ما هو التوسُّل المشروع ؟ وما قولكم في التوسُّل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وما صحة الأحاديث التي وردت في التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيًّا وميِّتًا ؟
A-
A=
A+
السائل : فضيلة الشيخ ، السائل يسأل يقول : ما هو التوسُّل المشروع ؟ وما قولكم في التوسُّل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وما صحة الأحاديث التي وردت في التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيًّا وميِّتًا ؟
الشيخ : هذا بحث جديد ، لا أظنُّ أنكم تصبرون عليه ؛ لا لرغبتكم عن العلم ، وإنما لشرطكم أن تسمعوا الجواب عمَّا يمكن الجواب عنه وعن بقيَّة الأسئلة ، ولذلك فأنا سأوجز الجواب عن هذا السؤال بقدر ما أستطيع ، فإن أطلت فلا مؤاخذة ، وسلفًا أُحيل إلى كتاب لي مَن كان حريصًا على القراءة والاطلاع إن لم يكن قد اطَّلع عليه بعدُ ، ألا وهو الذي كنت سمَّيته : " التوسل أنواعه وأحكامه " ، وهو كتاب قد طُبع مرارًا وتكرارًا .
التوسل نوعان : مشروع ، وغير مشروع ، عبادة وغير عبادة ، أما التوسل المشروع : فهو توسل العبد إلى الله - تبارك وتعالى - باسمٍ من أسمائه = -- يرحمك الله -- = أو بصفةٍ من صفاته - تبارك وتعالى - ، أو بعمله الصالح ، أو بدعاء أخيه المسلم ، كما جاء في هذا القسم الأخير الاستسقاء بالصالحين كما فعل عمر بن الخطاب حينما أُصيبوا في المجاعة في عام الرَّمادة ، خرج يستسقي فقال : ( اللهم إنا كنَّا إذا أجدبنا توسَّلنا إليك بنبيِّك فتسقينا ، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا ؛ فيُسقون ) ، هذا هو التوسل المشروع ؛ باسم من أسماء الله أو بصفة من صفات ، أو بعمله الصالح ، أو بدعاء الرجل الصالح ، وبخاصَّة إذا كان من أهل البيت كالعباس عمِّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
ولعل من المُستحسن والمفيد أن نذكِّركم ، وقد لا يكون بعضُكم سمع بالحديث الذي فيه مشروعيَّة توسل الداعي إلى الله بعمله الصالح وليس بعمل غيره الصالح ؛ ألا وهو حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : ( بينما ثلاثة نفرٍ ممَّن قبلكم يمشون في فلاةٍ ، إذ أصابهم المطر ، فأوَوْا إلى غارٍ في جبل ، فانحطَّت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم ) . صخرة من الجبل يعني جبل كبير سدَّ عليهم طريق الخروج من الغار ؛ فهم في مشكلة لا مغيثَ لهم إلا الله - تبارك وتعالى - ، فلما وجدوا أنفسهم محصورين في ذلك الغار قال أحدهم : ( يا هؤلاء ، ادعوا الله بأعمالكم الصالحة ، توسَّلوا إلى الله بعملٍ لكم صالح لعلَّ الله يفرجها عنكم ، فقام أحدهم داعيًا فقال : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأتي ، وكان لي صبيةٌ صغار أرعى عليهم ) . وأظنكم تفهمون بدون شرح هذه الكلمات ؛ لأنها عربية أصيلة . ( كان لي أبوان شيخان كبيران أرعى عليهم ، فإذا أردت حلبت فبدأت بأبويَّ قبل بنيَّ ، فنأى بي ذات يوم شجر فأرحت وقد أمسيت ، فوجدتهما قد ناما ، فحلبت كما كنت أحلب ، وجئت ... قد قمت على رؤوسهما أكره أن أوقِظَهما من نومهما ، وأكره أن أسقِيَ الصِّبية قبلهما ، والصبية يتضاغون من الجوع عند قدميَّ ؛ فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ) . بقي واقفًا حذرًا أن يوقظ أبويه ليبدأَ بهما كما هي عادته ، يقول : لعلَّ هذا هو الأفضل ، لكن لا أريد أن أزعجهما ، أبدأ إذًا بالصِّبية الصغار وهم يتضاغون يصيحون جوعًا ، إذًا : أبدأ بهما قبل أبويَّ ، عاش هكذا ... حتَّى الصباح .
وهذا من تمام تبجيله وتقديره لحقِّ الأبوين على أولاده الصغار ؛ لذلك قال : ( فلم يَزَلْ ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ، قال : فاللهم إن كنت تعلم أنِّي فعلت ذلك ابتغاءَ مرضاتك فافرج لنا منها فرجةً نرى منها السماء ، فانزاحت الصخرة شيئًا قليلًا ، ولكن لا يستطيعون الخروج ، حتى قام الرجل الثاني ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عمٍّ أحبَبْتُها كأشدِّ ما يحبُّ الرجال النساء ، فطلبْتُ منها نفسها ، فأبت حتى آتِيَها بمائة دينار ، قال : فتعبْتُ حتى جمعت لها مائة دينار ، فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله ، اتَّق الله ، ولا تفتح الخاتم إلا بحقِّه ، فقمت عنها ، وتركت لها مائة دينار ، فإن كنت تعلم أنِّي فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا كربة ، فانزاحت الصخرة - أيضًا - شيئًا قليلًا ، ولكن لا يستطيعون الخروج ) . يرون آيات الله واستجابة الله لدعاء عباده الصالحين بعملهم ، ولكن لما تتمَّ المعجزة بعد حتى يقوم الرجل الثالث ليقول : ( اللهم إن كنت تعلم إني استأجرت أجيرًا على فَرَقٍ من أرز - يعني : شيء من أرز - ، فلما قضى عمله عرضت عليه فَرَقَه ... إيش هنا ؟ فَرَقَه فرَغِبَ عنه ، قال : فلم أزَلْ أزرع هذا الفَرَقَ حتى جمعت منه بقرًا ورعاءها ، ثم جاءني بعد زمن طويل سنين عديدة ، الظاهر أن الرجل ألمَّت به مصيبة أو أصاب قومَه جوعٌ ، فتذكَّر أن له عند ذلك الرجل صاحب المزرعة فَرَق من أرز ، فذهب إليه وقال له : يا عبد الله ، أعطني حقِّي ، قال : انظر إلى تلك البقر فاذهب وخُذْها ، قال : يا عبد الله ، اتَّق الله ولا تستهزئ بي ، إنَّما لي عندك فَرَقٌ من أرز ، قال : اذهب وخُذْها ، فإنما تلك البقر من ذاك الفَرَق ، فذهب واستاقَها ، فاللهم إن كنت تعلم أنَّني فعلت ذلك ابتغاءَ مرضاتك ففرِّج عنَّا ما بقي ، ففرَّج الله عنهم ما بقي ، وانزاحت الصخرة ، فخرجوا يتمشَّون ) .
هذا دليل التوسل الثالث ، وهو توسل المتوسل إلى الله بعمل صالح توفَّر فيه الشرطان اللَّذان سبق ذكرهما في كلمتي الأولى ؛ وهي صالح لأنكم ترون الرجل الأول يُعنى بخدمة أبيه أكثر من أولاده ، والرجل الثاني همَّ بالفجور والزِّنا بالمرأة الغريبة عنه ، فلمَّا ذكَّرته بالله تذكَّر وانتهى ، وذاك الرجل الغنيُّ لم يطمع بالرغم أنه استغلَّ ذلك الفَرَق ، فجمع منه مالًا كثيرًا ، فلم يستغلَّ هذا المال لصالح نفسه ، بل أعادَه إلى صاحب الأصل ؛ ألا وهو الفَرَق ، فهذه بلا شك أعمال صالحة جليلة ، ثم قالوا في توسلهم : إن كنت تعلم أننا فعلنا ذلك ابتغاءَ مرضاة الله ، وهذا هو الإخلاص ؛ ولذلك استجابَ الله لهم وأنقذهم من ذلك الضِّيق الذي ألمَّ بهم لا يقدر على تفريج كربهم هذا إلا الله - تبارك وتعالى - .
أما غير هذه التوسُّلات الأربعة : التوسل باسم من أسماء الله أو بصفة من صفات الله ، أو بعمل الدَّاعي الصالح ، أو التوسل بدعاء الرجل الصالح ؛ ما سوى ذلك من التوسلات فكلُّها من محدثات الأمور ، وطالما سمعتم قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - في بعض خطبه : " وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإنَّ كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " ، وشرُّ البدع ما كان منها يؤدِّي إلى الإشراك بالله - تبارك وتعالى - ، وبعض هذه التوسلات المبتدعة غير المشروعة كثيرًا ما يختلط بها ما هو الشرك الأكبر ، كقولهم : اللهم إني أسألك بحقِّ فلان وبحقِّ فلان ، بجاه نبيِّك أو بنحو ذلك ؛ لأن هذا التوسل يُشعر أن هذا المُتوسِّل يعتقد أن المُتوسَّل به له تأثير على الله - عز وجل - ، وأنَّ الله ليس يفعل ما يشاء كما هو نصَّ القرآن ؛ إن الله - عز وجل - يفعل ما يشاء : (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )) .
بل بعض هؤلاء المتوسِّلين يُشعرون أنفسهم بأنَّ لصاحب الجاه تأثيرًا على الخالق للناس أجمعين ، والدليل على ذلك كما جرَّبنا كثيرًا وناقشنا فيهم - أي : العامة وبعض الخاصَّة - يقولون في إنكارهم علينا حينما نُنكر عليهم التوسل المبتدع بغير هذه التوسلات الأربعة ، يقولون يضربون مثلًا وبئس المثل : أليس إذا كان لأحدنا حاجة عند ملك أو وزير أو أمير أنه لا بد من أن يقدِّم إليه واسطة ليقضي حاجتنا ؟! نقول : نعم ، هكذا الناس ؛ ولكن هل هذا مدح لذاك الأمير أو الوزير أو الملك أم هو قدح ؟ فكنا نقول : ما رأيك في عمر بن الخطاب الذي ضرب به الكفار مثلًا للحاكم العادل ؟! فسمَّوه : بالحاكم الديمقراطي - زعموا - لعدالته في شعبه ؛ فهل كان عمر أهدى سبيلًا من هؤلاء الأمراء الذين تضرب المثل لهم لله - تبارك وتعالى - فتقولون : كما أننا نتوسَّل إلى هؤلاء بالواسطة ؛ فنحن - أيضًا - نتوسل إلى الله بالواسطة ، ما رأيكم عمر خير أم هؤلاء الذين لا يقضون الحاجة إلا بواسطة ؟ مساكين ضالِّين تائهين لا يعرفون ما يليق بالله - عز وجل - وما لا يليق ، فما يسعهم إلا أن يقولوا : لا والله ؛ عمر بن الخطاب خير من هؤلاء الأمراء الذين لا يصلون إليهم إلا بالوساطة ؛ فنقول حينئًذ : اتَّقوا الله - عز وجل - ، لو أنكم شبَّهتم ربَّ العالمين بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لَكفرتم ؛ لأن الله يقول : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ؛ فكيف وأنتم قد أبيتم أن تشبِّهوا الله بالأمير العادل ؟! والتشبيه هذا كفر حتى شبَّهتموه بالظَّلَمة من الحكَّام والأمراء ؛ أفلا تتَّقون ؟! إذا اقترن بالتوسل هذا المعنى وهو شرك في الرُّبوبية وليس فقط بالعبادة ، بالربوبيَّة !! أما إذا تعرَّى التوسل عن هذا التشبيه للخالق بالمخلوقين ؛ فهو بدعة ، وكفى بذلك تحذيرًا كما سمعتم آنفًا من قوله - عليه السلام - : ( وإيَّاكم ومحدثات الأمور ) إلى آخر الحديث .
نعم .
الشيخ : هذا بحث جديد ، لا أظنُّ أنكم تصبرون عليه ؛ لا لرغبتكم عن العلم ، وإنما لشرطكم أن تسمعوا الجواب عمَّا يمكن الجواب عنه وعن بقيَّة الأسئلة ، ولذلك فأنا سأوجز الجواب عن هذا السؤال بقدر ما أستطيع ، فإن أطلت فلا مؤاخذة ، وسلفًا أُحيل إلى كتاب لي مَن كان حريصًا على القراءة والاطلاع إن لم يكن قد اطَّلع عليه بعدُ ، ألا وهو الذي كنت سمَّيته : " التوسل أنواعه وأحكامه " ، وهو كتاب قد طُبع مرارًا وتكرارًا .
التوسل نوعان : مشروع ، وغير مشروع ، عبادة وغير عبادة ، أما التوسل المشروع : فهو توسل العبد إلى الله - تبارك وتعالى - باسمٍ من أسمائه = -- يرحمك الله -- = أو بصفةٍ من صفاته - تبارك وتعالى - ، أو بعمله الصالح ، أو بدعاء أخيه المسلم ، كما جاء في هذا القسم الأخير الاستسقاء بالصالحين كما فعل عمر بن الخطاب حينما أُصيبوا في المجاعة في عام الرَّمادة ، خرج يستسقي فقال : ( اللهم إنا كنَّا إذا أجدبنا توسَّلنا إليك بنبيِّك فتسقينا ، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا ؛ فيُسقون ) ، هذا هو التوسل المشروع ؛ باسم من أسماء الله أو بصفة من صفات ، أو بعمله الصالح ، أو بدعاء الرجل الصالح ، وبخاصَّة إذا كان من أهل البيت كالعباس عمِّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
ولعل من المُستحسن والمفيد أن نذكِّركم ، وقد لا يكون بعضُكم سمع بالحديث الذي فيه مشروعيَّة توسل الداعي إلى الله بعمله الصالح وليس بعمل غيره الصالح ؛ ألا وهو حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : ( بينما ثلاثة نفرٍ ممَّن قبلكم يمشون في فلاةٍ ، إذ أصابهم المطر ، فأوَوْا إلى غارٍ في جبل ، فانحطَّت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم ) . صخرة من الجبل يعني جبل كبير سدَّ عليهم طريق الخروج من الغار ؛ فهم في مشكلة لا مغيثَ لهم إلا الله - تبارك وتعالى - ، فلما وجدوا أنفسهم محصورين في ذلك الغار قال أحدهم : ( يا هؤلاء ، ادعوا الله بأعمالكم الصالحة ، توسَّلوا إلى الله بعملٍ لكم صالح لعلَّ الله يفرجها عنكم ، فقام أحدهم داعيًا فقال : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأتي ، وكان لي صبيةٌ صغار أرعى عليهم ) . وأظنكم تفهمون بدون شرح هذه الكلمات ؛ لأنها عربية أصيلة . ( كان لي أبوان شيخان كبيران أرعى عليهم ، فإذا أردت حلبت فبدأت بأبويَّ قبل بنيَّ ، فنأى بي ذات يوم شجر فأرحت وقد أمسيت ، فوجدتهما قد ناما ، فحلبت كما كنت أحلب ، وجئت ... قد قمت على رؤوسهما أكره أن أوقِظَهما من نومهما ، وأكره أن أسقِيَ الصِّبية قبلهما ، والصبية يتضاغون من الجوع عند قدميَّ ؛ فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ) . بقي واقفًا حذرًا أن يوقظ أبويه ليبدأَ بهما كما هي عادته ، يقول : لعلَّ هذا هو الأفضل ، لكن لا أريد أن أزعجهما ، أبدأ إذًا بالصِّبية الصغار وهم يتضاغون يصيحون جوعًا ، إذًا : أبدأ بهما قبل أبويَّ ، عاش هكذا ... حتَّى الصباح .
وهذا من تمام تبجيله وتقديره لحقِّ الأبوين على أولاده الصغار ؛ لذلك قال : ( فلم يَزَلْ ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ، قال : فاللهم إن كنت تعلم أنِّي فعلت ذلك ابتغاءَ مرضاتك فافرج لنا منها فرجةً نرى منها السماء ، فانزاحت الصخرة شيئًا قليلًا ، ولكن لا يستطيعون الخروج ، حتى قام الرجل الثاني ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عمٍّ أحبَبْتُها كأشدِّ ما يحبُّ الرجال النساء ، فطلبْتُ منها نفسها ، فأبت حتى آتِيَها بمائة دينار ، قال : فتعبْتُ حتى جمعت لها مائة دينار ، فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله ، اتَّق الله ، ولا تفتح الخاتم إلا بحقِّه ، فقمت عنها ، وتركت لها مائة دينار ، فإن كنت تعلم أنِّي فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا كربة ، فانزاحت الصخرة - أيضًا - شيئًا قليلًا ، ولكن لا يستطيعون الخروج ) . يرون آيات الله واستجابة الله لدعاء عباده الصالحين بعملهم ، ولكن لما تتمَّ المعجزة بعد حتى يقوم الرجل الثالث ليقول : ( اللهم إن كنت تعلم إني استأجرت أجيرًا على فَرَقٍ من أرز - يعني : شيء من أرز - ، فلما قضى عمله عرضت عليه فَرَقَه ... إيش هنا ؟ فَرَقَه فرَغِبَ عنه ، قال : فلم أزَلْ أزرع هذا الفَرَقَ حتى جمعت منه بقرًا ورعاءها ، ثم جاءني بعد زمن طويل سنين عديدة ، الظاهر أن الرجل ألمَّت به مصيبة أو أصاب قومَه جوعٌ ، فتذكَّر أن له عند ذلك الرجل صاحب المزرعة فَرَق من أرز ، فذهب إليه وقال له : يا عبد الله ، أعطني حقِّي ، قال : انظر إلى تلك البقر فاذهب وخُذْها ، قال : يا عبد الله ، اتَّق الله ولا تستهزئ بي ، إنَّما لي عندك فَرَقٌ من أرز ، قال : اذهب وخُذْها ، فإنما تلك البقر من ذاك الفَرَق ، فذهب واستاقَها ، فاللهم إن كنت تعلم أنَّني فعلت ذلك ابتغاءَ مرضاتك ففرِّج عنَّا ما بقي ، ففرَّج الله عنهم ما بقي ، وانزاحت الصخرة ، فخرجوا يتمشَّون ) .
هذا دليل التوسل الثالث ، وهو توسل المتوسل إلى الله بعمل صالح توفَّر فيه الشرطان اللَّذان سبق ذكرهما في كلمتي الأولى ؛ وهي صالح لأنكم ترون الرجل الأول يُعنى بخدمة أبيه أكثر من أولاده ، والرجل الثاني همَّ بالفجور والزِّنا بالمرأة الغريبة عنه ، فلمَّا ذكَّرته بالله تذكَّر وانتهى ، وذاك الرجل الغنيُّ لم يطمع بالرغم أنه استغلَّ ذلك الفَرَق ، فجمع منه مالًا كثيرًا ، فلم يستغلَّ هذا المال لصالح نفسه ، بل أعادَه إلى صاحب الأصل ؛ ألا وهو الفَرَق ، فهذه بلا شك أعمال صالحة جليلة ، ثم قالوا في توسلهم : إن كنت تعلم أننا فعلنا ذلك ابتغاءَ مرضاة الله ، وهذا هو الإخلاص ؛ ولذلك استجابَ الله لهم وأنقذهم من ذلك الضِّيق الذي ألمَّ بهم لا يقدر على تفريج كربهم هذا إلا الله - تبارك وتعالى - .
أما غير هذه التوسُّلات الأربعة : التوسل باسم من أسماء الله أو بصفة من صفات الله ، أو بعمل الدَّاعي الصالح ، أو التوسل بدعاء الرجل الصالح ؛ ما سوى ذلك من التوسلات فكلُّها من محدثات الأمور ، وطالما سمعتم قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - في بعض خطبه : " وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإنَّ كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " ، وشرُّ البدع ما كان منها يؤدِّي إلى الإشراك بالله - تبارك وتعالى - ، وبعض هذه التوسلات المبتدعة غير المشروعة كثيرًا ما يختلط بها ما هو الشرك الأكبر ، كقولهم : اللهم إني أسألك بحقِّ فلان وبحقِّ فلان ، بجاه نبيِّك أو بنحو ذلك ؛ لأن هذا التوسل يُشعر أن هذا المُتوسِّل يعتقد أن المُتوسَّل به له تأثير على الله - عز وجل - ، وأنَّ الله ليس يفعل ما يشاء كما هو نصَّ القرآن ؛ إن الله - عز وجل - يفعل ما يشاء : (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )) .
بل بعض هؤلاء المتوسِّلين يُشعرون أنفسهم بأنَّ لصاحب الجاه تأثيرًا على الخالق للناس أجمعين ، والدليل على ذلك كما جرَّبنا كثيرًا وناقشنا فيهم - أي : العامة وبعض الخاصَّة - يقولون في إنكارهم علينا حينما نُنكر عليهم التوسل المبتدع بغير هذه التوسلات الأربعة ، يقولون يضربون مثلًا وبئس المثل : أليس إذا كان لأحدنا حاجة عند ملك أو وزير أو أمير أنه لا بد من أن يقدِّم إليه واسطة ليقضي حاجتنا ؟! نقول : نعم ، هكذا الناس ؛ ولكن هل هذا مدح لذاك الأمير أو الوزير أو الملك أم هو قدح ؟ فكنا نقول : ما رأيك في عمر بن الخطاب الذي ضرب به الكفار مثلًا للحاكم العادل ؟! فسمَّوه : بالحاكم الديمقراطي - زعموا - لعدالته في شعبه ؛ فهل كان عمر أهدى سبيلًا من هؤلاء الأمراء الذين تضرب المثل لهم لله - تبارك وتعالى - فتقولون : كما أننا نتوسَّل إلى هؤلاء بالواسطة ؛ فنحن - أيضًا - نتوسل إلى الله بالواسطة ، ما رأيكم عمر خير أم هؤلاء الذين لا يقضون الحاجة إلا بواسطة ؟ مساكين ضالِّين تائهين لا يعرفون ما يليق بالله - عز وجل - وما لا يليق ، فما يسعهم إلا أن يقولوا : لا والله ؛ عمر بن الخطاب خير من هؤلاء الأمراء الذين لا يصلون إليهم إلا بالوساطة ؛ فنقول حينئًذ : اتَّقوا الله - عز وجل - ، لو أنكم شبَّهتم ربَّ العالمين بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لَكفرتم ؛ لأن الله يقول : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ؛ فكيف وأنتم قد أبيتم أن تشبِّهوا الله بالأمير العادل ؟! والتشبيه هذا كفر حتى شبَّهتموه بالظَّلَمة من الحكَّام والأمراء ؛ أفلا تتَّقون ؟! إذا اقترن بالتوسل هذا المعنى وهو شرك في الرُّبوبية وليس فقط بالعبادة ، بالربوبيَّة !! أما إذا تعرَّى التوسل عن هذا التشبيه للخالق بالمخلوقين ؛ فهو بدعة ، وكفى بذلك تحذيرًا كما سمعتم آنفًا من قوله - عليه السلام - : ( وإيَّاكم ومحدثات الأمور ) إلى آخر الحديث .
نعم .
- رحلة النور - شريط : 84
- توقيت الفهرسة : 00:08:32
- نسخة مدققة إملائيًّا