذان ، واستنار بنور الله أهلُ البوادي والبلدان ، وقامت حجَّة الله على الإنس والجانِّ ، لما قام المستجيب من معدِ بن عدنان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان صلاةً يرضى بها الملك الدَّيَّان ، وسلَّم تسليمًا مقرونًا بالرضوان ، أما بعد :
فإنه لا سعادة للعباد ، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله : (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )) ، فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليها تدور ، ومستقرُّ النجاة الذي عنه لا تحور ؛ فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال - تعالى - : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) ، وإنما تعبَّدَهم بطاعته وطاعة رسوله ؛ فلا عبادة إلا ما هو واجبٌ أو مستحَبٌّ في دين الله ؛ وما سوى ذلك فضلال عن سبيله ؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ) ، أخرجاه في " الصحيحين " ، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أهل السنن وصحَّحه الترمذي : ( إنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، تمسَّكوا بها ، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة ) . وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .
وقد ذَكَرَ الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعًا من القرآن كقوله - تعالى - : (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )) ، وقوله - تعالى - : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) ، وقوله - تعالى - : (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )) ، وقوله - تعالى - : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )) ، فجعل محبة العبد لربِّه موجبةً لاتباع الرسول ، وجعل متابعة الرسول سببًا لمحبة الله عبدَه ، وقد قال - تعالى - : (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا )) ، فما أوحاهُ الله إليه يهدي الله به مَن يشاء من عباده ، كما أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك هداه الله - تعالى - كما قال - تعالى - : (( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي )) ، وقال - تعالى - : (( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) .
فبمحمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - تبيَّن الكفر من الإيمان ، والربح من الخسران ، والهدى من الضلال ، والنجاة من الوبال ، والغيُّ من الرشاد ، والزَّيغ من السداد ، وأهل الجنة من أهل النار ، والمُتَّقون من الفجَّار ، وإيثار سبيل مَن أنعم الله عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين ، فالنفوس أحوَجُ إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب ؛ فإن هذا إذا فاتَ حصل الموت في الدنيا ، وذاك إذا فات حصل العذاب .
فحقٌّ على كلِّ أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته ؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم ، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل ؛ إذ لا يكفي من ذلك مجرَّد العقل ، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة ؛ فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام ، وكان معرفة ما أمَرَ الله به رسوله واجبًا على جميع الأنام .
والله - سبحانه - بعث محمدًا بالكتاب والسنة ، وبهما أتمَّ على أمَّته المنَّة ، قال - تعالى - : (( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) ، (( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ )) ، وقال - تعالى - : (( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )) ، وقال - تعالى - : (( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ )) ، وقال - تعالى - : (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )) ، وقال - تعالى - عن الخليل : (( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )) ، وقال - تعالى - : (( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ )) .
وقد قال غيرُ واحد من العلماء - منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم - قالوا : الحكمة هي السنة - يعلِّمكم الكتاب والحكمة - الحكمة هي السنة ؛ لأن الله أمر أزواج نبيِّه أن يذكرْنَ ما يتلى في بيوتهنَّ من الكتاب والحكمة ، والكتاب القرآن ، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة ، وقد جاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من عدَّة أوجهٍ من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما أنه قال : ( لا ألفيَنَّ أحدكم متَّكئًا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمَرْتُ به أو نهيتُ عنه فيقول : بيننا وبينكم القرآن ؛ فما وجدنا فيه من حلال استحلَلْناه ، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه ؛ أَلَا وإني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه ) ، وفي رواية : ( ألا وإنَّه مثل الكتاب ) .
ولما كان القرآن متميِّزًا بنفسه بما خصَّه الله به من الإعجاز الذي بايَنَ به كلام الناس كما قال - تعالى - : (( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )) ، وكان منقولًا بالتواتر ؛ لم يطمَعْ أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه ؛ ولكن طمع الشيطان أن يُدخِلَ التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل ، وطمع أن يُدخِلَ في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضلُّ به بعضُ العباد ؛ فأقام الله - تعالى - الجهابذة النُّقَّاد أهل الهدى والسداد ، فدحروا حزب الشيطان ، وفرَّقوا بين الحقِّ من البهتان ، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان .
وقام كلٌّ من علماء الدين بما أُنعِمَ به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وَقَعَ في ذلك من الخطأ في القديم والحديث ، وكان من ذلك الظاهر الجليُّ الذي لا يسوغ عنه العدول ؛ ومنه الخفيُّ الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول .
وقام علماء النقل والنقد بعلم الرواية والإسناد ، فسافروا في ذلك إلى البلاد ، وهجروا فيه لذيذ الرقاد ، وفارقوا الأموال والأولاد ، وأنفقوا فيه الطَّارف والتِّلاد ، وصبروا فيه على النوائب ، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب ، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم ، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم ، بتوسُّد أحدهم التراب ، وتركِهم لذيذَ الطعام والشراب ، وترك معاشرة الأهل والأصحاب ، والتصبُّر على مرارة الاغتراب ، ومقاساة الأهوال الصِّعاب ، أمرٌ حبَّبَه الله إليهم وحلَّاه ؛ ليحفظ بذلك دين الله ، كما جعل البيت مثابةً للناس وأمنًا يقصدونه من كلِّ فجٍّ عميق ، ويتحمَّلون فيه أمورًا مؤلمةً تحصل في الطريق ، وكما حبَّبَ إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمةٌ من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدين ، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعثَ به رسوله ولو كره المشركون .
فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله كان من أولياء الله المتَّقين ، وأهل النعيم المقيم ؛ كما قال - تعالى - : (( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) .
وقد فسَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - البشرى في الدنيا بنوعين :
أحدهما : ثناء المُثنين عليه .
الثاني : الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له ؛ فقيل : ( يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه ! قال : تلك عاجل بشرى المؤمن ) . وقال البراء بن عازب سُئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قوله : (( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) ؟ فقال : ( هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) .
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الربَّان ، الحافظون له من الزيادة والنقصان ، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين ، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات كما قال - تعالى - : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، وعلم الإسناد والرواية مما خَصَّ الله به أمَّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعله سُلَّمًا إلى الدراية ، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات ، وإنما الإسناد لِمَن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة ؛ يفرِّقون به بين الصحيح والسقيم ، والمعوجِّ والقويم ، وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحقَّ من الباطل ، ولا الحالي من العاطل .
وأما هذه الأمة المَرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة ؛ فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرِهم على يقين ، فظهر لهم الصِّدق من المَيْن ، كما يظهر الصُّبح لذي عينَين ، عصَمَهم الله أن يجمعوا على خطأ في دين الله معقول أو منقول ، وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردُّوه إلى الله والرسول كما قال - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ؛ فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكمٍ لم يكن إلا حقًّا ، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديثٍ لم يكن إلا صدقًا ، ولكلٍّ من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجليِّ والخفيِّ ما يُعرف به مَن هو بهذا الأمر حفيٌّ ، والله - تعالى - يُلهِمُهم الصواب في هذه القضية ، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية ، وكما عُرِفَ ذلك بالتجربة الوجودية ؛ فإن الله كتبَ في قلوبهم الإيمان وأيَّدهم بروح منه لما صدقوا في موالاة الله ورسوله ومعاداة مَن عدل عنه ؛ قال - تعالى - : (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ )) .
وأهل العلم المأثور عن الرسول أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول ، لا تأخذ أحدَهم في الله لومةُ لائم ، ولا يصدُّهم عن سبيل الله العظائم ، بل يتكلم أحدهم بالحقِّ الذي عليه ، ويتكلم في أحبِّ الناس إليه ؛ عملًا بقوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) ، وقوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) .
ولهم من التعديل والتجريح ، والتضعيف والتصحيح من السعي المشكور والعمل المبرور ما كان من أسباب حفظ الدين ، وصيانته عن إحداث المفترين ، وهم في ذلك على درجات ؛ منهم المقتصر على مجرَّد النقل والرواية ، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية ، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه ، وقد أمَرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمة أن يبلِّغ عنه مَن شهد لِمَن غاب ، ودعا للمبلِّغين بالدعاء المستجاب ، فقال في الحديث الصحيح : ( بلِّغوا عنِّي ولو آية ؛ وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ؛ ومَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعده من النار ) ، وقال - أيضًا - في خطبته في حجة الوداع : ( ألا ليبلِّغ الشاهد الغائب ... ) .
... ( نضَّر الله امرَأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغَه إلى مَن لم يسمَعْه ، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه ؛ ثلاث لا يُغَلُّ عليهنَّ قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ؛ فإن دعوتَهم تُحيط مَن وراءهم ) ، وفي هذا دعاء منه لِمَن بلَّغ حديثه وإن لم يكن فقيهًا ، ودعاء لِمَن بلَّغَه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ لِمَا أعطي المبلِّغون من النضرة ؛ لدعوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - . يقال : نَضُر ونَضَر ، والفتح أفصح .
ولم يزَلْ أهل العلم في القديم والحديث يعظِّمون نَقَلَة الحديث حتى قال الشافعي - رضي الله عنه - : " إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " . وإنما قال الشافعي هذا ؛ لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقال الشافعي - أيضًا - : " أهل الحديث حفظوا ؛ فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا " .
انتهى ما وَجَدَه هذا الباحث من هذه الخطبة الرائعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، وله كلمات أخرى كثيرة وكثيرة جدًّا مبثوثة في تضاعيف هذه المجلَّدات الكثيرة كما ذكرنا لكم آنفًا يمكن أن يجمعَ منها المتتبِّع رسالة خاصة في فضل أهل الحديث وأنهم هم الفرقة الناجية ، ويأتي على ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة .
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )) ، العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون ، الذي (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) ، الذي (( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )) ، (( وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) ، الذي دلَّ على وحدانيَّته في إلهيته أجناس الآيات ، وأبانَ علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات ، وأظهر قدرته على بريَّته ما أبدَعَه من أصناف المحدثات ، وأرشد إلى فعله بسنَّته تنوُّع الأحوال المختلفات ، وأهدى لرحمته لعباده نعمَه التي لا يحصيها إلا ربُّ السماوات ، وأعلَمَ بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقُّه من جميع الحالات ، لا يحصي العبادُ ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه لما له من الأسماء والصفات ، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يُماثله فيها شيء من الموجودات ، وهو القدُّوس السلام المتنزِّه أن يماثله شيء في نعوت الكمال أو يلحقه شيء من الآفات ، فسبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ، (( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )) .
أرسل الرسل (( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )) ، مبشِّرين لِمَن أطاعَهم بغاية المراد من كلِّ ما تحبُّه النفوس وتراه نعيمًا ؛ ومنذرين لِمَن عصاهم باللَّعن والإبعاد وأن يُعذَّبوا عذابًا أليمًا ، وأمَرَهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره المشركون ، كما قال - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) ، (( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )) ، وجعل لكلٍّ منهم شرعةً ومنهاجًا ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجًا ، وخَتَمَهم بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الأولين والآخرين ، وصفوة ربِّ العالمين ، الشاهد البشير النذير ، الهادي السراج المنير ، الذي أخرج به الناسَ من الظلمات إلى النور ، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد ، (( اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) ، بَعَثَه بأفضل المناهج والشِّرَع ، وأحبط به أصناف الكفر والبدع ، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء ، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من كتب السماء .
وجعل أمَّتَه خير أمَّة أُخرِجَت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ، يوفون سبعين أمَّة هم خيرها وأكرمها على الله ، هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة بما أسبَغَه عليهم من النِّعم الباطنة والظاهرة ، وعَصَمَهم أن يجتمعوا على ضلالة إذ لم يبْقَ بعده نبيٌّ يبيِّن ما بُدِّل من الرسالة ، وأكمل لهم دينَهم وأتمَّ عليهم نعمَه ورضيَ لهم الإسلام دينًا ، وأظهره على الدين كله إظهارًا بالنصرة والتمكين ، وإظهارًا بالحجة والتبيين ، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء يقومون مقامَهم في تبليغ ما أُنزِلَ من الكتاب ، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خَذَلَهم إلى حين الحساب ، وحفظَ لهم الذِّكر الذي أنزَلَه من الكتاب المكنون كما قال - تعالى - : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ؛ فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع في أصحاب التوراة والإنجيل ، وخَصَّهم بالرواية والإسناد الذي يُميِّز به بين الصدق والكذب الجهابذة النُّقَّاد ، وجعل هذا الميراث يحمله من كلِّ خَلَفٍ عدولُه أهل العلم والدين ؛ ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ؛ لتدومَ بهم النعمة على الأمة ، ويظهر بهم النور من الظُّلمة ، ويحيا بهم دين الله الذي بعثَ به رسوله ، وبيَّنَ الله بهم للناس سبيله ، فأفضل الخلق أتبَعُهم لهذا النبيِّ الكريم المنعوت في قوله - تعالى - : (( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له رب العالمين ، وإله المرسلين ، وملك يوم الدين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسلَه إلى الناس أجمعين ، أرسله والناس من الكفر والجهل والضَّلال في أقبح خيبة وأسوأ حال ؛ فلم يزَلْ - صلى الله عليه وآله وسلم - يجتهد في تبليغ الدين وهدي العالمين وجهاد الكفار والمنافقين حتى طلعَتْ شمس الإيمان ، وأدبَرَ ليلُ البهتان ، وعزَّ جند الرحمن ، وذلَّ حزب الشيطان ، وظهر نور الفرقان ، واشتهرت تلاوة القرآن ، وأُعلِنَ بدعوة الأذان ، واستنار بنور الله أهلُ البوادي والبلدان ، وقامت حجَّة الله على الإنس والجانِّ ، لما قام المستجيب من معدِ بن عدنان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان صلاةً يرضى بها الملك الدَّيَّان ، وسلَّم تسليمًا مقرونًا بالرضوان ، أما بعد :
فإنه لا سعادة للعباد ، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله : (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )) ، فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليها تدور ، ومستقرُّ النجاة الذي عنه لا تحور ؛ فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال - تعالى - : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) ، وإنما تعبَّدَهم بطاعته وطاعة رسوله ؛ فلا عبادة إلا ما هو واجبٌ أو مستحَبٌّ في دين الله ؛ وما سوى ذلك فضلال عن سبيله ؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ) ، أخرجاه في " الصحيحين " ، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أهل السنن وصحَّحه الترمذي : ( إنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، تمسَّكوا بها ، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة ) . وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .
وقد ذَكَرَ الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعًا من القرآن كقوله - تعالى - : (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )) ، وقوله - تعالى - : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) ، وقوله - تعالى - : (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )) ، وقوله - تعالى - : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )) ، فجعل محبة العبد لربِّه موجبةً لاتباع الرسول ، وجعل متابعة الرسول سببًا لمحبة الله عبدَه ، وقد قال - تعالى - : (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا )) ، فما أوحاهُ الله إليه يهدي الله به مَن يشاء من عباده ، كما أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك هداه الله - تعالى - كما قال - تعالى - : (( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي )) ، وقال - تعالى - : (( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) .
فبمحمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - تبيَّن الكفر من الإيمان ، والربح من الخسران ، والهدى من الضلال ، والنجاة من الوبال ، والغيُّ من الرشاد ، والزَّيغ من السداد ، وأهل الجنة من أهل النار ، والمُتَّقون من الفجَّار ، وإيثار سبيل مَن أنعم الله عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين ، فالنفوس أحوَجُ إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب ؛ فإن هذا إذا فاتَ حصل الموت في الدنيا ، وذاك إذا فات حصل العذاب .
فحقٌّ على كلِّ أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته ؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم ، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل ؛ إذ لا يكفي من ذلك مجرَّد العقل ، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة ؛ فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام ، وكان معرفة ما أمَرَ الله به رسوله واجبًا على جميع الأنام .
والله - سبحانه - بعث محمدًا بالكتاب والسنة ، وبهما أتمَّ على أمَّته المنَّة ، قال - تعالى - : (( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) ، (( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ )) ، وقال - تعالى - : (( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )) ، وقال - تعالى - : (( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ )) ، وقال - تعالى - : (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )) ، وقال - تعالى - عن الخليل : (( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )) ، وقال - تعالى - : (( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ )) .
وقد قال غيرُ واحد من العلماء - منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم - قالوا : الحكمة هي السنة - يعلِّمكم الكتاب والحكمة - الحكمة هي السنة ؛ لأن الله أمر أزواج نبيِّه أن يذكرْنَ ما يتلى في بيوتهنَّ من الكتاب والحكمة ، والكتاب القرآن ، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة ، وقد جاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من عدَّة أوجهٍ من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما أنه قال : ( لا ألفيَنَّ أحدكم متَّكئًا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمَرْتُ به أو نهيتُ عنه فيقول : بيننا وبينكم القرآن ؛ فما وجدنا فيه من حلال استحلَلْناه ، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه ؛ أَلَا وإني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه ) ، وفي رواية : ( ألا وإنَّه مثل الكتاب ) .
ولما كان القرآن متميِّزًا بنفسه بما خصَّه الله به من الإعجاز الذي بايَنَ به كلام الناس كما قال - تعالى - : (( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )) ، وكان منقولًا بالتواتر ؛ لم يطمَعْ أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه ؛ ولكن طمع الشيطان أن يُدخِلَ التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل ، وطمع أن يُدخِلَ في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضلُّ به بعضُ العباد ؛ فأقام الله - تعالى - الجهابذة النُّقَّاد أهل الهدى والسداد ، فدحروا حزب الشيطان ، وفرَّقوا بين الحقِّ من البهتان ، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان .
وقام كلٌّ من علماء الدين بما أُنعِمَ به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وَقَعَ في ذلك من الخطأ في القديم والحديث ، وكان من ذلك الظاهر الجليُّ الذي لا يسوغ عنه العدول ؛ ومنه الخفيُّ الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول .
وقام علماء النقل والنقد بعلم الرواية والإسناد ، فسافروا في ذلك إلى البلاد ، وهجروا فيه لذيذ الرقاد ، وفارقوا الأموال والأولاد ، وأنفقوا فيه الطَّارف والتِّلاد ، وصبروا فيه على النوائب ، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب ، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم ، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم ، بتوسُّد أحدهم التراب ، وتركِهم لذيذَ الطعام والشراب ، وترك معاشرة الأهل والأصحاب ، والتصبُّر على مرارة الاغتراب ، ومقاساة الأهوال الصِّعاب ، أمرٌ حبَّبَه الله إليهم وحلَّاه ؛ ليحفظ بذلك دين الله ، كما جعل البيت مثابةً للناس وأمنًا يقصدونه من كلِّ فجٍّ عميق ، ويتحمَّلون فيه أمورًا مؤلمةً تحصل في الطريق ، وكما حبَّبَ إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمةٌ من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدين ، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعثَ به رسوله ولو كره المشركون .
فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله كان من أولياء الله المتَّقين ، وأهل النعيم المقيم ؛ كما قال - تعالى - : (( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) .
وقد فسَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - البشرى في الدنيا بنوعين :
أحدهما : ثناء المُثنين عليه .
الثاني : الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له ؛ فقيل : ( يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه ! قال : تلك عاجل بشرى المؤمن ) . وقال البراء بن عازب سُئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قوله : (( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) ؟ فقال : ( هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) .
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الربَّان ، الحافظون له من الزيادة والنقصان ، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين ، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات كما قال - تعالى - : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، وعلم الإسناد والرواية مما خَصَّ الله به أمَّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعله سُلَّمًا إلى الدراية ، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات ، وإنما الإسناد لِمَن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة ؛ يفرِّقون به بين الصحيح والسقيم ، والمعوجِّ والقويم ، وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحقَّ من الباطل ، ولا الحالي من العاطل .
وأما هذه الأمة المَرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة ؛ فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرِهم على يقين ، فظهر لهم الصِّدق من المَيْن ، كما يظهر الصُّبح لذي عينَين ، عصَمَهم الله أن يجمعوا على خطأ في دين الله معقول أو منقول ، وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردُّوه إلى الله والرسول كما قال - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ؛ فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكمٍ لم يكن إلا حقًّا ، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديثٍ لم يكن إلا صدقًا ، ولكلٍّ من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجليِّ والخفيِّ ما يُعرف به مَن هو بهذا الأمر حفيٌّ ، والله - تعالى - يُلهِمُهم الصواب في هذه القضية ، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية ، وكما عُرِفَ ذلك بالتجربة الوجودية ؛ فإن الله كتبَ في قلوبهم الإيمان وأيَّدهم بروح منه لما صدقوا في موالاة الله ورسوله ومعاداة مَن عدل عنه ؛ قال - تعالى - : (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ )) .
وأهل العلم المأثور عن الرسول أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول ، لا تأخذ أحدَهم في الله لومةُ لائم ، ولا يصدُّهم عن سبيل الله العظائم ، بل يتكلم أحدهم بالحقِّ الذي عليه ، ويتكلم في أحبِّ الناس إليه ؛ عملًا بقوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) ، وقوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) .
ولهم من التعديل والتجريح ، والتضعيف والتصحيح من السعي المشكور والعمل المبرور ما كان من أسباب حفظ الدين ، وصيانته عن إحداث المفترين ، وهم في ذلك على درجات ؛ منهم المقتصر على مجرَّد النقل والرواية ، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية ، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه ، وقد أمَرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمة أن يبلِّغ عنه مَن شهد لِمَن غاب ، ودعا للمبلِّغين بالدعاء المستجاب ، فقال في الحديث الصحيح : ( بلِّغوا عنِّي ولو آية ؛ وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ؛ ومَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعده من النار ) ، وقال - أيضًا - في خطبته في حجة الوداع : ( ألا ليبلِّغ الشاهد الغائب ... ) .
... ( نضَّر الله امرَأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغَه إلى مَن لم يسمَعْه ، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه ؛ ثلاث لا يُغَلُّ عليهنَّ قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ؛ فإن دعوتَهم تُحيط مَن وراءهم ) ، وفي هذا دعاء منه لِمَن بلَّغ حديثه وإن لم يكن فقيهًا ، ودعاء لِمَن بلَّغَه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ لِمَا أعطي المبلِّغون من النضرة ؛ لدعوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - . يقال : نَضُر ونَضَر ، والفتح أفصح .
ولم يزَلْ أهل العلم في القديم والحديث يعظِّمون نَقَلَة الحديث حتى قال الشافعي - رضي الله عنه - : " إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " . وإنما قال الشافعي هذا ؛ لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقال الشافعي - أيضًا - : " أهل الحديث حفظوا ؛ فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا " .
انتهى ما وَجَدَه هذا الباحث من هذه الخطبة الرائعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، وله كلمات أخرى كثيرة وكثيرة جدًّا مبثوثة في تضاعيف هذه المجلَّدات الكثيرة كما ذكرنا لكم آنفًا يمكن أن يجمعَ منها المتتبِّع رسالة خاصة في فضل أهل الحديث وأنهم هم الفرقة الناجية ، ويأتي على ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 163
- توقيت الفهرسة : 00:05:40
- نسخة مدققة إملائيًّا