نقض الظاهرية العصرية ، وأمثلتها : " الصورة بالفيديو ، أو الصورة الفوتوغرافية " ، وعلَّة تحريمها .
A-
A=
A+
الشيخ : في كلمتي السابقة ، وجوابًا عن ذاك السؤال الذي فيه أن بعض الناس يظنُّون أنني ظاهريُّ المذهب على مذهب ابن حزم ، فكنت بدأتُ بذكر بعض النماذج من ظاهريَّة ابن حزم التي لا نراها من الصواب في شيء ، ووصلتُ من بعد تلك الأمثلة التي نقلتها من كتاب ابن حزم ألا وهو " المُحلَّى " لأتوصَّل من ذلك إلى ظاهرية عصرية ، وهذه أغرب من تلك الظاهرية ؛ لأنها تصدر من ناس يزعمون أنهم يستعملون عقولهم ، ولذلك وَصَلَ بهم الأمر إلى أن يقعوا في متناقضات عجيبة ؛ فهم مع استعمالهم لعقولهم الجامحة أنكروا أحاديث صحيحة ، ومن جانب آخر جمدوا جمود الظاهرية ، وهذا الذي قصدت آنفًا بيانه .
قلنا : إن الصور منها الصور المجسَّمة ، والتي لها ظلٌّ ؛ أي : الأصنام ؛ فهي محرَّمة باتفاق المسلمين ، أما الصور الأخرى وهي غير المجسَّمة والتي تُطرَّز على الستائر أو على الثياب ، أو تصور على الجدران بالدهان أو بقلم الرصاص ، أو بنحو ذلك على الورق ؛ هذه الصور يسمُّونها بغير المجسَّمة ، وقد يعبِّرون عن هذا بأنها لا ظلَّ لها ، بينما الأصنام لها ظلٌّ ؛ هذا القسم الثاني من الصور قد وُجد فيمن مضى مَن قال لا بأس بها ؛ لأنه حَمَلَ الأحاديث التي تلعن المصوِّرين والأحاديث التي تقول : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب ) على الصور المجسَّمة التي لها ظلٌّ ، وصلتُ إلى ذكر حديث عائشة في الستارة التي كانت اتخذتها بمناسبة قدوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنكر ذلك عليها ، وقال : ( إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة هؤلاء المصوِّرون يضاهون بخلق الله ) ، فأشار إلى المصورين الذين صوَّروا الصور على الستائر ، وهي صور ليست مجسَّمة ، وإنما هي صور على الثوب على الستارة ، فكان هذا دليلًا على بطلان مَن يحصر الصور المحرَّمة فيما كانت مجسَّمة أو لها ظلٌّ ؛ فهذه الستارة صورها عليها لا ظلَّ لها وليست مجسَّمة ، لذلك جزم كثير من علماء المسلمين وفي مقدِّمتهم الإمام النووي في " شرحه في صحيح مسلم " فقال : الصواب أن الأحاديث تشمل بالتحريم كلَّ الصور ؛ سواء ما كان مجسَّمًا أو غير مجسَّم ، وصلنا اليوم في عصرنا اليوم في العصر الحاضر إلى نوع ثالث من الصور ، وهي الصور الفوتوغرافية ، فوُجد كثيرٌ من الكُتَّاب - بل وممَّن يُقال إنهم من الدعاة الإسلاميين ! - مَن قال منهم بأن هذه الصور الفوتوغرافية هي مباحة ؛ لماذا ؟ لأنها لم تُصوَّر بالقلم أو بالريشة أو بأي وسيلة قديمة !!
وهذا يشبه جمود الظاهري في تفسيره للحديثين السابقين ؛ حديث : ( إذنها صماتها) ، وحديث : " نهى عن البول في الماء الراكد " ، ولا حاجة بنا إلى إعادة الكلام فيهما ، فالآن هذا الجمود الظاهري العصري الذي يفرِّق بين صورة صُوِّرت بالقلم باليد ، وبين صورة صُوِّرت بالآلة الفوتوغرافية ، هذه صورة وهذه صورة ، وإذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى لن تجد بينهم فرقًا يُذكر ، وإنما الفرق شكليٌّ محضٌ ؛ وهو أن يقول هذه صٌورت باليد فهي حرام ، وهذه الأخرى صُوِّرت بالآلة فهي حلال ، هذه ظاهرية ابن حزم في العصر الحاضر .
ولقد قلت مرة لبعضهم : زعموا بأن شيخًا زار تلميذًا له ، ولما جلس في مكانه وجد تجاهَه صورة نفسه ، فوعظ تلميذه وقال له : يا فلان ، أنا أعرفك تلميذًا صالحًا تقيًّا ؛ فلماذا وضعت صورتي في هذا المكان ؟ ألا تعلم أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو كلب ؟ قال له : يا سيدي ، أنا فعلت ذلك لتكونَ ذكراك في خاطري . قال : هذا ما يجوز ، فعليك أن تخلَعَها و ... . فبادر التلميذ وأنزلها ، ثم راحت أيام ورجع الشيخ وزار التلميذ مرَّة أخرى ، وإذا به يرى الصورة في مكانها ، فذكَّر التلميذ بما كان وقع منه سابقًا ، وكيف أنَّ الشيخ وَعَظَه وذكَّره ، فقال ، وأنه استجاب التلميذ يومئذٍ له ، فلماذا أنت رجعت ووضعت الصورة مكانها ؟ قال التلميذ : يا سيدي ، نحن كنا فهمنا منك أن الصورة اليدوية هي المحرمة ، أما الصورة الفوتوغرافية فهي مباحة ، وهذه صورة فوتوغرافية . فقال الشيخ : بارك الله فيك ، أنت تلميذ فقيه أو فقهْتَ .
فمن الذي يقول هذا الكلام ؟ الصورة هي هي تمثِّل شخصًا معيَّنًا ؛ سواء صُوِّرت باليد أو صُوِّرت بالآلة ؛ علمًا أن هذه الآلة من صَنَعَها ؟ صنعتها اليد ، بل الأيادي التي مرَّت على هذه الآلة حتى وصلت اليوم أنَّ الصورة ما تحتاج إلى تحميض ، وإلى معاملة خاصَّة حتى تظهر الصورة ، وإنما فورًا بكبسة الضغط على الزر تخرج الصورة ، مَن الذي يقول أن هذه الصورة التي صوَّرها هذا الإنسان الذي جهد حتى أوصلها إلى هذه المنزلة ؛ بحيث أنه يضغط على الزر وتخرج الصورة ؟ هذا جمود ، وهو في اعتقادي وأنا أصرِّح لا أبالي يشبه حيل اليهود ، فأنتم تعلمون جميعًا قصة اليهود يوم السبت المذكورة في القرآن الكريم ؛ فلا داعي إلا إلى التذكير بها ، ولكن الداعي يوجب عليَّ أن أذكِّركم بحديث صحيح قد لا يعرفه كثير من الناس ؛ ألا وهو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم : ( لعنَ الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجَمَلُوها ، ثم باعوها ، وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ حرَّم ثمنه ) ، ماذا يعني هذا الحديث الصحيح ؟
قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لعن الله اليهود ) لِمَ ؟ قال : ( لأنهم لما حرَّم الله عليهم الشحوم ) ، يشير الحديث إلى بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ )) ، من هذه الطيِّبات التي كانت أُحلِّت لهم من قبلُ قبلَ طغيانهم ، وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ، واعتدائهم على أحكام الله ، واحتيالهم على شريعة الله ؛ حرَّم الله عليهم طيِّبات أُحلِّت لهم من قبلُ ، من هذه الطيبات وهي الشحوم التي ذكرَها الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث : ( لعنَ الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم ) فماذا فعلوا ؟ قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( فجَمَلُوها ) أي : ذوَّبوها وغيَّروا شكلها ، ( ثم باعوها ، وأكلوا أثمانها ) ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ( وإن الله إذا حرَّم أكل شيء حرَّم ثمنه ) ، الشحم بقي شحمًا ، لكن تغيَّر شكله ، كان في الشكل الطبيعي على الدَّابَّة ، ثم هم جعلوه في شكل ذوَّبوه فوق النار أوقدوها من تحتها ، وجعلوها في حُلَلٍ ضخمة ، فسالت وأخذت سطحًا مستويًا ، ما خرجَ هذا الشحم عن كونه شحمًا ، كل ما في الأمر أنه تغيَّر شكله ، فاحتالت اليهود على استحلال هذا الشَّحم الذي حرَّمه الله عليهم بأن ذوَّبوه وغيَّروا شكله ، واستحلُّوا بيعه وشراءه وأكله ، فاستحقوا - أيضًا - اللَّعن بسبب هذه الحيلة غير حيلة اصطيادهم السمك يوم السبت ... ، فالآن لم يَعُدْ المسلمون بحاجة إلى استعمال الورق والقلم والريشة والدهان والأصباغ ونحو ذلك ، فإن الصورة الآن تظهر بلحظة واحدة .
قال بعض الظاهريِّين العصريِّين : أن هذه الصورة حلال ؛ لأنها صُوِّرت ليست باليد وإنما بالآلة ، والحقيقة أنها صُوِّرت باليد بالآلة كليهما معًا ، وهذه الآلة إنما هي من صنع البشر ، فالصورة إذًا واحدة ، ونحن نستطيع أن نتذكَّر الآن الحكمة التي من أجلها حرَّم الشارع الحكيم التصوير والصور ، قد جاء ذلك في حديث عائشة حكمة من الحكم المضاهاة لخلق الله - تبارك وتعالى - ؛ فيا تُرى المصوِّر القديم الذي كان يظلُّ أمام الصنم أيامًا طوالًا ينحت ، يبدو له هنا نقص فيتداركه ، ثم فيما يتصوَّر أخيرًا أن هذا الصنم قد تمَّ - كما يقولون من الناحية الفنية - قد تم صنعه . ويحكون عن بعض الإيطاليين والذين يسمُّونهم بالفنانين أنه بقي أيامًا أمام صنم ينحته ، ومن كثرة ما أُعجب به قال له : تكلَّم ، فلما لم يتكلَّم حطَّمه شرَّ تحطيم ؛ أُعجب بفنِّه ! ثم عجز عن أن يتمِّم المضاهاة لله ؛ حيث خلق الله - عز وجل - الإنسان في أحسن تقويم ، وسهَّل له طريقة التكلم ، ذاك لم يستطع إلا تصوير هذه الصورة الجامدة ، ظلَّ أيامًا .
الآن هناك آلات كما تعلمون ليس هناك نحتٌ ، وإنما هناك تجهيز آلات ربَّما أخذت السنين الطويلة ؛ بحيث أن الموظَّف المختص هناك يضغط على الزر فتخرج الأصنام هناك كاملة ، وبصورة أجمل من ذلك الصنم الذي كان يظلُّ ذلك الفنان المزعوم كان يظل أيامًا حتى يستطيع أن يُخرج الصنم إلى أقرب هيئة مقبولة ، الآن - أيضًا - بضغطة زر تخرج الأصنام في المعنى الكبير هناك بالمئات إن لم نقل الألوف ، تغيَّرت الوسيلة ، ولكن هذه الأصنام أليست أصنامًا ؟ نعم ، كما قيل : تعدَّدت الأسباب والموت واحد ، فالسبب قديمًا كان النحت أيام طوال حتى يخرج الصنم كما يشتهون ، والآن مكثوا يعملون الآلات حتى استطاعوا بضغطة زر يُلقون المعجون الذي يريدونه ، فيخرج هناك صنم يتلألأ لمعانًا أو أصنام من هذه اللُّعب التي ابتلي المسلمون بزجِّها إلى بيوتهم ، كل هذه أصنام وإن اختلفت الآلة ، كذلك الصور التي لا ظلَّ لها هي صور ، وهي تمنع دخول الملائكة ؛ سواء صورت باليد أو بالآلة ، ثم حدث أخيرًا ما تعرفونه بالاسم الأجنبي بالفيديو ، الفيديو أشدُّ مضاهاةً من الصور القلمية والصور الفوتوغرافية ؛ لماذا ؟ لأن هذين الجنسين من الصور جامدة لا تتحرَّك ، مع ذلك ربنا - تبارك وتعالى - ألهَمَ نبيَّه أن يحرِّم هذه الصور لما فيها من المضاهاة الخارجية الشكلية ، وإلا هذا الصنم ليس فيه دماغ ، ليس فيه العروق ، ليس فيه القلب ، والرئة وما شابه ذلك ، حجر أصم سمَّاه مضاهاة لخلق الله - تبارك وتعالى - ، فالصور الفوتوغرافية ، بل الصور المتحرِّكة الآن - وهي الفيديو - هذه فيها مضاهاة لخلق الله أكثر وأكثر ؛ لأن تلك الصور القديمة لا تتحرَّك ، فهي جامدة في مكانها ، أما صور الفيديو الآن تراها كأنها أشخاص حقيقيين ، فهذه العلة التي من أجلها حرَّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصور قد تجلَّت وتضخَّمت لتصير الفيديو ، فهي محرَّمة أكثر وأكثر من الأصنام نفسها ؛ لأن الصنم كما سمعتم قصة ذلك الإيطالي أنه لما أمَرَه أن يتحرك بلسانه ما تحرَّك ؛ لأنه حجر أصم ، أما الآن فأنتم ترون الأشخاص أمامكم كما لو كانوا أشخاص أمثالكم ، الأمر ليس كذلك ؛ فهذه مضاهاة لخلق الله ، صحيح كما يزعم بعضهم أن هذه الصور تصوِّر الأشخاص الموجودين حقيقة ، هذا لا يمنع أن يكون هناك مضاهاة لخلق الله ؛ لأن هذه الصورة متحرِّكة ليس فيها روح ، ولذلك جاء في بعض الأحاديث : ( أن الله - عز وجل - يأمر يوم القيامة المصوِّر أو المصوِّرين يقول لهم : أحيوا ما خلقتم ) .
ثم لم تقف هذه الصور صور الفيديو على تصوير أشخاص حقيقيين هم كانوا ثم صُوِّروا ثم ترقَّى فنُّهم في التصوير ، فجعلوها تتحرَّك وتتكلَّم بواسطة مكبِّر الصوت ونحو ذلك ، بل تعدَّى ذلك إلى اتِّخاذ صور بأشكال غريبة ومستقذرة جدًّا ، هذا إنسان يكسونه صورة جلد الدب مثلًا ، فيظهر يتكلم وله فم كبير وإلى آخره ، فهذا - أيضًا - ليس مضاهاةً لخلق الله ، هذا كله شرٌّ من تلك الصور التي حرَّمها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فالقول بأن الصورة اليدوية محرَّمة ، والصور الفوتوغرافية أو الفيديو مباحة ؛ هذا هو مذهب ابن حزم الظاهري لو كان في هذا العصر لَاستحى هو أن يقول بما يقول الذين يدَّعون اليوم أنهم على شيء من الفقه والفهم للإسلام ، ومَن فَهِمَ الإسلام وفَهِمَ سبب التحريم لا يفرِّق بين تلك الصور القديمة والصور الحديثة ، بل هذه الحديثة أولى في التحريم لما ذكرناه آنفًا .
قلنا أن من حكم التحريم المضاهاة التي نصَّ عليها الرسول - عليه السلام - في ذلك الحديث الصحيح ، ولكن هناك حكمة أخرى ؛ وهي أن الصور كانت في بعض العصور المتقدمة سببًا لوقوع الناس في الإشراك بالله - عز وجل - والكفر بتوحيده ؛ كما جاء ذلك في سورة نوح - عليه السلام - ، وأن موقف قومه كانوا رافضين لِمَا أمرهم به من عبادة الله وحدَه لا شريك له ؛ لأنهم كانوا اتَّخذوا أصنامًا لخمسة من قومهم الصالحين ، وهم الذين ذكرهم الله - عز وجل - في قوله حكايةً عنهم : (( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ، يقول ابن عباس كما روى البخاري وابن جرير الطبري وغيرهما من أهل الحديث أن هؤلاء الخمسة كانوا عبادًا لله صالحين ، انظروا كيف يتدرَّج إبليس عدو الإنسان يزيِّن له أعمالهم ليضلَّهم عن سواء السبيل ؟ كانوا هؤلاء خمسة عبادًا لله صالحين ، فلما ماتوا وجعلوهم أرادوا أن يدفنوهم مع قبور الناس جميعًا تزيَّن لهم الشيطان وقال : هؤلاء هم صفوة الناس صلاحًا وإصلاحًا و و إلى آخره ، لذلك أنا أنصح لكم بأن تجعلوا قبورهم في أفنية دوركم ؛ أي : أمام الدور كلما خرجتم تذكَّرتم أعمالهم وأخلاقهم وإصلاحهم ، فاستجابوا للشيطان ودفنوا قبورهم ليس في المقابر ، وإنما أمام دورهم ، وتَرَكَهم إبليس جيلًا من الزمان ؛ حتى جاء الجيل الثاني ، فوجد الجيل الأول يعكفون على هذه القبور ، فزيَّن لهم بأن يتَّخذوا لهم أصنامًا ؛ لأنه قد تأتي - هكذا صور لهم - سيول وأمطار ورياح وتذهب بهذه القبور ، وتذهب ذكراهم من أذهانكم ، فاستجابوا له ، ونحتوا خمسة أصنام لهؤلاء العباد الصالحين ، ووضعوها في مكان ، ثم جاءهم فيما بعد وقال : هؤلاء - كما تعلمون - ناس صالحون يستحقُّون الإكرام ، لا ينبغي أن تضعوهم في مكان غير لائق بهم ، فعليكم أن تضعوهم في بيت خاصٍّ ، فجعلوها في نُصُب وأماكن رفيعة ، وجاء الجيل الأخير فأخذوا يهتفون لهم من دون الله - تبارك وتعالى - ، فأرسل الله إليهم نوحًا - عليه السلام - كما قصَّ قصَّتهم في سورة نوح ، وكان موقفهم أن ردُّوا دعوة التوحيد (( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ، قال الله - تعالى - : (( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا )) .
الشاهد : فتحريم الصور نستطيع أن نقول لعلَّتين اثنتين :
العلة الأولى : ( أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو كلب ) ، فمهما كانت الآلة التي صُوِّرت فيها الصورة المحرَّمة فهي صورة ، وهي تمنع دخول الملائكة ؛ سواء كان صنمًا نُحِتَ في أيام عديدة ، أو صنمًا أُنتج بضغطة زر ، أو صورة صُوِّرت باليد ، أو صورة صُوِّرت بالآلة الفوتوغرافية ، أو صورة أُخذت بالفيديو ؛ كلُّ هذه الأشياء اسمها صور لغةً وشرعًا ، والرسول يقول : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب ) ، فإذًا يجب على المسلمين أن ينظِّفوا بيوتهم من كلِّ صورة إذا أرادوا أن تتردَّد ملائكة الله وأن تدخل إلى بيوتهم ؛ وإلا فإذا خلت الديار من الملائكة استعمَرَتْها الشياطين ، وهذه كلمة عامية " إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين " ، فإذا اتَّخذ المسلم أسبابًا شرعية لجلب الشياطين بإبعاد الملائكة ؛ فذلك معناه أن هذا البيت لا تحلُّ فيه الرحمة أو تنزل فيه السكينة ، فإذًا الصور حُرِّمت لأنها تمنع دخول الملائكة ، هذا سبب .
سبب ثاني : لأنها كانت وسيلة لعبادة غير الله - تبارك وتعالى - ؛ فسدًّا للذريعة حرَّم الشارع الحكيم الصور على جميع أشكالها وأنواعها ، ولأن الملائكة لا تسكن بيتًا فيه صورة أو كلب ؛ لذلك أنصح كلَّ مسلم أن يقف عند حدود الله ، ولا يغترَّ ببعض التأويلات العصرية ؛ لأن المقصود منها تسليك هذا الواقع المخالف للشرع الصريح في أحكامه ، وهذا من ذاك .
ونسأل الله التوفيق لنا ولكم ، والسداد في القول والعمل .
تفضل .
السائل : جزاك الله خير .
قلنا : إن الصور منها الصور المجسَّمة ، والتي لها ظلٌّ ؛ أي : الأصنام ؛ فهي محرَّمة باتفاق المسلمين ، أما الصور الأخرى وهي غير المجسَّمة والتي تُطرَّز على الستائر أو على الثياب ، أو تصور على الجدران بالدهان أو بقلم الرصاص ، أو بنحو ذلك على الورق ؛ هذه الصور يسمُّونها بغير المجسَّمة ، وقد يعبِّرون عن هذا بأنها لا ظلَّ لها ، بينما الأصنام لها ظلٌّ ؛ هذا القسم الثاني من الصور قد وُجد فيمن مضى مَن قال لا بأس بها ؛ لأنه حَمَلَ الأحاديث التي تلعن المصوِّرين والأحاديث التي تقول : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب ) على الصور المجسَّمة التي لها ظلٌّ ، وصلتُ إلى ذكر حديث عائشة في الستارة التي كانت اتخذتها بمناسبة قدوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنكر ذلك عليها ، وقال : ( إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة هؤلاء المصوِّرون يضاهون بخلق الله ) ، فأشار إلى المصورين الذين صوَّروا الصور على الستائر ، وهي صور ليست مجسَّمة ، وإنما هي صور على الثوب على الستارة ، فكان هذا دليلًا على بطلان مَن يحصر الصور المحرَّمة فيما كانت مجسَّمة أو لها ظلٌّ ؛ فهذه الستارة صورها عليها لا ظلَّ لها وليست مجسَّمة ، لذلك جزم كثير من علماء المسلمين وفي مقدِّمتهم الإمام النووي في " شرحه في صحيح مسلم " فقال : الصواب أن الأحاديث تشمل بالتحريم كلَّ الصور ؛ سواء ما كان مجسَّمًا أو غير مجسَّم ، وصلنا اليوم في عصرنا اليوم في العصر الحاضر إلى نوع ثالث من الصور ، وهي الصور الفوتوغرافية ، فوُجد كثيرٌ من الكُتَّاب - بل وممَّن يُقال إنهم من الدعاة الإسلاميين ! - مَن قال منهم بأن هذه الصور الفوتوغرافية هي مباحة ؛ لماذا ؟ لأنها لم تُصوَّر بالقلم أو بالريشة أو بأي وسيلة قديمة !!
وهذا يشبه جمود الظاهري في تفسيره للحديثين السابقين ؛ حديث : ( إذنها صماتها) ، وحديث : " نهى عن البول في الماء الراكد " ، ولا حاجة بنا إلى إعادة الكلام فيهما ، فالآن هذا الجمود الظاهري العصري الذي يفرِّق بين صورة صُوِّرت بالقلم باليد ، وبين صورة صُوِّرت بالآلة الفوتوغرافية ، هذه صورة وهذه صورة ، وإذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى لن تجد بينهم فرقًا يُذكر ، وإنما الفرق شكليٌّ محضٌ ؛ وهو أن يقول هذه صٌورت باليد فهي حرام ، وهذه الأخرى صُوِّرت بالآلة فهي حلال ، هذه ظاهرية ابن حزم في العصر الحاضر .
ولقد قلت مرة لبعضهم : زعموا بأن شيخًا زار تلميذًا له ، ولما جلس في مكانه وجد تجاهَه صورة نفسه ، فوعظ تلميذه وقال له : يا فلان ، أنا أعرفك تلميذًا صالحًا تقيًّا ؛ فلماذا وضعت صورتي في هذا المكان ؟ ألا تعلم أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو كلب ؟ قال له : يا سيدي ، أنا فعلت ذلك لتكونَ ذكراك في خاطري . قال : هذا ما يجوز ، فعليك أن تخلَعَها و ... . فبادر التلميذ وأنزلها ، ثم راحت أيام ورجع الشيخ وزار التلميذ مرَّة أخرى ، وإذا به يرى الصورة في مكانها ، فذكَّر التلميذ بما كان وقع منه سابقًا ، وكيف أنَّ الشيخ وَعَظَه وذكَّره ، فقال ، وأنه استجاب التلميذ يومئذٍ له ، فلماذا أنت رجعت ووضعت الصورة مكانها ؟ قال التلميذ : يا سيدي ، نحن كنا فهمنا منك أن الصورة اليدوية هي المحرمة ، أما الصورة الفوتوغرافية فهي مباحة ، وهذه صورة فوتوغرافية . فقال الشيخ : بارك الله فيك ، أنت تلميذ فقيه أو فقهْتَ .
فمن الذي يقول هذا الكلام ؟ الصورة هي هي تمثِّل شخصًا معيَّنًا ؛ سواء صُوِّرت باليد أو صُوِّرت بالآلة ؛ علمًا أن هذه الآلة من صَنَعَها ؟ صنعتها اليد ، بل الأيادي التي مرَّت على هذه الآلة حتى وصلت اليوم أنَّ الصورة ما تحتاج إلى تحميض ، وإلى معاملة خاصَّة حتى تظهر الصورة ، وإنما فورًا بكبسة الضغط على الزر تخرج الصورة ، مَن الذي يقول أن هذه الصورة التي صوَّرها هذا الإنسان الذي جهد حتى أوصلها إلى هذه المنزلة ؛ بحيث أنه يضغط على الزر وتخرج الصورة ؟ هذا جمود ، وهو في اعتقادي وأنا أصرِّح لا أبالي يشبه حيل اليهود ، فأنتم تعلمون جميعًا قصة اليهود يوم السبت المذكورة في القرآن الكريم ؛ فلا داعي إلا إلى التذكير بها ، ولكن الداعي يوجب عليَّ أن أذكِّركم بحديث صحيح قد لا يعرفه كثير من الناس ؛ ألا وهو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم : ( لعنَ الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجَمَلُوها ، ثم باعوها ، وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ حرَّم ثمنه ) ، ماذا يعني هذا الحديث الصحيح ؟
قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لعن الله اليهود ) لِمَ ؟ قال : ( لأنهم لما حرَّم الله عليهم الشحوم ) ، يشير الحديث إلى بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ )) ، من هذه الطيِّبات التي كانت أُحلِّت لهم من قبلُ قبلَ طغيانهم ، وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ، واعتدائهم على أحكام الله ، واحتيالهم على شريعة الله ؛ حرَّم الله عليهم طيِّبات أُحلِّت لهم من قبلُ ، من هذه الطيبات وهي الشحوم التي ذكرَها الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث : ( لعنَ الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم ) فماذا فعلوا ؟ قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( فجَمَلُوها ) أي : ذوَّبوها وغيَّروا شكلها ، ( ثم باعوها ، وأكلوا أثمانها ) ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ( وإن الله إذا حرَّم أكل شيء حرَّم ثمنه ) ، الشحم بقي شحمًا ، لكن تغيَّر شكله ، كان في الشكل الطبيعي على الدَّابَّة ، ثم هم جعلوه في شكل ذوَّبوه فوق النار أوقدوها من تحتها ، وجعلوها في حُلَلٍ ضخمة ، فسالت وأخذت سطحًا مستويًا ، ما خرجَ هذا الشحم عن كونه شحمًا ، كل ما في الأمر أنه تغيَّر شكله ، فاحتالت اليهود على استحلال هذا الشَّحم الذي حرَّمه الله عليهم بأن ذوَّبوه وغيَّروا شكله ، واستحلُّوا بيعه وشراءه وأكله ، فاستحقوا - أيضًا - اللَّعن بسبب هذه الحيلة غير حيلة اصطيادهم السمك يوم السبت ... ، فالآن لم يَعُدْ المسلمون بحاجة إلى استعمال الورق والقلم والريشة والدهان والأصباغ ونحو ذلك ، فإن الصورة الآن تظهر بلحظة واحدة .
قال بعض الظاهريِّين العصريِّين : أن هذه الصورة حلال ؛ لأنها صُوِّرت ليست باليد وإنما بالآلة ، والحقيقة أنها صُوِّرت باليد بالآلة كليهما معًا ، وهذه الآلة إنما هي من صنع البشر ، فالصورة إذًا واحدة ، ونحن نستطيع أن نتذكَّر الآن الحكمة التي من أجلها حرَّم الشارع الحكيم التصوير والصور ، قد جاء ذلك في حديث عائشة حكمة من الحكم المضاهاة لخلق الله - تبارك وتعالى - ؛ فيا تُرى المصوِّر القديم الذي كان يظلُّ أمام الصنم أيامًا طوالًا ينحت ، يبدو له هنا نقص فيتداركه ، ثم فيما يتصوَّر أخيرًا أن هذا الصنم قد تمَّ - كما يقولون من الناحية الفنية - قد تم صنعه . ويحكون عن بعض الإيطاليين والذين يسمُّونهم بالفنانين أنه بقي أيامًا أمام صنم ينحته ، ومن كثرة ما أُعجب به قال له : تكلَّم ، فلما لم يتكلَّم حطَّمه شرَّ تحطيم ؛ أُعجب بفنِّه ! ثم عجز عن أن يتمِّم المضاهاة لله ؛ حيث خلق الله - عز وجل - الإنسان في أحسن تقويم ، وسهَّل له طريقة التكلم ، ذاك لم يستطع إلا تصوير هذه الصورة الجامدة ، ظلَّ أيامًا .
الآن هناك آلات كما تعلمون ليس هناك نحتٌ ، وإنما هناك تجهيز آلات ربَّما أخذت السنين الطويلة ؛ بحيث أن الموظَّف المختص هناك يضغط على الزر فتخرج الأصنام هناك كاملة ، وبصورة أجمل من ذلك الصنم الذي كان يظلُّ ذلك الفنان المزعوم كان يظل أيامًا حتى يستطيع أن يُخرج الصنم إلى أقرب هيئة مقبولة ، الآن - أيضًا - بضغطة زر تخرج الأصنام في المعنى الكبير هناك بالمئات إن لم نقل الألوف ، تغيَّرت الوسيلة ، ولكن هذه الأصنام أليست أصنامًا ؟ نعم ، كما قيل : تعدَّدت الأسباب والموت واحد ، فالسبب قديمًا كان النحت أيام طوال حتى يخرج الصنم كما يشتهون ، والآن مكثوا يعملون الآلات حتى استطاعوا بضغطة زر يُلقون المعجون الذي يريدونه ، فيخرج هناك صنم يتلألأ لمعانًا أو أصنام من هذه اللُّعب التي ابتلي المسلمون بزجِّها إلى بيوتهم ، كل هذه أصنام وإن اختلفت الآلة ، كذلك الصور التي لا ظلَّ لها هي صور ، وهي تمنع دخول الملائكة ؛ سواء صورت باليد أو بالآلة ، ثم حدث أخيرًا ما تعرفونه بالاسم الأجنبي بالفيديو ، الفيديو أشدُّ مضاهاةً من الصور القلمية والصور الفوتوغرافية ؛ لماذا ؟ لأن هذين الجنسين من الصور جامدة لا تتحرَّك ، مع ذلك ربنا - تبارك وتعالى - ألهَمَ نبيَّه أن يحرِّم هذه الصور لما فيها من المضاهاة الخارجية الشكلية ، وإلا هذا الصنم ليس فيه دماغ ، ليس فيه العروق ، ليس فيه القلب ، والرئة وما شابه ذلك ، حجر أصم سمَّاه مضاهاة لخلق الله - تبارك وتعالى - ، فالصور الفوتوغرافية ، بل الصور المتحرِّكة الآن - وهي الفيديو - هذه فيها مضاهاة لخلق الله أكثر وأكثر ؛ لأن تلك الصور القديمة لا تتحرَّك ، فهي جامدة في مكانها ، أما صور الفيديو الآن تراها كأنها أشخاص حقيقيين ، فهذه العلة التي من أجلها حرَّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصور قد تجلَّت وتضخَّمت لتصير الفيديو ، فهي محرَّمة أكثر وأكثر من الأصنام نفسها ؛ لأن الصنم كما سمعتم قصة ذلك الإيطالي أنه لما أمَرَه أن يتحرك بلسانه ما تحرَّك ؛ لأنه حجر أصم ، أما الآن فأنتم ترون الأشخاص أمامكم كما لو كانوا أشخاص أمثالكم ، الأمر ليس كذلك ؛ فهذه مضاهاة لخلق الله ، صحيح كما يزعم بعضهم أن هذه الصور تصوِّر الأشخاص الموجودين حقيقة ، هذا لا يمنع أن يكون هناك مضاهاة لخلق الله ؛ لأن هذه الصورة متحرِّكة ليس فيها روح ، ولذلك جاء في بعض الأحاديث : ( أن الله - عز وجل - يأمر يوم القيامة المصوِّر أو المصوِّرين يقول لهم : أحيوا ما خلقتم ) .
ثم لم تقف هذه الصور صور الفيديو على تصوير أشخاص حقيقيين هم كانوا ثم صُوِّروا ثم ترقَّى فنُّهم في التصوير ، فجعلوها تتحرَّك وتتكلَّم بواسطة مكبِّر الصوت ونحو ذلك ، بل تعدَّى ذلك إلى اتِّخاذ صور بأشكال غريبة ومستقذرة جدًّا ، هذا إنسان يكسونه صورة جلد الدب مثلًا ، فيظهر يتكلم وله فم كبير وإلى آخره ، فهذا - أيضًا - ليس مضاهاةً لخلق الله ، هذا كله شرٌّ من تلك الصور التي حرَّمها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فالقول بأن الصورة اليدوية محرَّمة ، والصور الفوتوغرافية أو الفيديو مباحة ؛ هذا هو مذهب ابن حزم الظاهري لو كان في هذا العصر لَاستحى هو أن يقول بما يقول الذين يدَّعون اليوم أنهم على شيء من الفقه والفهم للإسلام ، ومَن فَهِمَ الإسلام وفَهِمَ سبب التحريم لا يفرِّق بين تلك الصور القديمة والصور الحديثة ، بل هذه الحديثة أولى في التحريم لما ذكرناه آنفًا .
قلنا أن من حكم التحريم المضاهاة التي نصَّ عليها الرسول - عليه السلام - في ذلك الحديث الصحيح ، ولكن هناك حكمة أخرى ؛ وهي أن الصور كانت في بعض العصور المتقدمة سببًا لوقوع الناس في الإشراك بالله - عز وجل - والكفر بتوحيده ؛ كما جاء ذلك في سورة نوح - عليه السلام - ، وأن موقف قومه كانوا رافضين لِمَا أمرهم به من عبادة الله وحدَه لا شريك له ؛ لأنهم كانوا اتَّخذوا أصنامًا لخمسة من قومهم الصالحين ، وهم الذين ذكرهم الله - عز وجل - في قوله حكايةً عنهم : (( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ، يقول ابن عباس كما روى البخاري وابن جرير الطبري وغيرهما من أهل الحديث أن هؤلاء الخمسة كانوا عبادًا لله صالحين ، انظروا كيف يتدرَّج إبليس عدو الإنسان يزيِّن له أعمالهم ليضلَّهم عن سواء السبيل ؟ كانوا هؤلاء خمسة عبادًا لله صالحين ، فلما ماتوا وجعلوهم أرادوا أن يدفنوهم مع قبور الناس جميعًا تزيَّن لهم الشيطان وقال : هؤلاء هم صفوة الناس صلاحًا وإصلاحًا و و إلى آخره ، لذلك أنا أنصح لكم بأن تجعلوا قبورهم في أفنية دوركم ؛ أي : أمام الدور كلما خرجتم تذكَّرتم أعمالهم وأخلاقهم وإصلاحهم ، فاستجابوا للشيطان ودفنوا قبورهم ليس في المقابر ، وإنما أمام دورهم ، وتَرَكَهم إبليس جيلًا من الزمان ؛ حتى جاء الجيل الثاني ، فوجد الجيل الأول يعكفون على هذه القبور ، فزيَّن لهم بأن يتَّخذوا لهم أصنامًا ؛ لأنه قد تأتي - هكذا صور لهم - سيول وأمطار ورياح وتذهب بهذه القبور ، وتذهب ذكراهم من أذهانكم ، فاستجابوا له ، ونحتوا خمسة أصنام لهؤلاء العباد الصالحين ، ووضعوها في مكان ، ثم جاءهم فيما بعد وقال : هؤلاء - كما تعلمون - ناس صالحون يستحقُّون الإكرام ، لا ينبغي أن تضعوهم في مكان غير لائق بهم ، فعليكم أن تضعوهم في بيت خاصٍّ ، فجعلوها في نُصُب وأماكن رفيعة ، وجاء الجيل الأخير فأخذوا يهتفون لهم من دون الله - تبارك وتعالى - ، فأرسل الله إليهم نوحًا - عليه السلام - كما قصَّ قصَّتهم في سورة نوح ، وكان موقفهم أن ردُّوا دعوة التوحيد (( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ، قال الله - تعالى - : (( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا )) .
الشاهد : فتحريم الصور نستطيع أن نقول لعلَّتين اثنتين :
العلة الأولى : ( أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو كلب ) ، فمهما كانت الآلة التي صُوِّرت فيها الصورة المحرَّمة فهي صورة ، وهي تمنع دخول الملائكة ؛ سواء كان صنمًا نُحِتَ في أيام عديدة ، أو صنمًا أُنتج بضغطة زر ، أو صورة صُوِّرت باليد ، أو صورة صُوِّرت بالآلة الفوتوغرافية ، أو صورة أُخذت بالفيديو ؛ كلُّ هذه الأشياء اسمها صور لغةً وشرعًا ، والرسول يقول : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب ) ، فإذًا يجب على المسلمين أن ينظِّفوا بيوتهم من كلِّ صورة إذا أرادوا أن تتردَّد ملائكة الله وأن تدخل إلى بيوتهم ؛ وإلا فإذا خلت الديار من الملائكة استعمَرَتْها الشياطين ، وهذه كلمة عامية " إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين " ، فإذا اتَّخذ المسلم أسبابًا شرعية لجلب الشياطين بإبعاد الملائكة ؛ فذلك معناه أن هذا البيت لا تحلُّ فيه الرحمة أو تنزل فيه السكينة ، فإذًا الصور حُرِّمت لأنها تمنع دخول الملائكة ، هذا سبب .
سبب ثاني : لأنها كانت وسيلة لعبادة غير الله - تبارك وتعالى - ؛ فسدًّا للذريعة حرَّم الشارع الحكيم الصور على جميع أشكالها وأنواعها ، ولأن الملائكة لا تسكن بيتًا فيه صورة أو كلب ؛ لذلك أنصح كلَّ مسلم أن يقف عند حدود الله ، ولا يغترَّ ببعض التأويلات العصرية ؛ لأن المقصود منها تسليك هذا الواقع المخالف للشرع الصريح في أحكامه ، وهذا من ذاك .
ونسأل الله التوفيق لنا ولكم ، والسداد في القول والعمل .
تفضل .
السائل : جزاك الله خير .
- رحلة النور - شريط : 56
- توقيت الفهرسة : 00:10:49
- نسخة مدققة إملائيًّا