نرجو إيضاح معتقد الجبرية ، وكيفية الرَّدِّ عليهم بشبهة أن الله قدَّر المقادير قبل خلق السموات والأرض بزمن بعيد ؛ فكيف يُقال بأن الإنسان مخيَّر في أعماله كالطاعة والنسيان ؟
A-
A=
A+
السائل : قال : نرجو من فضيلتكم إيضاح معتقد الجبرية ، وكيفية الرَّدِّ عليهم بشبهة أن الله قدَّر المقادير قبل خلق السموات والأرض بزمن بعيد ؛ فكيف يُقال بأن الإنسان مخيَّر في أعماله كالطاعة والنسيان ؟
الشيخ : المسألة في الحقيقة سهلة عند من أحاط معرفةً بتقادير الله - عز وجل - السابقة للحوادث ، فإذا نحن درسنا أيَّ حادثة من الحوادث وقعت فلا نشكُّ أن هذا الواقع هو الذي سبق في اللوح المحفوظ وسُجِّلَ قبل أن يقع ، لنضرب على ذلك بعض الأمثلة : القاتل العمد والقاتل الخطأ ، والمجتهد المصيب والمجتهد المخطئ ، فلان قتل عامدًا ؛ ترى في اللوح المحفوظ ما الذي كُتِبَ ؟ أنه سيقتل عامدًا ، والآخر قتل خطأً ، ترى ما الذي كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ ؟ يقتل عامدًا أم يقتل خطأً ؟ لا شكَّ أن القدر الإلهي سابق للحوادث ، وهو بعلمه - تبارك وتعالى - الأزلي السابق يكتشف هذه الحوادث ، وسجَّلَها في اللوح المحفوظ قبل وقوعها ؛ فهي كما وقعت سُجِّلت ، وحينئذٍ نقول : القاتل العمد قتلَ باختياره أم باضطراره ؟ وعلى العكس : القاتل الخطأ قتل - أيضًا - باختياره أم رغم أنفه ؟
سيأتي الجواب : القاتل الأول قتل باختياره ، والقاتل الثاني قتل رغم أنفه ليس باختياره ؛ فهل نحن لأنه أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - بالقدر الذي سبق أن سجَّل المخلوقات كلها ؛ لأننا علمنا هذه الحقيقة ، هل معرفتنا بهذه الحقيقة تضطرُّنا نحن أن نغيِّر علمنا بهذا الواقع ؟ قلنا : أن أحد القاتلَين قتل باختياره ؛ فهل نقول : إنه قتل رغم أنفه ؛ لأننا اعتقدنا أنه سبق في كتاب الله - عز وجل - أنه سيقتل ؟ كان جوابنا : سبق في كتاب الله أنه سيقتل باختياره ؛ فإذًا الاختيار ثابت في القدر كالاضطرار تمامًا ، ولذلك كان كنتيجة بدهيَّة جدًّا أن الله - عز وجل - يعذِّب القاتل العمد ولا يعذِّب القاتل الخطأ ؛ لأن القاتل العمد قتل باختياره ، فالاختيار لا يمكن إنكاره لمجرَّد اعتقاد أن هذا القتل سُجِّل في اللوح المحفوظ ، لكن ينبغي أن نتذكَّر أن الذي سُجِّل في اللوح المحفوظ سيقع بكلِّ دقَّة ، وقد قلنا أن الذي وقع وقع باختياره ؛ فهذا هو مطابق للقدر الإلهي ولَّا مخالف ؟ كان مطابق للقدر الإلهي ، ولهذا فالذين يقولون بالجبر هم يخالفون القدر الإلهي ، ويريدون أن يسووا بين ما كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ وفي القدر الإلهي بالاختيار أو بالاضطرار ، من أجل هذا فرَّق الشرع والقانون والعقل بين مَن كان مختارًا في شيء ، وبين من كان غيرَ مختار ، فمناط التكليف إنما هو بوجود الاختيار ، فإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف ، فالقول بالجبر ينفي القدر ، بينما هم يريدون من إثبات الجبر بأنه ثبت في القدر ، القدر قسمان : مُسجَّل بالاختيار أنه سيفعل كذا ، ومُسجَّل بالاضطرار أنه سيفعل كذا ؛ فإذًا يعود قولهم بالجبر مُستندين إلى القضاء والقدر تعود الحجَّة عليهم على خلاف ما يزعمون .
وهناك نكتة لبعض الظرفاء : إذا قال لك الجبري : كلُّ شيء يفعله الإنسان فإنما هو مضطر ؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وأنه لا بد أن يقع ، قل له : فهل المضطرُّ مؤاخذ ومكلَّف ؟ سيقول لك : لا ؛ فما عليك بعد أن يقول هذه الضلالة إلا أن تصفعَه صفعة في خدِّه مثلًا ، فهو سيقول : أخ ليش ضربتني ؟ قل له : مضطر ، مضطر كلام من أسخف ما يكون ، والإنسان خلقه الله - عز وجل - في أحسن تقويم .
أنا أقول مثلًا : وين الاضطرار ؟ أنا الآن أتكلم معكم ؛ يا ترى مختارًا ولَّا مجبورًا ؟ إذا قلت : مجبورًا ها ، ها مجبور عن السكوت ها بتكلَّم معكم ، وين الاضطرار المزعوم ؟ فالله - عز وجل - أحكم الحاكمين خلق الإنسان ومكَّنه من عمل الخير كما مكَّنه من عمل الشَّرِّ ، ولذلك قال : (( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )) ، فالمشيئة البشرية ... الخير والشر ... ... ومع ذلك ربنا - عز وجل - قد فرَّق بين من كفر اختيارًا وبين من كفر اضطرارًا : (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )) ، ولقد روى بعضُ علماء التفسير كابن حجر وكابن جرير الطبري وغيره أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - حيث عذَّبه المشركون كما عذَّبوا بلالًا ، ثم يظهر أنهم شعروا منهم شيء من الضعف والارتخاء ، فعرضوا عليه أن يكفر بمحمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأن يقول فيه : إنه كذَّاب ، إنه ساحر ، إنه شاعر =
-- وعليكم السلام ورحمة الله --
= قالوا له : إن قلت هذا أطلقنا سراحك ، فهو جرى ... بهذا العرض ، فقال الكلمات هذه فأطلقوه ، فجاء إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - فبعد هذه الراحة التي وجدها عاد إليه رشده ، فأنَّبَتْه نفسه كيف أنا قلت فيمن هداني الله بسببه : إنه كذَّاب ، إنه ساحر ، إنه شاعر ؟!! فشكا الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلَّه ترتاح نفسه ممَّا بدر منه من الخطأ ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( كيف تجد قلبك ؟ ) أي : هذه الكلمات التي هي الكفر بعينه هل أنت مطمئنٌّ إليها ، ومنكر صدقي ونبوَّتي وإلى آخره ؟ قال : أجد قلبي مطمئنًّا بالإيمان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن عادوا فَعُدْ ) .
فالآن : مَن مِن العقلاء ممن أُوتي ذرة من عقلٍ ولبٍّ يسوِّي بين كفر عمار بن ياسر وكفر أبي لهب وأبي جهل ؛ هل يستويان مثلًا ؟ الجواب : لا ، لكنهما كلٌّ من الكفرين مُسجَّل في اللوح المحفوظ ؛ لأن الله قال : (( مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ، لكن هذا المُسجَّل هو الذي وقع ، فلماذا هؤلاء الجبريون يتَّخذون إذًا الكتابة السابقة دليلًا على أن المقصود مجبور عليه صاحبه ، والمكتوب فيه تفصيل ؛ تارةً قد يُكتب مجبورًا ، وتارًة قد يُكتب مختارًا ؟ فالقدر نفسه مطابق الواقع له ؛ فما كان ... فلا مؤاخذة كما في قصة عمار بن ياسر ، وما كان اختيارًا كما في قصة أبي لهب وأبي جهل وأمثاله من الكفرة ، فبهذا يمكن الرَّدُّ على هؤلاء الجبريَّة ، ويكفي أن تعرفوا خطورة مذهبهم وسخافة عقولهم ما قاله الشاعر في حقِّهم ممثِّلًا لهم كيف اعتقدوا في ربِّهم الظَّنَّ الذي يترفَّع عنه أظلم الناس ؛ حيث وصفوا ربَّهم بقولهم كما قال الشاعر :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ في الماءِ
هل يفعل هذا ... الظَّلمة ؟ يغلِّله بالأغلال ثم يرميه في البحر ويقول له : اصحك يصيبك رشاش الماء ؟! أظلم الناس ما يفعل هذا ، أما هم فقد وصفوا ربَّهم بما لا يليق بأظلم الناس وأفجر الناس :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
أما الله - عز وجل - فقد صرَّح بأنه لا يظلم الناس شيئًا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، وفي الحديث القدسي قال الله - تبارك وتعالى - : ( يا عبادي ، إني حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديته ؛ فاستهدوني أهدِكُم ، يا عبادي ، كلُّكم جائع إلا مَن أطعمته ؛ فاستطعموني أُطعِمْكم ، يا عبادي ، كلُّكم عارٍ إلا من كسوْتُه ؛ فاستكسوني أكسُكُم ، يا عبادي ، لو اجتمع أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنُّكم على صعيد واحد ، فسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيته إيَّاها ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي ، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ، يا عبادي ، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي ، - وهنا الشاهد - إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم ؛ فمن وَجَدَ خيرًا فليحمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) .
هل هذا الحديث من أوله إلى آخره يدلُّ على أن الإنسان لا يملك التصرف ؟ لا يملك أن يكون صالحًا ، ولا يملك أن يكون طالحًا ، فإذا كان طالحًا فعذَّبه ربُّ العالمين وهو يقول : ( أنا حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا ) ، أي : الظلم الذي تعرفونه بينكم ظلمًا هو عندي ظلم ؛ فنزِّهوني ولا تنسبوا إليَّ الظلم ، فإذا رجعنا إلى ذلك البيت الذي وصف عقيدة الجبرية :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
هذا في عُرف البشر عدلٌ ولَّا ظلم ؟ هو ظلم ، إذًا : ربنا - عز وجل - يعلم الناس أنه هو أنزه من أن يظلم الناس شيئًا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
نعم .
الشيخ : المسألة في الحقيقة سهلة عند من أحاط معرفةً بتقادير الله - عز وجل - السابقة للحوادث ، فإذا نحن درسنا أيَّ حادثة من الحوادث وقعت فلا نشكُّ أن هذا الواقع هو الذي سبق في اللوح المحفوظ وسُجِّلَ قبل أن يقع ، لنضرب على ذلك بعض الأمثلة : القاتل العمد والقاتل الخطأ ، والمجتهد المصيب والمجتهد المخطئ ، فلان قتل عامدًا ؛ ترى في اللوح المحفوظ ما الذي كُتِبَ ؟ أنه سيقتل عامدًا ، والآخر قتل خطأً ، ترى ما الذي كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ ؟ يقتل عامدًا أم يقتل خطأً ؟ لا شكَّ أن القدر الإلهي سابق للحوادث ، وهو بعلمه - تبارك وتعالى - الأزلي السابق يكتشف هذه الحوادث ، وسجَّلَها في اللوح المحفوظ قبل وقوعها ؛ فهي كما وقعت سُجِّلت ، وحينئذٍ نقول : القاتل العمد قتلَ باختياره أم باضطراره ؟ وعلى العكس : القاتل الخطأ قتل - أيضًا - باختياره أم رغم أنفه ؟
سيأتي الجواب : القاتل الأول قتل باختياره ، والقاتل الثاني قتل رغم أنفه ليس باختياره ؛ فهل نحن لأنه أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - بالقدر الذي سبق أن سجَّل المخلوقات كلها ؛ لأننا علمنا هذه الحقيقة ، هل معرفتنا بهذه الحقيقة تضطرُّنا نحن أن نغيِّر علمنا بهذا الواقع ؟ قلنا : أن أحد القاتلَين قتل باختياره ؛ فهل نقول : إنه قتل رغم أنفه ؛ لأننا اعتقدنا أنه سبق في كتاب الله - عز وجل - أنه سيقتل ؟ كان جوابنا : سبق في كتاب الله أنه سيقتل باختياره ؛ فإذًا الاختيار ثابت في القدر كالاضطرار تمامًا ، ولذلك كان كنتيجة بدهيَّة جدًّا أن الله - عز وجل - يعذِّب القاتل العمد ولا يعذِّب القاتل الخطأ ؛ لأن القاتل العمد قتل باختياره ، فالاختيار لا يمكن إنكاره لمجرَّد اعتقاد أن هذا القتل سُجِّل في اللوح المحفوظ ، لكن ينبغي أن نتذكَّر أن الذي سُجِّل في اللوح المحفوظ سيقع بكلِّ دقَّة ، وقد قلنا أن الذي وقع وقع باختياره ؛ فهذا هو مطابق للقدر الإلهي ولَّا مخالف ؟ كان مطابق للقدر الإلهي ، ولهذا فالذين يقولون بالجبر هم يخالفون القدر الإلهي ، ويريدون أن يسووا بين ما كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ وفي القدر الإلهي بالاختيار أو بالاضطرار ، من أجل هذا فرَّق الشرع والقانون والعقل بين مَن كان مختارًا في شيء ، وبين من كان غيرَ مختار ، فمناط التكليف إنما هو بوجود الاختيار ، فإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف ، فالقول بالجبر ينفي القدر ، بينما هم يريدون من إثبات الجبر بأنه ثبت في القدر ، القدر قسمان : مُسجَّل بالاختيار أنه سيفعل كذا ، ومُسجَّل بالاضطرار أنه سيفعل كذا ؛ فإذًا يعود قولهم بالجبر مُستندين إلى القضاء والقدر تعود الحجَّة عليهم على خلاف ما يزعمون .
وهناك نكتة لبعض الظرفاء : إذا قال لك الجبري : كلُّ شيء يفعله الإنسان فإنما هو مضطر ؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وأنه لا بد أن يقع ، قل له : فهل المضطرُّ مؤاخذ ومكلَّف ؟ سيقول لك : لا ؛ فما عليك بعد أن يقول هذه الضلالة إلا أن تصفعَه صفعة في خدِّه مثلًا ، فهو سيقول : أخ ليش ضربتني ؟ قل له : مضطر ، مضطر كلام من أسخف ما يكون ، والإنسان خلقه الله - عز وجل - في أحسن تقويم .
أنا أقول مثلًا : وين الاضطرار ؟ أنا الآن أتكلم معكم ؛ يا ترى مختارًا ولَّا مجبورًا ؟ إذا قلت : مجبورًا ها ، ها مجبور عن السكوت ها بتكلَّم معكم ، وين الاضطرار المزعوم ؟ فالله - عز وجل - أحكم الحاكمين خلق الإنسان ومكَّنه من عمل الخير كما مكَّنه من عمل الشَّرِّ ، ولذلك قال : (( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )) ، فالمشيئة البشرية ... الخير والشر ... ... ومع ذلك ربنا - عز وجل - قد فرَّق بين من كفر اختيارًا وبين من كفر اضطرارًا : (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )) ، ولقد روى بعضُ علماء التفسير كابن حجر وكابن جرير الطبري وغيره أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - حيث عذَّبه المشركون كما عذَّبوا بلالًا ، ثم يظهر أنهم شعروا منهم شيء من الضعف والارتخاء ، فعرضوا عليه أن يكفر بمحمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأن يقول فيه : إنه كذَّاب ، إنه ساحر ، إنه شاعر =
-- وعليكم السلام ورحمة الله --
= قالوا له : إن قلت هذا أطلقنا سراحك ، فهو جرى ... بهذا العرض ، فقال الكلمات هذه فأطلقوه ، فجاء إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - فبعد هذه الراحة التي وجدها عاد إليه رشده ، فأنَّبَتْه نفسه كيف أنا قلت فيمن هداني الله بسببه : إنه كذَّاب ، إنه ساحر ، إنه شاعر ؟!! فشكا الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلَّه ترتاح نفسه ممَّا بدر منه من الخطأ ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( كيف تجد قلبك ؟ ) أي : هذه الكلمات التي هي الكفر بعينه هل أنت مطمئنٌّ إليها ، ومنكر صدقي ونبوَّتي وإلى آخره ؟ قال : أجد قلبي مطمئنًّا بالإيمان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن عادوا فَعُدْ ) .
فالآن : مَن مِن العقلاء ممن أُوتي ذرة من عقلٍ ولبٍّ يسوِّي بين كفر عمار بن ياسر وكفر أبي لهب وأبي جهل ؛ هل يستويان مثلًا ؟ الجواب : لا ، لكنهما كلٌّ من الكفرين مُسجَّل في اللوح المحفوظ ؛ لأن الله قال : (( مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ، لكن هذا المُسجَّل هو الذي وقع ، فلماذا هؤلاء الجبريون يتَّخذون إذًا الكتابة السابقة دليلًا على أن المقصود مجبور عليه صاحبه ، والمكتوب فيه تفصيل ؛ تارةً قد يُكتب مجبورًا ، وتارًة قد يُكتب مختارًا ؟ فالقدر نفسه مطابق الواقع له ؛ فما كان ... فلا مؤاخذة كما في قصة عمار بن ياسر ، وما كان اختيارًا كما في قصة أبي لهب وأبي جهل وأمثاله من الكفرة ، فبهذا يمكن الرَّدُّ على هؤلاء الجبريَّة ، ويكفي أن تعرفوا خطورة مذهبهم وسخافة عقولهم ما قاله الشاعر في حقِّهم ممثِّلًا لهم كيف اعتقدوا في ربِّهم الظَّنَّ الذي يترفَّع عنه أظلم الناس ؛ حيث وصفوا ربَّهم بقولهم كما قال الشاعر :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ في الماءِ
هل يفعل هذا ... الظَّلمة ؟ يغلِّله بالأغلال ثم يرميه في البحر ويقول له : اصحك يصيبك رشاش الماء ؟! أظلم الناس ما يفعل هذا ، أما هم فقد وصفوا ربَّهم بما لا يليق بأظلم الناس وأفجر الناس :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
أما الله - عز وجل - فقد صرَّح بأنه لا يظلم الناس شيئًا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، وفي الحديث القدسي قال الله - تبارك وتعالى - : ( يا عبادي ، إني حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديته ؛ فاستهدوني أهدِكُم ، يا عبادي ، كلُّكم جائع إلا مَن أطعمته ؛ فاستطعموني أُطعِمْكم ، يا عبادي ، كلُّكم عارٍ إلا من كسوْتُه ؛ فاستكسوني أكسُكُم ، يا عبادي ، لو اجتمع أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنُّكم على صعيد واحد ، فسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيته إيَّاها ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي ، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ، يا عبادي ، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي ، - وهنا الشاهد - إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم ؛ فمن وَجَدَ خيرًا فليحمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) .
هل هذا الحديث من أوله إلى آخره يدلُّ على أن الإنسان لا يملك التصرف ؟ لا يملك أن يكون صالحًا ، ولا يملك أن يكون طالحًا ، فإذا كان طالحًا فعذَّبه ربُّ العالمين وهو يقول : ( أنا حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا ) ، أي : الظلم الذي تعرفونه بينكم ظلمًا هو عندي ظلم ؛ فنزِّهوني ولا تنسبوا إليَّ الظلم ، فإذا رجعنا إلى ذلك البيت الذي وصف عقيدة الجبرية :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
هذا في عُرف البشر عدلٌ ولَّا ظلم ؟ هو ظلم ، إذًا : ربنا - عز وجل - يعلم الناس أنه هو أنزه من أن يظلم الناس شيئًا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
نعم .
- رحلة النور - شريط : 81
- توقيت الفهرسة : 00:06:35
- نسخة مدققة إملائيًّا