معرفة هذه الجماعة التي يلزم جميع المسلمين اتباعها .
A-
A=
A+
الشيخ : مَن هم هؤلاء الذين تشمَلُهم دعوة الجماعة التي أُمِرنا بلزومهم ؟ هذا هو بيت القصيد من وقوفي ههنا عند هذه الخصلة لحاجة المسلمين اليوم إلى أن يعرفوا الجماعة التي يجب أن يلزموها وألَّا يحيدوا عنها ؛ لتشملهم دعوتهم الصالحة .
كثير من الناس يتصوَّرون اليوم أن جماعة المسلمين هم جماهيرهم بما فيهم العامَّة ، ويبنون على ذلك أنَّ كل من خالف هذه الجماعة فهو شاذٌّ ، ثم يبنون على ذلك بأن حكموا عليه بطرف حديثٍ هذا الطرف ليس بصحيح ؛ وهو : ( من شذَّ فهو في النار ) ، فهنا خطأ بُني عليه خطأ ، الخطأ الأول في تعريفه للجماعة أو في فهمه للجماعة التي يجب التزامها ولا يجوز الخروج عنها ، من هي الجماعة ؟ يعني الجمهور ، الجماعة الجمهور ؛ هذا الخطأ الأول ، والخطأ الثاني بنى على ذلك أنَّ مَن خالف الجمهور فهو شاذٌّ ، ومن شذَّ فهو في النار ، تُرى أَمَعنى الجماعة في هذا الحديث ومثله أحاديث كثيرة : ( عليكم بالجماعة ؛ فإنَّما يأكل الذِّئب من الغنم القاصية ) حديث صحيح ، وفي حديث الفِرق الثلاث والسبعين قال - عليه السلام - : ( كلها في النار إلا واحدة ) . قالوا : من هي ؟ قال : ( الجماعة ) ؛ تُرى مَن هي هذه الجماعة التي فيها هذا الكتاب ؟ فهذه الجماعة هي مَن كان الحقُّ معه كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " الجماعة مَن كان الحقُّ معه ولو واحدًا " ، هذا هو الجماعة .
ومن الدليل على ذلك : أوَّلًا : واقع كلِّ دعوة يدعو إليه نبيٌّ أو رسول ، وثانيًا : الأحاديث التي جاءت عن الرسول - عليه السلام - تؤكِّد ذلك الواقع ، فنحن نعلم - مثلًا - أنَّ واقع كل رسول أول ما يدعو الناس يكون وحيدًا ، ونعلم يقينًا أنَّ دعوته هي دعوة الحقِّ قطعًا ، لكن الناس كلهم على الأقل في أوَّل دعوته كلهم على ضلال ؛ ولذلك يُعجبني بهذه المناسبة لمَّا جاء موسى وكان يبحث عن الخضر كما هو مذكور في القرآن وفي السنة مفصَّلًا لمَّا لقيه قال له موسى : السلام عليكم . قال : وعليكم السلام ، أنَّى بأرضك السلام ؟ ما في هذه البلاد ناس يعرفون هذا الأدب الإسلامي ، فعرَّفه بنفسه أنه موسى ، إلى آخر القصة ، نبيٌّ كلُّ نبيٍّ أيُّ نبيٍّ لمَّا بدأ بدعوته كان وحده ليس له ثاني ، ثم آمن به الواحد والاثنان والثلاثة إلى آخره ، ولكن مع ذلك الذين آمنوا دائمًا وأبدًا بالنسبة لأهل الأرض كما قال - تعالى - : (( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )) ، فالمؤمنون دائمًا قِلَّة ، المؤمنون دائمًا أبدًا قِلَّة .
نحن اليوم - مثلًا - يفخر بعض الكُتَّاب الإسلاميين الذين ينظرون إلى الكمِّ ولا ينظرون إلى الكيف ؛ لأن عدد المسلمين اليوم ثمان مئة مليون مسلم ، ومع ذلك بدون محاصصة وبدون تحقيق فلا يزال عدد الكفار أكبر من عدد المسلمين ؛ ولو أنَّ قسمًا كبيرًا منهم يُعتبر إسلامه إسلامًا وراثيًّا وليس إسلامًا حقيقيًّا ، ومع ذلك فهذا العدد أقل من المخالفين المسلمين ؛ فهذا الذي عنيتُه بالواقع أنَّ واقع الدعاة دائمًا وأبدًا إلى الحقِّ يكونون قِلَّة ، وليس غريبًا أن يأتي حديث في " صحيح مسلم " يُخبِرنا أن النبي الداعية حينما كان يدعو في كثير من الأحيان كان يظلُّ وحيدًا لا يؤمن به أحد ولا يتَّبعه أحد ، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - أنه عُرضت عليه الأمم ، فرأى سوادًا قد سدَّ الأفق ، فسأل : قيل له : هذا موسى وقومه . ثم نظر في الطَّرف الآخر من الأفق فرأى سوادًا أكبر وأعظم ، فسأل عنه ؟ فقال : هذه أمتك . ثم قال - عليه السلام - وعُرِض عليَّ النبي ومعه الرهط والرهطان - يعني ممَّن آمن معه - ، الرهط والرهطان تسعة فنازلًا ، الرهط عدد تسعة فنازل ، وعُرض عليه النبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ؛ تُرى هل كانت دعوة هذا النبيِّ الذي ليس معه أحد دعوة بطل أم حقٌّ ؟ كلُّ الأنبياء دعوتهم دعوة الإسلام ، كانت دعوته حق ، ولكن لم يجد الأرض التي تقبل هذه الدعوة ، فما آمن به إنسان مطلقًا ؛ لذلك فمن الخطأ أن نتَّخذ الكثرة معيارًا لمعرفة الحق ، هذا هو الواقع .
وأما السنة فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدِّثنا بأحاديث كثيرة ممَّا يُناسب وضعنا اليوم أنه حدَّث عن غربة الإسلام في آخر الزمان ، فأحاديث الغربة معروفة لديكم ، لكني أُبشِّركم بتلك البشارة التي بشَّر بها الرسول - عليه السلام - أمَّته لكي لا ييأسوا من روح الله ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خالفهم حتَّى يأتي أمر الله ، حتى تقوم الساعة ) ، ( لا تزال طائفة ) ، والطائفة في لغة العرب شخص فصاعدًا ، (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )) رجلين اقتتلوا مع بعضهم البعض يجب الإصلاح بينهم ، فالطائفة لغةً هو الواحد فصاعدًا ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّرنا بأن هذا الإسلام سيظلُّ باقيًا مهما اشتدَّت الغربة ، ومهما كثر الخصوم والأعداء حوله .
إذًا لا يجوز أن نتصوَّر أن معنى الجماعة هو الجمهور الذي هو أكثر عددًا ؛ لأنه لم يوجد إسلام على وجه الأرض بهذا المعنى أبدًا ، بمعنى أنَّ أكثر ناس هم المسلمون هذا لم يُوجد إطلاقًا ؛ حتى في عهد النبي - عليه السلام - الذي هو خير العهود وخير القرون ما كان أكثر الناس مسلمين ، كيف هذا والله - عز وجل - يقول : (( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )) ، وقال : (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )) ، (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )) ؟ إلى آخر الآيات المعروفة في أنها تلتقي كلُّها على ذمِّ الكثرة ومدح القِلَّة ؛ ذلك لأن القِلَّة هم المتمسِّكون في الغالب بالحقِّ ، والكثرة متمسِّكون بالباطل .
إذا كان من الخِصال الثلاث هنا لزوم الجماعة ؛ فمَن هي الجماعة ؟
عرفتم قول ابن مسعود أن الجماعة هي مَن كان الحقُّ معه ، ولو كان فردًا أو رجلًا واحدًا ، وبمعنى آخر كما جاء في بعض كتب الحديث المشهورة أن الجماعة - وهذا تأكيد لكلمة ابن مسعود وللأحاديث التي أشرنا إليها - هي جماعة العلم والفقه ، إذا وقفنا عند هذه العبارة أخذنا عبرةً بالغةً في عصرنا الحاضر ؛ لأن تعريف الجماعة بأنها جماعة العلم والفقه هذا التَّعريف يجب أن نقف عنده قليلًا لنفهَمَه مع الأسف الشديد ؛ لأن أكثر الناس لا يعلمون معنى العلم نفسه ، ما هو العلم ؟ طبعًا ليس بحثنا علم الفلك والجغرافيا والميكانيك ونحو ذلك ، وإنما هو العلم الشرعي ، فما هو العلم والفقه الذي مَن كان عالمًا فقيهًا صار من الجماعة ؟
العلم - كما يقول ابن القيم - قال الله قال رسولهُ *** قال الصحابة ليس بالتمويهِ
ما العلم نصبك للخلافة سفاهةً *** بين الرسول وبين رأي فقيهِ "
فالعلم : قال الله قال رسول الله قال الصحابة ؛ لماذا ذكر الصحابة ؟ لأنَّهم هم الجماعة بنصِّ الحديث السابق لمَّا ذكر الفرق الهالكة الثلاثة وسبعين تُستثنى منها واحدة ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إلا واحدة ) . لمَّا قيل له : من هي ؟ قال : ( هي الجماعة ) . وفي الرواية الأخرى : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) ؛ لذلك قال ابن القيم : " العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة " .
من أجل هذا نحن نُدندن في مثل هذه المناسبة ونُذكِّر أنه لا يكفي أن تكون دعوتنا مقيَّدة أو موصوفة بصفة تمسُّك بالكتاب والسنة فقط ، بل لا بد من هذا الوصف الثالث : " وما كان عليه الصحابة " ؛ لأن كل المسلمين قديمًا وحديثًا وأحدث حادث سمعناه قريبًا منذ أسبوعين أو ثلاث قال أحد المتعصِّبين للمذهب الحنفي والماتريدي أنَّ مذهبنا على الكتاب والسنة ، فكل المذاهب وكل الفرق وكل الطرق تدَّعي هذه الدعوة : " على الكتاب والسنة " ، القاديانية الذين يقولون بأنه جاء نبي بعد محمد - عليه السلام - كذلك يقولون : على الكتاب والسنة ، لكننا إذا قلنا لهم : هاتوا صحابيًّا واحدًا قال بأن هناك أنبياء يأتون بعد الرسول - عليه السلام - ؟ لا يجدون نصيرًا إطلاقًا ، كذلك إذا قلنا لهؤلاء المبتدعة - على اختلاف مذاهبهم وطرقهم - : هاتوا رجلًا من الصحابة كان يرقص في الذِّكر ؟ هاتوا واحد ؟ لا يجدون إلى ذلك سبيلًا إطلاقًا ، ولكنهم يتمسَّكون بأقوال من أعجَبِ العجب ، هذه الأقوال لم يَقُلْها أئمَّتهم ، وهم يقولونها من أنفسهم ، فإذا قيل لهم : أنتم مجتهدون . قالوا : لا ، نحن نخالف الذين يدَّعون الاجتهاد في هذا الزمان . طيب ؛ من أين جئتم بهذه الأقوال ؟ هو من عند أنفسهم ؛ إذًا هم ليسوا مجتهدين ، هم مقلِّدون ، ثم هم لا يُقلِّدون ، فيأتون بأقوال ليست من عندهم ، هذا التقليد ليس علمًا باتفاق العلماء ؛ لأننا الآن في سبب تفسير " الجماعة " ، قلنا لكم : كلمة ابن مسعود الواضحة البيِّنة .
وكلمة أخرى تنفذ إلى تلك هي أهل العلم والفقه ، مَن هم أهل العلم والفقه ؟ هم أهل الاجتهاد ، وأهل الفقه مَن هم ؟ أهل الفقه من كتاب الله وحديث رسول الله ، ليس أهل الفقه الذين يضيِّعون حياتهم في قراءة المتون لأيِّ فقه حنفي أو شافعي أو غيره ، وفي قراءة الفروع ، وفي قراءة الحواشي على هذه الشروح والتعليقات على هذه الحواشي ونحو ذلك ؛ هذا ليس هو الفقه الذي دعا به الرسول - عليه السلام - لابن عباس حين قال : ( اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل ) ، وليس هو الذي عناه الرسول في الحديث الصحيح حين قال : ( من يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهْه في الدين ) ، فإنما هذا الفقه هو الفهم عن الله والرسول ، ومشايخ الزمان إلا القليل يُصرِّحون بأنهم هم ليسوا من أهل الفقه في الكتاب والسنة ، وهم لا يستطيعون أن يفهموا الكتاب والسنة ، وإنَّما واجبهم التقليد ، هذا ما يُصرِّحون به ، وهذا ممَّا نُدينهم به ، نقول : أنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم لستم من أهل العلم ولستم من أهل الفقه ، ولقد جاء أحدهم ممَّن كتب حول هذه المسألة في العصر الحاضر بنكتة بديعة جدًّا ، فقال : لا يوجد اليوم علماء حقيقة ، وإنما العلماء الموجودون اليوم هم علماء مجازًا ، ووالله إنها لأصدَقُ كلمة قيلت من متعصِّب ، يقول لا يوجد اليوم جماعة حقيقيين ، وإنما العلماء الموجودين اليوم هم علماء مجازًا ؛ ذلك لأنَّهم ينقلون قال فلان وقال فلان ؛ لأن العلماء يعرف هذا القائل هم العلماء بكلام الله وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم . إذًا الجماعة هم أهل العلم والفقه .
مَن هم أهل الفقه والعلم ؟ أَهؤلاء الذين يعترفون بأنهم ليسوا من أهل العلم ؟ لا ، إذًا أهل العلم هم الأئمة المجتهدون ، من هنا نُقيم الحجَّة على المقلِّدين ، فنقول لهم : أنتم لا حظَّ لكم في دعوة الجماعة التي أخبَرَ الرسول - عليه السلام - بأن دعوتهم تُحيط من وراءهم ، لماذا ؟ لأنهم ليسوا متمسِّكين بالجماعة ، الجماعة هم أهل الفقه والعلم ، وأهل الفقه والعلم ليس هو أبو حنيفة فقط ، ولا هو الإمام مالك فقط ، ولا هو الإمام الشافعي فقط ، ولا الإمام أحمد فقط ، ولا هؤلاء الأربعة فقط ، هناك سفيان الثوري وابن عينة وعبد الرحمن بن مهدي عبد الله بن المبارك وما شاء الله من أهل العلم والفقه ، هؤلاء الأئمة كلهم هم الجماعة ، فما كانوا عليه يجب علينا أن نتمسَّكَ به .
ووقع بينهم - مع الأسف - شيء من الاختلاف ، وهو حينما نرضى هذا الاختلاف نعتقد أنه أمر طبيعي ، ولكن اختلافهم لم يكن كاختلاف المتأخِّرين ، اختلافهم كان في سبيل معرفة الحقِّ والتعصُّب له لا لغيره ، أما اختلافنا اليوم فليس كذلك ، اختلافهم اليوم ليظلَّ كلُّ منتسبٍ منهم إلى فهم إلى إمام متمسِّكًا بغير إمامه ، هكذا سمعنا بعضهم يسخر ليقول : إنه يتمسَّك بذيل هذا الإمام ، نحن نقول : لا نتمسَّك بذيل أحد أبدًا ، مهما كان عظيمًا ، وإنما نتمسَّك بالكتاب والسنة ، زايد الجماعة ؛ لأن تمسُّك بالجماعة عصمة لنا من أن ننحرفَ يمينًا أو يسارًا ؛ إذًا الجماعة بتفسير الرسول - عليه السلام - هي ما كان عليه الرسول وأصحابه ، الجماعة بتفسير ابن مسعود - وهذا يدخل في مخِّ أيِّ إنسان - يقول : الجماعة مَن كان الحقُّ معه ، ولو كان وحده . الجماعة في تفسير أهل العلم هم أهل الفقه والعلم .
إذًا إذا قيل لنا : خالفتم الجمهور . نقول لهم : من هم الجمهور ؟ آلذين نعيش نحن بين ظهرانيهم الآن ؟ ليسوا هؤلاء ، الجمهور إذا فسَّرنا لفظة الجماعة بالجمهور نقول : هم الذين كانوا على الكتاب والسنة ، وهم الأئمة ، لكن لا نُنكر واقعًا أنَّ الأئمة اتفقوا في أكثر المسائل ؛ خاصَّة ما كان منها في العقيدة ، لكنهم اختلفوا في كثير من المسائل الفقهية ، واختلفوا في قليل من المسائل الاعتقادية ، وضربت لكم مثلًا واحدًا فيما يتعلَّق باختلافهم في الاعتقاد ؛ ألا وهو الإيمان ؛ حينَ ذاك ماذا نعمل إذا كان هؤلاء الأئمة أنفسهم اختلفوا ؟ ربُّنا - عز وجل - أوجد لنا نصرًا في نصٍّ صحيح في القرآن الكريم : (( فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) .
هذا الكلام لنُبيِّن فقط الجماعة التي حارَ جماهير المسلمين اليوم في فهمِها ليقفوا عند هذا الفهم الصحيح ، وليُحاولوا أن يلزموا هذه الجماعة بالمفهوم الصحيح ؛ لكي تنالَهم دعوتهم التي سبقتنا بقرون طويلة ، أما مَن لم يلزم الجماعة بهذا المعنى الصحيح فسوف يكون بعيدًا عن أن تتناوله دعوة تلك الجماعة التي يجب أن نلزمَ منهجها وخطَّتها .
إذا عرفنا هذا المعنى من الناحية العلمية عرفنا بعد ذلك ما هو الموقف الذي يجب أن نقيسَه نحن اليوم بالنسبة للجماعات والأحزاب القائمة اليوم في أرض الإسلام وهي كثيرة ؛ فأقول : كلُّ جماعة تنتسب إلى هذه الجماعة في منهجها وخطَّتها وتطبيقها لهذه الخطة فهي الجماعة مهما كانت ؛ قليلة أو كثيرة قريبة أو بعيدة ، المهم أن تتمسَّك بهذا المنهج أن تلزمَ الجماعة ، فهذا الحديث يؤكِّد هذا المعنى الذي يذكره ابن القيم في شعره الرائع الجميل :
" العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة "
فلا يكفي لأيِّ جماعة في الدنيا أن تقنع في دعوتها أنَّها على الكتاب والسنة للسبب الذي ذكرناه آنفًا ، فلا بدَّ أن تضمَّ إلى منهجها إلى الكتاب والسنة الجماعة ؛ وهي الصحابة ، فأيُّ جماعة إذًا اليوم على وجه الأرض تتمسَّك بهذا المنهج الكتاب والسنة والجماعة ليس فقط دعوة مجرَّدة عن التطبيق ، وإنما دعوة مُقترنة بالتطبيق والعمل ؛ فهي الجماعة التي تكون أوَّلًا من الفرقة الناجية ، وتكون - أيضًا - من هذه الفرقة التي دعا الرسول - عليه السلام - لها بالرحمة وبالنَّضارة ، مَن توفَّرت فيه هذه الخِصال الثلاث : إخلاص العمل لله ، والنصح لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ؛ علَّل ذلك لأنَّ فائدة توفُّر هذه الخِصال الثلاث قوله : ( فإنَّ دعاءهم تُحيط مَن وراءهم ) .
كثير من الناس يتصوَّرون اليوم أن جماعة المسلمين هم جماهيرهم بما فيهم العامَّة ، ويبنون على ذلك أنَّ كل من خالف هذه الجماعة فهو شاذٌّ ، ثم يبنون على ذلك بأن حكموا عليه بطرف حديثٍ هذا الطرف ليس بصحيح ؛ وهو : ( من شذَّ فهو في النار ) ، فهنا خطأ بُني عليه خطأ ، الخطأ الأول في تعريفه للجماعة أو في فهمه للجماعة التي يجب التزامها ولا يجوز الخروج عنها ، من هي الجماعة ؟ يعني الجمهور ، الجماعة الجمهور ؛ هذا الخطأ الأول ، والخطأ الثاني بنى على ذلك أنَّ مَن خالف الجمهور فهو شاذٌّ ، ومن شذَّ فهو في النار ، تُرى أَمَعنى الجماعة في هذا الحديث ومثله أحاديث كثيرة : ( عليكم بالجماعة ؛ فإنَّما يأكل الذِّئب من الغنم القاصية ) حديث صحيح ، وفي حديث الفِرق الثلاث والسبعين قال - عليه السلام - : ( كلها في النار إلا واحدة ) . قالوا : من هي ؟ قال : ( الجماعة ) ؛ تُرى مَن هي هذه الجماعة التي فيها هذا الكتاب ؟ فهذه الجماعة هي مَن كان الحقُّ معه كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " الجماعة مَن كان الحقُّ معه ولو واحدًا " ، هذا هو الجماعة .
ومن الدليل على ذلك : أوَّلًا : واقع كلِّ دعوة يدعو إليه نبيٌّ أو رسول ، وثانيًا : الأحاديث التي جاءت عن الرسول - عليه السلام - تؤكِّد ذلك الواقع ، فنحن نعلم - مثلًا - أنَّ واقع كل رسول أول ما يدعو الناس يكون وحيدًا ، ونعلم يقينًا أنَّ دعوته هي دعوة الحقِّ قطعًا ، لكن الناس كلهم على الأقل في أوَّل دعوته كلهم على ضلال ؛ ولذلك يُعجبني بهذه المناسبة لمَّا جاء موسى وكان يبحث عن الخضر كما هو مذكور في القرآن وفي السنة مفصَّلًا لمَّا لقيه قال له موسى : السلام عليكم . قال : وعليكم السلام ، أنَّى بأرضك السلام ؟ ما في هذه البلاد ناس يعرفون هذا الأدب الإسلامي ، فعرَّفه بنفسه أنه موسى ، إلى آخر القصة ، نبيٌّ كلُّ نبيٍّ أيُّ نبيٍّ لمَّا بدأ بدعوته كان وحده ليس له ثاني ، ثم آمن به الواحد والاثنان والثلاثة إلى آخره ، ولكن مع ذلك الذين آمنوا دائمًا وأبدًا بالنسبة لأهل الأرض كما قال - تعالى - : (( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )) ، فالمؤمنون دائمًا قِلَّة ، المؤمنون دائمًا أبدًا قِلَّة .
نحن اليوم - مثلًا - يفخر بعض الكُتَّاب الإسلاميين الذين ينظرون إلى الكمِّ ولا ينظرون إلى الكيف ؛ لأن عدد المسلمين اليوم ثمان مئة مليون مسلم ، ومع ذلك بدون محاصصة وبدون تحقيق فلا يزال عدد الكفار أكبر من عدد المسلمين ؛ ولو أنَّ قسمًا كبيرًا منهم يُعتبر إسلامه إسلامًا وراثيًّا وليس إسلامًا حقيقيًّا ، ومع ذلك فهذا العدد أقل من المخالفين المسلمين ؛ فهذا الذي عنيتُه بالواقع أنَّ واقع الدعاة دائمًا وأبدًا إلى الحقِّ يكونون قِلَّة ، وليس غريبًا أن يأتي حديث في " صحيح مسلم " يُخبِرنا أن النبي الداعية حينما كان يدعو في كثير من الأحيان كان يظلُّ وحيدًا لا يؤمن به أحد ولا يتَّبعه أحد ، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - أنه عُرضت عليه الأمم ، فرأى سوادًا قد سدَّ الأفق ، فسأل : قيل له : هذا موسى وقومه . ثم نظر في الطَّرف الآخر من الأفق فرأى سوادًا أكبر وأعظم ، فسأل عنه ؟ فقال : هذه أمتك . ثم قال - عليه السلام - وعُرِض عليَّ النبي ومعه الرهط والرهطان - يعني ممَّن آمن معه - ، الرهط والرهطان تسعة فنازلًا ، الرهط عدد تسعة فنازل ، وعُرض عليه النبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ؛ تُرى هل كانت دعوة هذا النبيِّ الذي ليس معه أحد دعوة بطل أم حقٌّ ؟ كلُّ الأنبياء دعوتهم دعوة الإسلام ، كانت دعوته حق ، ولكن لم يجد الأرض التي تقبل هذه الدعوة ، فما آمن به إنسان مطلقًا ؛ لذلك فمن الخطأ أن نتَّخذ الكثرة معيارًا لمعرفة الحق ، هذا هو الواقع .
وأما السنة فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدِّثنا بأحاديث كثيرة ممَّا يُناسب وضعنا اليوم أنه حدَّث عن غربة الإسلام في آخر الزمان ، فأحاديث الغربة معروفة لديكم ، لكني أُبشِّركم بتلك البشارة التي بشَّر بها الرسول - عليه السلام - أمَّته لكي لا ييأسوا من روح الله ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خالفهم حتَّى يأتي أمر الله ، حتى تقوم الساعة ) ، ( لا تزال طائفة ) ، والطائفة في لغة العرب شخص فصاعدًا ، (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )) رجلين اقتتلوا مع بعضهم البعض يجب الإصلاح بينهم ، فالطائفة لغةً هو الواحد فصاعدًا ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّرنا بأن هذا الإسلام سيظلُّ باقيًا مهما اشتدَّت الغربة ، ومهما كثر الخصوم والأعداء حوله .
إذًا لا يجوز أن نتصوَّر أن معنى الجماعة هو الجمهور الذي هو أكثر عددًا ؛ لأنه لم يوجد إسلام على وجه الأرض بهذا المعنى أبدًا ، بمعنى أنَّ أكثر ناس هم المسلمون هذا لم يُوجد إطلاقًا ؛ حتى في عهد النبي - عليه السلام - الذي هو خير العهود وخير القرون ما كان أكثر الناس مسلمين ، كيف هذا والله - عز وجل - يقول : (( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )) ، وقال : (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )) ، (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )) ؟ إلى آخر الآيات المعروفة في أنها تلتقي كلُّها على ذمِّ الكثرة ومدح القِلَّة ؛ ذلك لأن القِلَّة هم المتمسِّكون في الغالب بالحقِّ ، والكثرة متمسِّكون بالباطل .
إذا كان من الخِصال الثلاث هنا لزوم الجماعة ؛ فمَن هي الجماعة ؟
عرفتم قول ابن مسعود أن الجماعة هي مَن كان الحقُّ معه ، ولو كان فردًا أو رجلًا واحدًا ، وبمعنى آخر كما جاء في بعض كتب الحديث المشهورة أن الجماعة - وهذا تأكيد لكلمة ابن مسعود وللأحاديث التي أشرنا إليها - هي جماعة العلم والفقه ، إذا وقفنا عند هذه العبارة أخذنا عبرةً بالغةً في عصرنا الحاضر ؛ لأن تعريف الجماعة بأنها جماعة العلم والفقه هذا التَّعريف يجب أن نقف عنده قليلًا لنفهَمَه مع الأسف الشديد ؛ لأن أكثر الناس لا يعلمون معنى العلم نفسه ، ما هو العلم ؟ طبعًا ليس بحثنا علم الفلك والجغرافيا والميكانيك ونحو ذلك ، وإنما هو العلم الشرعي ، فما هو العلم والفقه الذي مَن كان عالمًا فقيهًا صار من الجماعة ؟
العلم - كما يقول ابن القيم - قال الله قال رسولهُ *** قال الصحابة ليس بالتمويهِ
ما العلم نصبك للخلافة سفاهةً *** بين الرسول وبين رأي فقيهِ "
فالعلم : قال الله قال رسول الله قال الصحابة ؛ لماذا ذكر الصحابة ؟ لأنَّهم هم الجماعة بنصِّ الحديث السابق لمَّا ذكر الفرق الهالكة الثلاثة وسبعين تُستثنى منها واحدة ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إلا واحدة ) . لمَّا قيل له : من هي ؟ قال : ( هي الجماعة ) . وفي الرواية الأخرى : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) ؛ لذلك قال ابن القيم : " العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة " .
من أجل هذا نحن نُدندن في مثل هذه المناسبة ونُذكِّر أنه لا يكفي أن تكون دعوتنا مقيَّدة أو موصوفة بصفة تمسُّك بالكتاب والسنة فقط ، بل لا بد من هذا الوصف الثالث : " وما كان عليه الصحابة " ؛ لأن كل المسلمين قديمًا وحديثًا وأحدث حادث سمعناه قريبًا منذ أسبوعين أو ثلاث قال أحد المتعصِّبين للمذهب الحنفي والماتريدي أنَّ مذهبنا على الكتاب والسنة ، فكل المذاهب وكل الفرق وكل الطرق تدَّعي هذه الدعوة : " على الكتاب والسنة " ، القاديانية الذين يقولون بأنه جاء نبي بعد محمد - عليه السلام - كذلك يقولون : على الكتاب والسنة ، لكننا إذا قلنا لهم : هاتوا صحابيًّا واحدًا قال بأن هناك أنبياء يأتون بعد الرسول - عليه السلام - ؟ لا يجدون نصيرًا إطلاقًا ، كذلك إذا قلنا لهؤلاء المبتدعة - على اختلاف مذاهبهم وطرقهم - : هاتوا رجلًا من الصحابة كان يرقص في الذِّكر ؟ هاتوا واحد ؟ لا يجدون إلى ذلك سبيلًا إطلاقًا ، ولكنهم يتمسَّكون بأقوال من أعجَبِ العجب ، هذه الأقوال لم يَقُلْها أئمَّتهم ، وهم يقولونها من أنفسهم ، فإذا قيل لهم : أنتم مجتهدون . قالوا : لا ، نحن نخالف الذين يدَّعون الاجتهاد في هذا الزمان . طيب ؛ من أين جئتم بهذه الأقوال ؟ هو من عند أنفسهم ؛ إذًا هم ليسوا مجتهدين ، هم مقلِّدون ، ثم هم لا يُقلِّدون ، فيأتون بأقوال ليست من عندهم ، هذا التقليد ليس علمًا باتفاق العلماء ؛ لأننا الآن في سبب تفسير " الجماعة " ، قلنا لكم : كلمة ابن مسعود الواضحة البيِّنة .
وكلمة أخرى تنفذ إلى تلك هي أهل العلم والفقه ، مَن هم أهل العلم والفقه ؟ هم أهل الاجتهاد ، وأهل الفقه مَن هم ؟ أهل الفقه من كتاب الله وحديث رسول الله ، ليس أهل الفقه الذين يضيِّعون حياتهم في قراءة المتون لأيِّ فقه حنفي أو شافعي أو غيره ، وفي قراءة الفروع ، وفي قراءة الحواشي على هذه الشروح والتعليقات على هذه الحواشي ونحو ذلك ؛ هذا ليس هو الفقه الذي دعا به الرسول - عليه السلام - لابن عباس حين قال : ( اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل ) ، وليس هو الذي عناه الرسول في الحديث الصحيح حين قال : ( من يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهْه في الدين ) ، فإنما هذا الفقه هو الفهم عن الله والرسول ، ومشايخ الزمان إلا القليل يُصرِّحون بأنهم هم ليسوا من أهل الفقه في الكتاب والسنة ، وهم لا يستطيعون أن يفهموا الكتاب والسنة ، وإنَّما واجبهم التقليد ، هذا ما يُصرِّحون به ، وهذا ممَّا نُدينهم به ، نقول : أنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم لستم من أهل العلم ولستم من أهل الفقه ، ولقد جاء أحدهم ممَّن كتب حول هذه المسألة في العصر الحاضر بنكتة بديعة جدًّا ، فقال : لا يوجد اليوم علماء حقيقة ، وإنما العلماء الموجودون اليوم هم علماء مجازًا ، ووالله إنها لأصدَقُ كلمة قيلت من متعصِّب ، يقول لا يوجد اليوم جماعة حقيقيين ، وإنما العلماء الموجودين اليوم هم علماء مجازًا ؛ ذلك لأنَّهم ينقلون قال فلان وقال فلان ؛ لأن العلماء يعرف هذا القائل هم العلماء بكلام الله وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم . إذًا الجماعة هم أهل العلم والفقه .
مَن هم أهل الفقه والعلم ؟ أَهؤلاء الذين يعترفون بأنهم ليسوا من أهل العلم ؟ لا ، إذًا أهل العلم هم الأئمة المجتهدون ، من هنا نُقيم الحجَّة على المقلِّدين ، فنقول لهم : أنتم لا حظَّ لكم في دعوة الجماعة التي أخبَرَ الرسول - عليه السلام - بأن دعوتهم تُحيط من وراءهم ، لماذا ؟ لأنهم ليسوا متمسِّكين بالجماعة ، الجماعة هم أهل الفقه والعلم ، وأهل الفقه والعلم ليس هو أبو حنيفة فقط ، ولا هو الإمام مالك فقط ، ولا هو الإمام الشافعي فقط ، ولا الإمام أحمد فقط ، ولا هؤلاء الأربعة فقط ، هناك سفيان الثوري وابن عينة وعبد الرحمن بن مهدي عبد الله بن المبارك وما شاء الله من أهل العلم والفقه ، هؤلاء الأئمة كلهم هم الجماعة ، فما كانوا عليه يجب علينا أن نتمسَّكَ به .
ووقع بينهم - مع الأسف - شيء من الاختلاف ، وهو حينما نرضى هذا الاختلاف نعتقد أنه أمر طبيعي ، ولكن اختلافهم لم يكن كاختلاف المتأخِّرين ، اختلافهم كان في سبيل معرفة الحقِّ والتعصُّب له لا لغيره ، أما اختلافنا اليوم فليس كذلك ، اختلافهم اليوم ليظلَّ كلُّ منتسبٍ منهم إلى فهم إلى إمام متمسِّكًا بغير إمامه ، هكذا سمعنا بعضهم يسخر ليقول : إنه يتمسَّك بذيل هذا الإمام ، نحن نقول : لا نتمسَّك بذيل أحد أبدًا ، مهما كان عظيمًا ، وإنما نتمسَّك بالكتاب والسنة ، زايد الجماعة ؛ لأن تمسُّك بالجماعة عصمة لنا من أن ننحرفَ يمينًا أو يسارًا ؛ إذًا الجماعة بتفسير الرسول - عليه السلام - هي ما كان عليه الرسول وأصحابه ، الجماعة بتفسير ابن مسعود - وهذا يدخل في مخِّ أيِّ إنسان - يقول : الجماعة مَن كان الحقُّ معه ، ولو كان وحده . الجماعة في تفسير أهل العلم هم أهل الفقه والعلم .
إذًا إذا قيل لنا : خالفتم الجمهور . نقول لهم : من هم الجمهور ؟ آلذين نعيش نحن بين ظهرانيهم الآن ؟ ليسوا هؤلاء ، الجمهور إذا فسَّرنا لفظة الجماعة بالجمهور نقول : هم الذين كانوا على الكتاب والسنة ، وهم الأئمة ، لكن لا نُنكر واقعًا أنَّ الأئمة اتفقوا في أكثر المسائل ؛ خاصَّة ما كان منها في العقيدة ، لكنهم اختلفوا في كثير من المسائل الفقهية ، واختلفوا في قليل من المسائل الاعتقادية ، وضربت لكم مثلًا واحدًا فيما يتعلَّق باختلافهم في الاعتقاد ؛ ألا وهو الإيمان ؛ حينَ ذاك ماذا نعمل إذا كان هؤلاء الأئمة أنفسهم اختلفوا ؟ ربُّنا - عز وجل - أوجد لنا نصرًا في نصٍّ صحيح في القرآن الكريم : (( فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) .
هذا الكلام لنُبيِّن فقط الجماعة التي حارَ جماهير المسلمين اليوم في فهمِها ليقفوا عند هذا الفهم الصحيح ، وليُحاولوا أن يلزموا هذه الجماعة بالمفهوم الصحيح ؛ لكي تنالَهم دعوتهم التي سبقتنا بقرون طويلة ، أما مَن لم يلزم الجماعة بهذا المعنى الصحيح فسوف يكون بعيدًا عن أن تتناوله دعوة تلك الجماعة التي يجب أن نلزمَ منهجها وخطَّتها .
إذا عرفنا هذا المعنى من الناحية العلمية عرفنا بعد ذلك ما هو الموقف الذي يجب أن نقيسَه نحن اليوم بالنسبة للجماعات والأحزاب القائمة اليوم في أرض الإسلام وهي كثيرة ؛ فأقول : كلُّ جماعة تنتسب إلى هذه الجماعة في منهجها وخطَّتها وتطبيقها لهذه الخطة فهي الجماعة مهما كانت ؛ قليلة أو كثيرة قريبة أو بعيدة ، المهم أن تتمسَّك بهذا المنهج أن تلزمَ الجماعة ، فهذا الحديث يؤكِّد هذا المعنى الذي يذكره ابن القيم في شعره الرائع الجميل :
" العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة "
فلا يكفي لأيِّ جماعة في الدنيا أن تقنع في دعوتها أنَّها على الكتاب والسنة للسبب الذي ذكرناه آنفًا ، فلا بدَّ أن تضمَّ إلى منهجها إلى الكتاب والسنة الجماعة ؛ وهي الصحابة ، فأيُّ جماعة إذًا اليوم على وجه الأرض تتمسَّك بهذا المنهج الكتاب والسنة والجماعة ليس فقط دعوة مجرَّدة عن التطبيق ، وإنما دعوة مُقترنة بالتطبيق والعمل ؛ فهي الجماعة التي تكون أوَّلًا من الفرقة الناجية ، وتكون - أيضًا - من هذه الفرقة التي دعا الرسول - عليه السلام - لها بالرحمة وبالنَّضارة ، مَن توفَّرت فيه هذه الخِصال الثلاث : إخلاص العمل لله ، والنصح لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ؛ علَّل ذلك لأنَّ فائدة توفُّر هذه الخِصال الثلاث قوله : ( فإنَّ دعاءهم تُحيط مَن وراءهم ) .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 33
- توقيت الفهرسة : 00:17:38
- نسخة مدققة إملائيًّا