ما هو حكم الشرع في تعدد الأحزاب والجماعات والمنظمات وهم مختلفون في عقائدهم والأسس التي قامت عليها .؟
A-
A=
A+
السائل : يقول السائل : ما هو حكم الشرع في تعدد هذه الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية مع أنها مختلفة فيما بينها في مناهجها وأساليبها ودعواتها وعقائدها والأسس التي قامت عليها وخاصة أن جماعة الحق واحدة كما دل الحديث على ذلك؟.
الشيخ : لنا كلمات كثيرة وعديدة حول الجواب عن هذا السؤال, ولذلك فنوجز الكلام فيه، ونقول لا يخفى على كل مسلم عارف بالكتاب والسنة وما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، أن التحزب والتكتل في جماعات مختلفة الأفكار أولا والمناهج والأساليب ثانيًا ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم منها قوله عز وجل : (( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيع كل حزب بما لديهم فرحون )) فربنا عز وجل يقول : (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك )) الله تبارك وتعالى استثنى من هذا الخلاف الذي لابد منه كونيًا وليس شرعيًا, استثنى من هذا الاختلاف الطائفة المرحومة حين قال : (( إلا من رحم ربك )) ولا شك ولا ريب أن أي جماعة يريدون بحرص بالغ وإخلاص لله عز وجل في أن يكونوا من الأمة المرحومة المستثناة من هذا الخلاف الكوني, أن ذلك لا سبيل للوصول إليه ولتحقيقه عمليًا في المجتمع الإسلامي إلا بالرجوع إلى الكتاب وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وإلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه خط ذات يوم على الأرض خطًا مستقيمًا وخط حوله خطوطًا قصيرة عن جانبي الخط المستقيم, ثم قرأ قوله تبارك وتعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) ثم قرأ عليه الصلاة والسلام الآية الكريمة : (( وأن هذا صراطي مسقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فترق بكم عن سبيله )) ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال : ( هذا صراط الله ) وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم قال عليه السلام : ( وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه ) لا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة, ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقًا من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكًا الطريق المستقيم وألا يأخذ يمينًا ويسارًا, وليس هناك حزب ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى الذي حدثنا عنه القرآن الكريم : (( ألا إن حزب الله هم الغالبون )) .
نعم فإذًا كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن, ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفة صحيحة, ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئا قليلا, فلا يكون التحزب التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام, لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سئل عنها فقال : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) فإذًا هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هاميين جدًا جدًا:
الأول: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, والآخر ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام, ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا أولا هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته, وثانيًا هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقًا عمليًا فلا يمكننا والحالة هذه أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه, ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى سنة قولية وفعلية وتقريرية, فالسنة القولية واضح جدًا تعريفها هو ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام, والسنة الفعلية ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلا, أما السنة التقريرية فهو ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه, هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله وإنما من إقراره.
ومن هنا ينبعث في نفسي أن ألفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة لا يكفيهم أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط, بل لابد أيضًا من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة, وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جدًا يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة, وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها, والآن يحضرني مثال آخر ألا وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داوود وغيرهما من أكثر من طريق واحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة, قال النعمان بن بشير وغيره : ( فكنا أو كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه ) هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تطبيقًا منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف, ومما لا شك فيه ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه من ورائه وهم يصلون مقتدين به, لا يمكن أن يخفى هذا الرص الذي طبقه أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم تنفيذًا لأمره بتسوية الصفوف والتراص في الصفوف, ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه, فلو أن هذه التسوية لهذا التراص رص الأقدام ورص المناكب لم يكن مشروعًا لكان تكلفًا, ولو كان تكلفًا لنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عنه لأن هناك حديثًا صحيحًا أن هو عليه السلام نهى عن التكلف, وإن قيل أنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأنا أقول باب الإمكان واسع جدًا, لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين, ذكرت أحدهما آنفًا وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه, والسبب الثاني وهو الأهم أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, فما قلناه آنفًا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل, فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى, فيقال إذا كان ربنا عز وجل كما أشرنا إليه آنفًا اقتباسة من القرآن : لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف, إذًا لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه, وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع, من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديمًا في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية حيث أن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال أنه اطلع فأقر, بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين.
أضرب لكم مثلا أو أكثر, جاء في صحيح البخاري أن معاذ ابن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده, ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها, يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه : " هي له نافلة وهي لهم فريضة " فاستدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل, فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذا بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة, هي له نافلة وهي لهم فريضة, أظنكم الآن تعرفون الجواب لأننا نقول إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذ كان يعيد هذه الصلاة تنفلا فربنا عز وجل كما قلنا آنفًا : (( يعلم السر وأخفى )) فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء ببيان عدم شرعيته.
ومثال آخر ونختصر به, وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة والتي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء, جاء في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرها من كتب السنة عن جابر أيضًا رضي الله تعالى عنه قال : ( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة أصبنا فيها امرأة من المشركين ) أي قتلناها, وهنا جملة معترضة أرجو أن تكون قصيرة, لا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان, لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر له محل آخر, النهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين, والقرينة على ذلك والصبيان فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة, وعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه أصبنا فيها في تلك الغزوة امرأة من المشركين يعني أنها كانت من المقاتلة, قال : ( وكان زوجها غائبًا فلما رجع وأخبر الخبر حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع آثار الصحابة ) ومعلوم أن العرب كانت عندهم هذه المعرفة تتبع الآثار التي بها وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة, فالأثر دلهم أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان لأنه انقطع الأثر, لكنهم أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار, بينما صاحبه رأى أقدام المشركين فخشي ليس على نفسه خشي على نبيه فقال : (( لا تحزن إن الله معنا )) .
الشيخ : لنا كلمات كثيرة وعديدة حول الجواب عن هذا السؤال, ولذلك فنوجز الكلام فيه، ونقول لا يخفى على كل مسلم عارف بالكتاب والسنة وما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، أن التحزب والتكتل في جماعات مختلفة الأفكار أولا والمناهج والأساليب ثانيًا ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم منها قوله عز وجل : (( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيع كل حزب بما لديهم فرحون )) فربنا عز وجل يقول : (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك )) الله تبارك وتعالى استثنى من هذا الخلاف الذي لابد منه كونيًا وليس شرعيًا, استثنى من هذا الاختلاف الطائفة المرحومة حين قال : (( إلا من رحم ربك )) ولا شك ولا ريب أن أي جماعة يريدون بحرص بالغ وإخلاص لله عز وجل في أن يكونوا من الأمة المرحومة المستثناة من هذا الخلاف الكوني, أن ذلك لا سبيل للوصول إليه ولتحقيقه عمليًا في المجتمع الإسلامي إلا بالرجوع إلى الكتاب وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وإلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه خط ذات يوم على الأرض خطًا مستقيمًا وخط حوله خطوطًا قصيرة عن جانبي الخط المستقيم, ثم قرأ قوله تبارك وتعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) ثم قرأ عليه الصلاة والسلام الآية الكريمة : (( وأن هذا صراطي مسقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فترق بكم عن سبيله )) ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال : ( هذا صراط الله ) وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم قال عليه السلام : ( وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه ) لا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة, ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقًا من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكًا الطريق المستقيم وألا يأخذ يمينًا ويسارًا, وليس هناك حزب ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى الذي حدثنا عنه القرآن الكريم : (( ألا إن حزب الله هم الغالبون )) .
نعم فإذًا كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن, ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفة صحيحة, ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئا قليلا, فلا يكون التحزب التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام, لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سئل عنها فقال : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) فإذًا هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هاميين جدًا جدًا:
الأول: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, والآخر ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام, ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا أولا هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته, وثانيًا هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقًا عمليًا فلا يمكننا والحالة هذه أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه, ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى سنة قولية وفعلية وتقريرية, فالسنة القولية واضح جدًا تعريفها هو ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام, والسنة الفعلية ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلا, أما السنة التقريرية فهو ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه, هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله وإنما من إقراره.
ومن هنا ينبعث في نفسي أن ألفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة لا يكفيهم أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط, بل لابد أيضًا من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة, وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جدًا يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة, وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها, والآن يحضرني مثال آخر ألا وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داوود وغيرهما من أكثر من طريق واحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة, قال النعمان بن بشير وغيره : ( فكنا أو كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه ) هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تطبيقًا منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف, ومما لا شك فيه ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه من ورائه وهم يصلون مقتدين به, لا يمكن أن يخفى هذا الرص الذي طبقه أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم تنفيذًا لأمره بتسوية الصفوف والتراص في الصفوف, ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه, فلو أن هذه التسوية لهذا التراص رص الأقدام ورص المناكب لم يكن مشروعًا لكان تكلفًا, ولو كان تكلفًا لنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عنه لأن هناك حديثًا صحيحًا أن هو عليه السلام نهى عن التكلف, وإن قيل أنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأنا أقول باب الإمكان واسع جدًا, لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين, ذكرت أحدهما آنفًا وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه, والسبب الثاني وهو الأهم أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, فما قلناه آنفًا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل, فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى, فيقال إذا كان ربنا عز وجل كما أشرنا إليه آنفًا اقتباسة من القرآن : لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف, إذًا لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه, وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع, من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديمًا في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية حيث أن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال أنه اطلع فأقر, بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين.
أضرب لكم مثلا أو أكثر, جاء في صحيح البخاري أن معاذ ابن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده, ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها, يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه : " هي له نافلة وهي لهم فريضة " فاستدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل, فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذا بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة, هي له نافلة وهي لهم فريضة, أظنكم الآن تعرفون الجواب لأننا نقول إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذ كان يعيد هذه الصلاة تنفلا فربنا عز وجل كما قلنا آنفًا : (( يعلم السر وأخفى )) فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء ببيان عدم شرعيته.
ومثال آخر ونختصر به, وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة والتي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء, جاء في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرها من كتب السنة عن جابر أيضًا رضي الله تعالى عنه قال : ( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة أصبنا فيها امرأة من المشركين ) أي قتلناها, وهنا جملة معترضة أرجو أن تكون قصيرة, لا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان, لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر له محل آخر, النهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين, والقرينة على ذلك والصبيان فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة, وعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه أصبنا فيها في تلك الغزوة امرأة من المشركين يعني أنها كانت من المقاتلة, قال : ( وكان زوجها غائبًا فلما رجع وأخبر الخبر حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع آثار الصحابة ) ومعلوم أن العرب كانت عندهم هذه المعرفة تتبع الآثار التي بها وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة, فالأثر دلهم أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان لأنه انقطع الأثر, لكنهم أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار, بينما صاحبه رأى أقدام المشركين فخشي ليس على نفسه خشي على نبيه فقال : (( لا تحزن إن الله معنا )) .
- سلسلة الهدى والنور - شريط : 608
- توقيت الفهرسة : 00:01:04
- نسخة مدققة إملائيًّا