ما ضابط العذر بالجهل ؟
A-
A=
A+
السائل : موضوع العذر بالجهل هنالك من يقول .
الشيخ : موضوع إيش ؟
السائل : العذر بالجهل في العقيدة خاصة .
الشيخ : أيوا ، نعم .
السائل : هنالك من يقول : يعذر الإنسان بالجهل ، وهنالك من يقول : لا ، وقد ظهرت مؤلفات في ذلك ، ونرجو الإفادة في هذا الموضوع ؟
الشيخ : نعم ، سبق أن أجبتُ عن مثل هذا السؤال بشيء من التفصيل ، ولا أستحسن إعادة الكلام في الإجابة عن سؤال متكرِّر إلا إيجازًا ، فأقول : لا يصح القول مطلقًا بأن الإنسان يُعذر بالجهل مطلقًا أو لا يعذر بالجهل مطلقًا ، كلاهما خطأ ، وإنما لا بدَّ من التفصيل ، مَن كان يعيش في جوٍّ إسلاميٍّ ، وهذا الجو الإسلامي يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ، ثم وجد هناك شخص يجهل العقيدة الإسلامية وهو يحيا في هذا الجوِّ ؛ فهو غير معذور ، وعلى العكس من ذلك إذا تصوَّرنا شخصًا آخر يعيش إما في جوٍّ غير إسلامي جوِّ الكفر والضلال ؛ مثل أوروبا وأمريكا مثلًا ، ثم أسلم ؛ فهذا يعذر بجهله ؛ لأنه لا يجد الجوَّ الذي يُساعده على أن يتعلَّم وألَّا يجهل ، ثم نضرب المثال الذي يُعاكس الصورة الأولى ، الصورة الأولى قلنا : رجل يعيش في جوّ إسلامي يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ، فهو غير معذور بجهله ، الآن نقلب الصورة فنقول : زيد من الناس يعيش في مجتمع إسلامي ، ولكن هذا المجتمع قد انحرف به ، الجمهور انحرف فيه عن العقيدة الصحيحة ؛ ويكون - أيضًا - هذا الشخص معذورًا ؛ لأنه لا يجد الجوَّ الإسلامي الصحيح الذي يقدِّم إليه العقيدة الصحيحة كما يقولون اليوم " أوتماتيكيًّا " ؛ يعني ليس بحاجة إلى أن يتعلَّم بحلقات خاصة ؛ لأن الجوَّ كله مملوء بالعقيدة الصحيحة ، مثال ذلك : حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال : " صلَّيت يومًا وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فعطس رجل بجانبي ، فقلت له : يرحمك الله - وهو يصلي مع المصلين ! - ، قال : فنظروا إليَّ بمؤخِّرة أعينهم ؛ فضقت ذرعًا فقلت : واثكلَ أمِّيَّاه ! ما لكم تنظرون إليَّ ؟ فأخذوا ضربًا على أفخاذهم - يقولون له اسكت ، ليس هذا مكان الكلام والصياح - ، قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة أقبل إليَّ ؛ فوالله ما قهرَني ، ولا كهرَني ، ولا ضربَني ، ولا شتمَني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) " .
يرحمك الله ، يهديكم الله ، هذا الذي هو معتاد عادة شرعية جيِّدة ، ( إذا عطس الرجل فحمد الله ؛ فشمِّتوه ) ، هذا لا يجوز في حالة الصلاة ؛ ( إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي تسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتلاوة القرآن ) ، قال : فقلت : يا رسول الله ، - أتصوَّر نفسيَّة هذا الإنسان الفاضل أنه كان حديث عهد بالإسلام ، وأنه لم يتعلَّم بعدُ ما يجوز في الصلاة ، وما لا يجوز ؛ ولذلك وقع منه هذا الخطأ - ؛ حيث قال لمن عطس : " يرحمك الله " ، هذا كلام ، وقد كان مثل هذا جائزًا في أول الإسلام ؛ حتى أنزل الله - تبارك وتعالى - في القرآن : (( وقوموا لله قانتين )) ، فحرَّم الله عليهم الكلام ، كان الرجل قبل استقرار تحريم الكلام يدخل المسجد ، فيجد الناس في الصَّفِّ يصلون وراء الإمام ، فيقف ، فيقول لصاحبه : أي ركعة هذه ؟ يقول له : هذه الركعة الثانية ، فيفهم في صلاة الصبح مثلًا أنه قد فاته الركعة الأولى ، فينوي ويكبِّر ويقرأ ما تيسَّر ويركع لوحده ، ثم إيه ؟ ينضمُّ مع الإمام في الركعة الثانية ؛ حتى دخل يومًا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، دخل المسجد فوجد الناس قيامًا كالعادة ، فنوى مباشرةً ولم يسأل ذلك السؤال التقليدي ، ثم قام وصلى ما سُبِقَ به من الصلاة فقال - عليه الصلاة والسلام - ( إن معاذًا قد سنَّ لكم سنة ) ؛ أي : سنَّة حسنة ، فصار من ذلك اليوم الحكم المعروف حتى اليوم ؛ ألا وهو قوله - عليه السلام - : ( فما أدركتم ؛ فصلوا ، وما فاتكم ؛ فأتموا ) ، بينما كان الحكم كما عرفتم يستوضح متكلِّمًا مع صاحبه وهو في الصلاة ، فيصلي ما فاته لوحده ، ثم ينضمُّ ، هذا الرجل يبدو أنه لم يكن قد بلغه تحريم الكلام في الصلاة ، وبخاصَّة أن هذا ليس من الكلام المعتاد ؛ كيف حالك ؟ وشلونك ؟ وكيف السوق ؟ وما شابه ذلك ، وإنما عطس ، فحمد الله ، فقال له : " يرحمك الله " ، لم يكن قد علم بعد أن هذا شيء ممنوع في الصلاة ، ولذلك ازداد ثورةً وغضبًا حينما وجدَهم يُنكرون عليه أشدَّ الإنكار ، أولًا بنظرهم إليه بمؤخِّرة أعينهم ، ثانيًا بضربهم على أفخاذهم بأكفِّهم ، فلا شكَّ تتصوَّرون معي أن هذا الإنسان ما يدري كيف صلَّى وهو يفكِّر ، عرف بأنه قد أخطأ ، لكن ما خطؤه ؟ وعلى ذلك انتظر حينما سلَّم الرسول - عليه السلام - من الصلاة أن يأتيَه وأن يؤنِّبَه وأن يقسوَ عليه في الكلام ، كما هو شأن كثير من الأئمة ومن المدرِّسين الذين لا يتحمَّلون سؤالًا عاديًّا إلا ويثورون ويغضبون ، هكذا تصوَّر هو أن الرسول لما أقبل إليه ، لكن خاب ظنُّه - والحمد لله - ، حينما قال معبرًا عن لطفه - عليه السلام - ورأفته بأمَّته ؛ قال : أقبل إليَّ فوالله ما قهرَني ، ولا كهرَني ، ولا ضربَني ، ولا شتمَني ، إنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي تسبيح ، وتحميد ، وتكبير ، وتلاوة للقرآن ) .
حينما وجد هذا اللُّطف المحمدي تفتَّحت معه ذاكرته لتوجيه السؤال بعد السؤال قال : " يا رسول الله ، إنَّا منَّا أقوام يأتون الكهان ؟ " . قال : ( فلا تأتوهم ) . قال : " إنَّا منَّا أقوامًا يتطيَّرون ؟ " . قال : ( فلا يصدَّنَّكم ) . قال : " إنَّا منَّا أقوامًا يخطُّون ؟ " - في الرمل - . قال : ( قد كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ ، فمن وافق خطُّه خطَّه فذاك ) . قال : " يا رسول الله " ، - وهنا الشاهد - : " إن لي جارية في أُحد ترعى غنمًا لي ، فسطا الذِّئب يومًا على غنمي ، وأنا بشر ؛ أغضب كما يغضب البشر ؛ فصكَكْتُها صكَّة ، وعليَّ عتق رقبة " - كأنه يقول : أفيجزيني أن أُعتقها كفارة لما علي من عتق رقبة ؟ - قال : ( هاتها ) . فجاءت ، قال لها : ( أين الله ؟ ) . قالت : " في السماء " . قال لها : ( من أنا ؟ ) . قالت : " أنت رسول الله " ، فالتفت إلى سيِّدها السائل - وهو معاوية بن الحكم السلمي - قال : ( اعتقها ؛ فإنها مؤمنة ) .
الشاهد من هذا الحديث - وفيه أحكام جمَّة - كما سمعتم - وفوائد عديدة - ؛ إنما الشاهد منه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألها عن عقيدةٍ تتعلَّق بكلِّ مسلم ؛ ألا هو قوله - عليه السلام - ( أين الله ؟ ) ، فأجابت بالجواب الصحيح ؛ قالت : في السماء . قال لها : ( من أنا ؟ ) . قالت : " أنت رسول الله " ؛ فحكم عليها بأنها مؤمنة ؛ لأنها أجابت عن السؤالين جوابًا صحيحًا ، انظروا الآن الفوارق ؛ هذه جارية ترعى الغنم ، عرفت العقيدة الصحيحة في قوله - تعالى - : (( الرحمن على العرش استوى )) ، هذه العقيدة التي لا يزال المسلمون يختلفون فيها اختلافا جمًّا ، ولا يزال جماهيرهم - منهم بعض العرب ، وأكثرهم من العجم - لا يزالون يجهلون هذه العقيدة الصحيحة ، بل ويحاربونها - أيضًا - ، فإذا افترضنا جوًّا مثل ذلك الجوِّ النبوي ، جارية ترعى الغنم عرفت ما لا يعرفه كبار المشايخ في بعض البلاد ، فمن كان من عامة الناس في تلك البلاد ؛ من أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة كما عرفتها هذه الجارية ؟ والعلماء في تلك البلاد هم يعتقدون خلافها ويقولون ويقولون ما لا يجوز كمثل قولهم إذا قلت لهم : أين الله ؟ يقولون : نعوذ بالله ، هذا سؤال لا يجوز ، سؤال لا يجوز والرسول هو الذي سنَّه ؟ هكذا يقولون ! لا يجوز هذا السؤال ؛ لماذا ؟ لأن الجواب لا يجوز أكثر وأكثر عندهم ، لا يجوز أن يقول المسلم كما قالت الجارية : " الله في السماء " ، وكثيرون من هؤلاء العلماء الأعاجم - بل وفيهم بعض العرب - بعضهم من الشراكسة ، وبعضهم من المغاربة ؛ حاولوا الغمزَ من صحة هذا الحديث ، وما ذاك إلا لأنَّه يحمل في طواياه العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بتفسير قوله - تعالى - : (( الرحمن على العرش استوى )) ، فيُعلِّلون هذا الحديث مع كونه في " صحيح مسلم " ، ومع كونه - يشهد الله - لا علَّة له إطلاقًا ، أقول هذا لأنه قد يوجد في " صحيح مسلم " وفي غيره ما يُمكن أن يكون فيه طعن ما ؛ كتدليس ، ونحو ذلك ، أما هذا الحديث فذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ؛ فليس فيه أيُّ طعن من حيث إسناده ، ولكن أهل الأهواء إن كانت العقيدة في القرآن حاولوا اللَّفَّ والدوران حولها ؛ بتأويلها ، وإخراجها عن دلالتها الصريحة ، وإن كانت العقيدة في السُّنَّة حاولوا الطَّعن فيها بكل وسيلة ، ولو كانت فاشلة ، فإذًا الذي يعيش - مثلًا - في جوِّ مثل الأردن ، مثل سوريا ، مثل مصر ، أكثر علمائها لا يعرفون هذه العقيدة بصورة خاصة ، والعقيدة السلفية بصورة عامة ؛ أفلا يُعذر المسلمون الذين يقيمون في تلك البلاد ؟ نقول : نعم ، لكن ليس الأمر كذلك الغرباء الذين يعيشون في هذه البلاد التي فضَّلها الله - تبارك وتعالى - وميَّزها بكثيرٍ من الخصال ، من أهمِّها دعوة التوحيد التي سخَّر الله لها في هذه البلاد منذ نحو مئتي سنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ، فأحيا دعوة التوحيد ؛ حيث كانت الشركيَّات والوثنيَّات قد كادت أن تعمَّ البلاد الإسلامية كلها ، ومنها هذه البلاد في الجزيرة العربية ، فأنقذ الله به عباده هنا ، ثم سرت يقظته هذه إلى البلاد الإسلامية الأخرى ؛ لكن بنسب متفاوتة وقليلة جدًّا ، فمن كان غريبًا - هنا - من الأعاجم أو العرب ؛ فهو يسمع ليل نهار عقيدة التوحيد ، وأن الله على العرش استوى ، وأن استواءه معلوم لغةً ، وهو الاستعلاء ، وأن الكيف مجهول ، وأن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة ؛ فهذا لا يكون معذورًا ؛ لأنه قد وُجد في جوٍّ يشبه جوَّ تلك الجارية ؛ من أين عرفت الجارية العقيدة ؟ من المجتمع الذي عاشت فيه ، فسيِّدها وسيِّدتها وأبناؤهما كلهم ينطقون بالعقيدة الصحيحة ، فلماذا هي لا تكون كذلك عقيدتها صحيحة ؟
وهذا مما يُفسَّر به قوله - عليه الصلاة والسلام - - وهو من أنباء الغيب - : ( إن ربَّك ليعجب من أقوام يجرُّون إلى الجنة في السلاسل ) كيف هذا ؟ إشارة عظيمة جدًّا من نبيِّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الفتوحات الإسلامية التي ستقع من بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ويأتون بالأسرى مُغلَّلين في الأصفاد ، فيعاشرون المسلمين وهم عبيد أرقَّاء ، لكن رقُّهم هذا سينقلب نعمةً ما بعدها نعمة عليهم ، فإنهم قد كانوا من قبل وهم أحرار في بلادهم يسمعون عن الإسلام كلَّ سيِّئة بسبب القساوسة والرهبان والجهَّال وما شابه ذلك ؛ من الذين يُذيعون السُّوء عن الإسلام والأفكار والعقائد السَّيِّئة ، فلمَّا ابتلاهم الله ، ووقعوا في الأسر ، وسِيقُوا إلى بلاد الإسلام في الأغلال ؛ عاشوا مع المسلمين عن كثبٍ وعن قربٍ ، واطَّلعوا أولًا على عقائدهم وعلى عبادتهم ، ثم على سلوكهم وأخلاقهم ، فوجدوها من أحسن ما يمكن أن يوجد على وجه الأرض ، فكان ذلك سببًا لدخولهم في الإسلام اختيارًا وليس اضطرارًا ، فدخلوا الجنة ؛ أي : بسبب إسلامهم وهم قد سيقوا من قبل بالأغلال ، فهذه البلاد إذًا من كان فيها من الغرباء - سواء من العرب أو الأعاجم - ؛ فلا يُعذر بجهله ؛ لأنه إذا استمرَّ في جهله ؛ فمعنى ذلك أنه مكابر ومعاند ؛ لأنه قد أُقيمت الحجة عليه ، فإنه يسمعها ليل نهار ، أما من كان في البلاد الأخرى فهو يسمع نقيض ذلك ؛ فهو معذور بجهله .
فإذًا عرفتم الآن ثلاثة صور ، أو ثلاث مجتمعات :
- المجتمع الأول : المجتمع الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة ، فمن عاش في هذا المجتمع ؛ فلا يعذر بجهله .
- المجتمع الثاني : المجتمع الكافر الذي قد يسلم فيه فردٌ من أفراده ، أو بعض أفراده ؛ فمن أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة ؟ فهو معذور بجهله .
- المجتمع الثالث : مجتمع بينهما ؛ فهو في الظاهر مسلم ، وعلامات الإسلام ظاهرة ، فالمساجد عامرة بالصلاة ، والأذان مرفوع صوته ، و وإلى آخره ، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة ؛ فمن أين يتلقَّى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة ؟ فيكونون - والحالة هذه - معذورين .
هذا الذي يتيسَّر لي ، هذا الذي يتيسَّر لي من الجواب عن هذا السؤال ، وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله ربِّ العالمين .
فانصرفوا راشدين .
الشيخ : موضوع إيش ؟
السائل : العذر بالجهل في العقيدة خاصة .
الشيخ : أيوا ، نعم .
السائل : هنالك من يقول : يعذر الإنسان بالجهل ، وهنالك من يقول : لا ، وقد ظهرت مؤلفات في ذلك ، ونرجو الإفادة في هذا الموضوع ؟
الشيخ : نعم ، سبق أن أجبتُ عن مثل هذا السؤال بشيء من التفصيل ، ولا أستحسن إعادة الكلام في الإجابة عن سؤال متكرِّر إلا إيجازًا ، فأقول : لا يصح القول مطلقًا بأن الإنسان يُعذر بالجهل مطلقًا أو لا يعذر بالجهل مطلقًا ، كلاهما خطأ ، وإنما لا بدَّ من التفصيل ، مَن كان يعيش في جوٍّ إسلاميٍّ ، وهذا الجو الإسلامي يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ، ثم وجد هناك شخص يجهل العقيدة الإسلامية وهو يحيا في هذا الجوِّ ؛ فهو غير معذور ، وعلى العكس من ذلك إذا تصوَّرنا شخصًا آخر يعيش إما في جوٍّ غير إسلامي جوِّ الكفر والضلال ؛ مثل أوروبا وأمريكا مثلًا ، ثم أسلم ؛ فهذا يعذر بجهله ؛ لأنه لا يجد الجوَّ الذي يُساعده على أن يتعلَّم وألَّا يجهل ، ثم نضرب المثال الذي يُعاكس الصورة الأولى ، الصورة الأولى قلنا : رجل يعيش في جوّ إسلامي يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ، فهو غير معذور بجهله ، الآن نقلب الصورة فنقول : زيد من الناس يعيش في مجتمع إسلامي ، ولكن هذا المجتمع قد انحرف به ، الجمهور انحرف فيه عن العقيدة الصحيحة ؛ ويكون - أيضًا - هذا الشخص معذورًا ؛ لأنه لا يجد الجوَّ الإسلامي الصحيح الذي يقدِّم إليه العقيدة الصحيحة كما يقولون اليوم " أوتماتيكيًّا " ؛ يعني ليس بحاجة إلى أن يتعلَّم بحلقات خاصة ؛ لأن الجوَّ كله مملوء بالعقيدة الصحيحة ، مثال ذلك : حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال : " صلَّيت يومًا وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فعطس رجل بجانبي ، فقلت له : يرحمك الله - وهو يصلي مع المصلين ! - ، قال : فنظروا إليَّ بمؤخِّرة أعينهم ؛ فضقت ذرعًا فقلت : واثكلَ أمِّيَّاه ! ما لكم تنظرون إليَّ ؟ فأخذوا ضربًا على أفخاذهم - يقولون له اسكت ، ليس هذا مكان الكلام والصياح - ، قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة أقبل إليَّ ؛ فوالله ما قهرَني ، ولا كهرَني ، ولا ضربَني ، ولا شتمَني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) " .
يرحمك الله ، يهديكم الله ، هذا الذي هو معتاد عادة شرعية جيِّدة ، ( إذا عطس الرجل فحمد الله ؛ فشمِّتوه ) ، هذا لا يجوز في حالة الصلاة ؛ ( إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي تسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتلاوة القرآن ) ، قال : فقلت : يا رسول الله ، - أتصوَّر نفسيَّة هذا الإنسان الفاضل أنه كان حديث عهد بالإسلام ، وأنه لم يتعلَّم بعدُ ما يجوز في الصلاة ، وما لا يجوز ؛ ولذلك وقع منه هذا الخطأ - ؛ حيث قال لمن عطس : " يرحمك الله " ، هذا كلام ، وقد كان مثل هذا جائزًا في أول الإسلام ؛ حتى أنزل الله - تبارك وتعالى - في القرآن : (( وقوموا لله قانتين )) ، فحرَّم الله عليهم الكلام ، كان الرجل قبل استقرار تحريم الكلام يدخل المسجد ، فيجد الناس في الصَّفِّ يصلون وراء الإمام ، فيقف ، فيقول لصاحبه : أي ركعة هذه ؟ يقول له : هذه الركعة الثانية ، فيفهم في صلاة الصبح مثلًا أنه قد فاته الركعة الأولى ، فينوي ويكبِّر ويقرأ ما تيسَّر ويركع لوحده ، ثم إيه ؟ ينضمُّ مع الإمام في الركعة الثانية ؛ حتى دخل يومًا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، دخل المسجد فوجد الناس قيامًا كالعادة ، فنوى مباشرةً ولم يسأل ذلك السؤال التقليدي ، ثم قام وصلى ما سُبِقَ به من الصلاة فقال - عليه الصلاة والسلام - ( إن معاذًا قد سنَّ لكم سنة ) ؛ أي : سنَّة حسنة ، فصار من ذلك اليوم الحكم المعروف حتى اليوم ؛ ألا وهو قوله - عليه السلام - : ( فما أدركتم ؛ فصلوا ، وما فاتكم ؛ فأتموا ) ، بينما كان الحكم كما عرفتم يستوضح متكلِّمًا مع صاحبه وهو في الصلاة ، فيصلي ما فاته لوحده ، ثم ينضمُّ ، هذا الرجل يبدو أنه لم يكن قد بلغه تحريم الكلام في الصلاة ، وبخاصَّة أن هذا ليس من الكلام المعتاد ؛ كيف حالك ؟ وشلونك ؟ وكيف السوق ؟ وما شابه ذلك ، وإنما عطس ، فحمد الله ، فقال له : " يرحمك الله " ، لم يكن قد علم بعد أن هذا شيء ممنوع في الصلاة ، ولذلك ازداد ثورةً وغضبًا حينما وجدَهم يُنكرون عليه أشدَّ الإنكار ، أولًا بنظرهم إليه بمؤخِّرة أعينهم ، ثانيًا بضربهم على أفخاذهم بأكفِّهم ، فلا شكَّ تتصوَّرون معي أن هذا الإنسان ما يدري كيف صلَّى وهو يفكِّر ، عرف بأنه قد أخطأ ، لكن ما خطؤه ؟ وعلى ذلك انتظر حينما سلَّم الرسول - عليه السلام - من الصلاة أن يأتيَه وأن يؤنِّبَه وأن يقسوَ عليه في الكلام ، كما هو شأن كثير من الأئمة ومن المدرِّسين الذين لا يتحمَّلون سؤالًا عاديًّا إلا ويثورون ويغضبون ، هكذا تصوَّر هو أن الرسول لما أقبل إليه ، لكن خاب ظنُّه - والحمد لله - ، حينما قال معبرًا عن لطفه - عليه السلام - ورأفته بأمَّته ؛ قال : أقبل إليَّ فوالله ما قهرَني ، ولا كهرَني ، ولا ضربَني ، ولا شتمَني ، إنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي تسبيح ، وتحميد ، وتكبير ، وتلاوة للقرآن ) .
حينما وجد هذا اللُّطف المحمدي تفتَّحت معه ذاكرته لتوجيه السؤال بعد السؤال قال : " يا رسول الله ، إنَّا منَّا أقوام يأتون الكهان ؟ " . قال : ( فلا تأتوهم ) . قال : " إنَّا منَّا أقوامًا يتطيَّرون ؟ " . قال : ( فلا يصدَّنَّكم ) . قال : " إنَّا منَّا أقوامًا يخطُّون ؟ " - في الرمل - . قال : ( قد كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ ، فمن وافق خطُّه خطَّه فذاك ) . قال : " يا رسول الله " ، - وهنا الشاهد - : " إن لي جارية في أُحد ترعى غنمًا لي ، فسطا الذِّئب يومًا على غنمي ، وأنا بشر ؛ أغضب كما يغضب البشر ؛ فصكَكْتُها صكَّة ، وعليَّ عتق رقبة " - كأنه يقول : أفيجزيني أن أُعتقها كفارة لما علي من عتق رقبة ؟ - قال : ( هاتها ) . فجاءت ، قال لها : ( أين الله ؟ ) . قالت : " في السماء " . قال لها : ( من أنا ؟ ) . قالت : " أنت رسول الله " ، فالتفت إلى سيِّدها السائل - وهو معاوية بن الحكم السلمي - قال : ( اعتقها ؛ فإنها مؤمنة ) .
الشاهد من هذا الحديث - وفيه أحكام جمَّة - كما سمعتم - وفوائد عديدة - ؛ إنما الشاهد منه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألها عن عقيدةٍ تتعلَّق بكلِّ مسلم ؛ ألا هو قوله - عليه السلام - ( أين الله ؟ ) ، فأجابت بالجواب الصحيح ؛ قالت : في السماء . قال لها : ( من أنا ؟ ) . قالت : " أنت رسول الله " ؛ فحكم عليها بأنها مؤمنة ؛ لأنها أجابت عن السؤالين جوابًا صحيحًا ، انظروا الآن الفوارق ؛ هذه جارية ترعى الغنم ، عرفت العقيدة الصحيحة في قوله - تعالى - : (( الرحمن على العرش استوى )) ، هذه العقيدة التي لا يزال المسلمون يختلفون فيها اختلافا جمًّا ، ولا يزال جماهيرهم - منهم بعض العرب ، وأكثرهم من العجم - لا يزالون يجهلون هذه العقيدة الصحيحة ، بل ويحاربونها - أيضًا - ، فإذا افترضنا جوًّا مثل ذلك الجوِّ النبوي ، جارية ترعى الغنم عرفت ما لا يعرفه كبار المشايخ في بعض البلاد ، فمن كان من عامة الناس في تلك البلاد ؛ من أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة كما عرفتها هذه الجارية ؟ والعلماء في تلك البلاد هم يعتقدون خلافها ويقولون ويقولون ما لا يجوز كمثل قولهم إذا قلت لهم : أين الله ؟ يقولون : نعوذ بالله ، هذا سؤال لا يجوز ، سؤال لا يجوز والرسول هو الذي سنَّه ؟ هكذا يقولون ! لا يجوز هذا السؤال ؛ لماذا ؟ لأن الجواب لا يجوز أكثر وأكثر عندهم ، لا يجوز أن يقول المسلم كما قالت الجارية : " الله في السماء " ، وكثيرون من هؤلاء العلماء الأعاجم - بل وفيهم بعض العرب - بعضهم من الشراكسة ، وبعضهم من المغاربة ؛ حاولوا الغمزَ من صحة هذا الحديث ، وما ذاك إلا لأنَّه يحمل في طواياه العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بتفسير قوله - تعالى - : (( الرحمن على العرش استوى )) ، فيُعلِّلون هذا الحديث مع كونه في " صحيح مسلم " ، ومع كونه - يشهد الله - لا علَّة له إطلاقًا ، أقول هذا لأنه قد يوجد في " صحيح مسلم " وفي غيره ما يُمكن أن يكون فيه طعن ما ؛ كتدليس ، ونحو ذلك ، أما هذا الحديث فذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ؛ فليس فيه أيُّ طعن من حيث إسناده ، ولكن أهل الأهواء إن كانت العقيدة في القرآن حاولوا اللَّفَّ والدوران حولها ؛ بتأويلها ، وإخراجها عن دلالتها الصريحة ، وإن كانت العقيدة في السُّنَّة حاولوا الطَّعن فيها بكل وسيلة ، ولو كانت فاشلة ، فإذًا الذي يعيش - مثلًا - في جوِّ مثل الأردن ، مثل سوريا ، مثل مصر ، أكثر علمائها لا يعرفون هذه العقيدة بصورة خاصة ، والعقيدة السلفية بصورة عامة ؛ أفلا يُعذر المسلمون الذين يقيمون في تلك البلاد ؟ نقول : نعم ، لكن ليس الأمر كذلك الغرباء الذين يعيشون في هذه البلاد التي فضَّلها الله - تبارك وتعالى - وميَّزها بكثيرٍ من الخصال ، من أهمِّها دعوة التوحيد التي سخَّر الله لها في هذه البلاد منذ نحو مئتي سنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ، فأحيا دعوة التوحيد ؛ حيث كانت الشركيَّات والوثنيَّات قد كادت أن تعمَّ البلاد الإسلامية كلها ، ومنها هذه البلاد في الجزيرة العربية ، فأنقذ الله به عباده هنا ، ثم سرت يقظته هذه إلى البلاد الإسلامية الأخرى ؛ لكن بنسب متفاوتة وقليلة جدًّا ، فمن كان غريبًا - هنا - من الأعاجم أو العرب ؛ فهو يسمع ليل نهار عقيدة التوحيد ، وأن الله على العرش استوى ، وأن استواءه معلوم لغةً ، وهو الاستعلاء ، وأن الكيف مجهول ، وأن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة ؛ فهذا لا يكون معذورًا ؛ لأنه قد وُجد في جوٍّ يشبه جوَّ تلك الجارية ؛ من أين عرفت الجارية العقيدة ؟ من المجتمع الذي عاشت فيه ، فسيِّدها وسيِّدتها وأبناؤهما كلهم ينطقون بالعقيدة الصحيحة ، فلماذا هي لا تكون كذلك عقيدتها صحيحة ؟
وهذا مما يُفسَّر به قوله - عليه الصلاة والسلام - - وهو من أنباء الغيب - : ( إن ربَّك ليعجب من أقوام يجرُّون إلى الجنة في السلاسل ) كيف هذا ؟ إشارة عظيمة جدًّا من نبيِّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الفتوحات الإسلامية التي ستقع من بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ويأتون بالأسرى مُغلَّلين في الأصفاد ، فيعاشرون المسلمين وهم عبيد أرقَّاء ، لكن رقُّهم هذا سينقلب نعمةً ما بعدها نعمة عليهم ، فإنهم قد كانوا من قبل وهم أحرار في بلادهم يسمعون عن الإسلام كلَّ سيِّئة بسبب القساوسة والرهبان والجهَّال وما شابه ذلك ؛ من الذين يُذيعون السُّوء عن الإسلام والأفكار والعقائد السَّيِّئة ، فلمَّا ابتلاهم الله ، ووقعوا في الأسر ، وسِيقُوا إلى بلاد الإسلام في الأغلال ؛ عاشوا مع المسلمين عن كثبٍ وعن قربٍ ، واطَّلعوا أولًا على عقائدهم وعلى عبادتهم ، ثم على سلوكهم وأخلاقهم ، فوجدوها من أحسن ما يمكن أن يوجد على وجه الأرض ، فكان ذلك سببًا لدخولهم في الإسلام اختيارًا وليس اضطرارًا ، فدخلوا الجنة ؛ أي : بسبب إسلامهم وهم قد سيقوا من قبل بالأغلال ، فهذه البلاد إذًا من كان فيها من الغرباء - سواء من العرب أو الأعاجم - ؛ فلا يُعذر بجهله ؛ لأنه إذا استمرَّ في جهله ؛ فمعنى ذلك أنه مكابر ومعاند ؛ لأنه قد أُقيمت الحجة عليه ، فإنه يسمعها ليل نهار ، أما من كان في البلاد الأخرى فهو يسمع نقيض ذلك ؛ فهو معذور بجهله .
فإذًا عرفتم الآن ثلاثة صور ، أو ثلاث مجتمعات :
- المجتمع الأول : المجتمع الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة ، فمن عاش في هذا المجتمع ؛ فلا يعذر بجهله .
- المجتمع الثاني : المجتمع الكافر الذي قد يسلم فيه فردٌ من أفراده ، أو بعض أفراده ؛ فمن أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة ؟ فهو معذور بجهله .
- المجتمع الثالث : مجتمع بينهما ؛ فهو في الظاهر مسلم ، وعلامات الإسلام ظاهرة ، فالمساجد عامرة بالصلاة ، والأذان مرفوع صوته ، و وإلى آخره ، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة ؛ فمن أين يتلقَّى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة ؟ فيكونون - والحالة هذه - معذورين .
هذا الذي يتيسَّر لي ، هذا الذي يتيسَّر لي من الجواب عن هذا السؤال ، وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله ربِّ العالمين .
فانصرفوا راشدين .