حول السلام الذي هو شعيرة من شعائر الإسلام .
A-
A=
A+
الشيخ : ... ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
فقد أُلقي في نفسي أن أُلقِيَ على مسامعكم كلمةً أرجو أن تكون موجزة مختصرة حول السلام الذي هو شعيرة من شعائر الإسلام ، والذي هذا الاسم السلام كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في كتابه " الأدب المفرد " باسناده الصحيح عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( السَّلام اسم من أسماء الله وضعَه في الأرض ؛ فأفشوه بينكم ) ، وقد جاء في الحديث الآخر الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة - أيضًا - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( والذي نفس محمد بيده ؛ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا ؛ أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟! أفشوا السَّلام بينكم ) .
قوله - عليه الصلاة والسلام - في آخر هذا الحديث : ( أفشوا السلام بينكم ) يعني الإكثار من إلقاء المسلم السلامَ على أخيه المسلم ، وليس ذلك فقط عند ملاقاته إيَّاه ؛ فإنه من الواجبات التي هي من حقِّ المسلم على المسلم ؛ كما جاء في الحديث الآخر : ( للمسلم على المسلم خمسٌ ؛ إذا لقيته فسلِّم عليه ) ، أن أدندن حوله بعض الشيء إنما هو سلامٌ أهمَلَه كثير من الناس اليوم ؛ ألا وهو على صورتين اثنتين ، إحداهما تتعلَّق بالصلاة على المصلي ، والأخرى تتعلَّق بالسلام عند الخروج من المجلس .
أما المسألة الأولى - وهي إلقاء السلام على القائم في الصلاة أو على القائمين في الصلاة - ؛ فهذه سنة مهجورة علمًا وعملًا ، ولذلك فأحببت أن أذكِّر بها والذكرى تنفع المؤمنين ، إن من افشاء السلام ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه زارَ يومًا الأنصار في مسجدهم - مسجد قباء - ، فكان كلما دخل جماعةٌ للسلام على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قائم يصلي ، وألقوا السلام عليه ردَّ السلام عليهم إشارةً بيده ، يقول راوي الحديث - وهو جعفر بن ضرغام - : فقلنا : كيف كان يردُّ السلام وهو يصلي ؟ فأجاب بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يجعل - يشير بكفِّه - يجعل بطن كفه إلى الأرض وظهرها إلى السماء ، كلما دخل مسلِّم عليه قال هكذا ، هكذا ، هذه الحركة هي ردُّ المشتغل بالصلاة سلام المسلِّم عليه لفظًا ، ولما كان المصلي مشغولًا ؛ لما هو فيه من تلاوة القراءة أو التسبيح المناسب لكلِّ ركن كان لا يستطيع أن يردَّ السلام بلفظه ، وإن كان ذلك مشروعًا في أول الأمر في أول الإسلام ، فقد جاء عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه لما رجع من هجرته إلى الحبشة ، وكان أول ما لَقِيَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المدينة وَجَدَه يصلي ، فألقى عليه السلامَ لفظًا كما هو الواجب ، ولكنه - رضي الله عنه - فُوجئ بما لم يكن في حسبانه ؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يردَّ عليه السلامَ لفظًا ، وإنما أشار إليه برأسه إشارةً هكذا ، قال عبد الله بن مسعود : فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ ؛ يحدِّث نفسه يتساءل ، يقول تُرى ماذا جنيت ماذا ارتكبتُ حتى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يردَّ عليَّ السلام ؟ فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصلاة قال : ( إن الله يُحدث في أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا كلام في الصلاة ) .
فقد كان هذا الكلام بين المسلِّم على المصلي وبين ردِّ المصلي للسلام كان ردُّه لفظًا ، هكذا فارقَ عبدُ الله بن مسعود نبيَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما هاجر إلى الحبشة ؛ فلذلك فكانت مفاجأة ما رآه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأوَّل مرَّة بعد أن فارقه وهو عهده بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يردُّ السلام في الصلاة لفظًا ؛ ذلك أن الكلام من الأحكام التي لم يُحرَّم في الصلاة فورًا ؛ أي : لم يكن من المحرَّم في الصلاة حينما أُمِرُوا بالصلاة ، وإنما حُرِّم الكلام فيما بعد ؛ حتى لقد كان المصلِّي يدخل المسجد فيجد الصلاةَ قائمةً ، فلا يدري هذه الركعة هي الأولى ولَّا الثانية ، فيقف في الصف ويسأل مَن كان قائمًا يصلي : أي ركعة هذه ؟ هذا قبل التحريم في الصلاة ، فيجيبه هذه الركعة الأولى ، أو هي الركعة الثانية ، فإذا كان قد فاته ركعة ماذا يفعل هذا المسبوق بركعة ؟ إنه يأتي بهذه الركعة الفائتة ، ثم يشارك الإمام في صلاته ، هكذا كان في أول الأمر قبل تحريم الكلام في الصلاة ، إلى أن دخل ذاتَ يوم معاذُ بن جبل - رضي الله عنه - فلم يفعل كما كانوا يفعلون ، لم يسأل مَن كان على جانبه ، وإنما أحرم واقتدى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم لما قُضيت الصلاة قام وجاء بالركعة الفائتة ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لقد سنَّ لكم معاذ سنَّةً ؛ فافعلوا ما فعل ) ، أي : لم يبقَ حاجة إلى أن يأتي المسبوق بالركعة الفائتة كما كانوا يفعلون من قبل بعد سؤال المصلين ، وإنما أن يفعل كما فعل معاذ - رضي الله عنه - ، وهذا مما أكَّده - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المُتَّفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم ؛ حيث رَوَيَا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار ، ولا تأتوها وأنتم تسعون ؛ فما أدركتم فصلُّوا ، وما فاتكم فأتمُّوا ) ؛ أي : كما فعل معاذ - رضي الله عنه - ، وأنزل الله - عز وجل - بإلغاء الحكم السابق الذي كان هو مكالمة الرجل لأخيه في الصلاة ، فأنزل الله قوله - تبارك وتعالى - : (( وقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين لا كلام في الصلاة .
ويبدو أن بعض الصحابة الذين لم يُدركوا هذا الحكم الجديد ؛ ألا وهو منعُ المصلي أن يتكلم في الصلاة ، بقي على معرفته القديمة التي ذكرناها آنفًا ، والتي عليها فارقَ ابنُ مسعود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولذلك لما ألقى عليه السلامَ كان يأمل أن يسمعَ ردَّ السلام من لفظه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبقية الحديث عرفتموه . يبدو أن أحد الصحابة لم يدرك هذا الحكم الجديد ، وهو أن لا كلام في الصلاة ؛ أعني بذلك الصحابي معاوية بن الحكم السُّلمي - رضي الله عنه - ، ومعاوية هذا غير معاوية ابن أبي سفيان الأموي الخليفة من بعد الخلفاء الراشدين كما تعلمون ، معاوية بن الحكم السلمي يحدِّث عن نفسه فقال : صليت يومًا وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فعطس رجلٌ بجانبي ، فقلت له : يرحمك الله - هذا على الأصل - ، فنظروا إليه بمؤخرة أعينهم مسكِّتين له ، ولكن الرجل ضَجِرَ من هذه النظرات المُوجَّهة إليه ، فقال : واثكل أمِّياه ! ما لكم تنظرون إليَّ ؟ - هو يعتقد أنه ما فعل شيئًا ، شمَّت صاحبه : يرحمك الله ! - ، قال معاوية : فأخذوا ضربًا على أفخاذهم ، اسكُتْ ، يقولون له ، قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاةَ أقبل إليَّ ؛ فوالله ما قَهَرَني ولا كَهَرَني ولا ضَرَبَني ولا شَتَمَني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) ، أي : الكلام الذي كان مباحًا سابقًا ، ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي : تسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتلاوة القرآن ) ، هكذا أدَّب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الرجلَ الصحابي معاوية بن الحكم السلمي الذي خَفِيَ عليه الحكم الجديد ؛ ألا وهو المروي في القرآن فضلًا عن السنة : (( فقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين لا مكالمة .
ولعل من الفائدة من تمام الفائدة أن نذكر تمام هذا الحديث ؛ لأن في توجُّه معاوية إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعديد من الأسئلة ، بيان أثر التربية الحسنة واستعمال الرفق واللطف بالجاهل ببعض أحكام الدين ، فقد سمعتم فيما مضى من هذا الحديث أن الرجل كان يتصوَّر بعد أن عرف أنه أخطأَ خَطَأً فاحشًا في الصلاة من نظرة الصحابة إليه ، ومن ضربهم على أفخاذهم عرفَ من ذلك كله أنه أخطأ خطأ فاحشًا ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مقبلًا عليه تصور أنه سيؤنِّبه سيشتمه سيضربه ، ولكن النتيجة الطبيعية لمن قال له - تبارك وتعالى - في كتابه : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) أن يرى غير ما قد يكون تخيَّل في ذهنه ، ولذلك قال : فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " فوالله ما قهرني ، ولا كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي : تسبيح ، وتحميد ، وتكبير ، وتلاوة القرآن ) ، حينما وَجَدَ هذا اللطف النبوي الكريم أخَذَ يوجِّه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السؤال تلو السؤال ليتدارك ما قد يكون هو بحاجة إلى أن يعرف حكم الله - عز وجل - في تلك المسائل ، فكان مما قاله للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : يا رسول الله ، إن منا أقوامًا يأتون الكهَّان . قال : ( فلا تأتوهم ) ، قال : إن منَّا أقوامًا يتطيَّرون . قال : ( فلا يصدَّنَّكم ) . قال : إن منَّا أقوامًا يخطُّون - أي : يعملون يتعاطَون الضَّرب بالرمل - . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( قد كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ ؛ فمن وافق خطُّه خطَّه فذاك ) . قال : يا رسول الله - وهذا آخر سؤاله - ، إنَّ لي جاريةً ترعى غنمًا لي في أحد ، فسطا الذئب يومًا على غنمي ، وأنا بشر أغضب كما يغضب البشر ؛ فصكَكْتُها صكَّة ، وعليَّ عتق رقبة ، - يقول يعني أنا أريد أن اوفي بهذا النذر الذي عليَّ وهو عتق رقبة ، وعندي جارية ؛ فهل ينفعني أن أعتقها ؟ - فقال - عليه السلام - : ( هاتها ) ، فجاء بها ، فقال - عليه الصلاة والسلام - للجارية : ( أين الله ؟ ) . قالت : في السماء . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( من أنا ؟ ) . قالت : رسول الله . فالتفتَ إلى سيِّدها وقال له : ( اعتِقْها ؛ فإنها مؤمنة ) .
ليس البحث بطبيعة الواقع الآن هو شرح هذا الحديث العظيم ، والتعليق على كل فقرة من فقراته ، وإنما ذكرتُه كيف تسلسَلَ الحكم ، وكيف وصلَ إلى تحريم الكلام ، ومن ذلك ردُّ السلام باللفظ ، بينما كان ذلك من قبل في أول الأمر جائزًا مشروعًا ، لا أريد أن أشرح هذا الحديث لأعود إلى حديث ابن مسعود ؛ أنه لما ألقى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السلام ، ولم يسمع الجواب بالسلام اللفظي قال : أخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ - يعني صارب يفكر من قريب ومن بعيد - تُرى ما الذي ارتكبته وخالفت فيه الشرع حتى لم يردَّ عليَّ السلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ فجاءه الجواب بعد أن سلم - عليه الصلاة والسلام - من الصلاة : ( إن الله يُحدث في أمره ) . - أي : في دينه ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) - قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن مسعود : ( إن الله يُحدث في أمره ما يشاء ، وإنَّ مما أحدث أن لا كلام في الصلاة ) ، وكأن يعتذر لابن مسعود الذي أخذه ما قرب وما بعد ، لا يهمَّنَّك لأنه نزل حكم جديد أنه لا كلام في الصلاة ، ولذلك لم أردَّ عليك السلام وإنما اكتفيت بالإشارة ، هذه الإشارة - وهنا بيت القصيد من هذه الكلمة - هذه الإشارة هي الرمز والبديل عن ردِّ السلام لفظًا الذي كان مشروعًا من قبل .
فمَن ألقى السلام على المصلي فله حالة من حالتين ، أو إشارة من إشارتين : أن نرد بإحداهما السلام ، إن كان في مكان مزدحم كهذا المسجد المبارك الذي كان ممتلئًا بالمصلين ، فدخل الداخل وقال : السلام عليكم ، ولا يرفع صوته كثيرًا ، وإنما يسلِّم على مَن حوله ؛ فعليهم أن يُشيروا باليد ، فهذه الإشارة تختلف بين أن يكون الداخل من وراء الصفوف ؛ فحينئذٍ ينبغي رفع اليد حتى تُرى ، ولا يشكلنَّ على المصلي ما أشكل على ابن مسعود فيتساءل : لماذا لم يردُّوا عليَّ السلام ؟ فيرفعون يدهم بعضهم على الأقل ؛ لأن ردَّ السلام فرض كفاية ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وإن كان المسلِّم آت من نحو القبلة ؛ بحيث يراه المصلون ويراهم هو بدوره ، فيكفي أن يرفع الرَّادُّ يدَه هكذا ، ولا يبالغ في الرفع ؛ ليحقِّق ردَّ السلام البديل عن اللفظ ؛ وهو : وعليكم السلام ، له الخيار بين أن يردَّ السلام إشارةً بيده أو يرد السلام إشارةً برأسه ، هذه الإشارة التامة إنما تكون إذا كان الجمع قليلًا ، أو كان المصلي فردًا ، فيظهر حين ذاك ردُّ هذا السلام بهذه الإشارة السَّمحة السَّهلة ، هذا هو النوع الأول الذي أردْتُ أن أُلفِتَ النظر إلى كيفية رد السلام من المصلِّي على مَن سلم عليه . وقبل أن أنتقل إلى النوع الثاني ؛ لا بد من التذكير هنا أن إلقاء السلام كما قلنا في الحديث السابق ذكره : ( للمسلم على المسلم حقٌّ ؛ إذا لقيتَه فسلِّم عليه ) ، فإذًا الداخل إلى المصلى أو إلى المسجد ولقي أخاه أو إخوانه المسلمين يصلون فعليه أن يبادرهم بالسلام لأنه لَقِيَهم ، ولكن الرَّدَّ لا يكون إلا إشارة كما ذكرنا .
أما النوع الثاني الذي ينبغي أن أنبِّه عليه - وهذه سنة أيضًا مهجورة مع الأسف - ؛ هي أن إلقاء السلام عند اللقاء والحمد لله لا يزال محفوظًا في كثير من البلاد الإسلامية ، وإن كانت بعضها قد بدؤوا يخلُّون بهذا الإلقاء ، فيلقى أحدُهم أخاه ، فيصبِّحه أو يمسِّيه الخير ، ولا يبادره بقوله : السلام عليكم ، بل وفي بعض البلاد إذا ألقيتَ السلام ما ردَّ عليك السلام ، وإنما قال لك : أهلًا أو مرحبًا ، وهذا إثمٌ ما بعده إثم ؛ لأن الله - عز وجل - يقول في الآية الكريمة المعروفة : (( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا )) ، ولا يخفى على أيِّ مسلم أنَّ السلام الشرعي الإسلامي كما قلنا في أول الحديث الذي ذكرناه آنفًا هو : ( اسم من أسماء الله وضعه في الأرض ؛ فأفشوه بينكم ) ، فمن يلقِ هذا السلام على أخيه المسلم ، ثم يبادره بقوله : أهلًا مرحبًا ، صباح الخير ، مسا الخير ، كما ردَّ عليه السلام لا بالتي هي أحسن ولا بالتي هي ... ؛ فهذه معصية يجب أن يكون أولئك المسلمون على ذكرٍ منها .
لكن الشيء الذي أريد الآن أن أذكِّر به ؛ أن كثيرًا من الحريصين على إلقاء السلام عند اللقاء لا يهتمُّون بإلقاء السلام عند الفراق ، وهنا التمييز ، الذين يهتمُّون بإلقاء السلام عند اللقاء لا يهتمُّون ولا يُلقون بالًا واهتمامًا لإلقاء السلام عند المفارقة ، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول : ( إذا دخل أحدكم المجلس فليسلِّم ، وإذا خرج فليسلِّم ؛ فليست الأولى بأحقَّ من الأخرى ) ، هذا الذي أرد التذكير به ؛ لأنني وجدْتُ في أكثر البلاد التي طفتُها ودخلت إليها يهملون إلقاء السلام عند المفارقة ، بل قد يكون اثنان ماشيين مع بعضهم البعض ، ثم ينصرف أحدهما فلا ينتبه صاحبه أنه انصرف ؛ لأنه لم يقل عند المفارقة : السلام عليكم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بيَّن في الحديث الأخير أن السلام عند المفارقة كالسلام عند اللقاء ، وأن هذا السلام عند اللقاء ليس بأحقَّ من السلام عند المفارقة ، ( إذا دخل أحدكم المجلس فليسلِّم ، وإذا خرج فليسلِّم ؛ فليست الأولى بأحقَّ من الاخرى ) ، هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين .
هات ما عندك ؟
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
فقد أُلقي في نفسي أن أُلقِيَ على مسامعكم كلمةً أرجو أن تكون موجزة مختصرة حول السلام الذي هو شعيرة من شعائر الإسلام ، والذي هذا الاسم السلام كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في كتابه " الأدب المفرد " باسناده الصحيح عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( السَّلام اسم من أسماء الله وضعَه في الأرض ؛ فأفشوه بينكم ) ، وقد جاء في الحديث الآخر الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة - أيضًا - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( والذي نفس محمد بيده ؛ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا ؛ أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟! أفشوا السَّلام بينكم ) .
قوله - عليه الصلاة والسلام - في آخر هذا الحديث : ( أفشوا السلام بينكم ) يعني الإكثار من إلقاء المسلم السلامَ على أخيه المسلم ، وليس ذلك فقط عند ملاقاته إيَّاه ؛ فإنه من الواجبات التي هي من حقِّ المسلم على المسلم ؛ كما جاء في الحديث الآخر : ( للمسلم على المسلم خمسٌ ؛ إذا لقيته فسلِّم عليه ) ، أن أدندن حوله بعض الشيء إنما هو سلامٌ أهمَلَه كثير من الناس اليوم ؛ ألا وهو على صورتين اثنتين ، إحداهما تتعلَّق بالصلاة على المصلي ، والأخرى تتعلَّق بالسلام عند الخروج من المجلس .
أما المسألة الأولى - وهي إلقاء السلام على القائم في الصلاة أو على القائمين في الصلاة - ؛ فهذه سنة مهجورة علمًا وعملًا ، ولذلك فأحببت أن أذكِّر بها والذكرى تنفع المؤمنين ، إن من افشاء السلام ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه زارَ يومًا الأنصار في مسجدهم - مسجد قباء - ، فكان كلما دخل جماعةٌ للسلام على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قائم يصلي ، وألقوا السلام عليه ردَّ السلام عليهم إشارةً بيده ، يقول راوي الحديث - وهو جعفر بن ضرغام - : فقلنا : كيف كان يردُّ السلام وهو يصلي ؟ فأجاب بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يجعل - يشير بكفِّه - يجعل بطن كفه إلى الأرض وظهرها إلى السماء ، كلما دخل مسلِّم عليه قال هكذا ، هكذا ، هذه الحركة هي ردُّ المشتغل بالصلاة سلام المسلِّم عليه لفظًا ، ولما كان المصلي مشغولًا ؛ لما هو فيه من تلاوة القراءة أو التسبيح المناسب لكلِّ ركن كان لا يستطيع أن يردَّ السلام بلفظه ، وإن كان ذلك مشروعًا في أول الأمر في أول الإسلام ، فقد جاء عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه لما رجع من هجرته إلى الحبشة ، وكان أول ما لَقِيَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المدينة وَجَدَه يصلي ، فألقى عليه السلامَ لفظًا كما هو الواجب ، ولكنه - رضي الله عنه - فُوجئ بما لم يكن في حسبانه ؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يردَّ عليه السلامَ لفظًا ، وإنما أشار إليه برأسه إشارةً هكذا ، قال عبد الله بن مسعود : فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ ؛ يحدِّث نفسه يتساءل ، يقول تُرى ماذا جنيت ماذا ارتكبتُ حتى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يردَّ عليَّ السلام ؟ فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصلاة قال : ( إن الله يُحدث في أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا كلام في الصلاة ) .
فقد كان هذا الكلام بين المسلِّم على المصلي وبين ردِّ المصلي للسلام كان ردُّه لفظًا ، هكذا فارقَ عبدُ الله بن مسعود نبيَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما هاجر إلى الحبشة ؛ فلذلك فكانت مفاجأة ما رآه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأوَّل مرَّة بعد أن فارقه وهو عهده بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يردُّ السلام في الصلاة لفظًا ؛ ذلك أن الكلام من الأحكام التي لم يُحرَّم في الصلاة فورًا ؛ أي : لم يكن من المحرَّم في الصلاة حينما أُمِرُوا بالصلاة ، وإنما حُرِّم الكلام فيما بعد ؛ حتى لقد كان المصلِّي يدخل المسجد فيجد الصلاةَ قائمةً ، فلا يدري هذه الركعة هي الأولى ولَّا الثانية ، فيقف في الصف ويسأل مَن كان قائمًا يصلي : أي ركعة هذه ؟ هذا قبل التحريم في الصلاة ، فيجيبه هذه الركعة الأولى ، أو هي الركعة الثانية ، فإذا كان قد فاته ركعة ماذا يفعل هذا المسبوق بركعة ؟ إنه يأتي بهذه الركعة الفائتة ، ثم يشارك الإمام في صلاته ، هكذا كان في أول الأمر قبل تحريم الكلام في الصلاة ، إلى أن دخل ذاتَ يوم معاذُ بن جبل - رضي الله عنه - فلم يفعل كما كانوا يفعلون ، لم يسأل مَن كان على جانبه ، وإنما أحرم واقتدى بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم لما قُضيت الصلاة قام وجاء بالركعة الفائتة ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لقد سنَّ لكم معاذ سنَّةً ؛ فافعلوا ما فعل ) ، أي : لم يبقَ حاجة إلى أن يأتي المسبوق بالركعة الفائتة كما كانوا يفعلون من قبل بعد سؤال المصلين ، وإنما أن يفعل كما فعل معاذ - رضي الله عنه - ، وهذا مما أكَّده - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المُتَّفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم ؛ حيث رَوَيَا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار ، ولا تأتوها وأنتم تسعون ؛ فما أدركتم فصلُّوا ، وما فاتكم فأتمُّوا ) ؛ أي : كما فعل معاذ - رضي الله عنه - ، وأنزل الله - عز وجل - بإلغاء الحكم السابق الذي كان هو مكالمة الرجل لأخيه في الصلاة ، فأنزل الله قوله - تبارك وتعالى - : (( وقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين لا كلام في الصلاة .
ويبدو أن بعض الصحابة الذين لم يُدركوا هذا الحكم الجديد ؛ ألا وهو منعُ المصلي أن يتكلم في الصلاة ، بقي على معرفته القديمة التي ذكرناها آنفًا ، والتي عليها فارقَ ابنُ مسعود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولذلك لما ألقى عليه السلامَ كان يأمل أن يسمعَ ردَّ السلام من لفظه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبقية الحديث عرفتموه . يبدو أن أحد الصحابة لم يدرك هذا الحكم الجديد ، وهو أن لا كلام في الصلاة ؛ أعني بذلك الصحابي معاوية بن الحكم السُّلمي - رضي الله عنه - ، ومعاوية هذا غير معاوية ابن أبي سفيان الأموي الخليفة من بعد الخلفاء الراشدين كما تعلمون ، معاوية بن الحكم السلمي يحدِّث عن نفسه فقال : صليت يومًا وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فعطس رجلٌ بجانبي ، فقلت له : يرحمك الله - هذا على الأصل - ، فنظروا إليه بمؤخرة أعينهم مسكِّتين له ، ولكن الرجل ضَجِرَ من هذه النظرات المُوجَّهة إليه ، فقال : واثكل أمِّياه ! ما لكم تنظرون إليَّ ؟ - هو يعتقد أنه ما فعل شيئًا ، شمَّت صاحبه : يرحمك الله ! - ، قال معاوية : فأخذوا ضربًا على أفخاذهم ، اسكُتْ ، يقولون له ، قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاةَ أقبل إليَّ ؛ فوالله ما قَهَرَني ولا كَهَرَني ولا ضَرَبَني ولا شَتَمَني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) ، أي : الكلام الذي كان مباحًا سابقًا ، ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي : تسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتلاوة القرآن ) ، هكذا أدَّب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الرجلَ الصحابي معاوية بن الحكم السلمي الذي خَفِيَ عليه الحكم الجديد ؛ ألا وهو المروي في القرآن فضلًا عن السنة : (( فقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين لا مكالمة .
ولعل من الفائدة من تمام الفائدة أن نذكر تمام هذا الحديث ؛ لأن في توجُّه معاوية إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعديد من الأسئلة ، بيان أثر التربية الحسنة واستعمال الرفق واللطف بالجاهل ببعض أحكام الدين ، فقد سمعتم فيما مضى من هذا الحديث أن الرجل كان يتصوَّر بعد أن عرف أنه أخطأَ خَطَأً فاحشًا في الصلاة من نظرة الصحابة إليه ، ومن ضربهم على أفخاذهم عرفَ من ذلك كله أنه أخطأ خطأ فاحشًا ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مقبلًا عليه تصور أنه سيؤنِّبه سيشتمه سيضربه ، ولكن النتيجة الطبيعية لمن قال له - تبارك وتعالى - في كتابه : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) أن يرى غير ما قد يكون تخيَّل في ذهنه ، ولذلك قال : فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " فوالله ما قهرني ، ولا كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي : تسبيح ، وتحميد ، وتكبير ، وتلاوة القرآن ) ، حينما وَجَدَ هذا اللطف النبوي الكريم أخَذَ يوجِّه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السؤال تلو السؤال ليتدارك ما قد يكون هو بحاجة إلى أن يعرف حكم الله - عز وجل - في تلك المسائل ، فكان مما قاله للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : يا رسول الله ، إن منا أقوامًا يأتون الكهَّان . قال : ( فلا تأتوهم ) ، قال : إن منَّا أقوامًا يتطيَّرون . قال : ( فلا يصدَّنَّكم ) . قال : إن منَّا أقوامًا يخطُّون - أي : يعملون يتعاطَون الضَّرب بالرمل - . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( قد كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ ؛ فمن وافق خطُّه خطَّه فذاك ) . قال : يا رسول الله - وهذا آخر سؤاله - ، إنَّ لي جاريةً ترعى غنمًا لي في أحد ، فسطا الذئب يومًا على غنمي ، وأنا بشر أغضب كما يغضب البشر ؛ فصكَكْتُها صكَّة ، وعليَّ عتق رقبة ، - يقول يعني أنا أريد أن اوفي بهذا النذر الذي عليَّ وهو عتق رقبة ، وعندي جارية ؛ فهل ينفعني أن أعتقها ؟ - فقال - عليه السلام - : ( هاتها ) ، فجاء بها ، فقال - عليه الصلاة والسلام - للجارية : ( أين الله ؟ ) . قالت : في السماء . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( من أنا ؟ ) . قالت : رسول الله . فالتفتَ إلى سيِّدها وقال له : ( اعتِقْها ؛ فإنها مؤمنة ) .
ليس البحث بطبيعة الواقع الآن هو شرح هذا الحديث العظيم ، والتعليق على كل فقرة من فقراته ، وإنما ذكرتُه كيف تسلسَلَ الحكم ، وكيف وصلَ إلى تحريم الكلام ، ومن ذلك ردُّ السلام باللفظ ، بينما كان ذلك من قبل في أول الأمر جائزًا مشروعًا ، لا أريد أن أشرح هذا الحديث لأعود إلى حديث ابن مسعود ؛ أنه لما ألقى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السلام ، ولم يسمع الجواب بالسلام اللفظي قال : أخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ - يعني صارب يفكر من قريب ومن بعيد - تُرى ما الذي ارتكبته وخالفت فيه الشرع حتى لم يردَّ عليَّ السلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ فجاءه الجواب بعد أن سلم - عليه الصلاة والسلام - من الصلاة : ( إن الله يُحدث في أمره ) . - أي : في دينه ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) - قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن مسعود : ( إن الله يُحدث في أمره ما يشاء ، وإنَّ مما أحدث أن لا كلام في الصلاة ) ، وكأن يعتذر لابن مسعود الذي أخذه ما قرب وما بعد ، لا يهمَّنَّك لأنه نزل حكم جديد أنه لا كلام في الصلاة ، ولذلك لم أردَّ عليك السلام وإنما اكتفيت بالإشارة ، هذه الإشارة - وهنا بيت القصيد من هذه الكلمة - هذه الإشارة هي الرمز والبديل عن ردِّ السلام لفظًا الذي كان مشروعًا من قبل .
فمَن ألقى السلام على المصلي فله حالة من حالتين ، أو إشارة من إشارتين : أن نرد بإحداهما السلام ، إن كان في مكان مزدحم كهذا المسجد المبارك الذي كان ممتلئًا بالمصلين ، فدخل الداخل وقال : السلام عليكم ، ولا يرفع صوته كثيرًا ، وإنما يسلِّم على مَن حوله ؛ فعليهم أن يُشيروا باليد ، فهذه الإشارة تختلف بين أن يكون الداخل من وراء الصفوف ؛ فحينئذٍ ينبغي رفع اليد حتى تُرى ، ولا يشكلنَّ على المصلي ما أشكل على ابن مسعود فيتساءل : لماذا لم يردُّوا عليَّ السلام ؟ فيرفعون يدهم بعضهم على الأقل ؛ لأن ردَّ السلام فرض كفاية ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وإن كان المسلِّم آت من نحو القبلة ؛ بحيث يراه المصلون ويراهم هو بدوره ، فيكفي أن يرفع الرَّادُّ يدَه هكذا ، ولا يبالغ في الرفع ؛ ليحقِّق ردَّ السلام البديل عن اللفظ ؛ وهو : وعليكم السلام ، له الخيار بين أن يردَّ السلام إشارةً بيده أو يرد السلام إشارةً برأسه ، هذه الإشارة التامة إنما تكون إذا كان الجمع قليلًا ، أو كان المصلي فردًا ، فيظهر حين ذاك ردُّ هذا السلام بهذه الإشارة السَّمحة السَّهلة ، هذا هو النوع الأول الذي أردْتُ أن أُلفِتَ النظر إلى كيفية رد السلام من المصلِّي على مَن سلم عليه . وقبل أن أنتقل إلى النوع الثاني ؛ لا بد من التذكير هنا أن إلقاء السلام كما قلنا في الحديث السابق ذكره : ( للمسلم على المسلم حقٌّ ؛ إذا لقيتَه فسلِّم عليه ) ، فإذًا الداخل إلى المصلى أو إلى المسجد ولقي أخاه أو إخوانه المسلمين يصلون فعليه أن يبادرهم بالسلام لأنه لَقِيَهم ، ولكن الرَّدَّ لا يكون إلا إشارة كما ذكرنا .
أما النوع الثاني الذي ينبغي أن أنبِّه عليه - وهذه سنة أيضًا مهجورة مع الأسف - ؛ هي أن إلقاء السلام عند اللقاء والحمد لله لا يزال محفوظًا في كثير من البلاد الإسلامية ، وإن كانت بعضها قد بدؤوا يخلُّون بهذا الإلقاء ، فيلقى أحدُهم أخاه ، فيصبِّحه أو يمسِّيه الخير ، ولا يبادره بقوله : السلام عليكم ، بل وفي بعض البلاد إذا ألقيتَ السلام ما ردَّ عليك السلام ، وإنما قال لك : أهلًا أو مرحبًا ، وهذا إثمٌ ما بعده إثم ؛ لأن الله - عز وجل - يقول في الآية الكريمة المعروفة : (( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا )) ، ولا يخفى على أيِّ مسلم أنَّ السلام الشرعي الإسلامي كما قلنا في أول الحديث الذي ذكرناه آنفًا هو : ( اسم من أسماء الله وضعه في الأرض ؛ فأفشوه بينكم ) ، فمن يلقِ هذا السلام على أخيه المسلم ، ثم يبادره بقوله : أهلًا مرحبًا ، صباح الخير ، مسا الخير ، كما ردَّ عليه السلام لا بالتي هي أحسن ولا بالتي هي ... ؛ فهذه معصية يجب أن يكون أولئك المسلمون على ذكرٍ منها .
لكن الشيء الذي أريد الآن أن أذكِّر به ؛ أن كثيرًا من الحريصين على إلقاء السلام عند اللقاء لا يهتمُّون بإلقاء السلام عند الفراق ، وهنا التمييز ، الذين يهتمُّون بإلقاء السلام عند اللقاء لا يهتمُّون ولا يُلقون بالًا واهتمامًا لإلقاء السلام عند المفارقة ، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول : ( إذا دخل أحدكم المجلس فليسلِّم ، وإذا خرج فليسلِّم ؛ فليست الأولى بأحقَّ من الأخرى ) ، هذا الذي أرد التذكير به ؛ لأنني وجدْتُ في أكثر البلاد التي طفتُها ودخلت إليها يهملون إلقاء السلام عند المفارقة ، بل قد يكون اثنان ماشيين مع بعضهم البعض ، ثم ينصرف أحدهما فلا ينتبه صاحبه أنه انصرف ؛ لأنه لم يقل عند المفارقة : السلام عليكم ؛ مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بيَّن في الحديث الأخير أن السلام عند المفارقة كالسلام عند اللقاء ، وأن هذا السلام عند اللقاء ليس بأحقَّ من السلام عند المفارقة ، ( إذا دخل أحدكم المجلس فليسلِّم ، وإذا خرج فليسلِّم ؛ فليست الأولى بأحقَّ من الاخرى ) ، هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين .
هات ما عندك ؟
- رحلة النور - شريط : 55
- توقيت الفهرسة : 00:00:02
- نسخة مدققة إملائيًّا