عيد عباسي : ... نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) ، أما بعد :

فإنَّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

هذه كلمة موجزة حول التاريخ الإسلامي ، لعل فيها فائدةً - إن شاء الله - ، وهي على بساطتها تذكير بأمور تهمُّ كل مسلم داعية إلى الله - عز وجل - ؛ فأوَّلًا كلنا يعرف أن التاريخ موضوع حول دراسة أو يدرس تاريخ الأمم الماضية وأخبارها ، وهذه الدراسة لا للتسلية ولا للمتعة ، وإنما الغرض الأصلي الذي تحاول الأمم أن تجعله وأن تهدف إليه مِن وراء هذه الدراسة هو تربية الأجيال الحالية لتكون في المستقبل خير مَن يبني تاريخ هذه الأمة ، وخير مَن يُنشِئ لها مستقبلًا فالحًا تحقِّق فيها أهدافها وآمالها ، فهذه العبرة من دراسة التاريخ ، العبرة ليس للاطِّلاع على حوادث الماضي لمجرَّد الاطِّلاع ، وإنما لأخذ الفائدة والاستفادة من تجارب الماضي وحوادث الغابرين من أجل بناء الواقع والمستقبل الصالح كما يتمنَّاه المربون وكما يتمنَّاه الإنسان المفكِّر السليم .

ولذلك امتلأت آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - العظيم ببيان كثير من أخبار الأمم الماضية وكثير من حوادث الناس والجماعات في عصور سبقت ، كلُّ ذلك لتأخذ الأجيال الحاضرة العبرة منها والفائدة لتبني واقعها وتكون خير أمَّةٍ أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .

الله - عز وجل - يصرِّح بهذه الغاية في قوله - سبحانه - : (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ] وَهُدًى وَرَحْمَةً )) "" للمؤمنين "" ؛ فإذًا هذه الحوادث التي تمتلئ بها آيات الكتاب المبين ، قصص الأنبياء ، قصص الأقوام السالفة ، قصص الصالحين ، جهاد المؤمنين مع الكافرين ؛ هذا الصراع بين الحق والباطل الذي مَلَأَ تاريخ البشر والذي يستمرُّ عليه التاريخ إلى أن يَبعثَ الله الأرض ومَن عليها كله يعطينا دراسة هذا التاريخ كله الغرض منه أخذ العبرة وأخذ الفائدة ، بيان هذه المواعظ التي يريد الله - عز وجل - أن يلقِّنها للناس ، ولا شك أن هذه المواعظ كلها تنصبُّ حول هذه الفكرة ؛ إن طريق السعادة والصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة هي طريق الهداية التي جاءت بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؛ وخاصَّة رسولنا خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

هذه الطريق هي الطريق المنجية ، هذه الطريق هي طريق السعادة طريق الفلاح طريق الفوز للإنسان وللجماعة في الدنيا والآخرة ، وهذا ما يصرِّح به القرآن في أكثر من موضع كقوله - سبحانه - : (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى * )) ؛ هذه العبر يختم بها الله - عز وجل - كثيرًا من القصص القرآني ، فـ (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )) .

كذلك أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - امتلأت بهذه الحوادث ؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما قال : ( حدثوا عن بين إسرائيل ولا حرج ) ، ومن أكثر أحاديث بني إسرائيل حديث قصصهم ما جرى لهم من حوادث من أخبار من عجائب كلها تنير للإنسان الطريق ، وتوضِّح له الدرب السوي الذي يرضى الله - عز وجل - عنه ، والذي ينجيه في دنياه وأخره .

هذا التاريخ تاريخ المسلمين منذ ظهور الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عدة قرون مما نفخر به ومما نعتز أعظم الفخر وأعظم الاعتزاز ، تاريخ القرون الثلاثة الخيِّرة التي أثنى عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما قال : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) ، هذه القرون الثلاثة الخيِّرة كانت مثالًا للأجيال التي سارت على هدى الله - عز وجل - ، وما من جيلٍ في تاريخ البشرية صَلُحَ بعدده وبمستواه وبتقواه وبإيمانه الصحيح كجيل الصحابة - رضوان الله عليهم - ؛ حتى دعاه بعضهم الجيل المثالي الذي حلم به المفكرون والمصلحون والفلاسفة ؛ ذاك الجيل الإسلامي الأول الذي تتلمذ على يدي الرسول الكريم محمد - صلوات الله وسلامه عليه - .

هذا التاريخ نعدُّه من أزهى تاريخ البشرية ، أو هو أزهاها فعلًا إذا استثنَينا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، والقرآن الكريم شهد بصلاح هؤلاء الأصحاب الكرام حيث أثنى عليهم في أكثر من موضع منها قوله - عز وجل - : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )) .

هذا التاريخ الإسلامي الزاهي الذي أنتَجَ لنا عباقرةً في جميع العلوم وجميع الفنون ، وجميع الأغراض البشرية ، وجميع مجالات الحياة ، في العلم ، في الفقه ، في السياسة ، في الحرب ، في الاقتصاد ، في الخلق في التقوى ؛ ما تجد من علم وما من مجال من مجالات الحياة إلا وتجد من أصحاب الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ؛ خاصَّة ومن تابعيهم وأتباعهم عامة أحسن المُثُل وأفضل النماذج التي هي قدوة لنا وقدوة لباقي الأجيال في الصلاح والاستقامة والإخلاص والتقوى ، في الحرب تجد رجالًا لم يوجد في تاريخ البشرية مثلهم ؛ سعد بن أبي وقاص فاتح العراق ، وخالد بن الوليد فاتح الشام ، وأبو عبيدة وعمرو بن العاص وأمثالهم كثير في فنون الحرب كانوا من ... مَن وُجِدَ على ظهر الأرض .

في العلوم تجد منهم الفقهاء القضاء الحكام العادلون السياسيون ، مَن مثل عمر في ورعه في تقواه في عدالته في مساواته ؟! حتى ضُرِبَ به المثل في الشرق والغرب ، وأبو بكر - رضي الله تعالى - عنه وعثمان وعلي ومعاذ وأُبَي وزيد بن ثابت ، المجاهدون الأولون من الصحابة السابقين بلال وخبَّاب وصهيب وعمار وأكثالهم كثير وكثير ، وهكذا الذين كانوا يجابهون الحكام فيقولون لهم كلمة الحق ، والذين يخوضون مجالات العلم فيستنبطون ويتفقَّهون ؛ فهذا التاريخ الإسلامي الزاهي تاريخ الراشدين نلاحظ - مع الأسف - في واقعنا الحاضر منذ أن سيطَرَ المستعمرون على بلاد الإسلام حتى اليوم نلاحظ - مع الأسف - أنَّ تاريخهم هذا قد شُوِّه وقد غُيِّر وقد أُفسِد ، فلا تكاد تطَّلع عليه في كتب المدارس التي يُدرَّس فيها أولادنا وبناتنا على حقائق هذا التاريخ كما وردَتْ في الكتب الصحيحة وبالأسانيد الثابتة .

وإن مما يُؤسف له أشدَّ الأسف أن ترى التوجيه العام في المدارس في شتى البلدان الإسلامية - إلا ما رحم ربي - تجد هذا التوجيه ينصبُّ حول إهمال التاريخ الإسلامي ، ومع هذا الإهمال تشويهه وإفساده وتحريفه والتلاعب بتفسيره وتحليله ؛ فمن الملاحظات في ذلك أنهم قد جعلوا دراسة هذا التاريخ الإسلامي في السنوات التي يكون فيها الطالب صغير السِّنِّ لم يَعِ بعد على حقائق الحياة حتى يتأثَّر بها وينفعل ويحملها في فكره ، وينادي بها في واقعه وسلوكه ، فتجدهم - مثلًا - في الصف الثاني الإعدادي أو ما شابه ذلك ، أما الصفوف التي يكن فيها قد نَضَجَ الطالب وارتقى وأصبح يتأثَّر لِيبنِيَ فكره وطريقه في الحياة فتجده إما مملوءًا بتاريخ من مادة التاريخ تاريخ الأمم القديمة أصول الفراعنة ، والهكسوس والآشوريين والبابليين والآموريين وما شابه ذلك ، أو بالتاريخ الحديث الذي امتلأ بالاتجاه القومي والتأثير الغربي العلماني الماسوني في بلاد الإسلام ؛ فكلُّ هذا يغطِّي على ما درسه الطالب من التاريخ الإسلامي .

كما قلت يُدرَّس منه شكل مختصر ومشوَّه ومحرَّف في هذه السنوات الأولى التي يكون الطفل ما يزال فيها أقرب إلى السَّذاجة وأقرب إلى السطحية ؛ فما تأتي تواريخ العصور التالية حتى تغطِّي على ذاك معلوماته السابقة وتضمحلُّ .

هذا النقد الأول ؛ أنهم يجعلون دراسة التاريخ الإسلامي في سنوات لا يكون فيها قصدي الطالب قد نضح وقد وعى ووصل إلى المستوى السليم الذي يتأثر به والذي يستفيد منه ويبني عليه شخصيته .

الشي الثاني : أنهم حرَّفوا هذا التاريخ ، والدليل على ذلك أنك إذا راجعتَ كتبَ التاريخ التي تدرَّس التاريخ الإسلامي خاصَّة وإلى يومنا الحاضر في كتب المدارس في أكثر البلاد الإسلامية تجدهم يفسرونه التفسير الذي ورثوه من الغرب وأخذوه من الشرق من هنا وهناك ، بعضهم يفسره حسب النظرة الاقتصادية والفلسفة الشيوعية ، وبعضهم حسب الفلسفة القومية ، وآخرون حسب فلسفة اجتماعية وأمثال ذلك مما يحرِّف هذا التاريخ ويغيِّر من حقائقه ، ويفسد العبرة التي يمكن أن نبنِيَ منها جيلًا قويمًا يأخذ الاتجاه الصحيح والدروس الصالحة من هذا التاريخ .

فأكثر كتب التاريخ المدرسية - مثلًا - والمراجع الجامعية إنما مصدرها الأكبر هو كتب المستشرقين وتلامذتهم ، حتى المستوى الجامعي ، ومما أذكره في ذلك وأنا كنت أدرس في الجامعة قبل نحو خمس عشرة سنة كان عندنا مادة التاريخ الإسلامي في كان سنة اسمها الثقافة العامة ، أُلغِيَت هذه فيما بعد ، ففي مادة تاريخ من كتب التاريخ الإسلامي والتاريخ بعصوره المختلفة ، فكان مما أقرؤه في كتب من هذي الكتب كتاب " شاكر مصطفى " ، وتعلمون له تأثيره وما يزال ، ينقل حوادث وأخبار عن تلك العصور تصوَّروا إلى أي درجة وصلت التبعية ووصل الانحطاط الفكري ؛ ينقل أخبارًا عن " تاريخ الطبري " المعروف وهو من أكبر مؤرخي المسلمين ينقل جملًا وأخبارًا عن " تاريخ الطبري " من كتاب لمستشرق أظنه " فون كريمر " أو " فلهاوزن " في الكتاب مذكور اسمه ، فيقول - مثلًا - : من كتاب " فلهاوزن " أو " فون كريمر " عن " تاريخ الطبري " كذا !! وهذا أكثر من موضع . فعجبت من هذا ، هذا إذا صرفت النظر عن التحليلات التي يحلِّلون بها الحوادث ، والتفسيرات التي يفسرون بها ؛ فإنك ترى عجبًا ، فهؤلاء هذا وأمثاله من كبار المؤرخين من الذين يدرِّسون التاريخ ؛ أنُّو معلومكم أن مدرسي تاريخ الجامعي هم الذين هم سيتخرَّج على أيديهم مدرِّسو التاريخ في المدارس الثانوية جميعًا ، فهؤلاء أساتذتهم بهذه المثابة !!

أستاذ آخر كان عندنا يدرِّسنا - مثلًا - فيما أعطانا حادث معروفة حادثة " العباسة " أخت " الرشيد " ، ويأخذ نفس الكلام الذي يكتبه مؤرِّخ معروف بعدائه للإسلام وتحرفه لتاريخ المسلمين اسمه " جورجي زيدان " ، ومعرفو هذا الكتاب له روايات تاريخ الإسلام بشتى فصولها وأقطارها يحرِّف هذا التاريخ الإسلامي المجيد لِيجعله قصصًا كباقي تاريخ الأمم السابقة حوادث عظيمة رائعة يتجلَّى فيها الإيمان والإخلاص لله - عز وجل - يصوِّرها على أنها مدفوعة - مثلًا - بحبِّ امرأة أو - مثلًا - بغرام أو حوادث دنيوية أو ما شبه ذلك .

مثلًا من قصص " جورجي زيدان " قصة عن فتح الأندلس ، نسيت عنوانها ، من الحوادث لفتح الأندلس ، كلُّنا نعرف أن الإيمان هو الذي دفع أولئك الأقوام على أن يفتحوا تلك البلاد وينشروا فيها الإسلام ، وينشروا حضارة لمسلمين والثقافة الإسلامية ؛ هذه الغاية هذا الهدف العظيم كله يضمحلُّ في تصوير " جورجي زيدان " ، ويصبح الفتح كله بسبب أو انتصار " طارق بن زياد " بسبب امرأة من حوادث طويلة خلاصته أنُّو كان ملك القوط " لذريق " كان عنده قائد ، وهذا القائد " أوريان " اسمه كان يعشق واحدة وهي تحبُّه ، وكان هذا ساءت العلاقة بينه وبين " لذريق " ؛ لأنه أراد أن يعتدي على زوجته هذه أو معشوقته ، ففرَّت منه إلى مدينة أظن " سبتة " ، وكان المسلمون في سبتة إما هذا القائد كان المسلمون ذهبوا لفتح الأندلس ، فالتقى الجيشان ، وهذه المرأة كأنها اشتاقت لذاك الرجل " أوريان " فتقدَّمت - أيضًا - قريب من المقاتلين ، وصارت تبحث عن " أوريان " في جيش " لذريق " ، وإذ بها تجده من بعيد فتشير إليه ، وفي زحمة المعركة وفي إبَّان الحرب إذ به بسبب تعلُّقه به ، وقد وجدها في صفِّ المسلمين وهي ما تزال نصرانية ؛ ينسحب بقسم كبير من جيشه لينضمَّ إلى جيش المسلمين ، وبهذا كان تحقَّق النصر وانتصر المسلمون وفُتِحت الأندلس بسبب عشيقين كلٌّ منهما في جهة ، فانضمَّ ذاك لجيشه وهُزِم " لذريق " هزيمة منكرة .

هذه قصة من قصص كثيرة فيها التحريف والتغيير والتبديل كما يطيب لهم الهوى وكما يوسوس لهم الشيطان ، ولا نشكُّ أن عِدَاءهم للإسلام هو الذي يدفعهم لهذا التحريف ، والله - عز وجل - يحذِّرنا أشد الحذر من أن نأمن لكافر أو نأخذ علمنا عن فاسق ، فيقول الله - سبحانه وتعالى - مثلًا : (( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ )) .

والنهي عن الموالاة في أشياء كثيرة (( لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ومن الموالاة أن نأخذ منهم تاريخنا ثقافتنا أدبنا مصادر علومنا ؛ فهؤلاء يجب أن نعلم أنهم أعداء لنا ، (( مَا يَوَدُّ )) كما قال - تعالى - وهو أصدق القائلين : (( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ] أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ )) ، (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )) ، هؤلاء صاروا مصادرَنا ، صاروا هم مراجعَنا !! فإذا قمت لأحدهم : هذا - مثلًا - نصراني هذا غير مسلم ؛ اتهمك بالرجعية والجمود والتعصب والطائفية ؛ مع أنهم هم أنفسهم هؤلاء النصارى أو اليهود لا تجد أحدًا منهم يأخذ مصدرًا من مسلم أو يتتلمذ لمؤمن ، ولعلكم تذكرون حينما الأوروبيون تأثَّروا بالمسلمين في حضارتهم في الحروب الصليبية وفي احتكاك المسلمين بالأندلس ، ماذا فعل الأوروبيون ؟ هذه عبرة لنا ، انظروا ؛ أخذوا كل العلوم الدنيوية من المسلمين ، أما دينهم أما ثقافتهم أما أفكارهم فلم يأخذوها .

كانوا ممن يدرس يأتي ليدرس في الجامعات الإسلامية قساوسة وباباوات ، وأذكر نحو أكثر من عشر بابوات تخرَّجوا من جامعات المسلمين في " قرطبة " و " الأندلس " وما أحد منهم أخذ من المسلمين دينهم ولا ثقافتهم ، كان يأتي يأخذ الثقافة التي يريدها والعلوم الدنيوية ، والفلسفة - أيضًا - اليونانية التي هي فلسفة أجداده وآبائه ، ويرجع هكذا إلى أمَّته لينهضَ بها من جديد على أساس أفكارها وثقافتها دون أن يتأثَّر بثقافة هؤلاء الذين أخذ عنهم العلم وأخذ عنهم الثقافة .

فهؤلاء الكفار هكذا فعلوا ، فلم نحن حينما نذهب أولادنا أبناؤنا يذهبون ليدرسوا في بلاد أوربا يأتي أحدهم يكون مؤمنًا ، أو من عائلة مسلمة يأتي وقد تبنَّى أفكارًا كافرة ملحدة ، أفكارًا تناقض الإسلام من أساسه ، يتَّهم آباءه وتاريخه وأمته بأنها جامدة رجعية ، هذه الأمة التي لا تجد في تاريخ الأمم الأخرى مثيلًا لها في عدالتها في إنصافها في استقامتها في ورعها في أخلاقها تجد هؤلاء يتَّهمونها بالرجعية والتأخُّر والتعصب .

نتحدَّى العالم كله أن يوجد في تاريخه حاكم عادل مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، يعيش ويتوفى وهو فقير ينام في على حال من أبسط حالات المسلمين من إخوانه ، يأتي عام المجاعة فيجوع كما يجوع إخوانه ، ويُروى أنه مرَّةً جاع فقرقر بطنُه ، فقال لمعدته : " قرقري ما شئت أن تقرقري ؛ فلن تذوقي اللحم حتى يشبعَ المسلمون " ، أو كما قال - رحمه الله تعالى - . هذا الرجل الذي كان يتفقَّد الناس ويعسُّ في الليل ، ويبحث عن الفقير واليتيم والأرملة ليرعاهم ويعيلهم ويحسن إليهم ويصلح أحوالهم ؛ نتحدى العالم أن يُوجد مثله في هذا العدل وفي هذا الإنصاف وفي هذه الاستقامة .

قوَّادنا فاتحونا خالد نتحدى العالم أن يوجد له مثيل - مثلًا - في موقفه حينما عُزِل ووُلِّيَ أبو عبيدة ؛ فما كان منه ألا أن بَقِيَ يقاتل جنديًّا من جنود المسلمين ، ويقول : إنني أقاتل من أجل الله لا من أجل عمر جنديًّا كنت أو قائدًا في سبيل الله - عز وجل - .

ولو كان في أيِّ أمة وقد بلغ هذه القمة من المجد والعظمة حتى كاد الناس يفتنون به ، ويعتقدون أن النصر إنما هو متعلِّق به ؛ فحين وصل لهذه الدرجة ويعزل لو كان في أمة أخرى لَانبرى بالجيش لِيُحدث انقلابًا أو يتولى الحكم ويزيل كلَّ معارض له ومعه الجمهور ومعه الشعبية ومعه الناس المفتتنين به ، لكنَّ إيمانه يردعه يقول : أقاتل في سبيل الله - عز وجل - ؛ أيُّ أمة يوجد فيها مثل هؤلاء الرجال ؟! في العلم ، في الورع ، في التقوى الذين يقفون أمام السلاطين يقولون كلمة الحق لا يخافون إلا الله - عز وجل - ، في جميع مجالات الحياة لو أتيت إليهم لَوجدتهم المثلَ الأعلى والقدوة الناصعة ، ومع ذلك عند عبيد الغرب والشرق يحتقرون هؤلاء يتَّهمونهم بالرجعية ، ويجعلون قدوتهم مَن ؟ مثل أولئك الأقوام الذين همُّهم الدنيا ، همُّهم الزعامة ، همُّهم الأنانية والمنصب والجاه ، وتجد في سيرتهم الثغرات والسقطات والهفوات التي لا تُحتمل ، والتي لا يصلح أن يكون المتصف بها أو الذي تُوجد في حياته ... قائدًا بحال من الأحوال .

" ماركس " ، " بونابرت " ، " لينين " ، " ماو " ، أو " دوري " وأمثال ذلك " رويت " وهؤلاء سيرتهم الشخصية لو تقرؤون عنها لَتجدون أن كما قلت العيوب الكبيرة والسقطات الشنيعة .

من المظاهر أو أشياء التي شوَّه هؤلاء الأعداء تاريخ الإسلام فيها هذا التاريخ الراشدي الزاهر ، ومع الأسف قد وافَقَهم في ذلك بعضُ أبناء المسلمين الذين هم من جلدتنا ، وأعني بهم طوائف الشيعة ، فهؤلاء شاركوا عن عمدٍ أو عن غير عمدٍ في تحقيق مقاصد هؤلاء المستشرقين أعداء الإسلام ، ومع الأسف كثير من كتبنا متأثرة - أيضًا - بالنزعة الشيعية في كتب المدارس وأمثالها ، فتجدهم إذا تعرَّضوا للخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنهم - ... يصفونه بأحسن الأحوال أنُّو والله خليفة صالح لكن ضعيف ، كان يحب أقاربه ينصِّبهم ، يوظِّفهم ، ليسوا بأهل ، فعل كذا فعل كذا ، من كل التُّهم التي يوجِّهها الشيعة إلى هذا الخليفة الراشد دون أن يحقِّق هؤلاء المؤلفون وهؤلاء الكُتَّاب ، هل هذه التهم صحيح أو هي غير صحيحة ؟ ما هي مصدرها ؟ ماذا قال المؤرخون فيها ؟ ما هي أسانيدها ؟ أبدًا ، هكذا يطيب لهم ؛ لماذا ؟

لِيطعنوا في تاريخ الإسلام ، وليحقِّقوا هدفًا للكفار في هذا التاريخ ، لِيخرجوا بهذه النتيجة أن هذا الدين العظيم الذي تتبنَّون به أيها المسلمون هو الطالح ، لا يمكن تطبيقه على أحسن الأحوال ، إذا قلتم : إنه صالح ؛ نقول : نعم ، لكن يصلح أن يوضع على الرَّفِّ لا ليُطبَّق ؛ لأن هؤلاء خير القرون انظروا تاريخهم ؛ لا يوجد في تاريخ الراشدين إلا الحروب والفتن ، حروب الجمل ، حروب عثمان ، حرب صفين ، أما - مثلًا - عثمان - رضي الله عنه - تولى الخلافة ثلاثة عشر سنة ، اقرأ كتب المدارس ماذا يدرِّسون منه ؟ ... رأسًا الفتنة وتولية أقربائه وضعفه ، وخلاف أبي ذرٍّ له ، ويحكمون بحسب أهوائهم ليصلوا إلى الطعن به ، ومن ثَمَّ إلى الطَّعن بالإسلام نفسه ، أنُّو يصير كأنها تتواتر سواء صرَّحوا بها أو لم يصرِّحوا يكون واقع حال الناس وأحيانًا كثيرة واقع قولهم : أخي ، إذا آمنَّا أنُّو الإسلام صالح لكن كما ترون هو مثالي خيالي لا يصلح أن يُطبَّق ؛ ففي أحسن العصور التي فاد فيها الإسلام والتي تربَّى فيها الناس على مبادئه انظروا لا يمكن أن يُطبَّق لم يطبَّق إلا في عهد خليفتين ، أبو بكر سنتين ، وعمر عشر سنين ؛ لأن عثمان شوَّهوا تاريخه ، علي كله فتن كذلك شوَّهوا تاريخه ، أنُّو خليفتين معناه هذا تاريخ خيالي مثالي ، يعني دين خيالي مثالي لا يمكن تطبيقه ، صالح لكن يوضع على الرف لأنُّو ليس واقعيًّا !

وهذه النتيجة كما ترون نتيجة خطيرة تؤثِّر في أفكار الشباب لتصرفهم عن الإسلام من الأساس ؛ إذًا ابحثوا عن مبدأ آخر يصلح لواقعكم ، يتلاءم مع أبنائكم ، مع مستقبلكم ، يفي بمتطلباتكم ، وعندكم هذه الأفكار الغربية هذه الأفكار الشرقية ، وطبعًا هي أحب للناس لأنها تتفق مع أهوائهم مع مصالحهم ، ليس فيها هذه القيود التي يقيِّد بها الشارعُ العبادَ ويربط بها أهواءهم وغرائزهم ، ليكونوا كما يحبُّه الله ويرضاه .

فالخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - قد ظُلِمَ هذه السنين طوالًا والقرون كثيرة ، وأُسِيئَتْ سيرته ، ونحن كناس يدعون إلى منهج السلف الصالح - رضي الله عنه - نعتقد أن عثمان من خيرة سلفنا الصالح ، ويكفي أنه من العشرة المبشرين بالجنة - رضوان الله تعالى عليهم - ، وهو صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي زوَّجَه بنتيه ، ولو كان فيه أي مأخذ لَمَا ... بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتقرَّب إليه بهذه القربى ويزوِّجَه بنتين - رضي الله تعالى عنه - .

كذلك مواقفه في نصرة الإسلام والمسلمين في عصره زهرة الفتوحات ، وفي عصره - أيضًا - عمَّ الرخاء ، والناس وجدوا الأمن والسعة ، وصار لناس يدخلون في دين الله أفواجًا ، وفُتِحت فارس ، واستمرَّت الفتوحات التي كانت بدأت منذ زمن عمر - رضي الله عنه - .

ثم بعض الحسنات لهذا الخليفة العظيم يجعلونها سيئات ، فمثلًا جمع القرآن كتابته وإرساله للأمصار يعدُّونها من السيئات ، أذكر من أسباب الثورة التي يروونها على عثمان أنُّو ... المصاحف هذا شيء جديد لم يكن ، مع أنها منقبة له - رضي الله تعالى عنه - ؛ إذ بمثل هذا العمل حُفِظَ القرآن الكريم وصانَه الله - عز وجل - أن يضيعَ كما ضاعت كتب الأقوام السابقة .

من بعض المآخذ التي يذكرونها عنه أشياء بشرية لا يمكن أن يخلو منها إنسان ، مثلًا مما نقَمَ منه الثوار كما تروي هذه الكتب أنه أضاع الخاتم الذي كان هو خاتم الرسول - عليه السلام - في بئر .

ما أدري إذا هَيْ الحادثة صحيحة ؟

الشيخ : صحيحة .

عيد عباسي : وماذا أن يقع من إنسان خطأً عن غير عمد خاتم ؟! هل هذا يُحاسب عليه ؟! بأيِّ شريعة بأيِّ عقل ؟ هذه من مساوئه !! ثم يصوِّرونه على أنه كأنُّو رجل رأسمالي ، عدو العمال ، عدو الفلاحين ؛ أنُّو عارض أبو ذرٍّ في مذهبه عن الأموال ، ولعلكم تسمعون بهذا المذهب مذهب أبي ذرٍّ الذي يطنطن حوله كثيرون ، ويحرِّفونه ويصوِّرونه على أنه هو الاشتراكية التي ينادون بها ويفخرون ، مع أنه رأي فقهي واجتهاد خاص بأبي ذرٍّ - رضي الله عنه - ، ويجب أن نعلم - أيضًا - أن هذا الاجتهاد كان خاطئًا ؛ لأنه يخالف الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة كما يُخالف رأيَ بقية الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم - ، وهم أكثر منه علمًا وعددًا ، وفيهم - أيضًا - بعض الخلفاء الراشدين الذين قال هذا القول في زمنهم كعثمان وعلي .

وخلاصة قول أبي ذر هذا : أنه يرى أنه لا يجوز لإنسان أن يكنز مالًا يزيد عن حاجته ، ويسمِّيه كنز ، ويجعل الآية الكريمة يطبِّق عليه قوله - عز وجل - : (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ )) ، هذه الآية الكريمة يفسرها باجتهاد منه - رضي الله عنه - على أنها وعيد شديد لكلِّ مَن حوى مالًا زائدًا عن حاجته سواء أدَّى زكاته أو لم يؤدِّها ، وهذا الرأي - كما قلنا - تفرَّدَ به أبو ذرٍّ - رضي الله عنه - ، وهو مخالف للأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح - رضي الله عنه - ؛ فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أيُّما مالٍ بلغَ أن تُؤدى زكاته فليس ) .

الشيخ : ( فأُدِّيت زكاته ) .

عيد عباسي : نعم ، ( فأُدِّيت زكاته فليس بكنز ) أو كمال قال - عليه الصلاة والسلام - .

وهناك أثر عن عمر - رضي الله عنه - بمثل هذا المعنى ، وفيه تقرير أن المال لا بأس بتوفيره وادِّخاره إذا أُدِّيَت زكاته ، وأنه لا عقوبة عليه ، ويكفي أن هذه العقوبة هي الزكاة ، يعني هو الإسلام الذي يُلاحظ في تشريعاته المختلفة أنه يشجِّع على تشغيل المال وعلى تنميته وعلى المشاركة فيه ، وعلى جعله يُتداول تتداوله أيدي الناس ؛ فَمَن خاف على ماله أو رغب أن يوفِّر ويدَّخر فيتحمَّل أن يُعطِيَ من هذا المال الزكاة السنوية من زكاة النقود اثنان ونصف ، ومن غيرها ما هو مفصَّل في كتب الفقه ، فهذا كأنها عقوبة للادِّخار ، ولا عليه بعد ذلك أيُّ شيء ، وهو قد أعطى الفقراء حظَّهم ، وأعطى ما أوجَبَه الله - عز وجل - عليه .

وهذا الحديث يؤيده عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم - في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما بعده ؛ فقد كان في زمنه - عليه الصلاة والسلام - الأغنياء والتجار وأصحاب الأموال الذين يرى الرسول - عليه الصلاة والسلام - أموالَهم وغناهم فلا يُنكر عليهم ، ولم يؤدِّبهم ولم يشنِّع عليهم ويصادر أموالهم ، كان في ذاك في زمن الرسول - عليه السلام - عثمان - أيضًا - يتاجر ، وقد حصَّل مالًا كثيرًا ، وسعد بن أبي وقاص حينما زارَه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان قد لبد ، وخشي أن يكون مرض الموت ، وسأل الرسولَ - عليه الصلاة والسلام - : إن لي مالًا كثيرًا وليس لي إلا بنت ؛ أفأتصدَّق بمالي كله ؟ أول سؤال ... .

الشيخ : ... .

عيد عباسي : قال : ( لا ) . قال : بسدسَي مالي ؟ قال : ( لا ) . قال : بالشطر ؟ قال : ( لا ) . قال : بالثلث ؟ قال : ( الثلث والثلث كثير ؛ إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذَرَهم عالة يتكفَّفون الناس ) .

وكذلك عبد الرحمن بن عوف وغيرهم الذين كانت تأتيهم التجارات والقوافل الملأى بالأموال ، فعندهم الأموال الطائلة ، طبعًا يعرفون حقَّ الله - عز وجل - فيها ، ويتصدَّقون ويدَّخرون ويتنعَّمون بالحلال ، ولم ينكر عليهم - صلى الله عليه وسلم - ذلك أبدًا ، وإلا لو كان الإنسان محرَّمًا عليه أن يدَّخر أكثر من حاجته فَلِمَ شَرَعَ الله - عز وجل - زكاة الأموال زكاة النقدين وغيرها ؟ ما في شيء يزيد على الحاجة ؛ لأن من شروط الزكاة أن يحول عليها الحول ؛ فمعنى ذاك أنُّو في مال مدَّخر حال عليه الحول حتى تُطلَبَ منه الزكاة .

فالمهم هذا ، وكذلك كما قلت بقية الأزمان الإسلامية كلها جرى العمل على جواز الادِّخار مع وجوب الزكاة .

هذا المذهب من أبي ذر يجعلونه يضخِّمونه يفخمونه ويجعلونه سندًا لمصادرة الأموال والتأمينات وما إليها ، ويطعنون في كل الصحابة الذين عارضوا هذا المذهب الذين معهم الحقُّ ، واجتهد - رضي الله عنه - فأخطأ وله أجر ، وهو على كلٍّ رأي منه ، ومع ذلك فإنما هو رجل مسلم مؤمن يبني هذا الرأي وغيره على تقوى الله ، ويريد من الناس مِن وراء مذهبه هذا أن يتركوا الدنيا وزخارفها والمادة ومتطلَّباتها وجوانبها ، ويلتفتوا إلى الله - عز وجل - ، وينصبوا الأبدان للآخرة ، فهذا غرضُه ؛ فأين هؤلاء منه وهم كل غرضهم المادة والدنيا ، وهؤلاء الذين يعظِّمون مذهبه ويدعون إليه تراهم في سلوكهم في أعمالهم من أشدِّ ما يكون خلافًا لهذا المذهب ، لأنهم ماديون ودنيويون في خاصَّتهم ... ؟!

فخلاف أبي ذرٍّ مع عثمان يجعلونه - أيضًا - نقدًا عظيمًا عليه له ومأخذًا كبيرًا يطعنون به ، وهكذا تولية الأقارب نحن لا ننكر أن يكون عثمان - رضي الله عنه - قد ولَّى بعض أقاربه ، طبعًا يجب أن نتحرَّى في هذه الأخيار التي تُروى عن هؤلاء الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعن بقية الصحابة يجب أن نتحرَّى الدقة والصحة ، فننظر في الأسانيد ونحقِّق المتون ، وبعد ذلك ما ثبت من هذه الأخبار فإنما نحمله على أنهم اجتهدوا فيه وتأوَّلوا ؛ فإن أخطؤوا فلهم أجر ، وإن أصابوا فلهم أجران - رضي الله عنهم - ، ومعاذ الله أن يكونوا قد اندفعوا وراء أهوائهم أو وراء ما يندفع إليه الناس أو أكثر الناس في زماننا هذا .

فتولية الأقارب - مثلًا - منه ما هو حقٌّ ولَّى بعض أقاربه ، ولكن أكثرهم كانوا أكفاء لهذا العمل ، وحبُّ الأقارب طبيعة بشرية ، بل هي - أيضًا - مما وجَّه إليه الإسلام أن يبَرَّ الإنسان أقاربه وأولي رحمه ، لكن بالحقِّ دون أن يظلم ودون أن يعطيهم أفضل مما يستحقُّون .

وحتى هؤلاء الخلفاء الذين هؤلاء يُعجبون بهم كعمر - رضي الله عنه - أو علي - رضي الله عنه - نجد عليًّا - أيضًا - قد ولَّى أقاربه ؛ فانظر إلى ولاته في الأمصار ؛ قثم بن العباس ، عبد الله بن العباس ، أولاد عمه ، وعبيد الله - أيضًا - كلهم ولاة هؤلاء لا ينظرون إليهم ، يصرفون عيونَهم عنهم ؛ لماذا ؟ لأنهم لهم هوى فيهم ؛ وخاصَّة كما قلت هذه تأشيرات كلها من الشيعة ، علي لا يبحثوا أنُّو ولَّى أقاربه ، وإن كنا نحن لا نطعن في علي لأنه ولَّى أقاربه ؛ لأننا نعتقد أنه ولَّى الأكفاء منهم ، ومَن أكفأ من عبد الله بن عباس فيما ولَّاه عليه وإخوانه ؟! لكن لِمَ هناك تبرِّرون لعلي تولية الأقرباء ولا تبرِّرون لعثمان - رضي الله عنه - تولية الأقرباء ؟ ولِمَ هناك تفترضون حسن الظن ولا تفترضون هنا حسن الظن ؟ هذا هوى وهذه معاملة فيها اختلاف في الميزان لا يجوز أن تصدر من مؤمن أبدًا ، والله - عز وجل - يقول : (( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) .

مما حرَّف وشوَّه - أيضًا - المستشرقون وتلامذتهم تاريخ الإسلام فيه تاريخ بعض الخلفاء المسلمين من غير الخلفاء الراشدين ، كهارون الرشيد مثلًا ، وبعض السلاطنة المتأخرين العثمانيين كالسلطان " عبد الحميد " ، هؤلاء طبعًا دون ما نريده من الحاكم المسلم بأشواط وأشواط ، ولكن - أيضًا - لا يجوز أن يحمِلَنا هؤلاء الأعداء إلى الإساءة إلى تاريخهم وإلى تشويهه وتحريفه ، بل يجب أن نعترف بالحق منه ، وما فيه خطأ نعترف به - أيضًا - مع - أيضًا - تحسين الظن ، وحمله على أنهم بشر من البشر يخطئون ويصيبون ، فالرشيد في نظر الكثيرين من الكُتَّاب والمؤرخين الذين استَقَوا سيرته وصوَّروا للناس أخبارهم ، وما مرجعهم في ذلك ؟ من كتاب " ألف ليلة وليلة " ، هذا الكتاب الخيالي الذي لا يُعرف كاتبه ومنشئه ، والذي صُنِعَ ليكون تسليةً للناس ومتعة ، حتى ويذكر الكثيرون أن بعض حكام من المماليك في زمنهم لِيُلهوا الناس عن مفاسدهم ومشاكلهم أوعزوا لبعض الكُتَّاب فنشروا مثل هذه الكتب ليتلهَّى الناس ، وما نزال نذكر إلى الآن في القهاوي الكبيرة في دمشق وغيرها ليقرؤوا هذه القصص في المقاهي ، ويتسلَّون بها ، ويهتمُّون وتأخذ عليهم فكرهم وأوقاتهم واهتمامهم ، وينشغلون عن أحوال المسلمين ومفاسد المسؤولين ليحقِّق أولئك ما يريدون .

فالرشيد عندهم رجل همُّه النساء ، همُّه ملذاته ، همُّه جواريه ، يتَّهمونه بشرب الخمر ، شرب النَّبيذ ، أنه قضَّى وقته مع الشاعر الفاسق " أبي نواس " وأمثاله ، وأما ما يُروى من صلاح الرشيد من جهاد من وقائعه من حجِّه من إيمانه فهذه يضربون عنها صفحًا ، وكما قلت قصة " العباسة " أخت الرشيد ... .