بيان الواجب على العلماء في تحرِّي اتباع الكتاب والسنة ، وذكر كلام العلماء المحقِّقين في ذلك .
A-
A=
A+
الشيخ : وإذا كان هذا هو شأن التقليد عند العلماء ؛ فمعنى ذلك أنه لا يجوز لأهل العلم المتمكِّنين من معرفة الحقِّ بدليله أن يتكلَّموا في الفقه إلا بما جاء في الكتاب والسنة ؛ لأن العلم حقَّ العلم إنما هو فيهما لا في آراء الرجال ؛ ولذلك قال الإمام الشافعي في " الرسالة " : " فالواجب على العامِّيِّ أن لا يقولوا إلا من حيث علموا ، وقد تكلَّم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلَّم فيه منه لَكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله " . وقال في مكان آخر : " ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلَّ ولا حرم إلا من جهة العلم ، وجهة العلم خبر الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس " ، وقال في مكان آخر : " ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس كان أقرب مِن الإثم مِن الذي قال وهو غير عالم ، ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله ، وجهة العلم بعدُ الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفتُ من القياس عليها " .
وإنَّ من أكبر المصائب التي حلَّت بخاصة المسلمين فضلًا عن عامتهم أن أكثرهم اليوم وقبل اليوم من القرون على الجهل المطبق بما أفادَتْه هذه النصوص من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة وأقوال الأئمة من ذمِّ التقليد ، وأنه ليس بعلم ، وأن العلم إنما هو قال الله قال رسول الله ؛ فلذلك فإنه لا يكاد يخطر في بال أحدهم أن العلم الممدوح في الكتاب والسنة إنما هو العلم بما جاء فيهما من العقائد والأحكام ، وأن العلماء الذين مُدِحوا فيهما إنما هم أهل العلم بما فيهما ، وليس العارفين بأقوالهم واجتهادهم وآرائهم ؛ ولذلك تراهم حيارى بينها لا يعرفون الموافق للكتاب والسنة منها من المخالف ، وكذلك لا يكاد يجول في خَلَد أحدهم مطلقًا حين يقرأ في أحاديث أشراط الساعة - مثلًا - : ( يُرفع فيها العلم ، ويظهر فيها الجهل ) أنه يدخل فيه جهل المقلد ؛ لأنه لا علم عنده كما تقدَّم عن الأئمة ، وكذلك لا ينتهي مطلقًا إذا سمع قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ) أنهم العلماء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط .
بل طالَمَا سمعنا الكثيرين منهم يريدون هذا الحديث بمناسبة موت أحد شيوخ التقليد ، وكذلك يُسيئون فهمَ بقية الحديث : ( حتى إذا لم يترك عالمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جُهَّالًا ؛ فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم ) ، ولفظ البخاري : ( برأيهم ؛ فضلُّوا وأضلُّوا ) . ويظنُّون أن المراد بهم العوام الذين لا علمَ عندهم بالفقه التقليدي ولا معرفة لهم بالمذاهب ، والحقيقة أنه يدخل في هذا الوصف المقلِّدة الذين قنعوا من العلم بمعرفة اجتهادات الأئمة وتقليدهم فيها على غير بصيرة ؛ كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في كلام " ابن عبد البر الأندلسي " ، ويؤيده استدلال العلماء بهذا الحديث على جواز خلوِّ الزمان عن المجتهد على تفصيل مذكور في " فتح الباري " ، فقد أشاروا بذلك أن المقصود بالعلماء في أول الحديث إنما هم العلماء المجتهدون ، وبرؤوس في آخر الحديث الجُهَّال المقلدون .
والسِّرُّ في هذا الجهل المُطبق الذي أشرنا إليه إنما هو جهلهم - أيضًا - بحقيقة العلم ومَن هو العالم الذي تنصرِفُ إليه الآيات والأحاديث كلَّما ذُكِرَ فيها كقوله - تعالى - : (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) ، وقوله : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) رواه الترمذي ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ليس منَّا مَن لم يجلَّ كبيرنا ، ويرحَمْ صغيرنا ، ويعرِفْ لعالمنا حقَّه ) رواه الحاكم ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة في فضل العلم والعلماء .
وقد عَقَدَ الحافظ " ابن عبد البر " في كتابه السابق "جامع العلم " بابًا خاصًّا لبيان هذه الحقيقة ، فقال : باب معرفة أصول العلم وحقيقته ، وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقًا " ، وتَبِعَه عليه العلامة " الفُلَّاني " في كتابه " إيقاظ همم أولي الأبصار " ، ثم ذكر تحته بعض الأحاديث والآثار التي تترجم عنه ، وختم " الفُلَّاني " ذلك بقوله : " قلت : فهذه الأحاديث والأثار مصرِّحة بأن اسم العلم إنما يُطلق على ما في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والإجماع ، أو ما قِيسَ على هذه الأصول عند فَقْدِ نصٍّ على ذلك عند من يرى ذلك ، لا على ما لَهَجَ به أهل التقليد والعصبية مِن حصرهم العلم على ما دُوِّنَ في كتب الرأي المذهبية مع مصادمة بعض ذلك لنصوص الأحاديث النبوية " .
وجملة القول : أن التقليد مذموم ؛ لأنه جهل وليس بعلم ، وإنما العلم الحقيقي العلم بالكتاب والسنة والتفقُّه بهما ، وقد يقول قائل : ليس كلُّ أحد يستطيع أن يكون عالمًا بهذا المعنى ؛ فنقول : نعم ، هو كذلك ، ولكن من الذي يُنازع في ذلك والله - عز وجل - يقول : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ، ويقول : (( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )) ، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - لِمَن أفتوا بجهل : ( ألا سألوا حين جهلوا ؛ فإنما شفاء العيِّ السؤال ) ؟! على أن البحث لم يكن في تحديد مَن يستطيع ذلك ومَن لا يستطيع ، بل سياق كلامنا يدل على أنه منصبٌّ على الخاصة الذين يُظَنُّ أنهم من أهل العلم ، وفي إمكانهم معرفة المسائل أو بعضها على الأقل بالدليل ، وهم في الحقيقة علماء بأقوال المذاهب ، جهلاء الكتاب والسنة ، فالسؤال غير وارد أصلًا ؛ لا سيما وقد ذكرت في مطلع هذا الفصل أن النَّصَّ الأصولي المذكور أفادَنا أمرين هامين :
الأول : أن التقليد ليس بعلم نافع ، وقد بيَّنت ذلك بما فيه مقنع إن شاء الله .
والأمر الآخر : أنه وظيفة العامي الجاهل ؛ فخرج به العالم المتمكِّن من معرفة الأدلة ، وأنه هو الذي ليس وظيفته التقليد ، وإنما الاجتهاد أو الاتباع على الأقل .
وهذه مما يوضِّحه شرحُ الأمر الآخر ؛ ولذلك فإني أقول : قال " ابن عبد البر " عقبَ ما سبق نقله عنه ملخَّصًا : " وهذا كله لغير العامة ؛ فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها ؛ لأنها لا تتبيَّن بها الحجة ، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك ؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنَيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة ، والله أعلم " .
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المُرَادُون بقول الله - عز وجل - : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممَّن يثق بمعرفته بالقبلة إذا أشكلت عليه ، وكذلك مَن لا علم له ولا بصرَ بما بمعنى ما يدري .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
السائل : بارك الله فيك .
وإنَّ من أكبر المصائب التي حلَّت بخاصة المسلمين فضلًا عن عامتهم أن أكثرهم اليوم وقبل اليوم من القرون على الجهل المطبق بما أفادَتْه هذه النصوص من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة وأقوال الأئمة من ذمِّ التقليد ، وأنه ليس بعلم ، وأن العلم إنما هو قال الله قال رسول الله ؛ فلذلك فإنه لا يكاد يخطر في بال أحدهم أن العلم الممدوح في الكتاب والسنة إنما هو العلم بما جاء فيهما من العقائد والأحكام ، وأن العلماء الذين مُدِحوا فيهما إنما هم أهل العلم بما فيهما ، وليس العارفين بأقوالهم واجتهادهم وآرائهم ؛ ولذلك تراهم حيارى بينها لا يعرفون الموافق للكتاب والسنة منها من المخالف ، وكذلك لا يكاد يجول في خَلَد أحدهم مطلقًا حين يقرأ في أحاديث أشراط الساعة - مثلًا - : ( يُرفع فيها العلم ، ويظهر فيها الجهل ) أنه يدخل فيه جهل المقلد ؛ لأنه لا علم عنده كما تقدَّم عن الأئمة ، وكذلك لا ينتهي مطلقًا إذا سمع قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ) أنهم العلماء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط .
بل طالَمَا سمعنا الكثيرين منهم يريدون هذا الحديث بمناسبة موت أحد شيوخ التقليد ، وكذلك يُسيئون فهمَ بقية الحديث : ( حتى إذا لم يترك عالمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جُهَّالًا ؛ فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم ) ، ولفظ البخاري : ( برأيهم ؛ فضلُّوا وأضلُّوا ) . ويظنُّون أن المراد بهم العوام الذين لا علمَ عندهم بالفقه التقليدي ولا معرفة لهم بالمذاهب ، والحقيقة أنه يدخل في هذا الوصف المقلِّدة الذين قنعوا من العلم بمعرفة اجتهادات الأئمة وتقليدهم فيها على غير بصيرة ؛ كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في كلام " ابن عبد البر الأندلسي " ، ويؤيده استدلال العلماء بهذا الحديث على جواز خلوِّ الزمان عن المجتهد على تفصيل مذكور في " فتح الباري " ، فقد أشاروا بذلك أن المقصود بالعلماء في أول الحديث إنما هم العلماء المجتهدون ، وبرؤوس في آخر الحديث الجُهَّال المقلدون .
والسِّرُّ في هذا الجهل المُطبق الذي أشرنا إليه إنما هو جهلهم - أيضًا - بحقيقة العلم ومَن هو العالم الذي تنصرِفُ إليه الآيات والأحاديث كلَّما ذُكِرَ فيها كقوله - تعالى - : (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) ، وقوله : (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) رواه الترمذي ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ليس منَّا مَن لم يجلَّ كبيرنا ، ويرحَمْ صغيرنا ، ويعرِفْ لعالمنا حقَّه ) رواه الحاكم ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة في فضل العلم والعلماء .
وقد عَقَدَ الحافظ " ابن عبد البر " في كتابه السابق "جامع العلم " بابًا خاصًّا لبيان هذه الحقيقة ، فقال : باب معرفة أصول العلم وحقيقته ، وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقًا " ، وتَبِعَه عليه العلامة " الفُلَّاني " في كتابه " إيقاظ همم أولي الأبصار " ، ثم ذكر تحته بعض الأحاديث والآثار التي تترجم عنه ، وختم " الفُلَّاني " ذلك بقوله : " قلت : فهذه الأحاديث والأثار مصرِّحة بأن اسم العلم إنما يُطلق على ما في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والإجماع ، أو ما قِيسَ على هذه الأصول عند فَقْدِ نصٍّ على ذلك عند من يرى ذلك ، لا على ما لَهَجَ به أهل التقليد والعصبية مِن حصرهم العلم على ما دُوِّنَ في كتب الرأي المذهبية مع مصادمة بعض ذلك لنصوص الأحاديث النبوية " .
وجملة القول : أن التقليد مذموم ؛ لأنه جهل وليس بعلم ، وإنما العلم الحقيقي العلم بالكتاب والسنة والتفقُّه بهما ، وقد يقول قائل : ليس كلُّ أحد يستطيع أن يكون عالمًا بهذا المعنى ؛ فنقول : نعم ، هو كذلك ، ولكن من الذي يُنازع في ذلك والله - عز وجل - يقول : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ، ويقول : (( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )) ، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - لِمَن أفتوا بجهل : ( ألا سألوا حين جهلوا ؛ فإنما شفاء العيِّ السؤال ) ؟! على أن البحث لم يكن في تحديد مَن يستطيع ذلك ومَن لا يستطيع ، بل سياق كلامنا يدل على أنه منصبٌّ على الخاصة الذين يُظَنُّ أنهم من أهل العلم ، وفي إمكانهم معرفة المسائل أو بعضها على الأقل بالدليل ، وهم في الحقيقة علماء بأقوال المذاهب ، جهلاء الكتاب والسنة ، فالسؤال غير وارد أصلًا ؛ لا سيما وقد ذكرت في مطلع هذا الفصل أن النَّصَّ الأصولي المذكور أفادَنا أمرين هامين :
الأول : أن التقليد ليس بعلم نافع ، وقد بيَّنت ذلك بما فيه مقنع إن شاء الله .
والأمر الآخر : أنه وظيفة العامي الجاهل ؛ فخرج به العالم المتمكِّن من معرفة الأدلة ، وأنه هو الذي ليس وظيفته التقليد ، وإنما الاجتهاد أو الاتباع على الأقل .
وهذه مما يوضِّحه شرحُ الأمر الآخر ؛ ولذلك فإني أقول : قال " ابن عبد البر " عقبَ ما سبق نقله عنه ملخَّصًا : " وهذا كله لغير العامة ؛ فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها ؛ لأنها لا تتبيَّن بها الحجة ، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك ؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنَيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة ، والله أعلم " .
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المُرَادُون بقول الله - عز وجل - : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممَّن يثق بمعرفته بالقبلة إذا أشكلت عليه ، وكذلك مَن لا علم له ولا بصرَ بما بمعنى ما يدري .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
السائل : بارك الله فيك .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 229
- توقيت الفهرسة : 01:23:26
- نسخة مدققة إملائيًّا