هل صحَّ ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصيغة الصحيحة للتشهد ؟
A-
A=
A+
السائل : هل صح ما ورد عن الرسول ... ؟
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
تقدَّموا ما دام ما في مكبِّر فليسمع المتأخِّر إن شاء الله - أيضًا - .
لقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعرفون التشهد في جلوس التشهد ؛ فلذلك فقد كانوا يقعون بعض الكلمات من عند أنفسهم يمجِّدون الله - تبارك وتعالى - كما يبدو لهم ، فكان أحدهم إذا جلس في التشهد يقول : السلام على الله ، السلام على جبريل ، السلام على عباد الله الصالحين . فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله هو السلام ) ، وقول المصلي : السلام على الله ؛ فهذا ما يناسب مقام الله - تبارك وتعالى - ؛ لأن السلام اسمٌ من أسماء الله ؛ فكأنَّ العبد يُعيد اسم الله على الله ، وهذا لا يليق ؛ فلذلك علَّمهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأحسن تعليمهم ، فقال لهم : ( إذا جلس أحدكم في التشهُّد فَلْيقُلْ : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) . قال - عليه السلام - : ( ثم ليتخيَّر أحدكم من الدعاء ما شاء ) .
فمن هنا فُرِضَ التشهد على المصلين ، ولم يكن قبل ذلك مفروضًا ، وقد جاء في حديث مختصر عن ابن مسعود نفسه التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرضَ قراءة التشهد في الصلاة ، ومن يومئذٍ صار التشهد فريضةً من فرائض الصلاة ، وقد اختلف العلماء قديمًا في حكم هذا التشهد ؛ فمن قائلٍ لِمَا جاء في الحديث : إنه فرض ، ومن قائل : إنه واجب ، ولا أريد أن أخوض الآن في بيان الفرق بين الفرض والواجب ؛ لأنه أولًا : قول مرجوح ؛ الفرض هو الواجب ، والواجب هو الفرض ، وإنما هو مجرَّد اصطلاح من بعض المذاهب ، وقد علمتم - وهذا ثانيًا - أنه خلاف ما عليه جماهير العلماء ، وخلاف الحديث السابق أن التشهد في الصلاة فرض ؛ أي : فرضه الرسول بوحي من رب العالمين .
فبعد هذا التشريع الجديد لم يجُزْ لأحد أن يتساهل في ترك التشهد في جلوس التشهد ، وهذه الصيغة التي سمعتموها لا بد من أن نذكر حولها أمرين اثنين ؛ أولهما هو الجواب عن سؤال السائل ؛ أي : إن هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأصح الصيغ التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإن كانت هناك صيغ أخرى كنت أحصَيْتُها وجمعتها في كتابي " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنَّك تراها " ، وإنما ذلك أعني إنما أصح هذه التشهدات هو تشهد ابن مسعود هذا ؛ لأنه اتَّفق على إخراجه البخاري ومسلم في " صحيحهما " ، ولأن علماء الحديث قاطبةً يذهبون الى أصحِّيَّة هذه الصيغة على الصيغة الأخرى .
هناك الصيغة الثانية المشهورة ، وهي التي أخذ بها الإمام الشافعي ، وهي تختلف بعض الشيء عن ... تشهد عن ابن مسعود : ( التحيات الطيبات لله ) ، في بعض الروايات : ( الزاكيات ) ، فكان من جملة الأسباب التي جعل بعض المحدِّثين يرجِّحون رواية ابن مسعود لهذه الصيغة على رواية ابن عباس أن ، ابن مسعود قديم الصحبة ، أما ابن عباس فحديث الصحبة ؛ لأنَّه مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قريب من بلوغ سنِّ التكليف ، وأيضًا إن حديث ابن مسعود لم يختلف الرواة عليه ولو في حرف واحد ، فكلهم رووا هذه الصيغة كما روَتِ الأمةُ بالإجماع فاتحةَ الكتاب ؛ ليس فيها اختلاف ولا في حرف واحد ؛ كذلك تشهد ابن مسعود - رضي الله عنه - كل الرواة الذين روَوْه حافظوا عليه بالحرف الواحد ، ولا جرمَ ولا غرابة في ذلك ؛ لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان من اهتمامه في تلقينه وتعليمه لأصحابه من بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين ، أصحاب ابن مسعود الذين لم يُدركوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فكان ابن مسعود يعلِّمه أصحابَه ومنهم علقمة ، فعلقمة هذا يقول عن ابن مسعود أنه : " كان إذا علَّمنا التشهد يأخذ علينا حتَّى الحرف الواحد " .
كان ابن مسعود إذا علَّمهم يأخذ عليهم حتى الحرف الواحد ؛ ولذلك ... أصحاب ابن مسعود على رواية صيغة تشهد ابن مسعود بالحرف الواحد لا اختلاف بينهم إطلاقًا بخلاف تشهد ابن عباس ، فإذا كان السؤال : أيُّ الصيغ أصح ؟ فقد عرفتم الجواب ؛ أنه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وعرفتم الأسباب أنها متعدِّدة وكثيرة .
بقي شيء آخر أشرت إلى أنه لا بد من ذكره ؛ وهي فائدة - في علمي - أعرَضَ عن تطبيقها جماهير المصلين ، وذلك لأنَّهم لم تصِلْهم هذه الفائدة مع أنها جاءت في " صحيح البخاري " وفي " مسند الإمام أحمد " - رحمهم الله تعالى - ، لقد قال ابن مسعود فيما روياه - أعني البخاري وأحمد - بإسنادهما الصحيح : علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكفِّي بين كفَّيه ، كفُّ ابن مسعود بين كفَّي الرسول - عليه السلام - ، وهذا كناية عن اهتمامه - صلى الله عليه وآله وسلم - بصاحبه ابن مسعود حيث وضع كفَّه ... ولما وصل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإنك إذا قلتها أصابت كلَّ عبدٍ صالح في السماء أو في الأرض ) ، ( وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) . قال ابن مسعود - وهنا الفائدة - : قلنا : ( السلام عليك أيها النبي ) والنبي بين ظهرانينا - أي : وهو حيٌّ يعيش بين ظهراني أصحابه - قال ابن مسعود : فلمَّا مات قلنا : ( السلام على النبي ) ، فلمَّا مات - عليه الصلاة والسلام - قلنا : ( السلام على النبي ) ، فقول ابن مسعود في التَّفريق في السلام على النبي في التشهد إنما هو تفريق لتوصيف للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له ولأصحابه ، والمقصود بالتوصيف يعني لإشعار من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم أن يقولوا في التشهد في السلام عليه بعد وفاته : ( السلام على النبي ) ، ولذلك استجابةً من أصحابه - عليه الصلاة والسلام - بإيقاف النبي إياهم على هذا التشريع الجديد بعد وفاته استجابوا له ، فصرَّح ابن مسعود في تشهده هذا أنَّنا قلنا : السلام عليك أيها النبي ، وهو بين ظهرانينا ، فلما مات قلنا : السلام على النبي ؛ أي : تركوا كاف الخطاب وانتقلوا إلى لفظة الغيب ، فقالوا : السلام على النبي .
وقد تناقش بعض العلماء من الشافعية حول قول ابن مسعود هذا ؛ هل هو توقيف من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو لاجتهاد من ابن مسعود ؟ فقيل وقيل ، لكن كان القول الراجح ما ذكره الإمام السبكي من الشافعية أنه قال : إذا صحَّ قول ابن مسعود : فلما مات قلنا السلام على النبي وجبَ العدول من لفظة الخطاب ( السلام عليك أيها النبي ) إلى لفظة الغيبة : ( السلام على النبي ) ، لكن الفرق بين قول السبكي وبين استدراك الحافظ ابن حجر العسقلاني هو ما يلحَظُه كلُّ من سمع آنفًا أن هذا الحديث رواه البخاري ، فقول السبكي : إن صح فتحفُّظٌ لا محلَّ له ؛ ولذلك استدرك عليه ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : قد صحَّ ذلك ، كما جاء في رواية البخاري السابقة ، فلما مات قلنا السلام على النبي ، فإذًا صح ، وثانيًا أن ابن مسعود لم يَحْكِ ذلك عن نفسه فقط ، بل حكاه عن الصحابة ؛ لأنه قال : كنا نقول وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - بين ظهرانينا : ( السلام عليك أيها النبي ) . كنا نقول ، مش كنت أقول ، فلما مات قلنا : ( السلام على النبي ) . ثم أيَّد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذا البيان الشافي من التفريق بين ما روى البخاري بلفظ : فلما مات قلنا مش قلت ؛ أيَّد هذا الرواية برواية أخرى عزاها لـ " مصنف عبد الرزاق " ، وقد طُبع هذا المصنف - والحمد لله - منذ بضع سنين أو أكثر ؛ حيث روى عبد الرزاق في " مصنفه " بإسناد صحيح عن عطاء ابن أبي رباح قال : كان أصحاب النبي - هذه رواية صريحة - كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقولون في حياته : ( السلام عليك أيها النبي ) ، فلما مات قالوا : ( السلام على النبي ) . ولذلك صار لزامًا علينا أن نقول كما صار إليه أصحابه بعد وفاته : ( السلام على النبي ) ، وليس : ( السلام عليك أيها النبي ) .
هذا من أجل هذا المثال نقول دائمًا وأبدًا : لا يكفي الدعوة في هذا الزمان إلى العمل بالكتاب والسنة وهذا واجب ، لكن انتبهوا إلى ما أقول : ينبغي الدعوة إلى الكتاب والسنة ، ولكن لا ينبغي الاقتصار في الدعوة إلى الكتاب والسنة أن نقف هنا ، بل لا بد لنا من أن نضيف إلى ذلك : وعلى منهج السلف الصالح ؛ أي : نحن ندعو إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ؛ لماذا ؟ لأن السلف الصالح وعلى رأسهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين باشروا السَّماع من فمه غضًّا طريًّا إلى آذانهم ، ونقلوا ذلك واقعًا في حياتهم إلى مَن بعدهم ، وهذا هو المثال بين أيديكم ... ولم نلتفت إلى رواية ابن مسعود هذه المفصِّلة بين حياته - عليه السلام - التي كانوا يقولون : ( السلام عليك أيها النبي ) ، وبين بعد وفاته التي قالوا فيها : ( السلام على النبي ) ما كنَّا لِنُطبِّقَ الحديث إلا على التعليم النبوي الأول ؛ ألا وهو : ( إذا جلس أحدكم للتشهد فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ) إلى آخره ، لكن اعتمادنا على هذا الصحابي الذي فرَّق لنا ليس بلفظ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنما بفهمٍ منه بين السلام من مُخاطبته في حياته وبين السلام بتركه مُخاطبته بعد وفاته .
من هنا يتبيَّن لكم كمثال من عشرات بل مئات الأمثلة أنَّنا لا نستطيع أن نفهمَ الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا إلا على منهج أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم الذين جاؤوا من بعدهم ، وهذا القيد - على منهج السلف الصالح - قد يستنكره بعض الجماعات الإسلامية لم تتفقَّهْ ليس فقط بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ بل حتى ولا بالقرآن الكريم ؛ لأنَّ هذا القيد الذي ذكرته آنفًا وهو اتباع أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما فهموه وفيما تلقَّوه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ممَّا أمر به القرآن الكريم ، فكلُّنا يقرأ فيه قول الله - تبارك وتعالى - : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) ، فقوله - تبارك وتعالى - : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) هذه الجملة لها معنى إضافي على الجملة التي قبلها ، والتي عليها حُفظت الجملة التي بعدها ؛ حيث قال - تعالى - : "" ومن يشاقق الرسول من بعد ما جاءه الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين "" ، لم يقل ربنا - عز وجل - ، ولو أنَّه قال ذلك لَكفى ، لكنَّه أراد أن ينبِّهَ المسلمين إلى هذه النكتة التي سبق أن ذكرتُها ؛ وهي اتباع أصحاب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ فقال : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) لم يقل : "" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى "" إلى آخر الآية ، وإنما جاء بجملة إضافية على الجملة الأولى كما ذكرت آنفًا وهي : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) .
فإذًا اتباع سبيل المؤمنين أمر ضروري جدًّا ، وأساس من أسس الدعوة الإسلامية الحقِّ التي لا يكون مخالفها على هدًى من ربِّه - تبارك وتعالى - ، وقد شرح الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الجملة (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، وبيَّنها بأنَّ المقصود ابتداءً إنما هم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في حديث تفرُّق المسلمين كما تفرَّقت اليهود والنصارى ، فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرَّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ) . قلنا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي الجماعة ) . ما قال في هذه الرواية : هي كتاب الله وسنة رسول الله ؛ لأن هذا مفهوم من عديد من الآيات والأحاديث ؛ كمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ، لكنه قال في هذا الحديث : الفرقة الناجية هي الجماعة ؛ أي : هم الصحابة الذين كانوا على هدًى من ربِّهم بسبب اقتفاءهم آثارَ نبيِّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقد أوضح هذا المعنى زيادة إيضاح في الروايات الأخرى التي قال فيها جوابًا عن ذاك السؤال ؟ من هي الفرقة الناجية ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - : ( هي التي على ما أنا عليه وأصحابي ) ؛ إذًا لم يَقُلْ هي التي ما أنا عليه فقط ، وإنما - أيضًا - عطف على ذلك فقال : ( وأصحابي ) ، هذا تمام إن لم يكن وحيًا من الله مباشرةً على قلب نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو اقتباس من الآية السابقة : (( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ما هي سبيل المؤمنين ؟ هي أصحابه الذين قال فيهم : ( هو ما أنا عليه وأصحابي ) .
هذا حديث مشهور جدًّا يُعطي معنى الآية ويوضِّحها ، والحديث الآخر الذي فيه ، سأختصره ؛ لأن الوقت قد ضاق ، ولا بد أن عند بعض الإخوان أسئلة أخرى ، وقد استطردت كثيرًا في الاجابة عن ذاك السؤال ، واستغللته استغلالًا شرعيًّا لأوضِّحَ لكم هذه الحقيقة التي غَفَلَ عنها كثير من الدعاة الإسلاميين ؛ حتى الذين يتبنَّون الكتاب والسنة لا يتنبَّهون لضرورة تفهُّمهم للكتاب والسنة على ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، حتَّى بَلَغَني عن بعض الناشئة الأغرار والمنتمين إلى العمل في الكتاب والسنة أنهم قالوا عن السلف : " أولئك رجال ونحن رجال " !! كأنَّهم قارنوا بين أنفسهم وبين أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين قال فيهم - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح : ( لا تسبُّوا أصحابي ، فوالذي نفس محمَّد بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ) ، لقد جهلوا أو تجاهلوا هذا الحديث فقالوا : " نحن رجال وهم رجال " !!
هنا يأتي :
وابن اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ *** لم يستطِعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ
ختامًا : أذكِّر بذاك الحديث ، ولا أسرده بطوله ؛ وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ) ، كأن سائلًا يقول : فماذا نفعل يا رسول الله ؟ أجاب بدون سؤال : ( فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، لم يقل - أيضًا - هنا : فعليكم بسنَّتي فحسب ، وإنما قال عاطفًا عليها هذه الجملة : ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ؛ عضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) . زيادة : ( وكل ضلالة في النار ) في حديث جابر بن عبد الله المعروف ، وهي في " سنن النسائي " بالسند الصحيح .
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
تقدَّموا ما دام ما في مكبِّر فليسمع المتأخِّر إن شاء الله - أيضًا - .
لقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعرفون التشهد في جلوس التشهد ؛ فلذلك فقد كانوا يقعون بعض الكلمات من عند أنفسهم يمجِّدون الله - تبارك وتعالى - كما يبدو لهم ، فكان أحدهم إذا جلس في التشهد يقول : السلام على الله ، السلام على جبريل ، السلام على عباد الله الصالحين . فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله هو السلام ) ، وقول المصلي : السلام على الله ؛ فهذا ما يناسب مقام الله - تبارك وتعالى - ؛ لأن السلام اسمٌ من أسماء الله ؛ فكأنَّ العبد يُعيد اسم الله على الله ، وهذا لا يليق ؛ فلذلك علَّمهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأحسن تعليمهم ، فقال لهم : ( إذا جلس أحدكم في التشهُّد فَلْيقُلْ : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) . قال - عليه السلام - : ( ثم ليتخيَّر أحدكم من الدعاء ما شاء ) .
فمن هنا فُرِضَ التشهد على المصلين ، ولم يكن قبل ذلك مفروضًا ، وقد جاء في حديث مختصر عن ابن مسعود نفسه التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرضَ قراءة التشهد في الصلاة ، ومن يومئذٍ صار التشهد فريضةً من فرائض الصلاة ، وقد اختلف العلماء قديمًا في حكم هذا التشهد ؛ فمن قائلٍ لِمَا جاء في الحديث : إنه فرض ، ومن قائل : إنه واجب ، ولا أريد أن أخوض الآن في بيان الفرق بين الفرض والواجب ؛ لأنه أولًا : قول مرجوح ؛ الفرض هو الواجب ، والواجب هو الفرض ، وإنما هو مجرَّد اصطلاح من بعض المذاهب ، وقد علمتم - وهذا ثانيًا - أنه خلاف ما عليه جماهير العلماء ، وخلاف الحديث السابق أن التشهد في الصلاة فرض ؛ أي : فرضه الرسول بوحي من رب العالمين .
فبعد هذا التشريع الجديد لم يجُزْ لأحد أن يتساهل في ترك التشهد في جلوس التشهد ، وهذه الصيغة التي سمعتموها لا بد من أن نذكر حولها أمرين اثنين ؛ أولهما هو الجواب عن سؤال السائل ؛ أي : إن هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأصح الصيغ التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإن كانت هناك صيغ أخرى كنت أحصَيْتُها وجمعتها في كتابي " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنَّك تراها " ، وإنما ذلك أعني إنما أصح هذه التشهدات هو تشهد ابن مسعود هذا ؛ لأنه اتَّفق على إخراجه البخاري ومسلم في " صحيحهما " ، ولأن علماء الحديث قاطبةً يذهبون الى أصحِّيَّة هذه الصيغة على الصيغة الأخرى .
هناك الصيغة الثانية المشهورة ، وهي التي أخذ بها الإمام الشافعي ، وهي تختلف بعض الشيء عن ... تشهد عن ابن مسعود : ( التحيات الطيبات لله ) ، في بعض الروايات : ( الزاكيات ) ، فكان من جملة الأسباب التي جعل بعض المحدِّثين يرجِّحون رواية ابن مسعود لهذه الصيغة على رواية ابن عباس أن ، ابن مسعود قديم الصحبة ، أما ابن عباس فحديث الصحبة ؛ لأنَّه مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قريب من بلوغ سنِّ التكليف ، وأيضًا إن حديث ابن مسعود لم يختلف الرواة عليه ولو في حرف واحد ، فكلهم رووا هذه الصيغة كما روَتِ الأمةُ بالإجماع فاتحةَ الكتاب ؛ ليس فيها اختلاف ولا في حرف واحد ؛ كذلك تشهد ابن مسعود - رضي الله عنه - كل الرواة الذين روَوْه حافظوا عليه بالحرف الواحد ، ولا جرمَ ولا غرابة في ذلك ؛ لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان من اهتمامه في تلقينه وتعليمه لأصحابه من بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين ، أصحاب ابن مسعود الذين لم يُدركوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فكان ابن مسعود يعلِّمه أصحابَه ومنهم علقمة ، فعلقمة هذا يقول عن ابن مسعود أنه : " كان إذا علَّمنا التشهد يأخذ علينا حتَّى الحرف الواحد " .
كان ابن مسعود إذا علَّمهم يأخذ عليهم حتى الحرف الواحد ؛ ولذلك ... أصحاب ابن مسعود على رواية صيغة تشهد ابن مسعود بالحرف الواحد لا اختلاف بينهم إطلاقًا بخلاف تشهد ابن عباس ، فإذا كان السؤال : أيُّ الصيغ أصح ؟ فقد عرفتم الجواب ؛ أنه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وعرفتم الأسباب أنها متعدِّدة وكثيرة .
بقي شيء آخر أشرت إلى أنه لا بد من ذكره ؛ وهي فائدة - في علمي - أعرَضَ عن تطبيقها جماهير المصلين ، وذلك لأنَّهم لم تصِلْهم هذه الفائدة مع أنها جاءت في " صحيح البخاري " وفي " مسند الإمام أحمد " - رحمهم الله تعالى - ، لقد قال ابن مسعود فيما روياه - أعني البخاري وأحمد - بإسنادهما الصحيح : علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكفِّي بين كفَّيه ، كفُّ ابن مسعود بين كفَّي الرسول - عليه السلام - ، وهذا كناية عن اهتمامه - صلى الله عليه وآله وسلم - بصاحبه ابن مسعود حيث وضع كفَّه ... ولما وصل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإنك إذا قلتها أصابت كلَّ عبدٍ صالح في السماء أو في الأرض ) ، ( وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) . قال ابن مسعود - وهنا الفائدة - : قلنا : ( السلام عليك أيها النبي ) والنبي بين ظهرانينا - أي : وهو حيٌّ يعيش بين ظهراني أصحابه - قال ابن مسعود : فلمَّا مات قلنا : ( السلام على النبي ) ، فلمَّا مات - عليه الصلاة والسلام - قلنا : ( السلام على النبي ) ، فقول ابن مسعود في التَّفريق في السلام على النبي في التشهد إنما هو تفريق لتوصيف للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له ولأصحابه ، والمقصود بالتوصيف يعني لإشعار من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم أن يقولوا في التشهد في السلام عليه بعد وفاته : ( السلام على النبي ) ، ولذلك استجابةً من أصحابه - عليه الصلاة والسلام - بإيقاف النبي إياهم على هذا التشريع الجديد بعد وفاته استجابوا له ، فصرَّح ابن مسعود في تشهده هذا أنَّنا قلنا : السلام عليك أيها النبي ، وهو بين ظهرانينا ، فلما مات قلنا : السلام على النبي ؛ أي : تركوا كاف الخطاب وانتقلوا إلى لفظة الغيب ، فقالوا : السلام على النبي .
وقد تناقش بعض العلماء من الشافعية حول قول ابن مسعود هذا ؛ هل هو توقيف من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو لاجتهاد من ابن مسعود ؟ فقيل وقيل ، لكن كان القول الراجح ما ذكره الإمام السبكي من الشافعية أنه قال : إذا صحَّ قول ابن مسعود : فلما مات قلنا السلام على النبي وجبَ العدول من لفظة الخطاب ( السلام عليك أيها النبي ) إلى لفظة الغيبة : ( السلام على النبي ) ، لكن الفرق بين قول السبكي وبين استدراك الحافظ ابن حجر العسقلاني هو ما يلحَظُه كلُّ من سمع آنفًا أن هذا الحديث رواه البخاري ، فقول السبكي : إن صح فتحفُّظٌ لا محلَّ له ؛ ولذلك استدرك عليه ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : قد صحَّ ذلك ، كما جاء في رواية البخاري السابقة ، فلما مات قلنا السلام على النبي ، فإذًا صح ، وثانيًا أن ابن مسعود لم يَحْكِ ذلك عن نفسه فقط ، بل حكاه عن الصحابة ؛ لأنه قال : كنا نقول وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - بين ظهرانينا : ( السلام عليك أيها النبي ) . كنا نقول ، مش كنت أقول ، فلما مات قلنا : ( السلام على النبي ) . ثم أيَّد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذا البيان الشافي من التفريق بين ما روى البخاري بلفظ : فلما مات قلنا مش قلت ؛ أيَّد هذا الرواية برواية أخرى عزاها لـ " مصنف عبد الرزاق " ، وقد طُبع هذا المصنف - والحمد لله - منذ بضع سنين أو أكثر ؛ حيث روى عبد الرزاق في " مصنفه " بإسناد صحيح عن عطاء ابن أبي رباح قال : كان أصحاب النبي - هذه رواية صريحة - كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقولون في حياته : ( السلام عليك أيها النبي ) ، فلما مات قالوا : ( السلام على النبي ) . ولذلك صار لزامًا علينا أن نقول كما صار إليه أصحابه بعد وفاته : ( السلام على النبي ) ، وليس : ( السلام عليك أيها النبي ) .
هذا من أجل هذا المثال نقول دائمًا وأبدًا : لا يكفي الدعوة في هذا الزمان إلى العمل بالكتاب والسنة وهذا واجب ، لكن انتبهوا إلى ما أقول : ينبغي الدعوة إلى الكتاب والسنة ، ولكن لا ينبغي الاقتصار في الدعوة إلى الكتاب والسنة أن نقف هنا ، بل لا بد لنا من أن نضيف إلى ذلك : وعلى منهج السلف الصالح ؛ أي : نحن ندعو إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ؛ لماذا ؟ لأن السلف الصالح وعلى رأسهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين باشروا السَّماع من فمه غضًّا طريًّا إلى آذانهم ، ونقلوا ذلك واقعًا في حياتهم إلى مَن بعدهم ، وهذا هو المثال بين أيديكم ... ولم نلتفت إلى رواية ابن مسعود هذه المفصِّلة بين حياته - عليه السلام - التي كانوا يقولون : ( السلام عليك أيها النبي ) ، وبين بعد وفاته التي قالوا فيها : ( السلام على النبي ) ما كنَّا لِنُطبِّقَ الحديث إلا على التعليم النبوي الأول ؛ ألا وهو : ( إذا جلس أحدكم للتشهد فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ) إلى آخره ، لكن اعتمادنا على هذا الصحابي الذي فرَّق لنا ليس بلفظ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنما بفهمٍ منه بين السلام من مُخاطبته في حياته وبين السلام بتركه مُخاطبته بعد وفاته .
من هنا يتبيَّن لكم كمثال من عشرات بل مئات الأمثلة أنَّنا لا نستطيع أن نفهمَ الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا إلا على منهج أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم الذين جاؤوا من بعدهم ، وهذا القيد - على منهج السلف الصالح - قد يستنكره بعض الجماعات الإسلامية لم تتفقَّهْ ليس فقط بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ بل حتى ولا بالقرآن الكريم ؛ لأنَّ هذا القيد الذي ذكرته آنفًا وهو اتباع أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما فهموه وفيما تلقَّوه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ممَّا أمر به القرآن الكريم ، فكلُّنا يقرأ فيه قول الله - تبارك وتعالى - : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) ، فقوله - تبارك وتعالى - : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) هذه الجملة لها معنى إضافي على الجملة التي قبلها ، والتي عليها حُفظت الجملة التي بعدها ؛ حيث قال - تعالى - : "" ومن يشاقق الرسول من بعد ما جاءه الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين "" ، لم يقل ربنا - عز وجل - ، ولو أنَّه قال ذلك لَكفى ، لكنَّه أراد أن ينبِّهَ المسلمين إلى هذه النكتة التي سبق أن ذكرتُها ؛ وهي اتباع أصحاب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ فقال : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) لم يقل : "" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى "" إلى آخر الآية ، وإنما جاء بجملة إضافية على الجملة الأولى كما ذكرت آنفًا وهي : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) .
فإذًا اتباع سبيل المؤمنين أمر ضروري جدًّا ، وأساس من أسس الدعوة الإسلامية الحقِّ التي لا يكون مخالفها على هدًى من ربِّه - تبارك وتعالى - ، وقد شرح الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الجملة (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، وبيَّنها بأنَّ المقصود ابتداءً إنما هم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في حديث تفرُّق المسلمين كما تفرَّقت اليهود والنصارى ، فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرَّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ) . قلنا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي الجماعة ) . ما قال في هذه الرواية : هي كتاب الله وسنة رسول الله ؛ لأن هذا مفهوم من عديد من الآيات والأحاديث ؛ كمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ، لكنه قال في هذا الحديث : الفرقة الناجية هي الجماعة ؛ أي : هم الصحابة الذين كانوا على هدًى من ربِّهم بسبب اقتفاءهم آثارَ نبيِّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقد أوضح هذا المعنى زيادة إيضاح في الروايات الأخرى التي قال فيها جوابًا عن ذاك السؤال ؟ من هي الفرقة الناجية ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - : ( هي التي على ما أنا عليه وأصحابي ) ؛ إذًا لم يَقُلْ هي التي ما أنا عليه فقط ، وإنما - أيضًا - عطف على ذلك فقال : ( وأصحابي ) ، هذا تمام إن لم يكن وحيًا من الله مباشرةً على قلب نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو اقتباس من الآية السابقة : (( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ما هي سبيل المؤمنين ؟ هي أصحابه الذين قال فيهم : ( هو ما أنا عليه وأصحابي ) .
هذا حديث مشهور جدًّا يُعطي معنى الآية ويوضِّحها ، والحديث الآخر الذي فيه ، سأختصره ؛ لأن الوقت قد ضاق ، ولا بد أن عند بعض الإخوان أسئلة أخرى ، وقد استطردت كثيرًا في الاجابة عن ذاك السؤال ، واستغللته استغلالًا شرعيًّا لأوضِّحَ لكم هذه الحقيقة التي غَفَلَ عنها كثير من الدعاة الإسلاميين ؛ حتى الذين يتبنَّون الكتاب والسنة لا يتنبَّهون لضرورة تفهُّمهم للكتاب والسنة على ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، حتَّى بَلَغَني عن بعض الناشئة الأغرار والمنتمين إلى العمل في الكتاب والسنة أنهم قالوا عن السلف : " أولئك رجال ونحن رجال " !! كأنَّهم قارنوا بين أنفسهم وبين أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين قال فيهم - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح : ( لا تسبُّوا أصحابي ، فوالذي نفس محمَّد بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ) ، لقد جهلوا أو تجاهلوا هذا الحديث فقالوا : " نحن رجال وهم رجال " !!
هنا يأتي :
وابن اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ *** لم يستطِعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ
ختامًا : أذكِّر بذاك الحديث ، ولا أسرده بطوله ؛ وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ) ، كأن سائلًا يقول : فماذا نفعل يا رسول الله ؟ أجاب بدون سؤال : ( فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، لم يقل - أيضًا - هنا : فعليكم بسنَّتي فحسب ، وإنما قال عاطفًا عليها هذه الجملة : ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ؛ عضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) . زيادة : ( وكل ضلالة في النار ) في حديث جابر بن عبد الله المعروف ، وهي في " سنن النسائي " بالسند الصحيح .
- رحلة النور - شريط : 94
- توقيت الفهرسة : 00:05:42
- نسخة مدققة إملائيًّا