الكلام حول تحقيق ابن القيم الجوزية لمسألة الهويِّ إلى السجود ؛ حيث أفاد في " زاد المعاد " أن الصحيح وضع الركبتين على الأرض قبل اليدين .
A-
A=
A+
السائل : ... ابن القيم الجوزية في مسألة الهويِّ إلى السجود ؛ حيث أفاد في " زاد المعاد " أن الصحيح وضع الركبتين على الأرض قبل اليدين ، أرجو مناقشة ... ، والسلام عليكم ؟
الشيخ : ولولا أن هذا السؤال تكرَّر فعلًا عشرات المرَّات ولولا كثرة الابتلاء - أيضًا - بمخالفة السنة الصحيحة لَما فرَّغنا أنفسنا للإجابة على رغبة السائل التي هي مناقشة أدلة ابن القيم .
وابن القيم قد كتب نحو أربع صفحات في هذه المسألة ، وأطالَ فيها النفس جدًّا كما هو شأنه في كثير من المسائل ، ولكنه مع الأسف الشديد في هذه المسألة كان بعيدًا كلَّ البعد عن تحقيق الصواب فيها ، ووجدتُ له عذرًا في ذلك ؛ حيث أنه ذكر في مقدمة الكتاب وهذا ما ذكره في الواقع وحدَه يكفي ليدلنا على كون هذا الرجل علَّامة ، ولكن إذا أخطأ في بعض المسائل وقد ألَّف الكتاب وهو مسافر فلا غرابة في أن يقع في مثل هذه الأوهام التي سننبِّه عليها الآن - إن شاء الله - .
يقول في مطلع هذه المسألة : وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يضع ركبتيه قبل يديه ، ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه ، قال : " هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ، ولم يرد في فعله ما يخالف ذلك " .
هنا نلاحظ في هذه الكلمات القصيرة نلاحظ أمرين اثنين غريبين جدًّا :
الأمر الأول : يقول : هذا هو الصحيح الذي رواه شريك بإسناده الذي ذكره ، شريك هذا هو شريك ابن عبد الله القاضي ، وهو معروف عند علماء الجرح والتعديل بأنَّه ضعيف بسبب سوء حفظه ، وطبعًا الوقت لا يتَّسع لنقرأ عليكم كلمات الأئمة في تجريح هذا الراوي وهو شريك ، ولكن نكتفي بنقلين اثنين :
النقل الأول : هو أنَّ ممن أخرج هذا الحديث الحافظ الإمام الدارقطني في " سننه " ، ولما انتهى من سياق إسناده ومتنه قال : " وشريك ليس بالقوي " ، فهذا مُخرِّج الحديث أو أحد مُخرِّجي الحديث يُضعِّف هذا الحديث ويعلِّله بأن شريكًا هذا ليس قويًّا في الحديث .
ثم نقْل آخر ننقله مباشرة من كتاب لأحد المؤلفين الذين لا يشك مبتدئ في علم الحديث فضلًا عن غيره بأن له قدم صدق في هذا العلم ؛ ألا وهو علم الجرح والتعديل ، وأعني بذلك الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني ، فاسمعوا قوله فيه ؛ يقول : " صدوق يخطئ كثيرًا ، تغيَّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة ، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البدع " ، هذا ترجمة الحافظ ابن حجر لشريك بن عبد الله القاضي رواي هذا الحديث ، فهو يعطيه ما يستحقُّ من الفضل من العبادة من الصلاح ، من نحو ذلك - وهو أهمُّه فيما يتعلق بعلم الحديث - الصدق ؛ أي : إنه لا يكذب ، ولكنه غُلِبَ على أمره ؛ فكان يخطئ كثيرًا ، وتغيَّر حفظه أي : ازداد سوءًا حينما ولي القضاء بالكوفة ، وهذا أمر طبيعي معروف ؛ أنَّ كل عالم اتجه إلى ناحية قوي فيها ، وعلى العكس من ذلك ضَعُفَ في النواحي الأخرى التي انصرف عنها .
فنستغرب بعد هذا قول ابن قيم الجوزية أنُّو هذا هو الصحيح الذي رواه شريك ، وشريك لا يروي الصحيح ؛ لأنه ضعيف الحفظ ، لذلك ذكر الحافظ الذهبي نفسه في خاتمة ترجمة شريك هذا من كتابه الميزان " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " قال : " وأخرج مسلم له متابعةً " ؛ يعني أن مسلمًا لم يحتج بشريك وذلك لسوء حفظه ، وإنما روى له مقرونًا أو متابعةً من غيره ، كلمة " المتابعة " وحده تكفي المشتغل بهذا العلم أن يعلم أن الراوي لا يحتج بحديثه حتى يأتي مَن يُتابعه أو مَن يُقارنه في رواية الحديث نفسه ، والواقع ههنا أن شريكًا تفرَّد بهذا الحديث ، هذا أول ما يُؤخذ على الإمام ابن القيم في الجملة السابقة .
والشيء الثاني - والأخير - : قوله : " ولم يرد في فعله ما يخالف ذلك " ، هذا سبق قلم لانشغال الرجل ، قضية سفر كتابة في أثناء السفر ، لماذا ؟ لأنَّ هناك حديثًا ، أظن أنه ذكره هو نفسه ، وهو حديث ابن عمر : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يضع يديه قبل ركبتيه " ، هو نفسه أورد هذا الحديث وسيأتي الكلام في محلِّه - إن شاء الله - ، فيُستغرب قوله أنه لم يُرْوَ في أو " لم يرد في فعله ما يخالف ذلك " ، ثم يقول ابن القيم مجيبًا عن سؤال يرد في خاطر الدارس لكتابه فيقول : وأما حديث أبي هريرة يرفعه : ( إذا سجد أحدهم فلا يبرُكْ كما يبرك البعير ، وليضَعْ يديه قبل ركبتيه ) ؛ يجيب عن هذا الحديث الصريح في مخالفة حديث وائل الذي ادَّعى ابن القيم أنه هو الصحيح ، فيعارضه حديث أبي هريرة مرفوعًا للنبي - عليه السلام - ومن قوله : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) ؛ أي : لا يضع ركبتيه قبل يديه ؛ لأنه يقول - عليه السلام - في تمام الحديث : ( وَلْيضع يديه قبل ركبتيه ) .
اسمعوا جواب ابن القيم ؛ فإنه في مطلعه تشعرون بضعفه ، فيقول : " فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرواة ، فإن أوله يُخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولًا " ، هذه شبهة كل الناس ، وكأنها شبهة ليست مستوحاةً فقط من كلام ابن القيم ؛ بل شبهة تغلب على عامَّة الناس الذين لا يُشاهدون البعير حين هويِّه دائمًا وأبدًا .
فَلْنناقش ابن القيم في هذه الدعوى ؛ هو يقول : " أن البعير حينما يسجد حينما يبرك فإنما يضع يديه قبل ركبتيه " أرجو إنما يضع ركبتيه .
السائل : هو يقول : " يديه " .
الشيخ : هو يقول : " يديه " نعم ، قال : " فإن أوله يُخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه - أي : المصلي - فقد برك كما يبرك البعير ، فإن البعير إنما يضع يديه أولًا " ، هو يقول : البعير يضع يديه أولًا ، فنحن نتذكَّر الحقيقة المشاهدة دائمًا وأبدًا أن البعير ككل الحيوانات ذوات الأربع يمشي على أربع ؛ فهو لا يَتصوَّر أن يُقاس به الإنسان أو هو يقاس بالإنسان ، فالإنسان يمشي على رجلين ، أما البعير فهو يمشي على أربع ، ولذلك فقوله : بأن البعير أول ما يضع إذا برك يضع يديه ، هنا في قفزة ، أو في غفلة ؛ لأننا نقول : البعير هل هو حينما يمشي يكون غير واضع لرجليه ؟ طبعًا لا يقول إنسان غير واضع لرجليه ، هو واضع رجليه .
طيب ؛ هل يمشي وهو غير واضع يديه ؟ الجواب نفسه ، هو يمشي واضع يديه ورجليه ؛ فهو يمشي على أربع .
إذًا للانتباه لهذا الخطأ والغريب العجيب يجب أن نتهيَّأ للإجابة عن سؤال بسيط جدًّا ، ومع ذلك فالناس أكثرهم غافلون عن الإجابة الصحيحة عليه ، ما هو - إذا برك البعير - ما هو أول شيء يتلقَّى الأرض به من بدنه ؟
لا يصح أن يقول يداه ؛ لأن يديه موضوعتان كرجليه ؛ إذًا ما هو أول شيء يتلقى به الأرض البعير إذا سجد إذا برك ؟ الركبتان ، لا يصح أن يُقال اليدان كما يقول ابن القيم ؛ أنَّ البعير أول ما يبرك إنما يضع يديه ، غلط هذا ؛ لأنه هو واضعهما الأبد ؛ من يوم يسقط من بطن أمه يقع على أربع ، لا يميل لا يمينًا ولا يسارًا ، ثم يمشي هكذا فهو يمشي على أربع ، كيف يقال أول ما - إذا برك - أول ما يضع يضع يديه وهما موضوعتان ؟ إذًا الجواب الصحيح إذا برك البعير فأول ما يضع ولا نقول ركبتيه الآن ؛ لأنه هنا في مناقشة من نفس المصنف وسنناقشه في ذلك ، إنما نقول : إنما يضع على الأرض أول ما يبرك المفصل الذي في مقدَّمتيه ، المفصل الذي في مقدَّمتيه ، هذا المفصل ما اسمه ؟ علماء اللغة والحديث والسيرة النبوية كلُّهم مُطبقون على أن هذين المفصلين في مقدمتي البعير هما ركبتان ، لكن المصنِّف لا يسلِّم بهذا ؛ فاسمعوا قوله تمامًا من كلامه السابق ؛ قال : " ولمَّا علم أصحاب هذا القول - يعني الذين يقولون بالحديث الثاني الذي قال : إن فيه وهم ؛ وهو حديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، شو بيقول ابن القيم - رحمه الله - ؟ : " ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولًا ؛ فهذا هو المنهي عنه " .
فعلًا ابن القيم يحكي رأي علماء الحديث وعلماء اللغة وغيرهم ممَّن ذكرنا أنهم يقولون : ركبتا البعير في يديه ؛ فهو إذا برك وضع ركبتيه أولًا فهذا هو المنهيُّ عنه ، يردُّ هذه الدعوة من وجوه فيقول : وهو فاسد لوجوه :
أحدها : أنَّ البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولًا ، وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولًا ، وتبقى يداه على الأرض ، وهذا الذي نهى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعل خلافه ؛ هنا أخذ المؤلف ابن القيم - رحمه الله - جانبًا آخر يعالج الرد على القائلين بوضع الكفين قبل الركبتين ، تركَ موضوع وضع الكفين قبل أم الركبتين ؟ وأخذ ظاهرة أخرى وهي في الواقع تحتاج إلى تمثيل فأُفسح للأستاذ علي ... خلِّيه يورِّيكم الصورة التي يعنيها ابن القيم وهي ليست واردة على الذين يقولون بوضع اليدين قبل الركبتين ؛ يعني ابن القيم يتصوَّر أن دلالة الحديث إنما يعني سجود إنسان عاجز بالمرة ، كيف بيسجد العاجز ؟
السائل : ... .
الشيخ : صار إيش مؤخِّرته ؟ صارت فوق رأسه ، هيك عم يتصور ابن القيم ، صحيح هذه الظاهرة تشبه بروك البعير تمامًا ، لاحظتو كيف ؟ لكن هذه قضية غير ما نحن فيه ، فنحن نستطيع أن ندفع الشبهة شبهة ابن القيم ؛ نقول : مش ضروري أن يعلو دبر الساجد رأسه ، هذا الشيء الذي ينكره ابن القيم ، وبه يردُّ الحديث ، مع أنُّو نستطيع أن نجمع بين ظاهر الحديث : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ونرفض الصورة هاللي عم يردها ابن القيم ونحن منردّها معه ، الآن يقصد السجود اللي نحن منطبقه .
السائل : إيش السبب ... ؟
الشيخ : يعني الفرق بيننا وبين الذين يسجدون على ركبهم لا فرق بيننا وبينهم من حيث أن نحن بتصير مؤخرتنا فوق راسنا ، وإنما أول ما نتلقى الأرض نتلقَّاها بالكفين بدل تلقِّيهم بالركبتين .
السائل : ... .
الشيخ : وهي كمان أبو محمد سجود الآخرين ... بالأرض شو بيساوو ؟
السائل : سجود الآخرين هيك ... .
الشيخ : إذًا هذا الإيراد أظنُّ ظهر لكم جميعًا ؛ إيراد ابن القيم ما هو وارد على الحديث ، لأنه هو عم يتصور أنه يلزم من وضع اليدين قبل الركبتين أن يسجد هكذا مؤخِّرته فوق رأسه ، هذا مش لازم ، كل ما في الأمر أن الساجد بدل أن يتلقى الأرض بركبتيه وتصير صحته منه بسبب سجوده رجَّة تشبه رجَّة الجمل لا سيما إذا كان محمَّلًا بالأثقال ؛ بدل هذه الظاهرة التي لا تليق بالهدوء والاطمئنان بالصلاة يتلقَّى هذا الساجد الأرض بكفيه ، فتندفع حينئذٍ تلك الرجَّة وتلك الصدمة بالأرض ؛ إذًا لا نختلف نحن وابن القيم وكل من يخالف هذا الحديث الصحيح حديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) لا نختلف معه بأنه لا ينبغي أن يسجد بحيث أن يصير رأسه في الأرض ... بلا مؤاخذة دبره فوق منه ، هذا نحن متفقين معه أنه غير مشروع ؛ لأنُّو من جهة أخرى في مشابهة بالبعير ، لكن نحن نقول له : ماذا تقول في هذه الهيئة التي رأيتموها ؛ لم يعلُ دبرُه رأسَه ؟ وهذا الذي ينكره ابن القيم إنما تلقى الأرض بكفيه ، هذا هو صريح حديث : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك أحدكم كما يبرك البعير ؛ وليضع يديه قبل ركبتيه ) ؛ لأن البعير يتلقى الأرض بركبتيه ولا يمكنه سوى ذلك ، أما الإنسان فهو كما قال - تعالى - خلقه في أحسن تقويم ؛ فهو يستطيع أن يتصرف أكثر من الحيوان ، فهو يستطيع أن يبرك على ركبتيه ، ويستطيع أن يبرك على يديه ، فنهى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أن المصلي أن يشابه البعير بتلقِّيه الأرض على أو بركتيه ، فهذا الجواب لإشكال أو إيراد ابن القيم على الذين قالوا بحديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
بعدين يقول : " هذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - " ، نقول : لا ، الحديث لو كان الحديث فقط ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) وبس كان ممكن أن يُقال باسم الإشارة ثم الحصر هذا هو الذي نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، عم يقول : لا ، هو بيَّن ما الذي نهى عنه ، فقال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، فما هو المنهي عنه ؟ وضع الركبتين قبل اليدين ؛ لأن المأمور به هو العكس ؛ وضع اليدين قبل الركبتين ؛ إذًا قوله هذا هو المنهي عنه هو ردٌّ للشطر الثاني من الحديث ؛ وهو : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، لكن عذر ابن القيم في الواقع هو يقول : إن في الحديث وهم ، فيأتي في تمام كلامه أنُّو يقول : أراد الراوي أن يقول : ( وليضع ركبتيه قبل يديه ) فوَهِمَ وقال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، هذا وجهة نظر ابن القيم حينما يقول : هذا هو الذي نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو أن يسجد رأسه منخفض عن وسطه ، نقول : الحديث واضح حيث قال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
ثم يقول : وكان - يعني الرسول عليه السلام - أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب ، وكان هنا هذه اللفظة بالضبط ليس لها صحة ، وإنما هي خلاصة حديث وائل ابن حجر الذي ذكره آنفًا من طريق شريك وقد عرفتم ضعفه ، ثم عطف على ذلك وقال : وأوَّل ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى ، هذا يعني به رد حديث آخر صحيح ؛ وهو " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا نهض في وترٍ من صلاته نهض معتدلًا على يديه " ، مثِّل بقى النهوض على الوجه الصحيح ، والنهوض على الوجه غير الصحيح ... .
السائل : ... آخر ما نرفع عن الأرض اليدان ... .
الشيخ : هذا بناءً على حديث وائل بن حجر ؛ هَيْ الصورة الثانية بناءً على حديث أن حجر في الضَّعيف الذي تفرَّد بروايته شريك ، وهنا تجدون كيف أنَّ الحديث الضعيف يُخالف الأحاديث الصحيحة وليس حديثًا واحدًا ، فحديث شريك له طرفان :
الطرف الأول : يتعلَّق بكيفية الهويِّ إلى السجود ، والطرف الآخر يتعلَّق بكيفية النهوض من السجود ، فحديث شريك في طرفه الأول خالفَ حديثين اثنين ذكر حتى الآن أحدهما ابن القيم ؛ وهو : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك أحدكم كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
الطرف الآخر : من حديث وائل يخالف حديث في " صحيح البخاري " ، وهو حديث مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا كان إذا نهض في وترٍ من صلاته قام معتمدًا على يديه ، بينما حديث وائل بيقول : قام معتمدًا على ركبتيه وعلى رؤوس قدميه ... قدميه ؛ فإذًا حديث وائل بن حجر في كلٍّ من طرفيه يخالف أحاديث صحيحة ؛ لذلك تقول ابن القيم أنه كان يقوم الأعلى فالأعلى هذا مخالف لحديث البخاري ، ثم قال تأكيدًا وتفصيلًا لحديث وائل ابن حجر : وكان يضع ركبتيه أولًا ، ثم يديه ، ثم جبهته ، وإذا رفع رأسه أولًا ثم يديه ثم ركبتيه ، وهذا عكس فعل البعير .
الآن نعود لتعكيس العكس يتبيَّن أن حديث مالك بن الحويرث هو بدُّو يخلِّصنا من مشابهة البعير في نهوضه ، وليس كما يظنُّ ابن القيم وغيره ، الآن نقول : حينما ينهض البعير قائمًا من الأرض على ماذا يعتمد من بدنه ؟
السائل : على ركبتيه .
الشيخ : على ركبتيه ، فإذًا أنت أيها الساجد إذا نهضت معتمدًا على ركبتيك فأنت الذي تتشبَّه بالبعير ، أما إذا قمت معتمدًا على راحتيك وكفَّيك ، وجعلت بعد ذلك ركبتيك تبعًا لكفَّيك ؛ فقد خالفت البعير مخالفة واضحة جليَّة .
وهكذا تتبيَّن أن السنة الفعلية الصحيحة لا تختلف أبدًا مع السنة القولية الصحيحة ، فحديث أبي هريرة : ( وليضَعْ يديه قبل ركبتيه ) لا يختلف أبدًا مع الحديث الذي سيأتي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع كفَّيه قبل ركبتيه ، والشطر الثاني من حديث وائل يختلف مع حديث مالك بن الحويرث ، والواقع أن الشطر الثاني من حديث وائل فيه مشابهة للبعير ؛ كما أن الشطر الأول فيه مشابهة للبعير ؛ لأن البعير حينما يبرك يبرك على ركبتيه ، وحين ينهض ينهض على ركبتيه ؛ فأنت أيها المصلي إذا أردت أن تصلى كما أمرك الرسول - عليه الصلاة والسلام - فمخالفتك للبعير هويًّا ونهوضًا إنما يكون بالاعتماد على الكفَّين وليس على الركبتين .
ثم قال : " وهذا عكس فعل البعير ، وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلوات نهى عن التشبه بالحيوانات ، فنهى عن بروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ... " هذا كلام بلا شك مُسلَّم فيه ، لكن نحن بقى نناقش ابن القيم أنُّو هل التشبه بالبعير الذي نهى عنه الشارع في أكثر من حديث واحد يكون بوضع اليدين قبل الركبتين أم العكس ؟ قد تبيَّن بوضوح أن العكس هو التشبه ، ووضع الركبتين قبل اليدين هو التشبه ، ووضع الكفَّين قبل الركبتين مخالفة للسنة لبروك البعير وبالنهوض - أيضًا - النهوض على الكفَّين مخالف لنهوض البعير ؛ لأنه ينهض معتمدًا على ركبتيه . هذا هو الوجه الأول الذي اعتمد عليه المصنِّف في ردِّ الذين قالوا بأنَّ ركبتي البعير في مقدِّمتيه ؛ فعلى ذلك ينبغي السجود على الكفَّين ، وعرفتم الجواب بالتفصيل .
يقول في الوجه الثاني : " إن قولهم : ركبتا البعير يديه كلامٌ لا يُعقل ، هذا من وراء كلمات المؤلفين ، قال ابن القيم : " قولهم " يعني الذين أخذوا بحديث : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، قولهم : " ركبتا البعير في يديه كلام لا يُعقل ولا يعرفه أهل اللغة " ، وهذا كلام مردود ما في حاجة بقى كل إنسان منكم يستطيع أن يطالع كتب اللغة مادة : " ركب " ، فسيأتي مشتقات الركبة ، فستجدون هناك التنصيص بأن الركبة في البعير في مقدِّمتيه ، وكذلك كل ذوات الأربع رُكَبُها في مقدِّمتيها ، هذا نصُّ كتب اللغة .
هاللي يقول ابن القيم - رحمه الله وعفا الله عنا وعنه - بأن هذا المعنى - أي : كون ركبتي البعير في مقدِّمتيه لا تعرفه اللغة العربية هذا وهْم من أوهامه ، ثم عندنا نحن استعمالات عربيَّة في كتب السنة الصحيحة تردُّ - أيضًا - على ابن القيم ليس فقط من حيث الاعتماد على كتب اللغة ؛ بل كتب الحديث والسيرة ؛ فمثلًا في قصة هجرة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من المدينة إلى مكة ، وملاحقة سراقة ابن مالك له - عليه السلام - على فرسه ؛ حتى لما اقترب سراقة منهما يقول في " صحيح البخاري " : " فغاصت مقدِّمتا الفرس إلى ركبتيها " ، هذا حديث في " صحيح البخاري " ، وحديث " صحيح البخاري " كفى حجَّة ليس في الشريعة فقط ، بل وفي اللغة العربية ؛ فهذا نصٌّ من استعمالات رواة الحديث ؛ يعني من الصحابة والتابعي ومن بعده على أنهم كانوا يفهمون بسليقتهم العربية أن رُكبتي الفرس في مقدِّمتيها ؛ لذلك قال : " غاصت مقدِّمتا الفرس إلى ركبتيها " .
هذا استعمال ، لكن قد يُقال إن ابن القيم - رحمه الله - ما استحضر هذا الحديث حينما قال ما قال ؛ أن اللغة لا تعرف أن رُكبتي البعير في مقدِّمتيه ، لكن نجد في نفس ما كتبه هو حجَّة عليه ، ولعلي أستحضره الآن بسرعة ... .
الشيخ : ولولا أن هذا السؤال تكرَّر فعلًا عشرات المرَّات ولولا كثرة الابتلاء - أيضًا - بمخالفة السنة الصحيحة لَما فرَّغنا أنفسنا للإجابة على رغبة السائل التي هي مناقشة أدلة ابن القيم .
وابن القيم قد كتب نحو أربع صفحات في هذه المسألة ، وأطالَ فيها النفس جدًّا كما هو شأنه في كثير من المسائل ، ولكنه مع الأسف الشديد في هذه المسألة كان بعيدًا كلَّ البعد عن تحقيق الصواب فيها ، ووجدتُ له عذرًا في ذلك ؛ حيث أنه ذكر في مقدمة الكتاب وهذا ما ذكره في الواقع وحدَه يكفي ليدلنا على كون هذا الرجل علَّامة ، ولكن إذا أخطأ في بعض المسائل وقد ألَّف الكتاب وهو مسافر فلا غرابة في أن يقع في مثل هذه الأوهام التي سننبِّه عليها الآن - إن شاء الله - .
يقول في مطلع هذه المسألة : وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يضع ركبتيه قبل يديه ، ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه ، قال : " هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ، ولم يرد في فعله ما يخالف ذلك " .
هنا نلاحظ في هذه الكلمات القصيرة نلاحظ أمرين اثنين غريبين جدًّا :
الأمر الأول : يقول : هذا هو الصحيح الذي رواه شريك بإسناده الذي ذكره ، شريك هذا هو شريك ابن عبد الله القاضي ، وهو معروف عند علماء الجرح والتعديل بأنَّه ضعيف بسبب سوء حفظه ، وطبعًا الوقت لا يتَّسع لنقرأ عليكم كلمات الأئمة في تجريح هذا الراوي وهو شريك ، ولكن نكتفي بنقلين اثنين :
النقل الأول : هو أنَّ ممن أخرج هذا الحديث الحافظ الإمام الدارقطني في " سننه " ، ولما انتهى من سياق إسناده ومتنه قال : " وشريك ليس بالقوي " ، فهذا مُخرِّج الحديث أو أحد مُخرِّجي الحديث يُضعِّف هذا الحديث ويعلِّله بأن شريكًا هذا ليس قويًّا في الحديث .
ثم نقْل آخر ننقله مباشرة من كتاب لأحد المؤلفين الذين لا يشك مبتدئ في علم الحديث فضلًا عن غيره بأن له قدم صدق في هذا العلم ؛ ألا وهو علم الجرح والتعديل ، وأعني بذلك الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني ، فاسمعوا قوله فيه ؛ يقول : " صدوق يخطئ كثيرًا ، تغيَّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة ، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البدع " ، هذا ترجمة الحافظ ابن حجر لشريك بن عبد الله القاضي رواي هذا الحديث ، فهو يعطيه ما يستحقُّ من الفضل من العبادة من الصلاح ، من نحو ذلك - وهو أهمُّه فيما يتعلق بعلم الحديث - الصدق ؛ أي : إنه لا يكذب ، ولكنه غُلِبَ على أمره ؛ فكان يخطئ كثيرًا ، وتغيَّر حفظه أي : ازداد سوءًا حينما ولي القضاء بالكوفة ، وهذا أمر طبيعي معروف ؛ أنَّ كل عالم اتجه إلى ناحية قوي فيها ، وعلى العكس من ذلك ضَعُفَ في النواحي الأخرى التي انصرف عنها .
فنستغرب بعد هذا قول ابن قيم الجوزية أنُّو هذا هو الصحيح الذي رواه شريك ، وشريك لا يروي الصحيح ؛ لأنه ضعيف الحفظ ، لذلك ذكر الحافظ الذهبي نفسه في خاتمة ترجمة شريك هذا من كتابه الميزان " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " قال : " وأخرج مسلم له متابعةً " ؛ يعني أن مسلمًا لم يحتج بشريك وذلك لسوء حفظه ، وإنما روى له مقرونًا أو متابعةً من غيره ، كلمة " المتابعة " وحده تكفي المشتغل بهذا العلم أن يعلم أن الراوي لا يحتج بحديثه حتى يأتي مَن يُتابعه أو مَن يُقارنه في رواية الحديث نفسه ، والواقع ههنا أن شريكًا تفرَّد بهذا الحديث ، هذا أول ما يُؤخذ على الإمام ابن القيم في الجملة السابقة .
والشيء الثاني - والأخير - : قوله : " ولم يرد في فعله ما يخالف ذلك " ، هذا سبق قلم لانشغال الرجل ، قضية سفر كتابة في أثناء السفر ، لماذا ؟ لأنَّ هناك حديثًا ، أظن أنه ذكره هو نفسه ، وهو حديث ابن عمر : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يضع يديه قبل ركبتيه " ، هو نفسه أورد هذا الحديث وسيأتي الكلام في محلِّه - إن شاء الله - ، فيُستغرب قوله أنه لم يُرْوَ في أو " لم يرد في فعله ما يخالف ذلك " ، ثم يقول ابن القيم مجيبًا عن سؤال يرد في خاطر الدارس لكتابه فيقول : وأما حديث أبي هريرة يرفعه : ( إذا سجد أحدهم فلا يبرُكْ كما يبرك البعير ، وليضَعْ يديه قبل ركبتيه ) ؛ يجيب عن هذا الحديث الصريح في مخالفة حديث وائل الذي ادَّعى ابن القيم أنه هو الصحيح ، فيعارضه حديث أبي هريرة مرفوعًا للنبي - عليه السلام - ومن قوله : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) ؛ أي : لا يضع ركبتيه قبل يديه ؛ لأنه يقول - عليه السلام - في تمام الحديث : ( وَلْيضع يديه قبل ركبتيه ) .
اسمعوا جواب ابن القيم ؛ فإنه في مطلعه تشعرون بضعفه ، فيقول : " فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرواة ، فإن أوله يُخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولًا " ، هذه شبهة كل الناس ، وكأنها شبهة ليست مستوحاةً فقط من كلام ابن القيم ؛ بل شبهة تغلب على عامَّة الناس الذين لا يُشاهدون البعير حين هويِّه دائمًا وأبدًا .
فَلْنناقش ابن القيم في هذه الدعوى ؛ هو يقول : " أن البعير حينما يسجد حينما يبرك فإنما يضع يديه قبل ركبتيه " أرجو إنما يضع ركبتيه .
السائل : هو يقول : " يديه " .
الشيخ : هو يقول : " يديه " نعم ، قال : " فإن أوله يُخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه - أي : المصلي - فقد برك كما يبرك البعير ، فإن البعير إنما يضع يديه أولًا " ، هو يقول : البعير يضع يديه أولًا ، فنحن نتذكَّر الحقيقة المشاهدة دائمًا وأبدًا أن البعير ككل الحيوانات ذوات الأربع يمشي على أربع ؛ فهو لا يَتصوَّر أن يُقاس به الإنسان أو هو يقاس بالإنسان ، فالإنسان يمشي على رجلين ، أما البعير فهو يمشي على أربع ، ولذلك فقوله : بأن البعير أول ما يضع إذا برك يضع يديه ، هنا في قفزة ، أو في غفلة ؛ لأننا نقول : البعير هل هو حينما يمشي يكون غير واضع لرجليه ؟ طبعًا لا يقول إنسان غير واضع لرجليه ، هو واضع رجليه .
طيب ؛ هل يمشي وهو غير واضع يديه ؟ الجواب نفسه ، هو يمشي واضع يديه ورجليه ؛ فهو يمشي على أربع .
إذًا للانتباه لهذا الخطأ والغريب العجيب يجب أن نتهيَّأ للإجابة عن سؤال بسيط جدًّا ، ومع ذلك فالناس أكثرهم غافلون عن الإجابة الصحيحة عليه ، ما هو - إذا برك البعير - ما هو أول شيء يتلقَّى الأرض به من بدنه ؟
لا يصح أن يقول يداه ؛ لأن يديه موضوعتان كرجليه ؛ إذًا ما هو أول شيء يتلقى به الأرض البعير إذا سجد إذا برك ؟ الركبتان ، لا يصح أن يُقال اليدان كما يقول ابن القيم ؛ أنَّ البعير أول ما يبرك إنما يضع يديه ، غلط هذا ؛ لأنه هو واضعهما الأبد ؛ من يوم يسقط من بطن أمه يقع على أربع ، لا يميل لا يمينًا ولا يسارًا ، ثم يمشي هكذا فهو يمشي على أربع ، كيف يقال أول ما - إذا برك - أول ما يضع يضع يديه وهما موضوعتان ؟ إذًا الجواب الصحيح إذا برك البعير فأول ما يضع ولا نقول ركبتيه الآن ؛ لأنه هنا في مناقشة من نفس المصنف وسنناقشه في ذلك ، إنما نقول : إنما يضع على الأرض أول ما يبرك المفصل الذي في مقدَّمتيه ، المفصل الذي في مقدَّمتيه ، هذا المفصل ما اسمه ؟ علماء اللغة والحديث والسيرة النبوية كلُّهم مُطبقون على أن هذين المفصلين في مقدمتي البعير هما ركبتان ، لكن المصنِّف لا يسلِّم بهذا ؛ فاسمعوا قوله تمامًا من كلامه السابق ؛ قال : " ولمَّا علم أصحاب هذا القول - يعني الذين يقولون بالحديث الثاني الذي قال : إن فيه وهم ؛ وهو حديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، شو بيقول ابن القيم - رحمه الله - ؟ : " ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولًا ؛ فهذا هو المنهي عنه " .
فعلًا ابن القيم يحكي رأي علماء الحديث وعلماء اللغة وغيرهم ممَّن ذكرنا أنهم يقولون : ركبتا البعير في يديه ؛ فهو إذا برك وضع ركبتيه أولًا فهذا هو المنهيُّ عنه ، يردُّ هذه الدعوة من وجوه فيقول : وهو فاسد لوجوه :
أحدها : أنَّ البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولًا ، وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولًا ، وتبقى يداه على الأرض ، وهذا الذي نهى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعل خلافه ؛ هنا أخذ المؤلف ابن القيم - رحمه الله - جانبًا آخر يعالج الرد على القائلين بوضع الكفين قبل الركبتين ، تركَ موضوع وضع الكفين قبل أم الركبتين ؟ وأخذ ظاهرة أخرى وهي في الواقع تحتاج إلى تمثيل فأُفسح للأستاذ علي ... خلِّيه يورِّيكم الصورة التي يعنيها ابن القيم وهي ليست واردة على الذين يقولون بوضع اليدين قبل الركبتين ؛ يعني ابن القيم يتصوَّر أن دلالة الحديث إنما يعني سجود إنسان عاجز بالمرة ، كيف بيسجد العاجز ؟
السائل : ... .
الشيخ : صار إيش مؤخِّرته ؟ صارت فوق رأسه ، هيك عم يتصور ابن القيم ، صحيح هذه الظاهرة تشبه بروك البعير تمامًا ، لاحظتو كيف ؟ لكن هذه قضية غير ما نحن فيه ، فنحن نستطيع أن ندفع الشبهة شبهة ابن القيم ؛ نقول : مش ضروري أن يعلو دبر الساجد رأسه ، هذا الشيء الذي ينكره ابن القيم ، وبه يردُّ الحديث ، مع أنُّو نستطيع أن نجمع بين ظاهر الحديث : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ونرفض الصورة هاللي عم يردها ابن القيم ونحن منردّها معه ، الآن يقصد السجود اللي نحن منطبقه .
السائل : إيش السبب ... ؟
الشيخ : يعني الفرق بيننا وبين الذين يسجدون على ركبهم لا فرق بيننا وبينهم من حيث أن نحن بتصير مؤخرتنا فوق راسنا ، وإنما أول ما نتلقى الأرض نتلقَّاها بالكفين بدل تلقِّيهم بالركبتين .
السائل : ... .
الشيخ : وهي كمان أبو محمد سجود الآخرين ... بالأرض شو بيساوو ؟
السائل : سجود الآخرين هيك ... .
الشيخ : إذًا هذا الإيراد أظنُّ ظهر لكم جميعًا ؛ إيراد ابن القيم ما هو وارد على الحديث ، لأنه هو عم يتصور أنه يلزم من وضع اليدين قبل الركبتين أن يسجد هكذا مؤخِّرته فوق رأسه ، هذا مش لازم ، كل ما في الأمر أن الساجد بدل أن يتلقى الأرض بركبتيه وتصير صحته منه بسبب سجوده رجَّة تشبه رجَّة الجمل لا سيما إذا كان محمَّلًا بالأثقال ؛ بدل هذه الظاهرة التي لا تليق بالهدوء والاطمئنان بالصلاة يتلقَّى هذا الساجد الأرض بكفيه ، فتندفع حينئذٍ تلك الرجَّة وتلك الصدمة بالأرض ؛ إذًا لا نختلف نحن وابن القيم وكل من يخالف هذا الحديث الصحيح حديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) لا نختلف معه بأنه لا ينبغي أن يسجد بحيث أن يصير رأسه في الأرض ... بلا مؤاخذة دبره فوق منه ، هذا نحن متفقين معه أنه غير مشروع ؛ لأنُّو من جهة أخرى في مشابهة بالبعير ، لكن نحن نقول له : ماذا تقول في هذه الهيئة التي رأيتموها ؛ لم يعلُ دبرُه رأسَه ؟ وهذا الذي ينكره ابن القيم إنما تلقى الأرض بكفيه ، هذا هو صريح حديث : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك أحدكم كما يبرك البعير ؛ وليضع يديه قبل ركبتيه ) ؛ لأن البعير يتلقى الأرض بركبتيه ولا يمكنه سوى ذلك ، أما الإنسان فهو كما قال - تعالى - خلقه في أحسن تقويم ؛ فهو يستطيع أن يتصرف أكثر من الحيوان ، فهو يستطيع أن يبرك على ركبتيه ، ويستطيع أن يبرك على يديه ، فنهى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أن المصلي أن يشابه البعير بتلقِّيه الأرض على أو بركتيه ، فهذا الجواب لإشكال أو إيراد ابن القيم على الذين قالوا بحديث أبي هريرة : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
بعدين يقول : " هذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - " ، نقول : لا ، الحديث لو كان الحديث فقط ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) وبس كان ممكن أن يُقال باسم الإشارة ثم الحصر هذا هو الذي نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، عم يقول : لا ، هو بيَّن ما الذي نهى عنه ، فقال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، فما هو المنهي عنه ؟ وضع الركبتين قبل اليدين ؛ لأن المأمور به هو العكس ؛ وضع اليدين قبل الركبتين ؛ إذًا قوله هذا هو المنهي عنه هو ردٌّ للشطر الثاني من الحديث ؛ وهو : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، لكن عذر ابن القيم في الواقع هو يقول : إن في الحديث وهم ، فيأتي في تمام كلامه أنُّو يقول : أراد الراوي أن يقول : ( وليضع ركبتيه قبل يديه ) فوَهِمَ وقال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، هذا وجهة نظر ابن القيم حينما يقول : هذا هو الذي نهى عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو أن يسجد رأسه منخفض عن وسطه ، نقول : الحديث واضح حيث قال : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
ثم يقول : وكان - يعني الرسول عليه السلام - أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب ، وكان هنا هذه اللفظة بالضبط ليس لها صحة ، وإنما هي خلاصة حديث وائل ابن حجر الذي ذكره آنفًا من طريق شريك وقد عرفتم ضعفه ، ثم عطف على ذلك وقال : وأوَّل ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى ، هذا يعني به رد حديث آخر صحيح ؛ وهو " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا نهض في وترٍ من صلاته نهض معتدلًا على يديه " ، مثِّل بقى النهوض على الوجه الصحيح ، والنهوض على الوجه غير الصحيح ... .
السائل : ... آخر ما نرفع عن الأرض اليدان ... .
الشيخ : هذا بناءً على حديث وائل بن حجر ؛ هَيْ الصورة الثانية بناءً على حديث أن حجر في الضَّعيف الذي تفرَّد بروايته شريك ، وهنا تجدون كيف أنَّ الحديث الضعيف يُخالف الأحاديث الصحيحة وليس حديثًا واحدًا ، فحديث شريك له طرفان :
الطرف الأول : يتعلَّق بكيفية الهويِّ إلى السجود ، والطرف الآخر يتعلَّق بكيفية النهوض من السجود ، فحديث شريك في طرفه الأول خالفَ حديثين اثنين ذكر حتى الآن أحدهما ابن القيم ؛ وهو : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك أحدكم كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) .
الطرف الآخر : من حديث وائل يخالف حديث في " صحيح البخاري " ، وهو حديث مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا كان إذا نهض في وترٍ من صلاته قام معتمدًا على يديه ، بينما حديث وائل بيقول : قام معتمدًا على ركبتيه وعلى رؤوس قدميه ... قدميه ؛ فإذًا حديث وائل بن حجر في كلٍّ من طرفيه يخالف أحاديث صحيحة ؛ لذلك تقول ابن القيم أنه كان يقوم الأعلى فالأعلى هذا مخالف لحديث البخاري ، ثم قال تأكيدًا وتفصيلًا لحديث وائل ابن حجر : وكان يضع ركبتيه أولًا ، ثم يديه ، ثم جبهته ، وإذا رفع رأسه أولًا ثم يديه ثم ركبتيه ، وهذا عكس فعل البعير .
الآن نعود لتعكيس العكس يتبيَّن أن حديث مالك بن الحويرث هو بدُّو يخلِّصنا من مشابهة البعير في نهوضه ، وليس كما يظنُّ ابن القيم وغيره ، الآن نقول : حينما ينهض البعير قائمًا من الأرض على ماذا يعتمد من بدنه ؟
السائل : على ركبتيه .
الشيخ : على ركبتيه ، فإذًا أنت أيها الساجد إذا نهضت معتمدًا على ركبتيك فأنت الذي تتشبَّه بالبعير ، أما إذا قمت معتمدًا على راحتيك وكفَّيك ، وجعلت بعد ذلك ركبتيك تبعًا لكفَّيك ؛ فقد خالفت البعير مخالفة واضحة جليَّة .
وهكذا تتبيَّن أن السنة الفعلية الصحيحة لا تختلف أبدًا مع السنة القولية الصحيحة ، فحديث أبي هريرة : ( وليضَعْ يديه قبل ركبتيه ) لا يختلف أبدًا مع الحديث الذي سيأتي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع كفَّيه قبل ركبتيه ، والشطر الثاني من حديث وائل يختلف مع حديث مالك بن الحويرث ، والواقع أن الشطر الثاني من حديث وائل فيه مشابهة للبعير ؛ كما أن الشطر الأول فيه مشابهة للبعير ؛ لأن البعير حينما يبرك يبرك على ركبتيه ، وحين ينهض ينهض على ركبتيه ؛ فأنت أيها المصلي إذا أردت أن تصلى كما أمرك الرسول - عليه الصلاة والسلام - فمخالفتك للبعير هويًّا ونهوضًا إنما يكون بالاعتماد على الكفَّين وليس على الركبتين .
ثم قال : " وهذا عكس فعل البعير ، وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلوات نهى عن التشبه بالحيوانات ، فنهى عن بروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ... " هذا كلام بلا شك مُسلَّم فيه ، لكن نحن بقى نناقش ابن القيم أنُّو هل التشبه بالبعير الذي نهى عنه الشارع في أكثر من حديث واحد يكون بوضع اليدين قبل الركبتين أم العكس ؟ قد تبيَّن بوضوح أن العكس هو التشبه ، ووضع الركبتين قبل اليدين هو التشبه ، ووضع الكفَّين قبل الركبتين مخالفة للسنة لبروك البعير وبالنهوض - أيضًا - النهوض على الكفَّين مخالف لنهوض البعير ؛ لأنه ينهض معتمدًا على ركبتيه . هذا هو الوجه الأول الذي اعتمد عليه المصنِّف في ردِّ الذين قالوا بأنَّ ركبتي البعير في مقدِّمتيه ؛ فعلى ذلك ينبغي السجود على الكفَّين ، وعرفتم الجواب بالتفصيل .
يقول في الوجه الثاني : " إن قولهم : ركبتا البعير يديه كلامٌ لا يُعقل ، هذا من وراء كلمات المؤلفين ، قال ابن القيم : " قولهم " يعني الذين أخذوا بحديث : ( وليضع يديه قبل ركبتيه ) ، قولهم : " ركبتا البعير في يديه كلام لا يُعقل ولا يعرفه أهل اللغة " ، وهذا كلام مردود ما في حاجة بقى كل إنسان منكم يستطيع أن يطالع كتب اللغة مادة : " ركب " ، فسيأتي مشتقات الركبة ، فستجدون هناك التنصيص بأن الركبة في البعير في مقدِّمتيه ، وكذلك كل ذوات الأربع رُكَبُها في مقدِّمتيها ، هذا نصُّ كتب اللغة .
هاللي يقول ابن القيم - رحمه الله وعفا الله عنا وعنه - بأن هذا المعنى - أي : كون ركبتي البعير في مقدِّمتيه لا تعرفه اللغة العربية هذا وهْم من أوهامه ، ثم عندنا نحن استعمالات عربيَّة في كتب السنة الصحيحة تردُّ - أيضًا - على ابن القيم ليس فقط من حيث الاعتماد على كتب اللغة ؛ بل كتب الحديث والسيرة ؛ فمثلًا في قصة هجرة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من المدينة إلى مكة ، وملاحقة سراقة ابن مالك له - عليه السلام - على فرسه ؛ حتى لما اقترب سراقة منهما يقول في " صحيح البخاري " : " فغاصت مقدِّمتا الفرس إلى ركبتيها " ، هذا حديث في " صحيح البخاري " ، وحديث " صحيح البخاري " كفى حجَّة ليس في الشريعة فقط ، بل وفي اللغة العربية ؛ فهذا نصٌّ من استعمالات رواة الحديث ؛ يعني من الصحابة والتابعي ومن بعده على أنهم كانوا يفهمون بسليقتهم العربية أن رُكبتي الفرس في مقدِّمتيها ؛ لذلك قال : " غاصت مقدِّمتا الفرس إلى ركبتيها " .
هذا استعمال ، لكن قد يُقال إن ابن القيم - رحمه الله - ما استحضر هذا الحديث حينما قال ما قال ؛ أن اللغة لا تعرف أن رُكبتي البعير في مقدِّمتيه ، لكن نجد في نفس ما كتبه هو حجَّة عليه ، ولعلي أستحضره الآن بسرعة ... .
- صفة صلاة النبي - شريط : 5
- توقيت الفهرسة : 00:29:37
- نسخة مدققة إملائيًّا