ما هي أدلة ثبوت مفهوم المخالفة ؟ وما الأرجح أثبوتها أو عدمها ؟ وما شروط تطبيقها ؟
A-
A=
A+
الشيخ : يقول السَّائل هنا : ما هي أدلة ثبوت مفهوم المخالفة ؟ وما الأرجح أثبوتها أو عدمها ؟ وما شروط تطبيقها ؟
هذه في الواقع من المسائل الأصولية الفقهية التي اختلف الحنفية مع جمهور العلماء فيها ، فالجمهور ذهبوا إلى أن الأصل في المفهوم إنما هو الاحتجاج به ، وأقول : الأصل ؛ ذلك لأن لكل قاعدة شواذ ، وذلك لا يُخرِجُها عن أصلها ، فالأصل بمفهوم المخالفة الاحتجاج به عند الجمهور خلافًا للحنفية ، ونحن نرى أن الأرجح ما عليه الجمهور لا لأننا جمهوريون ؛ وإنما لأننا نتَّبع الراجح من الأقوال سواء كان مع الجمهور أو مع القليل ، لكن الواقع هنا أن الصواب مع الجمهور الذين يقولون بالاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وذلك لصحة الدليل على ذلك من السنة الصحيحة .
فقد روى الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله - تعالى - : (( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )) ، (( إِنْ خِفْتُمْ )) هذا شرط ، مفهومه أنه إن لم تخافوا المشركين فلا تقصروا وعليكم جناح ؛ إن خفتم فلا جناح عليكم ، مفهومه أن عليكم جناح إذا قصرتم ولم تخافوا من المشركين .
فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما وجدوا أنفسهم قد نصره الله على عدوهم ووطَّدَ لهم إسلامهم في أرضهم ، ولم يبْقَ فيهم خوفٌ على أنفسهم من أعدائهم ؛ فما كان فعلُهم قبل ذلك وهم بصورة خاصَّة في العهد المكي ، فقد اطمأنوا بعد أن وطَّد الله - عز وجل - للإسلام في المدينة المنورة وفي غيرها . جاء هذا السؤال إلى عمر فقال : يا رسول الله ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟! ربنا يقول : (( إِنْ خِفْتُمْ )) ، نحن الآن لا نخاف ؛ فما بالنا لا نزال نقصر ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - جوابًا على هذا السؤال القائم على الاعتداد بمفهوم المخالفة ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ قال - عليه السلام - : ( صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) .
الشاهد من هذا الحديث أن عمر بن الخطاب كما هو معروف هو من كبار الصحابة ، ومن العرب الأقحاح ؛ فهو نراه قد اعتدَّ بمفهوم المخالفة ، ولولا ذلك لم يتوجَّه بذاك السؤال ، أنا أقول مِن باب البيان وتوجيه النصيحة : لو كان عمر بن الخطاب حنفيَّ المذهب في هذه المسألة لَمَا توجَّه بهذا السؤال إلى الرسول - عليه السلام - ؛ لأنهم يقولون : مفاهيم الكتب والنصوص معتبرة ، أما مفاهيم الكتاب والسنة فهي غير معتبرة ؛ فلو كان عمر بن الخطاب يرى هذا الرأي لَمَا توجَّه بمثل هذا السؤال ، ولو أنه سأل فأخطأ لَكان الرسول - عليه السلام - قد اعترض عليه ويقول له كما قال في مواطن أخرى له أو لغيره أخطأتَ ؛ حيث سألت بناء على مفهوم المخالفة ، ومفهوم المخالفة ليس بحجة ، ولكن لم يكن شيء من ذلك إطلاقًا . عمر بناءً على عروبته الأصيلة توجه إلى نفسه هذا السؤال ، فقدَّمَه بين يدي نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - ليزول به عنه إشكال ؛ فقال : ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ قال- عليه السلام - مجيبًا أوَّلًا على السؤال ، ومقرًّا له ثانيًا كما أشرنا آنفًا ، ولو كان السؤال خطأً لَرَدَّه عليه ، فإذ أقرَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عمر بن الخطاب على مثل هذا السؤال لَكان هذا السؤال قائمًا على الاعتداد بمفهوم المخالفة ، كان في هذا السؤال وفي إقراره وفي الإجابة عليه تدليلًا ودعمًا من الجمهور الذين يقولون : مفهوم المخالفة حجة ، هذا هو الأصل .
لا أريد أن أدخل الآن فيما دل عليه الحديث ، وهل القصر في الصلاة قصر الصلاة في السفر هو رخصة كما يقول الشافعية أم عزيمة كما يقول الحنفية ؟! فنحن هنا مع الحنفية ؛ القصر في السفر عزيمة ، والذي لا يقصر في السفر فهو عاصٍ ، لا أريد أن أدخل في هذا ، لكن أردت أن أضرب لكم مثلًا أنَّنا لسنا أصحاب أهواء ، ولسنا أصحاب عصبية مذهبية ، فأنا حنفي ، حنفي بالمئة مئة ، ذاك شافعي فهو شافعي ؛ لا ، نحن أتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - ، فما صح لدينا عنه اتَّبعناه سواء كان حنفيًّا ... الحنيفة ، أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا على النمط الذي أسَّسَه لنا الإمام الشافعي - رحمه الله - حينما دلَّ في جملة ما دلَّ على فضله وعلمه بقوله لإمام السنة الإمام أحمد قال له الإمام الشافعي : " يا أحمد ، أنت أعلم مني بالحديث ، فإذا صح الحديث عندك فأخبرني به سواء كان حجازيًّا أم كان شاميًّا أم كان مصريًّا أم بصريًّا " أو نحو ذلك . هذا هو التجرُّد والإفراط في الاتباع للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دون أيِّما تعصب لإمام من أئمة المسلمين ، فكلُّهم أئمتنا ، وكل فرد منهم يجب أن يستفيد من علمه الذي خَصَّه الله به ، والتعصب المذهبي يحرِّم على المتعصبين أن يستفيدوا من الأئمة الآخرين ، ولا يخفى على كلِّ مبصر ما في ذلك أوَّلًا من ... بالعلم وما في ذلك من الابتعاد عن اتباع نصوص الكتاب والسنة التي تأمرنا باتباعها أينما كانت .
أقول : هذا الحديث كان دليلًا صحيحًا صريحًا على أن المذهب الراجح في مفهوم المخالفة هو الاحتجاج به . الذين يذهبون إلى مخالفة ما دل عليه هذا الحديث لهم طبعًا حجتهم ، ولا أريد أن أقول لهم : شبهتهم ؛ لأن العلماء الذين يختلفون في المسألة الواحدة على أقوال عدة لا بد أن لكل واحد منهم دليله عنده في ذات نفسه ، لكن بعد البحث العلمي المجرَّد عن التعصُّب والميل لهذا أو لذاك يتبيَّن أن الدليل الصحيح يكون مع شخص ، والأدلة الأخرى هي ليست من الأدلة القائمة في شيء ، لكن بالنسبة للمجتهد لا بد أن يكون لديه دليل ؛ فما دليل الحنفية الذين يذهبون إلى أن نصوص المخالفة ليس بحجة ؟
لهم أدلة ، لكن هذه الأدلة لا تناهض الدليل السابق ، ولكن ... لأننا قلنا : إن الأصل في هذه القاعدة أن يُؤخذ بها ، ولكل قاعدة شواذ قلنا آنفًا ، فَهُم أخذوا بالشواذ ؛ مثلًا :
قال الله - تبارك وتعالى - : (( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ )) ، مفهومه : أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر له برهان عليه فليس عليه ذلك العقاب المذكور في تمام الآية ؛ نقول : الأصل في الاعتداد بالمفهوم إلا إذا قام الدليل على عدم الاعتداد بالمفهوم . ومثل هذا نهيه - تبارك وتعالى - في قوله : (( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً )) ، مفهومه : أنه إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة فلا بأس من أكله .
هذه المفاهيم لم يأخذ بها عالم من علماء المسلمين وهو الحق ، لكن هذا لا يُبطل ما دلَّ عليه الحديث السابق ، وإنما يدل أن ما دل عليه الحديث السابق لا يدل على أن الأخذ بالمفهوم قاعدة مطَّردة دائمًا وأبدًا لا يشذُّ عنها أي شيء ؛ لا ، وإنما الحديث يدل على أن العرب يفهمون من مفهوم المخالفة ما أُرِيدَ به ، لكن أحيانًا قد يقوم الدليل على عدم الأخذ به ، وهذا له أمثلة في أصول الفقه كثيرة ، مثلًا :
النص العام هل هو حجة لجميع مفرداته وأجزائه أم لا ؟ الجواب : نعم ، النَّص العام دليل يشمل جميع أجزائه ، لكن هل هذا دائمًا وأبدًا ؟ الجواب : لا ، قد يأتي نصٌّ فيخصِّص هذا النص العام فيصبح عامًّا مخصوصًا ، والأمثلة على هذه كثيرة أيضًا ، ولا أريد أن أطيل فيها .
وحسبُنا الآن أن تتذكَّروا هذا الحديث الذي لم يسَعْ بعض المنصفين مِن أصحاب أو مِن أتباع المذهب الحنفي المتأخرين إلا أن صرَّح بأن هذا الحديث حجة للذين ذهبوا إلى الاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وأعني به الرجل الفاضل " أبو الحسن السندي " صاحب الحواشي على الكتب الستة المشهورة ؛ وبخاصَّة منها حاشيته على " صحيح البخاري " ، وحاشيته على " صحيح مسلم " ، وحاشيته على " سنن النسائي " ، وحاشيته على " سنن ابن ماجة " ، فقد صرَّح هذا الرجل في حاشيته على " صحيح مسلم " أن هذا الحديث حجة لِمَا ذهب إليه الجمهور من الاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وقد علمتم أنه حجة إلا عندما يُوجد ما يعارضه .
ولعل آخر السؤال : وما شروط التطبيق ؟
قد عرفتم جوابه ، وهو ألا يكون لهذا المفهوم مخالف من المنطوق ، فإذا تعارض منطوق ومفهوم كان الدليل المنطوق مقدَّمًا على الدليل المفهوم ؛ لأنه أصرح في الدلالة ، فمثلًا : (( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً )) ، مفهومه : لا بأس من أن تأكلوه إذا كان دون ذلك ، فإذا نظرنا إلى مثل قوله - تعالى - : (( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )) ؛ إذًا هذه الآية تفيد أنَّ الله أباح فقط للمُرَابي رأس المال ، ولم يُبِحْ له فوق ذلك ولا درهم واحد ، وأكَّدَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها تهديده - عليه السلام - بأن مَن يأكل الربا ولو درهم واحد فهو أشد من ستٍّ وثلاثين زنية أو نحو ذلك من العدد ، فقد أُخبِر فيه الآن .
فهذه نصوص تنطق صراحةً في تحريم الربا قليله وكثيره ؛ فإذًا ذاك المفهوم ليس بحجة ؛ أن هذا هو شرط التطبيق لقاعدة لمفهوم المخالفة وأنه حجة .
هذه في الواقع من المسائل الأصولية الفقهية التي اختلف الحنفية مع جمهور العلماء فيها ، فالجمهور ذهبوا إلى أن الأصل في المفهوم إنما هو الاحتجاج به ، وأقول : الأصل ؛ ذلك لأن لكل قاعدة شواذ ، وذلك لا يُخرِجُها عن أصلها ، فالأصل بمفهوم المخالفة الاحتجاج به عند الجمهور خلافًا للحنفية ، ونحن نرى أن الأرجح ما عليه الجمهور لا لأننا جمهوريون ؛ وإنما لأننا نتَّبع الراجح من الأقوال سواء كان مع الجمهور أو مع القليل ، لكن الواقع هنا أن الصواب مع الجمهور الذين يقولون بالاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وذلك لصحة الدليل على ذلك من السنة الصحيحة .
فقد روى الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله - تعالى - : (( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )) ، (( إِنْ خِفْتُمْ )) هذا شرط ، مفهومه أنه إن لم تخافوا المشركين فلا تقصروا وعليكم جناح ؛ إن خفتم فلا جناح عليكم ، مفهومه أن عليكم جناح إذا قصرتم ولم تخافوا من المشركين .
فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما وجدوا أنفسهم قد نصره الله على عدوهم ووطَّدَ لهم إسلامهم في أرضهم ، ولم يبْقَ فيهم خوفٌ على أنفسهم من أعدائهم ؛ فما كان فعلُهم قبل ذلك وهم بصورة خاصَّة في العهد المكي ، فقد اطمأنوا بعد أن وطَّد الله - عز وجل - للإسلام في المدينة المنورة وفي غيرها . جاء هذا السؤال إلى عمر فقال : يا رسول الله ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟! ربنا يقول : (( إِنْ خِفْتُمْ )) ، نحن الآن لا نخاف ؛ فما بالنا لا نزال نقصر ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - جوابًا على هذا السؤال القائم على الاعتداد بمفهوم المخالفة ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ قال - عليه السلام - : ( صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) .
الشاهد من هذا الحديث أن عمر بن الخطاب كما هو معروف هو من كبار الصحابة ، ومن العرب الأقحاح ؛ فهو نراه قد اعتدَّ بمفهوم المخالفة ، ولولا ذلك لم يتوجَّه بذاك السؤال ، أنا أقول مِن باب البيان وتوجيه النصيحة : لو كان عمر بن الخطاب حنفيَّ المذهب في هذه المسألة لَمَا توجَّه بهذا السؤال إلى الرسول - عليه السلام - ؛ لأنهم يقولون : مفاهيم الكتب والنصوص معتبرة ، أما مفاهيم الكتاب والسنة فهي غير معتبرة ؛ فلو كان عمر بن الخطاب يرى هذا الرأي لَمَا توجَّه بمثل هذا السؤال ، ولو أنه سأل فأخطأ لَكان الرسول - عليه السلام - قد اعترض عليه ويقول له كما قال في مواطن أخرى له أو لغيره أخطأتَ ؛ حيث سألت بناء على مفهوم المخالفة ، ومفهوم المخالفة ليس بحجة ، ولكن لم يكن شيء من ذلك إطلاقًا . عمر بناءً على عروبته الأصيلة توجه إلى نفسه هذا السؤال ، فقدَّمَه بين يدي نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - ليزول به عنه إشكال ؛ فقال : ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ قال- عليه السلام - مجيبًا أوَّلًا على السؤال ، ومقرًّا له ثانيًا كما أشرنا آنفًا ، ولو كان السؤال خطأً لَرَدَّه عليه ، فإذ أقرَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عمر بن الخطاب على مثل هذا السؤال لَكان هذا السؤال قائمًا على الاعتداد بمفهوم المخالفة ، كان في هذا السؤال وفي إقراره وفي الإجابة عليه تدليلًا ودعمًا من الجمهور الذين يقولون : مفهوم المخالفة حجة ، هذا هو الأصل .
لا أريد أن أدخل الآن فيما دل عليه الحديث ، وهل القصر في الصلاة قصر الصلاة في السفر هو رخصة كما يقول الشافعية أم عزيمة كما يقول الحنفية ؟! فنحن هنا مع الحنفية ؛ القصر في السفر عزيمة ، والذي لا يقصر في السفر فهو عاصٍ ، لا أريد أن أدخل في هذا ، لكن أردت أن أضرب لكم مثلًا أنَّنا لسنا أصحاب أهواء ، ولسنا أصحاب عصبية مذهبية ، فأنا حنفي ، حنفي بالمئة مئة ، ذاك شافعي فهو شافعي ؛ لا ، نحن أتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - ، فما صح لدينا عنه اتَّبعناه سواء كان حنفيًّا ... الحنيفة ، أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا على النمط الذي أسَّسَه لنا الإمام الشافعي - رحمه الله - حينما دلَّ في جملة ما دلَّ على فضله وعلمه بقوله لإمام السنة الإمام أحمد قال له الإمام الشافعي : " يا أحمد ، أنت أعلم مني بالحديث ، فإذا صح الحديث عندك فأخبرني به سواء كان حجازيًّا أم كان شاميًّا أم كان مصريًّا أم بصريًّا " أو نحو ذلك . هذا هو التجرُّد والإفراط في الاتباع للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دون أيِّما تعصب لإمام من أئمة المسلمين ، فكلُّهم أئمتنا ، وكل فرد منهم يجب أن يستفيد من علمه الذي خَصَّه الله به ، والتعصب المذهبي يحرِّم على المتعصبين أن يستفيدوا من الأئمة الآخرين ، ولا يخفى على كلِّ مبصر ما في ذلك أوَّلًا من ... بالعلم وما في ذلك من الابتعاد عن اتباع نصوص الكتاب والسنة التي تأمرنا باتباعها أينما كانت .
أقول : هذا الحديث كان دليلًا صحيحًا صريحًا على أن المذهب الراجح في مفهوم المخالفة هو الاحتجاج به . الذين يذهبون إلى مخالفة ما دل عليه هذا الحديث لهم طبعًا حجتهم ، ولا أريد أن أقول لهم : شبهتهم ؛ لأن العلماء الذين يختلفون في المسألة الواحدة على أقوال عدة لا بد أن لكل واحد منهم دليله عنده في ذات نفسه ، لكن بعد البحث العلمي المجرَّد عن التعصُّب والميل لهذا أو لذاك يتبيَّن أن الدليل الصحيح يكون مع شخص ، والأدلة الأخرى هي ليست من الأدلة القائمة في شيء ، لكن بالنسبة للمجتهد لا بد أن يكون لديه دليل ؛ فما دليل الحنفية الذين يذهبون إلى أن نصوص المخالفة ليس بحجة ؟
لهم أدلة ، لكن هذه الأدلة لا تناهض الدليل السابق ، ولكن ... لأننا قلنا : إن الأصل في هذه القاعدة أن يُؤخذ بها ، ولكل قاعدة شواذ قلنا آنفًا ، فَهُم أخذوا بالشواذ ؛ مثلًا :
قال الله - تبارك وتعالى - : (( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ )) ، مفهومه : أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر له برهان عليه فليس عليه ذلك العقاب المذكور في تمام الآية ؛ نقول : الأصل في الاعتداد بالمفهوم إلا إذا قام الدليل على عدم الاعتداد بالمفهوم . ومثل هذا نهيه - تبارك وتعالى - في قوله : (( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً )) ، مفهومه : أنه إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة فلا بأس من أكله .
هذه المفاهيم لم يأخذ بها عالم من علماء المسلمين وهو الحق ، لكن هذا لا يُبطل ما دلَّ عليه الحديث السابق ، وإنما يدل أن ما دل عليه الحديث السابق لا يدل على أن الأخذ بالمفهوم قاعدة مطَّردة دائمًا وأبدًا لا يشذُّ عنها أي شيء ؛ لا ، وإنما الحديث يدل على أن العرب يفهمون من مفهوم المخالفة ما أُرِيدَ به ، لكن أحيانًا قد يقوم الدليل على عدم الأخذ به ، وهذا له أمثلة في أصول الفقه كثيرة ، مثلًا :
النص العام هل هو حجة لجميع مفرداته وأجزائه أم لا ؟ الجواب : نعم ، النَّص العام دليل يشمل جميع أجزائه ، لكن هل هذا دائمًا وأبدًا ؟ الجواب : لا ، قد يأتي نصٌّ فيخصِّص هذا النص العام فيصبح عامًّا مخصوصًا ، والأمثلة على هذه كثيرة أيضًا ، ولا أريد أن أطيل فيها .
وحسبُنا الآن أن تتذكَّروا هذا الحديث الذي لم يسَعْ بعض المنصفين مِن أصحاب أو مِن أتباع المذهب الحنفي المتأخرين إلا أن صرَّح بأن هذا الحديث حجة للذين ذهبوا إلى الاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وأعني به الرجل الفاضل " أبو الحسن السندي " صاحب الحواشي على الكتب الستة المشهورة ؛ وبخاصَّة منها حاشيته على " صحيح البخاري " ، وحاشيته على " صحيح مسلم " ، وحاشيته على " سنن النسائي " ، وحاشيته على " سنن ابن ماجة " ، فقد صرَّح هذا الرجل في حاشيته على " صحيح مسلم " أن هذا الحديث حجة لِمَا ذهب إليه الجمهور من الاحتجاج بمفهوم المخالفة ، وقد علمتم أنه حجة إلا عندما يُوجد ما يعارضه .
ولعل آخر السؤال : وما شروط التطبيق ؟
قد عرفتم جوابه ، وهو ألا يكون لهذا المفهوم مخالف من المنطوق ، فإذا تعارض منطوق ومفهوم كان الدليل المنطوق مقدَّمًا على الدليل المفهوم ؛ لأنه أصرح في الدلالة ، فمثلًا : (( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً )) ، مفهومه : لا بأس من أن تأكلوه إذا كان دون ذلك ، فإذا نظرنا إلى مثل قوله - تعالى - : (( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )) ؛ إذًا هذه الآية تفيد أنَّ الله أباح فقط للمُرَابي رأس المال ، ولم يُبِحْ له فوق ذلك ولا درهم واحد ، وأكَّدَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها تهديده - عليه السلام - بأن مَن يأكل الربا ولو درهم واحد فهو أشد من ستٍّ وثلاثين زنية أو نحو ذلك من العدد ، فقد أُخبِر فيه الآن .
فهذه نصوص تنطق صراحةً في تحريم الربا قليله وكثيره ؛ فإذًا ذاك المفهوم ليس بحجة ؛ أن هذا هو شرط التطبيق لقاعدة لمفهوم المخالفة وأنه حجة .
- نوادر بوابة تراث الإمام الألباني - شريط : 32
- توقيت الفهرسة : 00:02:01