ما المراد بقوله - تعالى - : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ؟
A-
A=
A+
السائل : ... بالنسبة لـ ... .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله .
السائل : قال : المطهَّرون هم الملائكة ... الهاء عائدة على ... الحديث ... لا يجوز ... يعني ربط بين الحادثتين الآن أنُّو جواز مسِّ القرآن بدون وضوء ؛ فهل يجوز ... قراءة القرآن ؟
الشيخ : هلق الأستاذ محمود لم يأتِ بشيء جديد لم يُسبَق إليه من قبل العلماء السابقين فيما قرَّره من تفسير آية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أوَّلًا ، وفيما ذهب إليه مِن جواز قراءة القرآن أو مسّ القرآن لغير طاهر ، وكلُّ ذلك هو مسبوق إليه .
وهذا في الواقع من طبيعة المنهج السلفي ، ومن شروطه التي منها أن الدعوة السلفية لا تتبنَّى رأيًا في مسألة جرى العمل عليها على وجهٍ من الوجوه أو رأيٍ من الآراء ، السلفية لا تتبنَّى رأيًا لم تُسبَق إليه ، وإنما طريقها وخطَّتها ومنهجها إنما هو =
السائل : السلام عليكم .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، حطهن عندك هناك وراء .
= إنما هو اختيار قول من الأقوال التي قيلت ؛ سواء كان ذلك في الأحكام الشرعية أو في تفسير الآيات الكريمة ، فتفسير آية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) بأنهم هم الملائكة المقرَّبون هذا تفسير مسبوق =
السائل : السلام عليكم .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
= تفسير مسبوق ؛ فالسلفيون فيه من قِبَل جماعة من العلماء في مقدِّمتهم الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ؛ فقد ذكر في كتابه المشهور " الموطأ " قال : أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أنها كالآية التي في سورة عبس : (( كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) ، (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ )) هم المطهَّرون في الآية الأولى : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ )) ، وهكذا فالقرآن يُفسِّر بعضه بعضًا .
وللإمام مالك من بين الأئمة فضل السبق إلى إلفات نظرنا إلى أن آية (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) يفسِّرها قوله - تبارك وتعالى - في الآية السابقة : (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) .
ومن العلماء الذي فسَّروا الآية فيما سبقَ ذكره تفسيرًا علميًّا مُبسَّطًا المحقِّق المشهور ابن قيم الجوزية ؛ فإن له كتابًا طريفًا بعنوان " أقسام القرآن " تعرَّض في تفسيره لهذه الآية لقوله - تعالى - فيما قبلها : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ )) "" وإنه لقرآن كريم "" .
عيد عباسي : (( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )) .
الشيخ : وإنه ؟
عيد عباسي : (( إِنَّهُ )) .
الشيخ : (( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ، فبمناسبة قوله - تبارك وتعالى - : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ )) تعرَّض ابن القيم لتفسير هذه الآية في ذاك الكتاب " أقسام القرآن " ، فذَكَرَ وجوهًا عديدة في تأييد أن (( الْمُطَهَّرُونَ )) في الآية إنما هم الملائكة ، يحضرني الآن بعض تلك الوجوه ، منها :
أوَّلًا : أنه يقول : إن الله - عز وجل - قال : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، ولم يقل : إلا المتطهِّرون ، ومن حيث الأسلوب العربي هناك فرق كبير بين المطهَّر وبين المتطهِّر ، فالمطهَّر هو المطهَّر خلقة وفطرة ، وليس أولئك إلا الملائكة الذين وَصَفَهم ربنا - تبارك وتعالى - بقوله : (( لَا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) ، أما نحن - معشر البشر - فلسنا مطهَّرين ، وإنما نحن نوعان قسم يتلوَّث ثم يتطهَّر ؛ فهؤلاء هم المحبوبون عند الله - تبارك وتعالى - كما قال في الآية المعروفة : (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) ؛ لأن المتطهِّر هو الذي يتطلَّب الطهارة ويسعى إليها ويعمل بمقتضى تطهير نفسه بالتوبة إلى الله وقيامه بالمكفِّرات من الأعمال الصالحة ، أما الملائكة فَهُم لا يتلوَّثون حتى يتطهَّروا ، وإنما هم منذ خلقَهم ربنا - تبارك وتعالى - كما قال : (( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) .
فحينما نعود بهذا إلى الآية المبحوث فيها فنُلاحظ أن الله - عز وجل - يقول : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) يتبيَّن لنا أنه المقصود بهم الملائكة وليس البشر ؛ لأننا عرفنا من الآية الأخرى أن الله حينَما عنى البشر قال : (( الْمُتَطَهِّرِينَ )) ، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) ؛ فهذا دليل أو وجه من الوجوه التي استند إليها ابن القيم في تأكيد أن المقصود بالآية الملائكة فقط .
وجه آخر هو الوجه الذي نقلتَه عن الأستاذ محمود ، فهنا ضمير (( لَا يَمَسُّهُ )) فإلى أين يعود ؟ يظنُّ كثير من الناس أنه يعود إلى المصحف الذي هو يَحصُرُ القرآن بين دفَّتيه ، فهذا يردُّه ابن القيم في حُجة أن المصحف لم يسبق له ذكر في سياق تلك الآيات ، وإنما سبق فيها ذكرٌ لكتاب موصوف بقوله : (( مَكْنُونٍ )) ، "" إنه لكتاب مكنون "" .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : (( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ )) ، فكتاب موصوف بكونه مكنونًا ، هذا الوصف لا ينطبق على المصحف الذي بين أيدينا لأنه ظاهر وليس مكنونًا ؛ لأن المقصود من المكنون هو المستور ، فما هو الكتاب الذي ينطبق عليه هذا الوصف مكنون ؟ هو الذي جاء - أيضًا - ذكرُه في آية أخرى : "" قرآن كريم "" (( فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )) ، هذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون ؛ فإذًا رجع ضمير (( لَا يَمَسُّهُ )) إلى هذا الكتاب المكنون .
ويؤيِّد هذا القول الإمام مالك السابق حيث قال : (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) ، فهؤلاء الكرام البررة هم الذين يَمسُّون هذا الكتاب المكنون الذي هو في اللوح المحفوظ ؛ أي : معنى الآية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أي : أصل هذا الكتاب الذي بين أيدينا أصله المكنون المحفوظ الذي لا تناله الأيدي إلا أيدي الملائكة ؛ هذا الكتاب هو الذي (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، هذا وجه .
وهناك وجه آخر يذكره - أيضًا - فيقول : قوله - تعالى - : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) جملة خبرية ، وخبر الله لا يتأخَّر ولا يتخلَّف ، لا يمكن أن يكون مخالفًا للواقع ، ولو أن الله - عز وجل - يريد من الآية هذا المصحف الذي بين أيدينا فنحن نعلم بالمشاهدة أنه يمسُّه غير المطهَّرين قطعًا من المسلمين الذين يعني أوَّلًا لا يرون وجوب الطهارة في مسِّ القرآن أمثالنا ، ومن المسلمين الذين يرون وجوب الطهارة ولكنهم يتكاسلون ولا يهتمُّون بمثل أولئك الذي يدعون الفرائض كلها ، فأولى وأولى بهم أن يدعوا التطهُّر لمجرد إيش ؟ مسِّ القرآن .
وأخيرًا يأتي الكفار الذين لا يؤمنون بأصل القرآن كله ؛ فهم يمسُّون القرآن على جنابة ؛ لأنهم دائمًا غير متطهَّرين ؛ فكيف يمكن أن يكون هذا كله واقعًا والله - تبارك وتعالى - يخبر فيقول : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ؟ أحد شيئين ؛ إما أن يكون خبر الله غير صحيح لأنه مخالف للواقع ، وإما أن يكون فهمُنا لخبر الله فهمًا خاطئًا ؛ فهذا الفهم الخاطئ هو الذي اصطدم في الحقيقة مع الواقع وليس خبر الله ؛ لأن خبر الله لا يتخلَّف ولا يتأخَّر ، فإذا دار الأمر بين أن نتَّهم الله بإخباره بخلاف الواقع وبين أن نتَّهم عقولنا وأفكارنا وأفهامنا بخطأ الفهم ؛ فماذا نختار ؟ لا شك نختار الأمر الأخير ؛ لأنه لا يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يظنَّ أو أن يخطر في باله أنه من الجائز على الله أن يُخبِرَ بخلاف الواقع .
إذ الأمر كذلك لم يبقَ إلا أن الآية معناها ليس كما يظن الناس ؛ لأن هذا المعنى مصادم للواقع ، قال - تعالى - : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ففهمنا أن المطهَّرون هم المسلمون الذين يتطهَّرون ، فرأينا هؤلاء المسلمين يمسُّونه وهم غير متطهَّرين ؛ إذًا هذا الفهم هو الخطأ ؛ لأن الله لا يخطئ ، فما هو المعنى الصحيح ؟ المعنى الصحيح عرفناه مما سبق أن المطهَّرون في الآية هم الملائكة وليس البشر ؛ حين ذاك لم تصطدم الآية مع الواقع .
هذا إذا ما فهمنا - وهو الواقع - أن الآية جملة خبرية ؛ إخبار من الله أن الكتاب المكنون (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، قد يقال ههنا بأنه ممكن أن يقال أن الآية جملة خبرية ، ولكن المقصود بها الأمر والإنشاء ؛ أي : تكون الآية نفي بمعنى النهي ، ولكن هذا يرد عليه أن الأصل أن لا يُصار إلى مثل هذا التقدير إلا إذا لم يُمكن فهمه على أنها جملة خبرية محضة ، فإذا أمكن على الطريق الثابت بقيت الآية خبرية وليس فيها شيء من الإنشاء ، فإذا نظرنا نحن إلى هذه البيانات وهي كلها ممَّا أفصح عنها ابن القيم في كتابه السابق " أقسام القرآن " حينئذٍ يتبيَّن لنا أن التفسير الصحيح في هذه الآية أنها لا علاقة لها بموضوع مسِّ القرآن على غير طهارة ، وإنما هي جملة خبرية يُخبر الله - عز وجل - عن أنَّ الكتاب المكنون المحفوظ في اللوح المحفوظ هو لا تناله أيدي الشياطين كما قال - تعالى - : (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ )) ، وإنما تناله وتنْزِل به الملائكة المكرَّمون ، (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) .
هذا فيما يتعلق بموضوع مسِّ القرآن .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله .
السائل : قال : المطهَّرون هم الملائكة ... الهاء عائدة على ... الحديث ... لا يجوز ... يعني ربط بين الحادثتين الآن أنُّو جواز مسِّ القرآن بدون وضوء ؛ فهل يجوز ... قراءة القرآن ؟
الشيخ : هلق الأستاذ محمود لم يأتِ بشيء جديد لم يُسبَق إليه من قبل العلماء السابقين فيما قرَّره من تفسير آية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أوَّلًا ، وفيما ذهب إليه مِن جواز قراءة القرآن أو مسّ القرآن لغير طاهر ، وكلُّ ذلك هو مسبوق إليه .
وهذا في الواقع من طبيعة المنهج السلفي ، ومن شروطه التي منها أن الدعوة السلفية لا تتبنَّى رأيًا في مسألة جرى العمل عليها على وجهٍ من الوجوه أو رأيٍ من الآراء ، السلفية لا تتبنَّى رأيًا لم تُسبَق إليه ، وإنما طريقها وخطَّتها ومنهجها إنما هو =
السائل : السلام عليكم .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، حطهن عندك هناك وراء .
= إنما هو اختيار قول من الأقوال التي قيلت ؛ سواء كان ذلك في الأحكام الشرعية أو في تفسير الآيات الكريمة ، فتفسير آية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) بأنهم هم الملائكة المقرَّبون هذا تفسير مسبوق =
السائل : السلام عليكم .
الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
= تفسير مسبوق ؛ فالسلفيون فيه من قِبَل جماعة من العلماء في مقدِّمتهم الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ؛ فقد ذكر في كتابه المشهور " الموطأ " قال : أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أنها كالآية التي في سورة عبس : (( كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) ، (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ )) هم المطهَّرون في الآية الأولى : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ )) ، وهكذا فالقرآن يُفسِّر بعضه بعضًا .
وللإمام مالك من بين الأئمة فضل السبق إلى إلفات نظرنا إلى أن آية (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) يفسِّرها قوله - تبارك وتعالى - في الآية السابقة : (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) .
ومن العلماء الذي فسَّروا الآية فيما سبقَ ذكره تفسيرًا علميًّا مُبسَّطًا المحقِّق المشهور ابن قيم الجوزية ؛ فإن له كتابًا طريفًا بعنوان " أقسام القرآن " تعرَّض في تفسيره لهذه الآية لقوله - تعالى - فيما قبلها : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ )) "" وإنه لقرآن كريم "" .
عيد عباسي : (( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )) .
الشيخ : وإنه ؟
عيد عباسي : (( إِنَّهُ )) .
الشيخ : (( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ، فبمناسبة قوله - تبارك وتعالى - : (( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ )) تعرَّض ابن القيم لتفسير هذه الآية في ذاك الكتاب " أقسام القرآن " ، فذَكَرَ وجوهًا عديدة في تأييد أن (( الْمُطَهَّرُونَ )) في الآية إنما هم الملائكة ، يحضرني الآن بعض تلك الوجوه ، منها :
أوَّلًا : أنه يقول : إن الله - عز وجل - قال : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، ولم يقل : إلا المتطهِّرون ، ومن حيث الأسلوب العربي هناك فرق كبير بين المطهَّر وبين المتطهِّر ، فالمطهَّر هو المطهَّر خلقة وفطرة ، وليس أولئك إلا الملائكة الذين وَصَفَهم ربنا - تبارك وتعالى - بقوله : (( لَا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) ، أما نحن - معشر البشر - فلسنا مطهَّرين ، وإنما نحن نوعان قسم يتلوَّث ثم يتطهَّر ؛ فهؤلاء هم المحبوبون عند الله - تبارك وتعالى - كما قال في الآية المعروفة : (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) ؛ لأن المتطهِّر هو الذي يتطلَّب الطهارة ويسعى إليها ويعمل بمقتضى تطهير نفسه بالتوبة إلى الله وقيامه بالمكفِّرات من الأعمال الصالحة ، أما الملائكة فَهُم لا يتلوَّثون حتى يتطهَّروا ، وإنما هم منذ خلقَهم ربنا - تبارك وتعالى - كما قال : (( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) .
فحينما نعود بهذا إلى الآية المبحوث فيها فنُلاحظ أن الله - عز وجل - يقول : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) يتبيَّن لنا أنه المقصود بهم الملائكة وليس البشر ؛ لأننا عرفنا من الآية الأخرى أن الله حينَما عنى البشر قال : (( الْمُتَطَهِّرِينَ )) ، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) ؛ فهذا دليل أو وجه من الوجوه التي استند إليها ابن القيم في تأكيد أن المقصود بالآية الملائكة فقط .
وجه آخر هو الوجه الذي نقلتَه عن الأستاذ محمود ، فهنا ضمير (( لَا يَمَسُّهُ )) فإلى أين يعود ؟ يظنُّ كثير من الناس أنه يعود إلى المصحف الذي هو يَحصُرُ القرآن بين دفَّتيه ، فهذا يردُّه ابن القيم في حُجة أن المصحف لم يسبق له ذكر في سياق تلك الآيات ، وإنما سبق فيها ذكرٌ لكتاب موصوف بقوله : (( مَكْنُونٍ )) ، "" إنه لكتاب مكنون "" .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : (( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ )) ، فكتاب موصوف بكونه مكنونًا ، هذا الوصف لا ينطبق على المصحف الذي بين أيدينا لأنه ظاهر وليس مكنونًا ؛ لأن المقصود من المكنون هو المستور ، فما هو الكتاب الذي ينطبق عليه هذا الوصف مكنون ؟ هو الذي جاء - أيضًا - ذكرُه في آية أخرى : "" قرآن كريم "" (( فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )) ، هذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون ؛ فإذًا رجع ضمير (( لَا يَمَسُّهُ )) إلى هذا الكتاب المكنون .
ويؤيِّد هذا القول الإمام مالك السابق حيث قال : (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) ، فهؤلاء الكرام البررة هم الذين يَمسُّون هذا الكتاب المكنون الذي هو في اللوح المحفوظ ؛ أي : معنى الآية : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) أي : أصل هذا الكتاب الذي بين أيدينا أصله المكنون المحفوظ الذي لا تناله الأيدي إلا أيدي الملائكة ؛ هذا الكتاب هو الذي (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، هذا وجه .
وهناك وجه آخر يذكره - أيضًا - فيقول : قوله - تعالى - : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) جملة خبرية ، وخبر الله لا يتأخَّر ولا يتخلَّف ، لا يمكن أن يكون مخالفًا للواقع ، ولو أن الله - عز وجل - يريد من الآية هذا المصحف الذي بين أيدينا فنحن نعلم بالمشاهدة أنه يمسُّه غير المطهَّرين قطعًا من المسلمين الذين يعني أوَّلًا لا يرون وجوب الطهارة في مسِّ القرآن أمثالنا ، ومن المسلمين الذين يرون وجوب الطهارة ولكنهم يتكاسلون ولا يهتمُّون بمثل أولئك الذي يدعون الفرائض كلها ، فأولى وأولى بهم أن يدعوا التطهُّر لمجرد إيش ؟ مسِّ القرآن .
وأخيرًا يأتي الكفار الذين لا يؤمنون بأصل القرآن كله ؛ فهم يمسُّون القرآن على جنابة ؛ لأنهم دائمًا غير متطهَّرين ؛ فكيف يمكن أن يكون هذا كله واقعًا والله - تبارك وتعالى - يخبر فيقول : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ؟ أحد شيئين ؛ إما أن يكون خبر الله غير صحيح لأنه مخالف للواقع ، وإما أن يكون فهمُنا لخبر الله فهمًا خاطئًا ؛ فهذا الفهم الخاطئ هو الذي اصطدم في الحقيقة مع الواقع وليس خبر الله ؛ لأن خبر الله لا يتخلَّف ولا يتأخَّر ، فإذا دار الأمر بين أن نتَّهم الله بإخباره بخلاف الواقع وبين أن نتَّهم عقولنا وأفكارنا وأفهامنا بخطأ الفهم ؛ فماذا نختار ؟ لا شك نختار الأمر الأخير ؛ لأنه لا يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يظنَّ أو أن يخطر في باله أنه من الجائز على الله أن يُخبِرَ بخلاف الواقع .
إذ الأمر كذلك لم يبقَ إلا أن الآية معناها ليس كما يظن الناس ؛ لأن هذا المعنى مصادم للواقع ، قال - تعالى - : (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ففهمنا أن المطهَّرون هم المسلمون الذين يتطهَّرون ، فرأينا هؤلاء المسلمين يمسُّونه وهم غير متطهَّرين ؛ إذًا هذا الفهم هو الخطأ ؛ لأن الله لا يخطئ ، فما هو المعنى الصحيح ؟ المعنى الصحيح عرفناه مما سبق أن المطهَّرون في الآية هم الملائكة وليس البشر ؛ حين ذاك لم تصطدم الآية مع الواقع .
هذا إذا ما فهمنا - وهو الواقع - أن الآية جملة خبرية ؛ إخبار من الله أن الكتاب المكنون (( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )) ، قد يقال ههنا بأنه ممكن أن يقال أن الآية جملة خبرية ، ولكن المقصود بها الأمر والإنشاء ؛ أي : تكون الآية نفي بمعنى النهي ، ولكن هذا يرد عليه أن الأصل أن لا يُصار إلى مثل هذا التقدير إلا إذا لم يُمكن فهمه على أنها جملة خبرية محضة ، فإذا أمكن على الطريق الثابت بقيت الآية خبرية وليس فيها شيء من الإنشاء ، فإذا نظرنا نحن إلى هذه البيانات وهي كلها ممَّا أفصح عنها ابن القيم في كتابه السابق " أقسام القرآن " حينئذٍ يتبيَّن لنا أن التفسير الصحيح في هذه الآية أنها لا علاقة لها بموضوع مسِّ القرآن على غير طهارة ، وإنما هي جملة خبرية يُخبر الله - عز وجل - عن أنَّ الكتاب المكنون المحفوظ في اللوح المحفوظ هو لا تناله أيدي الشياطين كما قال - تعالى - : (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ )) ، وإنما تناله وتنْزِل به الملائكة المكرَّمون ، (( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) .
هذا فيما يتعلق بموضوع مسِّ القرآن .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 268
- توقيت الفهرسة : 01:12:55
- نسخة مدققة إملائيًّا