أنتم تزعمون أن العقيدة أمرٌ قد أجمع عليه السلف ، ومع ذلك نجد هناك خلاف بينهم في إثبات العين أو العينان والساق ؛ فقد رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه فسَّر قول الله - تعالى - : (( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ )) بالشِّدَّة والكرب ، وهذا نقض للأصل ، وكذلك في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربِّه - جلَّ وعلا - ؛ فمن أثبت فيجب عليه الاعتقاد في ذلك ، ومن نفى فيجب عليه اعتقاد مدلول النفي ؛ فما موقفنا ؟
A-
A=
A+
السائل : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
يقول السائل : فضيلة الشيخ ، أنتم تزعمون أن العقيدة أمرٌ قد أجمع عليه السلف ، ومع ذلك نجد هناك خلاف بينهم في إثبات العين أو العينان .
الشيخ : أنتم إيش الأول ؟
السائل : أنتم تزعمون .
الشيخ : تزعمون أيضًا .
السائل : أما العقيدة فأمرٌ قد أُجمِعَ عليه ، ومع ذلك نجد هناك خلاف بينهم في إثبات العين أو العينان والساق ؛ فقد رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه فسَّر قول الله - تعالى - : (( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ )) بالشِّدَّة والكرب ، وهنا نقض للأصل ، وكذلك في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربِّه - جلَّ وعلا - ؛ فمن أثبت فيجب عليه الاعتقاد في ذلك ، ومن نفى فيجب عليه اعتقاد مدلول النفي ؛ فما موقفنا ، جزاكم الله خيرًا ؟
الشيخ : كان ينبغي أن يكون السؤال بغير هذا التعبير ؛ لأن السائل ما أظن نقل رأيي وبنى عليه توجيهه لهذا السؤال ؛ ذلك لأنَّنا نحن الذين ندين الله به أنه لا فرق بين ما يسمَّى أصولًا وبين ما ... ، كله وجميعه أن يكونوا على اتِّفاق وعلى كلمة واحدة إذا أمكَنَهم ذلك ، أَمَا وذلك قد لا يمكن أن يكون في الأصول فضلًا عن الفروع ؛ فحينئذٍ يعود الأمر إلى المجتهد إن كان قصدَ الحقَّ فأصابه فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، لا فرق في ذلك - كما قلنا - بين أصول وفروع ، أما ادِّعاء الاتفاق في كلِّ الأصول بخلاف الفروع فهذا لا أعتقد أنَّ عالمًا يقطع بذلك ، كل ما في الأمر أننا نقول : إن السلف اتفقوا على أن الأصل في صفات الله - تبارك وتعالى - التي جاءت في الكتاب أو في السنة أن تمرَّ كما جاءت ولا تُؤول ، هذا الذي يمكن أن يُقال : إنه أمر مُتَّفق عليه أو على حدِّ تعبير السائل إنه أمرٌ نزعمه وندَّعيه جازمين بذلك ، ولكن هذا لا ينفي أن يقع بعض الخلاف في بعض المسائل التي تتعلَّق بهذا المنهج ، والمثال الذي ذكره السائل في تفسير السَّاق هذا صحيح أنه وقع فيه خلاف ، ولكن هل هناك خلاف بين هؤلاء الذين قد يختلفون في بعض الجزئيات ممَّا يتعلق بالعقيدة أو بالتوحيد ؟ هل بينهم خلاف بالأصل في القاعدة ؟ الجواب : لا ، وهذا هو الفرق بين أتباع السلف وبين الخَلَف ، فالسلف هذه قاعدتهم ؛ أن يؤمنوا بكلِّ ما جاء عن الله ورسوله دون تأويل ودون تعطيل ، أما الخَلَف فالقاعدة عندهم التأويل ، وليس هو التسهيل .
وقد وُجدت طائفة بين هؤلاء وهؤلاء وهم الذين يُسمَّون بـ " المفوِّضة " ، فهم لا يؤمنون مسلِّمين بالمعاني الظاهرة لأدلة الكتاب والسنة المتعلِّقة بالصفات مع التنزيه ولا هم يؤولون كما يفعل الخَلَف ، الذين قلنا فيهم في الأمس القريب إنهم يقولون : إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخَلَف أعلم وأحكم ، الخلاف ليس في جزئيات ، هذا لا يمكن الخلاص منه ، إنما الأصل في القاعدة ؛ ما هي قاعدة السلف ؟ هو الإيمان بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا بالمعاني الظاهرة المتباينة لغةً من النصوص مع التنزيه كما في قوله - تعالى - ، وهذا دليل مستعمل كثيرًا ؛ وهو قوله - عز وجل - : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ، فربُّنا - عز وجل - قدَّم هذه الجملة وقال : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) تنزيهًا ؛ لِيُتبع هذا التنزيه بالإثبات ؛ ألا وهو قوله - عز وجل - : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) .
الآن إذا أردنا أن نسلكَ طريقة السلف فما يختلفون في فهم (( السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) إطلاقًا ؛ لأنهم يعتقدون أن صفة السمع غير صفة البصر ، وأن كلًّا من هاتين الصِّفتين كسائر الصفات الإلهية نُثبتها كما جاءت مفرِّقين بين صفة وأخرى ؛ منزِّهين لله - تبارك وتعالى - أن يُشبِهَ شيئًا من مخلوقاته ، ما هو موقف المعتزلة المعطِّلة ؟ إنهم يقولون يأخذون بالشطر الأول من الآية (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ، تنزيه ؛ لكنهم غلوا في التنزيه فعطَّلوا وقالوا : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) أي : العليم ، عطَّلوا هاتين الصفتين ؛ لأن الإنسان سميع وبصير ، فظنُّوا أنهم فرُّوا ، وظنُّوا أنهم بسبب فرارهم من إثبات هاتين الصِّفتين أنَّهم مع التنزيه دون التعطيل ، ولم يُلاحظوا أنَّ ما منه فرُّوا بزعمهم وقعوا في مثله ، لأنه حين يفسِّرون السمع والبصر بالعلم فالناس - أيضًا - فيهم عالم وجاهل ، والله - عز وجل - يقول : (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) ، فإذًا هناك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اشتراك لفظي وليس اشتراكًا حقيقيًّا في المعنى ، فصفة السمع وصفة البصر وصفة العلم هذه الصفات الثلاث اتَّصف بها ربُّنا - تبارك وتعالى - كغيرها مما جاء في القرآن ، ولكن كون الإنسان - أيضًا - يُوصف بأنه سميع ويُوصف بأنه بصير وقد يُقال فيه عليم ؛ فذلك لا يعني أن سمعه وبصره وعلمه كسمع الله وبصره وعلمه ؛ لذلك فحينما فرَّ المعتزلة بهذا التأويل بالسمع والبصر بالعلم يُقال لهم : عطَّلوا صفتين وحقيقتين من صفات الله - تبارك وتعالى - .
نعود الآن إلى الذين يفوِّضون ، فماذا يقولون ؟ يقول نؤمن بالآية كما جاءت لكن لا ندري ما معنى عليم ما معنى سميع ما معنى بصير ، نكل الأمر إلى الله - تبارك وتعالى - ، يظن بعض الناس أن هذا هو مذهب السلف ، ليس هذا هو مذهب السلف ، مذهب السلف إثبات للصفة مع التنزيه ، مذهب المفوِّضة لا يثبتون شيئًا ، يقولون : الله أعلم بمراده ! أما التنزيه فهو أمر مشترك بين جميع الطوائف ؛ سواء السلف أو المفوِّضة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية ، كلُّهم يلتقون في تنزيه الله - عز وجل - وعدم مشابهته ... ، لكنهم يختلفون في موقفهم تجاه كلِّ الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة ، منها هذا المثال الذي بين أيدينا الآن ، فإذا اختلف السلف في آية أو في حديث ما فذلك لا يعني أنَّهم خرجوا عن هذه القاعدة ، بينما الخَلَف الذين يقولون : علم السلف أسلم وعلم الخَلَف أحسن وأحكم ، فالأصل إذًا في الاختلاف هو في القاعدة وليس فيما يلزم من اختلاف كلٍّ من الطائفتين في جزء أو صفة من الصفات كآية الساق ، ولذلك فلا ينبغي أن يفهمَ أحد أنَّ السلف لا يختلفون في شيء ما من آيات الصفات ، لكن القاعدة هم متَّفقون عليها ، مثلًا تفسير المعية ؛ فقد يروى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - ما قد يُخالف غيره ممن جاء بعده ، لكن كلهم يرجعون أخيرًا إلى إثبات الصفات كقاعدة خلافًا للمعتزلة وخلافًا لمن تابعهم في كثير من الانحراف الذي انحرف به المعتزلة .
وسمعتم آنفًا أن المعتزلة يُنكرون صفة السمع والبصر ، لكن الأشاعرة مثلًا والماتريدية يثبتونهما ولا يؤولونهما ولا ينكرون معناهما ، كما فعلت المعتزلة ، لكن هؤلاء الخَلَف من الأشاعرة والماتريدية في أصل المذهب فهو الإيمان بمعاني الصفات مع التنزيه أم الأصل هو التأويل ؟ المتأخرون هؤلاء من الأشاعرة والمعتزلة بين مذهب السلف وبين مذهب المعتزلة ، فتارةً تراهم معتزلة كمثل موقفهم من الكلام الإلهي ؛ حيث المعتزلة يصرِّحون دون أيَّة مواربة بأن كلام الله مخلوق ، أما الأشاعرة والماتريدية فهم يقولون : كلام الله ليس بمخلوق ، ولكن إذا حاققتهم ودقَّقت معهم وجدتهم في النهاية يلتقون مع المعتزلة ، في الوقت الذي يقولون فيه كلام الله صفة من صفاته خلافًا للمعتزلة ، لكن حينما يدقِّق الإنسان معهم في البحث إذا بهم يقولون : الكلام الإلهي الذي هو صفة من صفاته ليس هو الكلام الذي يُؤمن به السلف ، وكما قال - عليه السلام - في الحديث الصحيح : ( من قرأ القرآن فله بكلِّ حرف عشر حسنات ، لا أقول ألم حرف ، بل ألف حرف لام حرف ميم حرف ) ، هم لا يقولون بأن كلام الله حرف لفظ وصوت كما يقول السلف ، وإنما هم يلتقون مع المعتزلة في إنكار هذه الحقيقة ، ولكن يختلفون عن المعتزلة بأنهم يفسِّرون الكلام الإلهي بما يؤول إلى العلم ، ولذلك حينما يردُّون على المعتزلة ويقولون لهم : لماذا أنتم تقولون كلام الله مخلوق ؟ أليس يقلب ربُّنا - تبارك وتعالى - على تفصيل موسى كلامه - تبارك وتعالى - ؟ ويقولون : أليس الله بقادر على أن يُسمع كلام موسى وهو الذي قال له : (( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى )) ؟ فيدعون هذه الوصفة المتعلقة بالكلام الإلهي المأخوذة من هذه الآية الصريحة (( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى )) ، ما يقولون المعتزلة أليس الله بقادر أن يُسمع كلامَه وصوته لموسى ؟ وإنما يقولون : أليس الله بقادر أن يُفهم كلامه ؟ فأعادوا صفة الكلام إلى العلم ، كما يُمكن أن يُقال : أليس الله - عز وجل - بقادرٍ على أن يعيِّن موسى الألواح ، فعند المعتزلة الألواح التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - ، وعبَّر عنها بقوله - تعالى - : (( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )) يقولون صراحةً : ليس الله هو الذي تكلَّم ، وليس الله هو الذي قال : (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي )) ، إنما الشجرة هي التي نطقت ، فالله لا يتكلَّم ولا يتلفَّظ ، الماتريدية والأشاعرة يلتقون معهم في الحقيقة ، لكن يسمُّون الكلام الإلهي الثابت في القرآن بأنه كلام نفسي ، لا يخرج لا يسمع لا يقرأ ونحو ذلك ؛ فهذا ينبغي أن يكون في ذهننا .
أما السلف يختلف عن الفرق الأخرى باتِّفاقهم على القاعدة ؛ وهي تنزيه مع الإثبات ، أما الآخرون فالتأويل الذي هو تعطيل مع التنزيه ، فلم يوقفهم شيء ، التنزيه مع التأويل ، الذي يُصاحبه في كثير من الأحيان التعطيل ، وما أحسن ما قال ابن القيم - رحمه الله - - ولعله نقله عن شيخه ابن تيمية - : " المعطِّل يعبد عدمًا ، والمجسِّم يعبد صنمًا " ، وهذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها =
-- أريد أن أخرج شوي --
= وهي أن الخلاف كما قلت في مثل هذه الكلمة آية يقتصر عند المسلمين جميعًا على الفروع ، بل تعدَّاه إلى الأصول المقصود بها هي القواعد المتعلِّقة بالعقيدة ، وذكرت أنَّ السلف وأتباعهم من السلفيين لا يختلفون في القاعدة ، ولكن قد يختلفون في بعض جزئيَّاتها ، الشأن في هذا تمامًا كالشأن في القواعد العلمية الأصولية الفقهية ، فكما أنَّ هل الحديث لا يختلفون بعضهم مع بعض في أنَّ المرجع عند الاختلاف إنما هو الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ؛ فقد يختلفون - مثلًا - في حديث أهو صحيح أم ضعيف ؟ فهذا لا يضرُّ ، وقد يختلفون في فهم حديث صحيح ؛ وهذا لا يضرُّ ؛ لأن الأصل والقاعدة متَّفق عليها بينهم ، وليس كذلك عند مَن خالفهم .
لقد ذكرنا في الأمس القريب إنَّ كلَّ الطوائف الإسلامية لا نستثني منهم طائفة كلهم يقول : نحن على الكتاب والسنة ، لكن لا تجد منهم أحدًا يقول : وعلى ما كان عليه السلف الصالح ؛ إذًا هذا اختلاف في الأصل في القاعدة ؛ فهذا الخلاف هو الذي يضرُّ ، أما الاختلاف في المسألة فذلك لا يضرُّ ، لا فرق بين أن تكون هذه المسألة في العقيدة أو أن تكون في الأحكام الشرعية ، إنما المهم أن يكون القاعدة والأصل متَّفق عليه ، فالمثال الذي أتى به السائل الآخر وهو اختلاف في الرؤية ؛ هل رأى محمد ربَّه ؟ نعم يوجد شيء من هذا الاختلاف ، ولكن هذا الاختلاف ليس من النُّوع الأول ؛ بمعنى لم يثبُتْ عن أحد من السلف بأنه قال جازمًا بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يرَ ربَّه - عفوًا - رأى ربه ، بل جاء عنهم خلاف ذلك ، كلُّ ما في الأمر ممَّن أثبت الرؤية هو ابن عباس - رضي الله عنه - ، لكن الروايات التي وردت عنه مضطربة ؛ فلذلك لا يستطيع العالم أن يجزمَ بأن ابن عباس كان يقول بخلاف السيدة عائشة مثلًا ، السيدة عائشة كانت تنفي رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لربِّه ليلة الاسراء والمعراج جازمةً بذلك ، ومستعظمةً كلَّ الاستعظام ممَّن قد يقول بأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربَّه ، فقد روى الشيخان في " صحيحهما " من حديث مسروق عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنه قال لها - مسروق هو القائل - : يا أم المؤمنين ، هل رأى محمَّد ربَّه ؟! قالت : لقد قفَّ شعري مما قلته . قال : يا أم المؤمنين ، ارحميني ، ولا تعجلي عليَّ ؛ أليس يقول الله - تبارك وتعالى - : (( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى )) ؟! قالت : أنا أعلم ما في ذلك ؛ سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : رأيت جبريل في صورته التي خُلِقَ فيها مرَّتين وله ستُّمائة جناح ، ثم قالت مؤكِّدة نفيَها لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - تبارك وتعالى - : ثلاثٌ من حدَّثكموهن فقد أعظم على الله الفرية ، مَن حدَّثكم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربَّه ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تبارك وتعالى - : (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا )) ، وتلت قوله - تعالى - : (( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ )) ؛ فمن حدَّثكم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعلم ما في غدٍ ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تعالى - : (( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )) ، ومن حدَّثكم بأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - كتم شيئًا أُمِرَ بتبليغه ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تعالى - : (( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )) .
هذه رواية صحيحة في " الصحيحين " صريحة في أن السيدة عائشة جزمت بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يَرَ ربَّه ، وعلى ذلك أحاديث تؤكِّد نفيها ، هذا حديث موقوف ؛ لأن هذا من قول عائشة ، لكن هناك أحاديث مرفوعة تؤكِّد ما قالته السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - ، مثل حديث أبي ذرٍّ وهو - أيضًا - حديث في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِلَ : هل رأيت ربَّك ؟ قال : ( نور أنَّى أراه ؟! ) . وهذا تفصيله في حديث أبي موسى الأشعري ، وقد ذكره الإمام مسلم بعد حديث أبي ذرٍّ وفيه قال - عليه السلام - : ( حجابه النُّور ) ، فإذًا لما سُئل - عليه السلام - هل رأيت ربَّك ؟ نفى ذلك ، فمثل عائشة وهي زوجة الرسول - عليه السلام - معنى هذا أنَّها تكلَّمت بعلمٍ تلقَّته من زوجها ؛ حيث لما سُئل - عليه الصلاة والسلام - : هل رأيت ربك ؟ قال : ( نور - أي : هناك نور - ؛ فكيف أراه ؟! ) . فهذه عائشة تقول جازمةً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربَّه ، ومعها حديثين ... ، مَن الذي خالف من الصحابة في هذه القضية ؟ يُروى عن ابن عباس ثلاثة روايات : رأى ربه ، رأى ربه بقلبه ، رأى ربه بعينه ؛ ثلا ث روايات من طريق سماك بن حرب عن ابن عباس ، ومعنى هذا أن الراوي للرؤية التي أثبتها ابن عباس خالفَ الأصل ، فقال : رأى ربه ، لكن المشكل هو هل رأى ربَّه بعينه أم ببصيرته بقلبه ؟ هنا تأتي هذه الروايات الثلاث ، رأى ربَّه مطلقةً ، ثم روايتان أُخريان مقيَّدة ، لكن إحداهما تخالف الأخرى ، وإحداهما تقول : رأى ربَّه بقلبه ، والأخرى تقول : رأى ربَّه بعينه ؛ فإذًا الرواية مضطربة عن ابن عباس ؛ فلا نستطيع أن نقول : إن ابن عباس يُخالف قول السيدة عائشة - رضي الله عنها - .
والقصد من هذه الكلمة المتممة للكلمة السابقة هو أنه قد يصحُّ مثل ذاك الاختلاف ، ولكن ليس كل اختلاف صحيح ، وهذا مثاله ، فنستطيع أن نقول إذًا بأن نصَّ الخلاف بين عائشة في هذه المسألة وابن عباس ليس دقيقًا ؛ لأن الرواية عن ابن عباس مضطربة ، كما ذكرت آنفًا .
غيره ؟
يقول السائل : فضيلة الشيخ ، أنتم تزعمون أن العقيدة أمرٌ قد أجمع عليه السلف ، ومع ذلك نجد هناك خلاف بينهم في إثبات العين أو العينان .
الشيخ : أنتم إيش الأول ؟
السائل : أنتم تزعمون .
الشيخ : تزعمون أيضًا .
السائل : أما العقيدة فأمرٌ قد أُجمِعَ عليه ، ومع ذلك نجد هناك خلاف بينهم في إثبات العين أو العينان والساق ؛ فقد رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه فسَّر قول الله - تعالى - : (( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ )) بالشِّدَّة والكرب ، وهنا نقض للأصل ، وكذلك في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربِّه - جلَّ وعلا - ؛ فمن أثبت فيجب عليه الاعتقاد في ذلك ، ومن نفى فيجب عليه اعتقاد مدلول النفي ؛ فما موقفنا ، جزاكم الله خيرًا ؟
الشيخ : كان ينبغي أن يكون السؤال بغير هذا التعبير ؛ لأن السائل ما أظن نقل رأيي وبنى عليه توجيهه لهذا السؤال ؛ ذلك لأنَّنا نحن الذين ندين الله به أنه لا فرق بين ما يسمَّى أصولًا وبين ما ... ، كله وجميعه أن يكونوا على اتِّفاق وعلى كلمة واحدة إذا أمكَنَهم ذلك ، أَمَا وذلك قد لا يمكن أن يكون في الأصول فضلًا عن الفروع ؛ فحينئذٍ يعود الأمر إلى المجتهد إن كان قصدَ الحقَّ فأصابه فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، لا فرق في ذلك - كما قلنا - بين أصول وفروع ، أما ادِّعاء الاتفاق في كلِّ الأصول بخلاف الفروع فهذا لا أعتقد أنَّ عالمًا يقطع بذلك ، كل ما في الأمر أننا نقول : إن السلف اتفقوا على أن الأصل في صفات الله - تبارك وتعالى - التي جاءت في الكتاب أو في السنة أن تمرَّ كما جاءت ولا تُؤول ، هذا الذي يمكن أن يُقال : إنه أمر مُتَّفق عليه أو على حدِّ تعبير السائل إنه أمرٌ نزعمه وندَّعيه جازمين بذلك ، ولكن هذا لا ينفي أن يقع بعض الخلاف في بعض المسائل التي تتعلَّق بهذا المنهج ، والمثال الذي ذكره السائل في تفسير السَّاق هذا صحيح أنه وقع فيه خلاف ، ولكن هل هناك خلاف بين هؤلاء الذين قد يختلفون في بعض الجزئيات ممَّا يتعلق بالعقيدة أو بالتوحيد ؟ هل بينهم خلاف بالأصل في القاعدة ؟ الجواب : لا ، وهذا هو الفرق بين أتباع السلف وبين الخَلَف ، فالسلف هذه قاعدتهم ؛ أن يؤمنوا بكلِّ ما جاء عن الله ورسوله دون تأويل ودون تعطيل ، أما الخَلَف فالقاعدة عندهم التأويل ، وليس هو التسهيل .
وقد وُجدت طائفة بين هؤلاء وهؤلاء وهم الذين يُسمَّون بـ " المفوِّضة " ، فهم لا يؤمنون مسلِّمين بالمعاني الظاهرة لأدلة الكتاب والسنة المتعلِّقة بالصفات مع التنزيه ولا هم يؤولون كما يفعل الخَلَف ، الذين قلنا فيهم في الأمس القريب إنهم يقولون : إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخَلَف أعلم وأحكم ، الخلاف ليس في جزئيات ، هذا لا يمكن الخلاص منه ، إنما الأصل في القاعدة ؛ ما هي قاعدة السلف ؟ هو الإيمان بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا بالمعاني الظاهرة المتباينة لغةً من النصوص مع التنزيه كما في قوله - تعالى - ، وهذا دليل مستعمل كثيرًا ؛ وهو قوله - عز وجل - : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ، فربُّنا - عز وجل - قدَّم هذه الجملة وقال : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) تنزيهًا ؛ لِيُتبع هذا التنزيه بالإثبات ؛ ألا وهو قوله - عز وجل - : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) .
الآن إذا أردنا أن نسلكَ طريقة السلف فما يختلفون في فهم (( السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) إطلاقًا ؛ لأنهم يعتقدون أن صفة السمع غير صفة البصر ، وأن كلًّا من هاتين الصِّفتين كسائر الصفات الإلهية نُثبتها كما جاءت مفرِّقين بين صفة وأخرى ؛ منزِّهين لله - تبارك وتعالى - أن يُشبِهَ شيئًا من مخلوقاته ، ما هو موقف المعتزلة المعطِّلة ؟ إنهم يقولون يأخذون بالشطر الأول من الآية (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ، تنزيه ؛ لكنهم غلوا في التنزيه فعطَّلوا وقالوا : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) أي : العليم ، عطَّلوا هاتين الصفتين ؛ لأن الإنسان سميع وبصير ، فظنُّوا أنهم فرُّوا ، وظنُّوا أنهم بسبب فرارهم من إثبات هاتين الصِّفتين أنَّهم مع التنزيه دون التعطيل ، ولم يُلاحظوا أنَّ ما منه فرُّوا بزعمهم وقعوا في مثله ، لأنه حين يفسِّرون السمع والبصر بالعلم فالناس - أيضًا - فيهم عالم وجاهل ، والله - عز وجل - يقول : (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) ، فإذًا هناك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اشتراك لفظي وليس اشتراكًا حقيقيًّا في المعنى ، فصفة السمع وصفة البصر وصفة العلم هذه الصفات الثلاث اتَّصف بها ربُّنا - تبارك وتعالى - كغيرها مما جاء في القرآن ، ولكن كون الإنسان - أيضًا - يُوصف بأنه سميع ويُوصف بأنه بصير وقد يُقال فيه عليم ؛ فذلك لا يعني أن سمعه وبصره وعلمه كسمع الله وبصره وعلمه ؛ لذلك فحينما فرَّ المعتزلة بهذا التأويل بالسمع والبصر بالعلم يُقال لهم : عطَّلوا صفتين وحقيقتين من صفات الله - تبارك وتعالى - .
نعود الآن إلى الذين يفوِّضون ، فماذا يقولون ؟ يقول نؤمن بالآية كما جاءت لكن لا ندري ما معنى عليم ما معنى سميع ما معنى بصير ، نكل الأمر إلى الله - تبارك وتعالى - ، يظن بعض الناس أن هذا هو مذهب السلف ، ليس هذا هو مذهب السلف ، مذهب السلف إثبات للصفة مع التنزيه ، مذهب المفوِّضة لا يثبتون شيئًا ، يقولون : الله أعلم بمراده ! أما التنزيه فهو أمر مشترك بين جميع الطوائف ؛ سواء السلف أو المفوِّضة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية ، كلُّهم يلتقون في تنزيه الله - عز وجل - وعدم مشابهته ... ، لكنهم يختلفون في موقفهم تجاه كلِّ الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة ، منها هذا المثال الذي بين أيدينا الآن ، فإذا اختلف السلف في آية أو في حديث ما فذلك لا يعني أنَّهم خرجوا عن هذه القاعدة ، بينما الخَلَف الذين يقولون : علم السلف أسلم وعلم الخَلَف أحسن وأحكم ، فالأصل إذًا في الاختلاف هو في القاعدة وليس فيما يلزم من اختلاف كلٍّ من الطائفتين في جزء أو صفة من الصفات كآية الساق ، ولذلك فلا ينبغي أن يفهمَ أحد أنَّ السلف لا يختلفون في شيء ما من آيات الصفات ، لكن القاعدة هم متَّفقون عليها ، مثلًا تفسير المعية ؛ فقد يروى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - ما قد يُخالف غيره ممن جاء بعده ، لكن كلهم يرجعون أخيرًا إلى إثبات الصفات كقاعدة خلافًا للمعتزلة وخلافًا لمن تابعهم في كثير من الانحراف الذي انحرف به المعتزلة .
وسمعتم آنفًا أن المعتزلة يُنكرون صفة السمع والبصر ، لكن الأشاعرة مثلًا والماتريدية يثبتونهما ولا يؤولونهما ولا ينكرون معناهما ، كما فعلت المعتزلة ، لكن هؤلاء الخَلَف من الأشاعرة والماتريدية في أصل المذهب فهو الإيمان بمعاني الصفات مع التنزيه أم الأصل هو التأويل ؟ المتأخرون هؤلاء من الأشاعرة والمعتزلة بين مذهب السلف وبين مذهب المعتزلة ، فتارةً تراهم معتزلة كمثل موقفهم من الكلام الإلهي ؛ حيث المعتزلة يصرِّحون دون أيَّة مواربة بأن كلام الله مخلوق ، أما الأشاعرة والماتريدية فهم يقولون : كلام الله ليس بمخلوق ، ولكن إذا حاققتهم ودقَّقت معهم وجدتهم في النهاية يلتقون مع المعتزلة ، في الوقت الذي يقولون فيه كلام الله صفة من صفاته خلافًا للمعتزلة ، لكن حينما يدقِّق الإنسان معهم في البحث إذا بهم يقولون : الكلام الإلهي الذي هو صفة من صفاته ليس هو الكلام الذي يُؤمن به السلف ، وكما قال - عليه السلام - في الحديث الصحيح : ( من قرأ القرآن فله بكلِّ حرف عشر حسنات ، لا أقول ألم حرف ، بل ألف حرف لام حرف ميم حرف ) ، هم لا يقولون بأن كلام الله حرف لفظ وصوت كما يقول السلف ، وإنما هم يلتقون مع المعتزلة في إنكار هذه الحقيقة ، ولكن يختلفون عن المعتزلة بأنهم يفسِّرون الكلام الإلهي بما يؤول إلى العلم ، ولذلك حينما يردُّون على المعتزلة ويقولون لهم : لماذا أنتم تقولون كلام الله مخلوق ؟ أليس يقلب ربُّنا - تبارك وتعالى - على تفصيل موسى كلامه - تبارك وتعالى - ؟ ويقولون : أليس الله بقادر على أن يُسمع كلام موسى وهو الذي قال له : (( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى )) ؟ فيدعون هذه الوصفة المتعلقة بالكلام الإلهي المأخوذة من هذه الآية الصريحة (( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى )) ، ما يقولون المعتزلة أليس الله بقادر أن يُسمع كلامَه وصوته لموسى ؟ وإنما يقولون : أليس الله بقادر أن يُفهم كلامه ؟ فأعادوا صفة الكلام إلى العلم ، كما يُمكن أن يُقال : أليس الله - عز وجل - بقادرٍ على أن يعيِّن موسى الألواح ، فعند المعتزلة الألواح التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - ، وعبَّر عنها بقوله - تعالى - : (( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )) يقولون صراحةً : ليس الله هو الذي تكلَّم ، وليس الله هو الذي قال : (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي )) ، إنما الشجرة هي التي نطقت ، فالله لا يتكلَّم ولا يتلفَّظ ، الماتريدية والأشاعرة يلتقون معهم في الحقيقة ، لكن يسمُّون الكلام الإلهي الثابت في القرآن بأنه كلام نفسي ، لا يخرج لا يسمع لا يقرأ ونحو ذلك ؛ فهذا ينبغي أن يكون في ذهننا .
أما السلف يختلف عن الفرق الأخرى باتِّفاقهم على القاعدة ؛ وهي تنزيه مع الإثبات ، أما الآخرون فالتأويل الذي هو تعطيل مع التنزيه ، فلم يوقفهم شيء ، التنزيه مع التأويل ، الذي يُصاحبه في كثير من الأحيان التعطيل ، وما أحسن ما قال ابن القيم - رحمه الله - - ولعله نقله عن شيخه ابن تيمية - : " المعطِّل يعبد عدمًا ، والمجسِّم يعبد صنمًا " ، وهذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها =
-- أريد أن أخرج شوي --
= وهي أن الخلاف كما قلت في مثل هذه الكلمة آية يقتصر عند المسلمين جميعًا على الفروع ، بل تعدَّاه إلى الأصول المقصود بها هي القواعد المتعلِّقة بالعقيدة ، وذكرت أنَّ السلف وأتباعهم من السلفيين لا يختلفون في القاعدة ، ولكن قد يختلفون في بعض جزئيَّاتها ، الشأن في هذا تمامًا كالشأن في القواعد العلمية الأصولية الفقهية ، فكما أنَّ هل الحديث لا يختلفون بعضهم مع بعض في أنَّ المرجع عند الاختلاف إنما هو الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ؛ فقد يختلفون - مثلًا - في حديث أهو صحيح أم ضعيف ؟ فهذا لا يضرُّ ، وقد يختلفون في فهم حديث صحيح ؛ وهذا لا يضرُّ ؛ لأن الأصل والقاعدة متَّفق عليها بينهم ، وليس كذلك عند مَن خالفهم .
لقد ذكرنا في الأمس القريب إنَّ كلَّ الطوائف الإسلامية لا نستثني منهم طائفة كلهم يقول : نحن على الكتاب والسنة ، لكن لا تجد منهم أحدًا يقول : وعلى ما كان عليه السلف الصالح ؛ إذًا هذا اختلاف في الأصل في القاعدة ؛ فهذا الخلاف هو الذي يضرُّ ، أما الاختلاف في المسألة فذلك لا يضرُّ ، لا فرق بين أن تكون هذه المسألة في العقيدة أو أن تكون في الأحكام الشرعية ، إنما المهم أن يكون القاعدة والأصل متَّفق عليه ، فالمثال الذي أتى به السائل الآخر وهو اختلاف في الرؤية ؛ هل رأى محمد ربَّه ؟ نعم يوجد شيء من هذا الاختلاف ، ولكن هذا الاختلاف ليس من النُّوع الأول ؛ بمعنى لم يثبُتْ عن أحد من السلف بأنه قال جازمًا بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يرَ ربَّه - عفوًا - رأى ربه ، بل جاء عنهم خلاف ذلك ، كلُّ ما في الأمر ممَّن أثبت الرؤية هو ابن عباس - رضي الله عنه - ، لكن الروايات التي وردت عنه مضطربة ؛ فلذلك لا يستطيع العالم أن يجزمَ بأن ابن عباس كان يقول بخلاف السيدة عائشة مثلًا ، السيدة عائشة كانت تنفي رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لربِّه ليلة الاسراء والمعراج جازمةً بذلك ، ومستعظمةً كلَّ الاستعظام ممَّن قد يقول بأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربَّه ، فقد روى الشيخان في " صحيحهما " من حديث مسروق عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنه قال لها - مسروق هو القائل - : يا أم المؤمنين ، هل رأى محمَّد ربَّه ؟! قالت : لقد قفَّ شعري مما قلته . قال : يا أم المؤمنين ، ارحميني ، ولا تعجلي عليَّ ؛ أليس يقول الله - تبارك وتعالى - : (( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى )) ؟! قالت : أنا أعلم ما في ذلك ؛ سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : رأيت جبريل في صورته التي خُلِقَ فيها مرَّتين وله ستُّمائة جناح ، ثم قالت مؤكِّدة نفيَها لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - تبارك وتعالى - : ثلاثٌ من حدَّثكموهن فقد أعظم على الله الفرية ، مَن حدَّثكم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربَّه ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تبارك وتعالى - : (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا )) ، وتلت قوله - تعالى - : (( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ )) ؛ فمن حدَّثكم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعلم ما في غدٍ ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تعالى - : (( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )) ، ومن حدَّثكم بأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - كتم شيئًا أُمِرَ بتبليغه ؛ فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت قوله - تعالى - : (( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )) .
هذه رواية صحيحة في " الصحيحين " صريحة في أن السيدة عائشة جزمت بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يَرَ ربَّه ، وعلى ذلك أحاديث تؤكِّد نفيها ، هذا حديث موقوف ؛ لأن هذا من قول عائشة ، لكن هناك أحاديث مرفوعة تؤكِّد ما قالته السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - ، مثل حديث أبي ذرٍّ وهو - أيضًا - حديث في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِلَ : هل رأيت ربَّك ؟ قال : ( نور أنَّى أراه ؟! ) . وهذا تفصيله في حديث أبي موسى الأشعري ، وقد ذكره الإمام مسلم بعد حديث أبي ذرٍّ وفيه قال - عليه السلام - : ( حجابه النُّور ) ، فإذًا لما سُئل - عليه السلام - هل رأيت ربَّك ؟ نفى ذلك ، فمثل عائشة وهي زوجة الرسول - عليه السلام - معنى هذا أنَّها تكلَّمت بعلمٍ تلقَّته من زوجها ؛ حيث لما سُئل - عليه الصلاة والسلام - : هل رأيت ربك ؟ قال : ( نور - أي : هناك نور - ؛ فكيف أراه ؟! ) . فهذه عائشة تقول جازمةً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربَّه ، ومعها حديثين ... ، مَن الذي خالف من الصحابة في هذه القضية ؟ يُروى عن ابن عباس ثلاثة روايات : رأى ربه ، رأى ربه بقلبه ، رأى ربه بعينه ؛ ثلا ث روايات من طريق سماك بن حرب عن ابن عباس ، ومعنى هذا أن الراوي للرؤية التي أثبتها ابن عباس خالفَ الأصل ، فقال : رأى ربه ، لكن المشكل هو هل رأى ربَّه بعينه أم ببصيرته بقلبه ؟ هنا تأتي هذه الروايات الثلاث ، رأى ربَّه مطلقةً ، ثم روايتان أُخريان مقيَّدة ، لكن إحداهما تخالف الأخرى ، وإحداهما تقول : رأى ربَّه بقلبه ، والأخرى تقول : رأى ربَّه بعينه ؛ فإذًا الرواية مضطربة عن ابن عباس ؛ فلا نستطيع أن نقول : إن ابن عباس يُخالف قول السيدة عائشة - رضي الله عنها - .
والقصد من هذه الكلمة المتممة للكلمة السابقة هو أنه قد يصحُّ مثل ذاك الاختلاف ، ولكن ليس كل اختلاف صحيح ، وهذا مثاله ، فنستطيع أن نقول إذًا بأن نصَّ الخلاف بين عائشة في هذه المسألة وابن عباس ليس دقيقًا ؛ لأن الرواية عن ابن عباس مضطربة ، كما ذكرت آنفًا .
غيره ؟
- رحلة النور - شريط : 80
- توقيت الفهرسة : 00:00:05
- نسخة مدققة إملائيًّا