كلمة في : اضطباع بعض الناس خارج الطواف ، وصلاتهم مكشوفي المنكب ، وإذا جاء قول عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل المسلمون ملزمون بالأخذ به ؟
A-
A=
A+
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد : أريد أن أتمَّ بحثًا أشرت إليه حينما قمنا إلى الصلاة ، وهو أننا نرى كثيرًا من الحجاج قبل دخولهم مكة وبعد انتهائهم من الطواف والسعي نراهم ينطلقون وهم كاشفون عن مناكبهم - المناكب اليمنى - ولعلكم تعرفون أن من السنة ... حولها ، أن يكشف عن منكبه الأيمن إلى آخر الشوط السابع كما هو الراجح ، ثم بعد ذلك يعود في إزاره أو ردائه بالأصحِّ إذا ما كان عليه قبل البدء بالطواف ، أي : لا بد من أن يغطِّي منكبه الذي كشف عنه من أجل الطواف . لكن أكثر الناس كما قال رب العالمين : (( لا يعلمون )) ، فتراهم من ساعة الإحرام من الميقات يكشفون عن مناكبهم ويستمرون هكذا إلى ما شاء الله ، هذا أولًا خلاف السنة ، وما كان من العبادات خلاف السنة فيجب أن لا يستهينَ المسلم بها ، وألا يظنَّ أن أمرها سهل ، بل إن أمرها أنها ضلالة بصريح قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلاله في النار ) ، وكما قال بعض الصحابة وبخاصَّة منهم حذيفة بن اليمان - رضي الله تعالى عنه - : " كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تعبَّدوها فلا تتعبَّدوها " ، كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتقرَّبوا بها إلى الله - تبارك وتعالى - ، لأن العبادات التي تقرِّبنا إلى الله زلفى إنما هي التي جاءتنا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، لأن العبادة إنما تكون عبادة بالتوقيف منه - عليه الصلاة والسلام - لنا ، وليس بآرائنا وأهوائنا . فلقد عرف سلفنا الصالح هذه الحقيقة التي عَمِيَ عنها جماهير الخلف رغم كثرة الأحاديث التي جاءت منبِّهةً على أن كل عبادة لم يأتِ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي ضلالة ، كما جاء في " صحيح مسلم " : ( كل بدعة ضلالة ) ، زاد النسائي : ( وكل ضلالة في النار ) ، ولذلك لا ينبغي الاستهانة بالإتيان ببعض المحدثات من الأمور بدعوى أنها تقرِّبنا إلى الله زلفى ، وإذا كان من الحق قول أهل العلم - لسان الحال أنطق من لسان المقال - فنحن نقرأ من حال هؤلاء الحجَّاج الذين يقضون أيامًا كثيرة وهم كاشفون عن مناكبهم ، ويتحمَّلون ضرر الحرِّ والقرِّ ، ما يكون ذلك إلا بزعمهم أنها عبادة ، فكيف تكون عبادة ولم يشرعها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه إلا في ذلك المكان الذي ذكرته آنفًا ؟! وهو أثناء الطواف ، هذا شيء .
وشيءٌ ثانٍ وهو أخطر أن هؤلاء الناس الذين يتقرَّبون إلى الله - عز وجل - بالكشف عن مناكبهم طيلة أيام الحجِّ على الرغم ما ذكرنا أنهم ابتدعوا شيئًا ما أنزل الله به من سلطان ؛ فإنهم يقعون في مخالفة خطيرة ، حينما نراهم يقومون إلى الصلاة في المسجد الحرام ، أو في غيره من المساجد ، أو في منى ، أو في غيرها من المناسك ، يقومون يصلُّون وهم كاشفون عن مناكبهم حينئذٍ يقعون في مخالفة أخرى .
المخالفة الأولى : مخالفتهم لأحاديث النهي عن البدعة ، وأن كل بدعة ضلالة ، فهم يخالفون مبدأً شرعيًّا عامًا .
أما المخالفة الأولى ؛ فإنهم يخالفون حديثًا خاصًّا في الصلاة ، حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، هذا الحديث حديث هام جدًّا ، أولًا من حيث روايته ؛ فإنه حديث صحيح في البخاري ، وثانيًا من حيث درايته ودلالته ، ذلك أنه يدلُّ على بطلان صلاة من يصلي مكشوف المنكب ، أو مكشوف المنكبين معًا ، وبالأولى والأحرى مكشوف القسم الأعلى من البدن .
نحن الآن بين ظهرانينا بعض إخواننا الذين يكشفون عن القسم الأعلى من بدنهم ، لا بأس في ذلك أو من ذلك عليهم ؛ لأنهم يتبرَّدون ، ولكن عليهم أن ينتبَّهوا أنه إذا أقيمت الصلاة فلا بد لهم من أن يرتدوا هذا الثوب ، وأن يلقوه على أكتافهم لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من كان له إزار ورداء فليتَّزر وليرتدِ ؛ فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) ، قوله - تعالى - : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، هذه الآية الكريمة وإن كان أصل نزولها ، أو سبب نزولها أن العرب في الجاهلية كانوا يطوفون حول الكعبة عراةً نساءً ورجالًا - وهذا من جاهليتهم ! - ، ولما جاء الإسلام أنزل الله - عز وجل - هذه الآية تأديبًا وتعليمًا لهم ، فقال : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، المقصود من الزينةِ في هذا الحديث مراعاة لسبب النزول هو ستر العورة ، العورة التي لا تصح الصلاة باتفاق المذاهب الأربعة إذا كان كاشفًا لها ، ولكن هناك في مذهب الإمام أحمد عورة خاصة بالصلاة ، خاصة بالصلاة ، وهي القسم الأعلى من البدن ، لا يجوز للمصلي وهو يجد ثوبًا يستر به بدنه الأعلى ، لا يجوز له أن يصلي وهو كاشف عن بدنه الأعلى ، لماذا ؟ للحديث السابق في البخاري : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه من شيء ) ، وللحديث الآخر ، ذكرته آنفًا ، وهو في " سنن أبي داود " من حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من كان له إزار ورداء فليتَّزر وليرتدِ ؛ فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) . نأخذ من هذا الحديث والذي قبله أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد وسَّع في دلالة قوله - تعالى - : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، لأن سبب النزول يحصر دلالة الآية على ستر العورة ؛ لأنهم - كما ذكرنا - كانوا يطوفون عراة ، حتى النساء ، حتى قالت إحداهنَّ إذا طافت هكذا عارية تقول معتذرةً ، وما أقبحه من اعتذار ! ولكن ليس بعد الكفر ذنب - كما يقال ! - ، كانت تقول وهي تطوف عارية :
" اليوم يبدو بعضه أو كله **** فما بدا منه فلا أحلُّه "
هذا خطاب لمن ؟ لأهل الجاهلية . هل هذا عذرهم صحيح ؟ هذا من تسويل الشيطان لبني الإنسان الذي لا يحتمي بحمى الرحمن بشريعة الإسلام ، لقد زيَّن لهم الشيطان تقبيح الطواف بالثياب وقال لهم ، ونقله بعضهم إلى بعض - نحن لا نطوف بثياب عصينا الله فيها - هكذا زيَّن لهم الشيطان ، ولكنهم يطوفون بقلوب عصوا الله فيها ، وذلك أقبح وأقبح ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية بخصوص هذا الطواف مكشوف العورة : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، فوسَّع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دِلالة الآية فأدخل فيها كلَّ زينة مشروعة فقال : ( ليصلِّ أحدكم في ثوبيه ، في ردائه ، وفي إزاره ) ، وعلَّل ذلك بقوله - عليه السلام - : ( بأن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) .
لا ينبغي إذًا أن يتساهل المصلُّون إذا قاموا إلى الصلاة في الأيام العادية ... ، لا ينبغي للمصلين أن يدخلوا في صلاتهم بثياب البذلة ، بثياب بيتهم - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... - ، وإنما عليهم أن يحقِّقوا أولًا : نصَّ الحديث ، وثانيًا : تعليله النص : ( من كان إزار ورداء فليتَّزر وليرتد ) ، التعليل : ( فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) .
الشاهد إن من قواعد الشريعة أن " ما أدى إلى واجب فهو واجب ، وما أدى إلى محرَّم فهو محرم " . فكشف الحُجاج عن مناكبهم ؛ أولًا فيه المحظور الأول التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ، والشيء الثاني أنهم يعرِّضون صلاتهم للبطلان لمخالفتهم لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، ولا بد أن بعض طلاب العلم أن يستشكلوا مثل هذا الحديث ، وقد قرأ ذات يوم ، أو سمع حديث " الصحيحين " عن أبى هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رجلًا قال : ( يا رسول الله ، أيُصلي أحدنا في ثوب واحد ؟ ) قال : ( أَوَكلُّكم يجد ثوبين ؟ ) . قد يتعارض هذا الحديث مع حديث : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، يتعارض في ذهن بعض الناس وأشكل من هذا الحديث ، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حينما رآه رجل يصلي وليس على عاتقيه ثوب ، وإنما رآه يصلي مؤتزرًا ، فسأله عن ذلك كيف تصلي بثوب واحد وثوبك الآخر معلَّق على المشجب ؟ - والمشجب هي العمود الذي تُعلَّق عليه الثياب الذي يسمونه في لغة العصر الحاضر .
الحويني : الشماعة .
الشيخ : نعم ؟ شماعة ، أحسن من الشماعة المشجب ، هو الآلة التي تُعلَّق عليها الثياب ، استنكر أحد الحاضرين على جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - ، أنه يصلي في ثوب واحد وثوبه الآخر معلَّق على المشجب ، فقال " ذلك ليراني أحمق مثلك ، فيظن أن الصلاة لا تصحُّ إلا بالثوبين ! " .
هذا بلا شك أشكل من حديث أبى هريرة : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) ، فهنا لا بد بإخبارنا من طلاب العلم أن يتذكروا معنا طريق العلماء في التوفيق بين الأحاديث التي يبدو التعارض بينها ولو في بادئ الرأي .
أولًا : - وهو الأهمُّ - حديث جابر : إن جابرًا - رضي الله عنه - لا شك أن صنيعه يدل على صحة صلاة من يصلي مكشوف القسم الأعلى من البدن ، ولكن هل لفعل هذا الصحابي من القوة ما يُمكن أن يعارض دِلالة الحديث المرفوع والصحيح ثبوتًا ، والصريح دلالة ؟ ، الجواب : لا ، باتفاق العلماء ، ولذلك قيل : " إذا ورد الأثر بطل النظر " ، و " إذا جاء نهر الله بَطل نهر مَعقل " ، وقال علماء الأصول : " لا اجتهاد في مورد النَّصِّ " ، وههنا رأي لصاحبي جليل وحديث صريح يخالف رأي أو فعل ذلك الصحابي ، وحينئذٍ فلا بد من الرجوع إلى من أُمرنا بالرجوع إليه حين التنازع كما قال الله - عز وجل - (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) . لذلك كان مذهب إمام السنة وأعلم الأئمة الأربعة بالسنة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ، كان من مذهبه العمل بالحديث الأول : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، ذلك لثبوت الحديث أولًا ، ودلالته الصريحة ثانيًا ، هذه الدلالة التي لا تقبل نقاشًا ولا جَدَلًا ، أما حديث أبي هريرة فالأمر فيه سهل ؛ ذلك لأن جوابه - عليه السلام - كان مشيرًا إلى أن من صلى في ثوب واحد فذلك لأنه قد لا يجد ثوبًا آخر ، ولذلك قال - عليه السلام - : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) . ولعل جابرًا - رضي الله عنه - حينما صدر منه ما ذكرناه آنفًا ؛ كان أولًا يعتمد على هذا الحديث حديث أبي هريرة الثاني : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) . وثانيًا : لم يبلغه نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يصلي الواجد للثوبين في ثوب واحد ، ولقد أكد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الاهتمام بستر القسم الأعلى من البدن سترًا حتى ولو كان ليس عنده إلا ثوب واحد ، فقد قال : ( إذا لم يجد إلا ثوبًا واحدًا فإن كان واسعًا فليلتحف به ، وإن كان ضيِّقًا فليأتزر به ) ، فإذًا من كان عنده ثوب واحد فقط ، وباستطاعته أن يغطي قسمه الأعلى مع الأدنى ؛ فهذا واجبه ، فإن لم يساعده الثوب على ذلك لضيق فيه أو لقصر ؛ فحينئذٍ لا بد من ستر العورة التي هي عورة في الصلاة وخارج الصلاة .
هذا ما أردت توضيحه بمناسبه اضطباع بعض الناس خارج الطواف ، وصلاتهم مكشوفي المنكب ، هذا لا يجوز ، وشرع الله إنما قام بالاتباع وليس بالابتداع . تفضل .
السائل : قول جابر للرجل ؛ ألا يكون له حكم الرفع ؟ وبالتالي نحمل نهي الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم - على الكراهة وليس على التحريم ؟
الشيخ : لماذا أولًا يُفترض في رأي الصحابي أن يكون في حكم المرفوع ؟ وهناك بحث لا بدَّ لطلاب العلم أن يكونوا على معرفة به لأهميته ؛ ألا وهو ؛ - وأُذكِّر كجملة معترضة أن بعض إخواننا يشربون قيامًا ، والشرب قيامًا قد نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وهذه جملة معترضة ، لا أريد أن أقيمَ عليها محاضرة حتى ما نضيع عن الإجابة عن السؤال الأخير هذا ، أما الشرب من قيام ؛ فله بحث خاص ، ربما يتاح لنا الخوض فيه بمناسبة أخرى - إن شاء الله - - .
= فأعود لأقول : إذا جاء قول عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل المسلمون ملزمون به ؟ ملزمون بالأخذ به أم لا ؟
الجواب : إن كان قول ذاك الصحابي في حكم المرفوع ؛ بحيث لا يمكن أن يُقال بالاجتهاد الذي يتعرَّض للخطأ تارة ، وللصواب تارة أخرى ، إذا كان في حكم المرفوع أُخذ به ، وإلا تُرك لقائله . هذا حكم الموقوفات على أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بد من النظر إليها ، هل هي بحيث لا يقال إلا من توقيف كما ذكرنا لكم آنفًا عن ابن مسعود أنه قال : فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قلنا : السلام على النبي ، هذا به خاص ؛ لأنه لا يمكن أن يُتصرَّف في أغراضه - عليه السلام - لمجرد الرأي والاجتهاد . أما أن يأتينا قول عن صحابي ، وممكن أن يكون هذا القول على البراءة الأصلية ، والأصل في الأشياء الإباحة ، ويمكن أن لا يكون قد ورده النهي الناقل عن البراءة الأصلية إلى حكم جديد .
...
الآثار التي جاءت موقوفة على أحد الصحابة قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - ، قال : " نزل القرآن جملةً واحدةً إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل أنجمًا مفرَّقًا حسب الحوادث " . انتهى حديث ابن عباس ، أو نقول انتهى قول ابن عباس . هذا قول لم يقل فيه ابن عباس قال رسول الله أو سمعت رسول الله ؛ فهل هذا يؤخذ به أم لا ؟ الجواب : أن مثل هذا القول لا يمكن أن يُقال بالرأي والاجتهاد ، ذلك لأنه يتحدَّث عن بعض الأمور الغيبيَّة ، ما يدري ابن عباس وهو لا يُوحى إليه أن القرآن نزل كتلة واحدة ، جملة واحدة إلى السماء الدنيا دون السماء الثانية أو غيرها ، ثم ما يُدريه أنه نزل إلى مكان يسمَّى ببيت العزة ؟ ، وهو من السماء الدنيا ، هذه أمور غيبية ، لا طاقة للبشر أن يتحدثوا بها إلا رجمًا بالغيب كما يفعل المنجِّمون والكُهَّان والعرَّافون ، وحاشا لابن عباس - وهو ترجمان القرآن - أن يتخرَّص وأن يتكلم رجمًا بالغيب ... لذلك يقول العلماء : إن هذا الأثر موقوف في حكم المرفوع ، لأنه لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي . فإذا عرفنا هذه القاعدة التي يجب إعمالها في الآثار الموقوفة ، فبعضها تكون في حكم المرفوع وليس لنا خيرة في ردِّها ، وبعضها لنا الخيرة في قبولها وفي ردِّها بشرط أن لا نخالف نصًّا مرفوعًا ، هذا الشرط هنا بالنسبة لفعل جابر - نقول بشرط أن لا نخالف - قد خالفنا إذا فعلنا فعل جابر قول الرسول - عليه السلام - الصريح : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) .
أما التوفيق بين هذا الحديث وأثر جابر ممنوع من ناحيتين : الناحية الأولى : أنه إنما يُوفَّق بين نصَّين ... أمَّا وقد ذكرنا آنفًا أن أثر جابر موقوف ليس في حكم المرفوع فحينذاك نحن في حلٍّ من أن نوفِّق بينه وبين الحديث المرفوع ، والشيء الثاني أنَّ نون التأكيد المشدَّدة المقرونة بالنهي : ( لا يصلِّينَّ أحدهم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) يمنع من ذاك التأويل ، ويحملنا على أن نجزم على أن هذا الحديث تضمَّن حكمًا جديدًا على الحكم السابق المعروف عند العلماء جميعًا ، وهو أنه يجب على المسلم أن يستر عورته من تحت السُّرَّة إلى الركبة ، فقوله : ( لا يصلِّينَّ أحدكم ) نهيٌ عن الصلاة ، وهذا يؤكد بطلان الصلاة ، ما دام أنه لا يوجد حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يضطرُّنا إلى نوفِّق بينه وبينه بوجهٍ من وجوه التوفيق ، وهي كثيرة معروفة عند الفقهاء .
أما بعد : أريد أن أتمَّ بحثًا أشرت إليه حينما قمنا إلى الصلاة ، وهو أننا نرى كثيرًا من الحجاج قبل دخولهم مكة وبعد انتهائهم من الطواف والسعي نراهم ينطلقون وهم كاشفون عن مناكبهم - المناكب اليمنى - ولعلكم تعرفون أن من السنة ... حولها ، أن يكشف عن منكبه الأيمن إلى آخر الشوط السابع كما هو الراجح ، ثم بعد ذلك يعود في إزاره أو ردائه بالأصحِّ إذا ما كان عليه قبل البدء بالطواف ، أي : لا بد من أن يغطِّي منكبه الذي كشف عنه من أجل الطواف . لكن أكثر الناس كما قال رب العالمين : (( لا يعلمون )) ، فتراهم من ساعة الإحرام من الميقات يكشفون عن مناكبهم ويستمرون هكذا إلى ما شاء الله ، هذا أولًا خلاف السنة ، وما كان من العبادات خلاف السنة فيجب أن لا يستهينَ المسلم بها ، وألا يظنَّ أن أمرها سهل ، بل إن أمرها أنها ضلالة بصريح قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلاله في النار ) ، وكما قال بعض الصحابة وبخاصَّة منهم حذيفة بن اليمان - رضي الله تعالى عنه - : " كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تعبَّدوها فلا تتعبَّدوها " ، كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتقرَّبوا بها إلى الله - تبارك وتعالى - ، لأن العبادات التي تقرِّبنا إلى الله زلفى إنما هي التي جاءتنا من طريق نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، لأن العبادة إنما تكون عبادة بالتوقيف منه - عليه الصلاة والسلام - لنا ، وليس بآرائنا وأهوائنا . فلقد عرف سلفنا الصالح هذه الحقيقة التي عَمِيَ عنها جماهير الخلف رغم كثرة الأحاديث التي جاءت منبِّهةً على أن كل عبادة لم يأتِ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي ضلالة ، كما جاء في " صحيح مسلم " : ( كل بدعة ضلالة ) ، زاد النسائي : ( وكل ضلالة في النار ) ، ولذلك لا ينبغي الاستهانة بالإتيان ببعض المحدثات من الأمور بدعوى أنها تقرِّبنا إلى الله زلفى ، وإذا كان من الحق قول أهل العلم - لسان الحال أنطق من لسان المقال - فنحن نقرأ من حال هؤلاء الحجَّاج الذين يقضون أيامًا كثيرة وهم كاشفون عن مناكبهم ، ويتحمَّلون ضرر الحرِّ والقرِّ ، ما يكون ذلك إلا بزعمهم أنها عبادة ، فكيف تكون عبادة ولم يشرعها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه إلا في ذلك المكان الذي ذكرته آنفًا ؟! وهو أثناء الطواف ، هذا شيء .
وشيءٌ ثانٍ وهو أخطر أن هؤلاء الناس الذين يتقرَّبون إلى الله - عز وجل - بالكشف عن مناكبهم طيلة أيام الحجِّ على الرغم ما ذكرنا أنهم ابتدعوا شيئًا ما أنزل الله به من سلطان ؛ فإنهم يقعون في مخالفة خطيرة ، حينما نراهم يقومون إلى الصلاة في المسجد الحرام ، أو في غيره من المساجد ، أو في منى ، أو في غيرها من المناسك ، يقومون يصلُّون وهم كاشفون عن مناكبهم حينئذٍ يقعون في مخالفة أخرى .
المخالفة الأولى : مخالفتهم لأحاديث النهي عن البدعة ، وأن كل بدعة ضلالة ، فهم يخالفون مبدأً شرعيًّا عامًا .
أما المخالفة الأولى ؛ فإنهم يخالفون حديثًا خاصًّا في الصلاة ، حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، هذا الحديث حديث هام جدًّا ، أولًا من حيث روايته ؛ فإنه حديث صحيح في البخاري ، وثانيًا من حيث درايته ودلالته ، ذلك أنه يدلُّ على بطلان صلاة من يصلي مكشوف المنكب ، أو مكشوف المنكبين معًا ، وبالأولى والأحرى مكشوف القسم الأعلى من البدن .
نحن الآن بين ظهرانينا بعض إخواننا الذين يكشفون عن القسم الأعلى من بدنهم ، لا بأس في ذلك أو من ذلك عليهم ؛ لأنهم يتبرَّدون ، ولكن عليهم أن ينتبَّهوا أنه إذا أقيمت الصلاة فلا بد لهم من أن يرتدوا هذا الثوب ، وأن يلقوه على أكتافهم لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من كان له إزار ورداء فليتَّزر وليرتدِ ؛ فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) ، قوله - تعالى - : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، هذه الآية الكريمة وإن كان أصل نزولها ، أو سبب نزولها أن العرب في الجاهلية كانوا يطوفون حول الكعبة عراةً نساءً ورجالًا - وهذا من جاهليتهم ! - ، ولما جاء الإسلام أنزل الله - عز وجل - هذه الآية تأديبًا وتعليمًا لهم ، فقال : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، المقصود من الزينةِ في هذا الحديث مراعاة لسبب النزول هو ستر العورة ، العورة التي لا تصح الصلاة باتفاق المذاهب الأربعة إذا كان كاشفًا لها ، ولكن هناك في مذهب الإمام أحمد عورة خاصة بالصلاة ، خاصة بالصلاة ، وهي القسم الأعلى من البدن ، لا يجوز للمصلي وهو يجد ثوبًا يستر به بدنه الأعلى ، لا يجوز له أن يصلي وهو كاشف عن بدنه الأعلى ، لماذا ؟ للحديث السابق في البخاري : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه من شيء ) ، وللحديث الآخر ، ذكرته آنفًا ، وهو في " سنن أبي داود " من حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من كان له إزار ورداء فليتَّزر وليرتدِ ؛ فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) . نأخذ من هذا الحديث والذي قبله أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد وسَّع في دلالة قوله - تعالى - : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، لأن سبب النزول يحصر دلالة الآية على ستر العورة ؛ لأنهم - كما ذكرنا - كانوا يطوفون عراة ، حتى النساء ، حتى قالت إحداهنَّ إذا طافت هكذا عارية تقول معتذرةً ، وما أقبحه من اعتذار ! ولكن ليس بعد الكفر ذنب - كما يقال ! - ، كانت تقول وهي تطوف عارية :
" اليوم يبدو بعضه أو كله **** فما بدا منه فلا أحلُّه "
هذا خطاب لمن ؟ لأهل الجاهلية . هل هذا عذرهم صحيح ؟ هذا من تسويل الشيطان لبني الإنسان الذي لا يحتمي بحمى الرحمن بشريعة الإسلام ، لقد زيَّن لهم الشيطان تقبيح الطواف بالثياب وقال لهم ، ونقله بعضهم إلى بعض - نحن لا نطوف بثياب عصينا الله فيها - هكذا زيَّن لهم الشيطان ، ولكنهم يطوفون بقلوب عصوا الله فيها ، وذلك أقبح وأقبح ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية بخصوص هذا الطواف مكشوف العورة : (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) ، فوسَّع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دِلالة الآية فأدخل فيها كلَّ زينة مشروعة فقال : ( ليصلِّ أحدكم في ثوبيه ، في ردائه ، وفي إزاره ) ، وعلَّل ذلك بقوله - عليه السلام - : ( بأن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) .
لا ينبغي إذًا أن يتساهل المصلُّون إذا قاموا إلى الصلاة في الأيام العادية ... ، لا ينبغي للمصلين أن يدخلوا في صلاتهم بثياب البذلة ، بثياب بيتهم - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... - ، وإنما عليهم أن يحقِّقوا أولًا : نصَّ الحديث ، وثانيًا : تعليله النص : ( من كان إزار ورداء فليتَّزر وليرتد ) ، التعليل : ( فإن الله أحقُّ أن يُتزيَّن له ) .
الشاهد إن من قواعد الشريعة أن " ما أدى إلى واجب فهو واجب ، وما أدى إلى محرَّم فهو محرم " . فكشف الحُجاج عن مناكبهم ؛ أولًا فيه المحظور الأول التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ، والشيء الثاني أنهم يعرِّضون صلاتهم للبطلان لمخالفتهم لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، ولا بد أن بعض طلاب العلم أن يستشكلوا مثل هذا الحديث ، وقد قرأ ذات يوم ، أو سمع حديث " الصحيحين " عن أبى هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رجلًا قال : ( يا رسول الله ، أيُصلي أحدنا في ثوب واحد ؟ ) قال : ( أَوَكلُّكم يجد ثوبين ؟ ) . قد يتعارض هذا الحديث مع حديث : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، يتعارض في ذهن بعض الناس وأشكل من هذا الحديث ، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حينما رآه رجل يصلي وليس على عاتقيه ثوب ، وإنما رآه يصلي مؤتزرًا ، فسأله عن ذلك كيف تصلي بثوب واحد وثوبك الآخر معلَّق على المشجب ؟ - والمشجب هي العمود الذي تُعلَّق عليه الثياب الذي يسمونه في لغة العصر الحاضر .
الحويني : الشماعة .
الشيخ : نعم ؟ شماعة ، أحسن من الشماعة المشجب ، هو الآلة التي تُعلَّق عليها الثياب ، استنكر أحد الحاضرين على جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - ، أنه يصلي في ثوب واحد وثوبه الآخر معلَّق على المشجب ، فقال " ذلك ليراني أحمق مثلك ، فيظن أن الصلاة لا تصحُّ إلا بالثوبين ! " .
هذا بلا شك أشكل من حديث أبى هريرة : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) ، فهنا لا بد بإخبارنا من طلاب العلم أن يتذكروا معنا طريق العلماء في التوفيق بين الأحاديث التي يبدو التعارض بينها ولو في بادئ الرأي .
أولًا : - وهو الأهمُّ - حديث جابر : إن جابرًا - رضي الله عنه - لا شك أن صنيعه يدل على صحة صلاة من يصلي مكشوف القسم الأعلى من البدن ، ولكن هل لفعل هذا الصحابي من القوة ما يُمكن أن يعارض دِلالة الحديث المرفوع والصحيح ثبوتًا ، والصريح دلالة ؟ ، الجواب : لا ، باتفاق العلماء ، ولذلك قيل : " إذا ورد الأثر بطل النظر " ، و " إذا جاء نهر الله بَطل نهر مَعقل " ، وقال علماء الأصول : " لا اجتهاد في مورد النَّصِّ " ، وههنا رأي لصاحبي جليل وحديث صريح يخالف رأي أو فعل ذلك الصحابي ، وحينئذٍ فلا بد من الرجوع إلى من أُمرنا بالرجوع إليه حين التنازع كما قال الله - عز وجل - (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) . لذلك كان مذهب إمام السنة وأعلم الأئمة الأربعة بالسنة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ، كان من مذهبه العمل بالحديث الأول : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) ، ذلك لثبوت الحديث أولًا ، ودلالته الصريحة ثانيًا ، هذه الدلالة التي لا تقبل نقاشًا ولا جَدَلًا ، أما حديث أبي هريرة فالأمر فيه سهل ؛ ذلك لأن جوابه - عليه السلام - كان مشيرًا إلى أن من صلى في ثوب واحد فذلك لأنه قد لا يجد ثوبًا آخر ، ولذلك قال - عليه السلام - : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) . ولعل جابرًا - رضي الله عنه - حينما صدر منه ما ذكرناه آنفًا ؛ كان أولًا يعتمد على هذا الحديث حديث أبي هريرة الثاني : ( أَوَكلكم يجد ثوبين ؟! ) . وثانيًا : لم يبلغه نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يصلي الواجد للثوبين في ثوب واحد ، ولقد أكد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الاهتمام بستر القسم الأعلى من البدن سترًا حتى ولو كان ليس عنده إلا ثوب واحد ، فقد قال : ( إذا لم يجد إلا ثوبًا واحدًا فإن كان واسعًا فليلتحف به ، وإن كان ضيِّقًا فليأتزر به ) ، فإذًا من كان عنده ثوب واحد فقط ، وباستطاعته أن يغطي قسمه الأعلى مع الأدنى ؛ فهذا واجبه ، فإن لم يساعده الثوب على ذلك لضيق فيه أو لقصر ؛ فحينئذٍ لا بد من ستر العورة التي هي عورة في الصلاة وخارج الصلاة .
هذا ما أردت توضيحه بمناسبه اضطباع بعض الناس خارج الطواف ، وصلاتهم مكشوفي المنكب ، هذا لا يجوز ، وشرع الله إنما قام بالاتباع وليس بالابتداع . تفضل .
السائل : قول جابر للرجل ؛ ألا يكون له حكم الرفع ؟ وبالتالي نحمل نهي الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم - على الكراهة وليس على التحريم ؟
الشيخ : لماذا أولًا يُفترض في رأي الصحابي أن يكون في حكم المرفوع ؟ وهناك بحث لا بدَّ لطلاب العلم أن يكونوا على معرفة به لأهميته ؛ ألا وهو ؛ - وأُذكِّر كجملة معترضة أن بعض إخواننا يشربون قيامًا ، والشرب قيامًا قد نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وهذه جملة معترضة ، لا أريد أن أقيمَ عليها محاضرة حتى ما نضيع عن الإجابة عن السؤال الأخير هذا ، أما الشرب من قيام ؛ فله بحث خاص ، ربما يتاح لنا الخوض فيه بمناسبة أخرى - إن شاء الله - - .
= فأعود لأقول : إذا جاء قول عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل المسلمون ملزمون به ؟ ملزمون بالأخذ به أم لا ؟
الجواب : إن كان قول ذاك الصحابي في حكم المرفوع ؛ بحيث لا يمكن أن يُقال بالاجتهاد الذي يتعرَّض للخطأ تارة ، وللصواب تارة أخرى ، إذا كان في حكم المرفوع أُخذ به ، وإلا تُرك لقائله . هذا حكم الموقوفات على أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بد من النظر إليها ، هل هي بحيث لا يقال إلا من توقيف كما ذكرنا لكم آنفًا عن ابن مسعود أنه قال : فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قلنا : السلام على النبي ، هذا به خاص ؛ لأنه لا يمكن أن يُتصرَّف في أغراضه - عليه السلام - لمجرد الرأي والاجتهاد . أما أن يأتينا قول عن صحابي ، وممكن أن يكون هذا القول على البراءة الأصلية ، والأصل في الأشياء الإباحة ، ويمكن أن لا يكون قد ورده النهي الناقل عن البراءة الأصلية إلى حكم جديد .
...
الآثار التي جاءت موقوفة على أحد الصحابة قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - ، قال : " نزل القرآن جملةً واحدةً إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل أنجمًا مفرَّقًا حسب الحوادث " . انتهى حديث ابن عباس ، أو نقول انتهى قول ابن عباس . هذا قول لم يقل فيه ابن عباس قال رسول الله أو سمعت رسول الله ؛ فهل هذا يؤخذ به أم لا ؟ الجواب : أن مثل هذا القول لا يمكن أن يُقال بالرأي والاجتهاد ، ذلك لأنه يتحدَّث عن بعض الأمور الغيبيَّة ، ما يدري ابن عباس وهو لا يُوحى إليه أن القرآن نزل كتلة واحدة ، جملة واحدة إلى السماء الدنيا دون السماء الثانية أو غيرها ، ثم ما يُدريه أنه نزل إلى مكان يسمَّى ببيت العزة ؟ ، وهو من السماء الدنيا ، هذه أمور غيبية ، لا طاقة للبشر أن يتحدثوا بها إلا رجمًا بالغيب كما يفعل المنجِّمون والكُهَّان والعرَّافون ، وحاشا لابن عباس - وهو ترجمان القرآن - أن يتخرَّص وأن يتكلم رجمًا بالغيب ... لذلك يقول العلماء : إن هذا الأثر موقوف في حكم المرفوع ، لأنه لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي . فإذا عرفنا هذه القاعدة التي يجب إعمالها في الآثار الموقوفة ، فبعضها تكون في حكم المرفوع وليس لنا خيرة في ردِّها ، وبعضها لنا الخيرة في قبولها وفي ردِّها بشرط أن لا نخالف نصًّا مرفوعًا ، هذا الشرط هنا بالنسبة لفعل جابر - نقول بشرط أن لا نخالف - قد خالفنا إذا فعلنا فعل جابر قول الرسول - عليه السلام - الصريح : ( لا يصلِّينَّ أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) .
أما التوفيق بين هذا الحديث وأثر جابر ممنوع من ناحيتين : الناحية الأولى : أنه إنما يُوفَّق بين نصَّين ... أمَّا وقد ذكرنا آنفًا أن أثر جابر موقوف ليس في حكم المرفوع فحينذاك نحن في حلٍّ من أن نوفِّق بينه وبين الحديث المرفوع ، والشيء الثاني أنَّ نون التأكيد المشدَّدة المقرونة بالنهي : ( لا يصلِّينَّ أحدهم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء ) يمنع من ذاك التأويل ، ويحملنا على أن نجزم على أن هذا الحديث تضمَّن حكمًا جديدًا على الحكم السابق المعروف عند العلماء جميعًا ، وهو أنه يجب على المسلم أن يستر عورته من تحت السُّرَّة إلى الركبة ، فقوله : ( لا يصلِّينَّ أحدكم ) نهيٌ عن الصلاة ، وهذا يؤكد بطلان الصلاة ، ما دام أنه لا يوجد حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يضطرُّنا إلى نوفِّق بينه وبينه بوجهٍ من وجوه التوفيق ، وهي كثيرة معروفة عند الفقهاء .
- رحلة الخير - شريط : 11
- توقيت الفهرسة : 00:43:54
- نسخة مدققة إملائيًّا