الترهيب من الخروج من المسجد بعد الأذان بغير عذر .
A-
A=
A+
الشيخ : بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله :
يقول الحافظ المنذري في كتاب " الترغيب والترهيب " ، وفي الفصل الرابع في كتاب الصلاة من " صحيح الترغيب والترهيب " : الترهيب من الخروج من المسجد بعد الأذان بغير عذر .
أورد المؤلف - رحمه الله - في هذا الباب بعض الأحاديث المُترجِمة للباب ولبعضها وهو ضعيف ، ولما كان كتابنا هذا خاصًّا فيما صحَّ وثبت فقد قلنا : ورواه : يعني حديث أبي هريرة الذي في الكتاب الآخر برقم كذا ، مش منُّو أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة دون قوله : وأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى آخره ، هنا تعليق قلت : وسيأتي لفظ مسلم في باب عشرين الترهيب من ترك حضور الجماعة ، هناك اللفظ الصحيح : عن أبي الشعثاء المحاربي قال : كنا قعودًا في المسجد ، فأذن المؤذن ، فقام رجل من المسجد يمشي ، فأتبعه أبو هريرة بصرَه حتى خرج من المسجد ، فقال أبو هريرة : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم " .
رواه مسلم وغيره ، وتقدَّم في الضعيف رقم كذا برواية أحمد ، هذه الرواية التي هي من حصة " الضعيف من الترغيب " فيها : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعدم الخروج بعد الأذان من المسجد ، فالفرق بين الرواية الصحيحة التي رواها مسلم وبين الرواية الضعيفة التي رواها أحمد هي أن رواية مسلم عن أبي هريرة أنه لمَّا رأى الرجل خرج من المسجد بعد الأذان قال أبو هريرة : " قد عصى هذا أبا القاسم " . أما رواية أحمد الضعيفة ففيها أن أبا هريرة قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعدم الخروج من المسجد ، فالفرق في اللفظ وليس في المعنى ، هذا الحديث الأول ، وهو من حديث أبي هريرة ، واللفظ الصحيح قول أبي هريرة : " فقد عصى أبا القاسم " .
ثم ذكر أحاديث أخرى تؤيِّد هذا المعنى ، وفيه شيء من الترهيب المناسب للباب ، فقال وعنه - يعني أبا هريرة - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ، ثم لا يرجع إليه إلا منافق ) . رواه الطبراني في " الأوسط " ، ورواته مُحتجٌّ بها في " الصحيح " ، وفي الكلام على هذا التخريج ليس هذا الآن محلُّ ذكره ، وإنما الشاهد أن في هذا الحديث بيان أن الذي يخرج من المسجد بعد أن يسمعَ الأذان دون حاجة يضطرُّ بسببها للخروج فهو منافق ، ولو أنه خرج بحاجة ناويًا الرجوع إلى المسجد فينتفي عنه هذا الوصف ؛ وهو أنُّو منافق ، لأنه إنما خرج من المسجد لحاجة ألحَّت عليه بالخروج ؛ فما دام أنه خرج ينوي الرجوع وفعلًا رجع فلا يصح أن يُقال فيه : إنه منافق .
كذلك الأحاديث الأخرى التي ساقَها من بعد حديث أبي هريرة قال : ورُوِيَ عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من أدرَكَه الأذان في المسجد ، ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة ؛ فهذا منافق ) ، فهذا بمعنى الحديث الأول ، ولذلك كان الحديث الأول يشهد لهذا الحديث وبهذا الاعتبار صحِّح .
ونحوه - أيضًا - الحديث الأخير في الباب ؛ وهو قوله : عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق ؛ إلا أحد أخرجَتْه حاجة وهو يريد الرجوع ) .
الشاهد : بين هذا الحديث الذي جاء من عدَّة طرق وفيه حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ألا من خرج من المسجد في غير حاجة فهو منافق ) ، وبين حديث أبي هريرة حيث قال : " فقد عصى أبا القاسم " ، فلا شك أن كلَّ من طبق عليه أنه منافق فهو عاص ، وليس كل من كان عاصيًا يصح أن يطلق عليه أنه منافق ، ولذلك فهناك فرق بين حديث أبي هريرة وبين الرواية الثانية ؛ وهي من الروايات الأخرى التي جاءت عن غيره - رضي الله عنه - ، فهي تلتقي كلها بأن مَن خرج من المسجد بعد الأذان لغير حاجة فهو منافق ، إلا أن يكون خرج لحاجة وهو ينوي الرجوع إلى المسجد ، ولا شك أن هذا الحكم الذي صدر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذا الذي يخرج من المسجد بعد الأذان هو الذي تقتضيه عمومات الشريعة ؛ لأنه قد ثبت في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " كنا نشهد بمن يسمع النداء ولا يخرج إلى الصلاة أنه منافق " ، فلا فرق بين هذا الذي لم يأتِ المسجد لصلاة الجماعة ولا عذر له ، وبين هذا الذي حضر المسجد ثم سمع النداء وخرج لا ينوي على شيء ، لا ما أخرجه - أيضًا - حاجة ، ولا هو ينوي الرجوع للمسجد لإدراك صلاة الجماعة ، وقد عرفتم - إن شاء الله - أن حكمها الفرضية ، وأن فضيلتها بسبع وعشرين درجة ، فمن يخرج من المسجد فكأنه رغب عن هذا الأجر وعن طاعة الله ورسوله في ، أو في مثل قوله - تعالى - : (( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )) ، وحينئذٍ فيرد هنا عادةً سؤال : هل يجوز لأحد أن يخرج من المسجد بعد الأذان ليس له حاجة ملحَّة ؛ كل ما في الأمر أنه يريد أن يصلي في مسجد آخر ؟
لقد تحدثت آنفًا مع بعض الإخوان ونحن قادمون إلى هذا المكان بأن الأصل أنه لا يجوز ، ولكن أحيانًا تأتي أمور عارضة تُوجب شيئًا من الاستثناء في مثل هذا الحديث ، وضربت على ذلك مثلًا ؛ من خرج من مسجد بعد الأذان لغير حاجة لكن يريد أن يصلي في مسجد آخر ؛ فهذا وحده فقط لا يُعتبر عذرًا ، بخلاف ما لو كان حضر في مسجد لحضور درس أو علم يستفيده ، وما كاد أن يسمع الأذان إلا خرج إلى مسجد الصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد الذي حضر الدرس فيه ، وضربت على ذلك مثلًا الخروج من مسجد من المساجد العامة إلى المسجد النبوي ، في ذاك المسجد من المساجد العامة حضر درسًا استفاده ، فلما أُذِّن للصلاة خرج ليكسبَ فضيلة الصلاة في المسجد النبوي ؛ ففي هذه الحالة وما يشابهها يمكن أن يُقال بجواز الخروج ، ويكون ذلك من الحاجة التي أشار إليها الرسول - عليه الصلاة والسلام - . وقد أضاف إلى الحاجة أنه ينوي الرجوع إليه ، والمقصود بهذه النية ألا يفوِّت عليه صلاة الجماعة ، فإذا نوى الصلاة في مسجد هو أفضل من الصلاة في المسجد الذي حضر الدرس فيه فما يشمله هذا الوعيد الشديد ؛ وهو وصفه بأنه منافق ، هذا الذي نراه بالنسبة لهذا الموضوع ، والله أعلم .
السائل : ذُكرت لكم مسألة ؛ وهي مسألة خروج بعض الناس إلى مساجد أبعد من المساجد التي تليهم طلبًا لحسن الصوت ، وذُكر لكم - أيضًا - حديث : " نهى أن يتتبَّعَ الرجل المساجد وأن يصلي في المسجد الذي يليه " ، وكأنكم أشرتم إلى أن الحديث لم يصح ، مع أنه ربما ذُكر في بعض المصادر التي ذكرتموها أنه ... فنرجو توضيح القول في هذه المسألة ؟
الشيخ : لقد تكلمنا في هذا الموضوع بعد أن رجعنا إلى " صحيح الترغيب " - " صحيح الجامع " - ، ووجدنا الحديث مُحسَّنًا ، واليوم صباحًا هنا في دار أبي خالد تكلَّمنا في هذه المسألة ، وخلاصة الكلام : أن المقصود بالنهي عن تتبُّع المساجد وبالحضِّ على الصلاة في المسجد الذي هو جاره إنما هو عدم الغلوِّ في طلب الثواب بسبب بُعْدِ المسجد ، لأن هذا يكون تكلُّفًا ، وضربت على ذلك بعض الأمثلة ؛ من ذلك الذي يقصد الحج ماشيًا على اعتبار أن الأجر على قدر المشقة ، وفرَّقت بين المشقَّة المفروضة على المُكلَّف وبين المشقَّة التي يسعى هو إليها ، فالمشقَّة الأولى هي التي يُثاب عليها صاحبها ، أما المشقَّة التي يتكلَّفها فذلك غير جائز ، وضربت مثلًا بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبًا على ناقته ؛ فلو كان المشي أفضل وهو - عليه الصلاة والسلام - ... على المشي كما هو معلوم من سيرته - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فلا يصح أن يُقالَ هنا : إن الأفضل أن يحجَّ على رجليه ؛ لأن الثواب على قدر المشقَّة ، وكما جاء في حديث عائشة : ( إنما أجرك على قدر نصبِك ) ، وإنما هذا على ما فُرض عليها فرضًا حينما جاءَها العذر المفروض على النساء ؛ ألا وهو الحيض ، فاضطُرَّت بسبب هذا العارض إلى أن تقلب عمرتها إلى حجَّة مفردة ، ولما آنَ أوان رحيل الرسول - عليه السلام - من مكة وأعلَمَ ذلك لأصحابه ، ودخل على زوجته عائشة فوجدها - أيضًا - تبكي ، قال : ( ما لك ؟ ) . قالت : ما لي ؟ يعود الناس - يعني ضرائرها - بحجٍّ وعمرة ، وأعود أنا بحجٍّ دون عمرة . فأمرها - عليه السلام - أن تركب وراء أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال لها : ( إنما أجرك على قدر نصبك ) .
السائل : ... .
الشيخ : حسب ما ورد في هذا المصدر ... لأن الاستحضار بمثل هذه المسائل الدقيقة التي يتردَّد النظر بين التصحيح والتضعيف ليس بالسهل ، وإنما ينبغي الرجوع إلى المصدر ، وقد رجعنا ووجدناه مثبتًا .
نعم .
السائل : طيب ؛ وبناءً عليه فإن من ذهب إلى مسجد أبعد طلبًا لِحُسن الصوت الذي يخشع به أكثر ، وليس لطلب الثواب الأكثر في المسجد لأنه أبعد ؛ فلا بأس به ؟
الشيخ : إي ، بس أنت جئت بضميمة ؛ قلت : لأنه أخشع ، بينما كان السؤال لِحُسن الصوت ، وليس بالخشوع ، وإلا أنا ذكرت - أيضًا - إذا كان بنفس الجواب قلت : إذا قصد مسجدًا آخر لأن الصلاة هناك أتمُّ وأكمل وأقرب إلى السنة فهذا غير ذاك تمامًا ، وإنما من التتبُّع المنهي عنه هو لتتبُّع ثواب المسجد ... وذكرت بهذه المناسبة حديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء في " صحيح مسلم " أن الأنصار كانت دورهم بعيدة عن المسجد ، فهمُّوا بالانتقال إليها إلى المسجد قريبًا من مسجده - عليه السلام - ، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ديارَكم تكتَبْ آثاركم ) .
أما أن يتقصَّد الإنسان الابتعاد بالدار بعيدة عن المسجد لأنه أشقُّ هذا الذي نحن ننفيه ، أما الابتعاد والصلاة في مكان فيه الفائدة ... والعلمية ؛ فهذا نحن نفعله شخصيًّا حتى قبل أن أُصاب بمرض الرُّكب هذه ؛ حيث مَنَعَني عن النزول إلى المساجد في أكثر الأوقات ، كانت العادة في صلاة الصبح نذهب ونصلي كل يوم الصبح في مكان بعيد جدًّا ؛ لماذا ؟ لأن الإمام الذي يصلي في ذاك المسجد هو من إخواننا من أهل السنة ، وقراءته جيدة ، وأجمَعُ الإخوانَ وأُركِبُهم سيارتي بحيث تزدحم السيارة ، وكانت عندي سيارة قبل هذه مما يسمونها بـ " ستيشن " ، تسمُّونها أنتم ماذا ؟ باص ، فأُملِئها ... في المقدمة والمؤخرة ؛ طلبًا لهذه الفضيلة ، وفي صلاة الفجر نحن دارنا في شرق عمان فنذهب ... في صلاة الجمعة ذلك في صلاة الفجر ، فنذهب إلى غرب عمان لنحضر صلاة أحد إخواننا السلفيين ، وخطبته فيها علم ، لعلكم تسمعون به المسمَّى بـ " محمد شقرة أبو مالك " ، إي نعم ؛ فأنا قصدي أن هذا التتبُّع لغير أمر مشروع هو المنهي عنه ، أما ما سوى ذلك فشدُّ الرَّحل لطلب العلم في أيِّ مكان كان بعيدًا كما تعلمون لا يدخل تحت عموم قوله - عليه السلام - : ( لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) ، فهذا مثل هذا تقريبًا .
يقول الحافظ المنذري في كتاب " الترغيب والترهيب " ، وفي الفصل الرابع في كتاب الصلاة من " صحيح الترغيب والترهيب " : الترهيب من الخروج من المسجد بعد الأذان بغير عذر .
أورد المؤلف - رحمه الله - في هذا الباب بعض الأحاديث المُترجِمة للباب ولبعضها وهو ضعيف ، ولما كان كتابنا هذا خاصًّا فيما صحَّ وثبت فقد قلنا : ورواه : يعني حديث أبي هريرة الذي في الكتاب الآخر برقم كذا ، مش منُّو أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة دون قوله : وأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى آخره ، هنا تعليق قلت : وسيأتي لفظ مسلم في باب عشرين الترهيب من ترك حضور الجماعة ، هناك اللفظ الصحيح : عن أبي الشعثاء المحاربي قال : كنا قعودًا في المسجد ، فأذن المؤذن ، فقام رجل من المسجد يمشي ، فأتبعه أبو هريرة بصرَه حتى خرج من المسجد ، فقال أبو هريرة : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم " .
رواه مسلم وغيره ، وتقدَّم في الضعيف رقم كذا برواية أحمد ، هذه الرواية التي هي من حصة " الضعيف من الترغيب " فيها : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعدم الخروج بعد الأذان من المسجد ، فالفرق بين الرواية الصحيحة التي رواها مسلم وبين الرواية الضعيفة التي رواها أحمد هي أن رواية مسلم عن أبي هريرة أنه لمَّا رأى الرجل خرج من المسجد بعد الأذان قال أبو هريرة : " قد عصى هذا أبا القاسم " . أما رواية أحمد الضعيفة ففيها أن أبا هريرة قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعدم الخروج من المسجد ، فالفرق في اللفظ وليس في المعنى ، هذا الحديث الأول ، وهو من حديث أبي هريرة ، واللفظ الصحيح قول أبي هريرة : " فقد عصى أبا القاسم " .
ثم ذكر أحاديث أخرى تؤيِّد هذا المعنى ، وفيه شيء من الترهيب المناسب للباب ، فقال وعنه - يعني أبا هريرة - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ، ثم لا يرجع إليه إلا منافق ) . رواه الطبراني في " الأوسط " ، ورواته مُحتجٌّ بها في " الصحيح " ، وفي الكلام على هذا التخريج ليس هذا الآن محلُّ ذكره ، وإنما الشاهد أن في هذا الحديث بيان أن الذي يخرج من المسجد بعد أن يسمعَ الأذان دون حاجة يضطرُّ بسببها للخروج فهو منافق ، ولو أنه خرج بحاجة ناويًا الرجوع إلى المسجد فينتفي عنه هذا الوصف ؛ وهو أنُّو منافق ، لأنه إنما خرج من المسجد لحاجة ألحَّت عليه بالخروج ؛ فما دام أنه خرج ينوي الرجوع وفعلًا رجع فلا يصح أن يُقال فيه : إنه منافق .
كذلك الأحاديث الأخرى التي ساقَها من بعد حديث أبي هريرة قال : ورُوِيَ عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من أدرَكَه الأذان في المسجد ، ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة ؛ فهذا منافق ) ، فهذا بمعنى الحديث الأول ، ولذلك كان الحديث الأول يشهد لهذا الحديث وبهذا الاعتبار صحِّح .
ونحوه - أيضًا - الحديث الأخير في الباب ؛ وهو قوله : عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق ؛ إلا أحد أخرجَتْه حاجة وهو يريد الرجوع ) .
الشاهد : بين هذا الحديث الذي جاء من عدَّة طرق وفيه حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ألا من خرج من المسجد في غير حاجة فهو منافق ) ، وبين حديث أبي هريرة حيث قال : " فقد عصى أبا القاسم " ، فلا شك أن كلَّ من طبق عليه أنه منافق فهو عاص ، وليس كل من كان عاصيًا يصح أن يطلق عليه أنه منافق ، ولذلك فهناك فرق بين حديث أبي هريرة وبين الرواية الثانية ؛ وهي من الروايات الأخرى التي جاءت عن غيره - رضي الله عنه - ، فهي تلتقي كلها بأن مَن خرج من المسجد بعد الأذان لغير حاجة فهو منافق ، إلا أن يكون خرج لحاجة وهو ينوي الرجوع إلى المسجد ، ولا شك أن هذا الحكم الذي صدر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذا الذي يخرج من المسجد بعد الأذان هو الذي تقتضيه عمومات الشريعة ؛ لأنه قد ثبت في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " كنا نشهد بمن يسمع النداء ولا يخرج إلى الصلاة أنه منافق " ، فلا فرق بين هذا الذي لم يأتِ المسجد لصلاة الجماعة ولا عذر له ، وبين هذا الذي حضر المسجد ثم سمع النداء وخرج لا ينوي على شيء ، لا ما أخرجه - أيضًا - حاجة ، ولا هو ينوي الرجوع للمسجد لإدراك صلاة الجماعة ، وقد عرفتم - إن شاء الله - أن حكمها الفرضية ، وأن فضيلتها بسبع وعشرين درجة ، فمن يخرج من المسجد فكأنه رغب عن هذا الأجر وعن طاعة الله ورسوله في ، أو في مثل قوله - تعالى - : (( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )) ، وحينئذٍ فيرد هنا عادةً سؤال : هل يجوز لأحد أن يخرج من المسجد بعد الأذان ليس له حاجة ملحَّة ؛ كل ما في الأمر أنه يريد أن يصلي في مسجد آخر ؟
لقد تحدثت آنفًا مع بعض الإخوان ونحن قادمون إلى هذا المكان بأن الأصل أنه لا يجوز ، ولكن أحيانًا تأتي أمور عارضة تُوجب شيئًا من الاستثناء في مثل هذا الحديث ، وضربت على ذلك مثلًا ؛ من خرج من مسجد بعد الأذان لغير حاجة لكن يريد أن يصلي في مسجد آخر ؛ فهذا وحده فقط لا يُعتبر عذرًا ، بخلاف ما لو كان حضر في مسجد لحضور درس أو علم يستفيده ، وما كاد أن يسمع الأذان إلا خرج إلى مسجد الصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد الذي حضر الدرس فيه ، وضربت على ذلك مثلًا الخروج من مسجد من المساجد العامة إلى المسجد النبوي ، في ذاك المسجد من المساجد العامة حضر درسًا استفاده ، فلما أُذِّن للصلاة خرج ليكسبَ فضيلة الصلاة في المسجد النبوي ؛ ففي هذه الحالة وما يشابهها يمكن أن يُقال بجواز الخروج ، ويكون ذلك من الحاجة التي أشار إليها الرسول - عليه الصلاة والسلام - . وقد أضاف إلى الحاجة أنه ينوي الرجوع إليه ، والمقصود بهذه النية ألا يفوِّت عليه صلاة الجماعة ، فإذا نوى الصلاة في مسجد هو أفضل من الصلاة في المسجد الذي حضر الدرس فيه فما يشمله هذا الوعيد الشديد ؛ وهو وصفه بأنه منافق ، هذا الذي نراه بالنسبة لهذا الموضوع ، والله أعلم .
السائل : ذُكرت لكم مسألة ؛ وهي مسألة خروج بعض الناس إلى مساجد أبعد من المساجد التي تليهم طلبًا لحسن الصوت ، وذُكر لكم - أيضًا - حديث : " نهى أن يتتبَّعَ الرجل المساجد وأن يصلي في المسجد الذي يليه " ، وكأنكم أشرتم إلى أن الحديث لم يصح ، مع أنه ربما ذُكر في بعض المصادر التي ذكرتموها أنه ... فنرجو توضيح القول في هذه المسألة ؟
الشيخ : لقد تكلمنا في هذا الموضوع بعد أن رجعنا إلى " صحيح الترغيب " - " صحيح الجامع " - ، ووجدنا الحديث مُحسَّنًا ، واليوم صباحًا هنا في دار أبي خالد تكلَّمنا في هذه المسألة ، وخلاصة الكلام : أن المقصود بالنهي عن تتبُّع المساجد وبالحضِّ على الصلاة في المسجد الذي هو جاره إنما هو عدم الغلوِّ في طلب الثواب بسبب بُعْدِ المسجد ، لأن هذا يكون تكلُّفًا ، وضربت على ذلك بعض الأمثلة ؛ من ذلك الذي يقصد الحج ماشيًا على اعتبار أن الأجر على قدر المشقة ، وفرَّقت بين المشقَّة المفروضة على المُكلَّف وبين المشقَّة التي يسعى هو إليها ، فالمشقَّة الأولى هي التي يُثاب عليها صاحبها ، أما المشقَّة التي يتكلَّفها فذلك غير جائز ، وضربت مثلًا بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبًا على ناقته ؛ فلو كان المشي أفضل وهو - عليه الصلاة والسلام - ... على المشي كما هو معلوم من سيرته - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فلا يصح أن يُقالَ هنا : إن الأفضل أن يحجَّ على رجليه ؛ لأن الثواب على قدر المشقَّة ، وكما جاء في حديث عائشة : ( إنما أجرك على قدر نصبِك ) ، وإنما هذا على ما فُرض عليها فرضًا حينما جاءَها العذر المفروض على النساء ؛ ألا وهو الحيض ، فاضطُرَّت بسبب هذا العارض إلى أن تقلب عمرتها إلى حجَّة مفردة ، ولما آنَ أوان رحيل الرسول - عليه السلام - من مكة وأعلَمَ ذلك لأصحابه ، ودخل على زوجته عائشة فوجدها - أيضًا - تبكي ، قال : ( ما لك ؟ ) . قالت : ما لي ؟ يعود الناس - يعني ضرائرها - بحجٍّ وعمرة ، وأعود أنا بحجٍّ دون عمرة . فأمرها - عليه السلام - أن تركب وراء أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال لها : ( إنما أجرك على قدر نصبك ) .
السائل : ... .
الشيخ : حسب ما ورد في هذا المصدر ... لأن الاستحضار بمثل هذه المسائل الدقيقة التي يتردَّد النظر بين التصحيح والتضعيف ليس بالسهل ، وإنما ينبغي الرجوع إلى المصدر ، وقد رجعنا ووجدناه مثبتًا .
نعم .
السائل : طيب ؛ وبناءً عليه فإن من ذهب إلى مسجد أبعد طلبًا لِحُسن الصوت الذي يخشع به أكثر ، وليس لطلب الثواب الأكثر في المسجد لأنه أبعد ؛ فلا بأس به ؟
الشيخ : إي ، بس أنت جئت بضميمة ؛ قلت : لأنه أخشع ، بينما كان السؤال لِحُسن الصوت ، وليس بالخشوع ، وإلا أنا ذكرت - أيضًا - إذا كان بنفس الجواب قلت : إذا قصد مسجدًا آخر لأن الصلاة هناك أتمُّ وأكمل وأقرب إلى السنة فهذا غير ذاك تمامًا ، وإنما من التتبُّع المنهي عنه هو لتتبُّع ثواب المسجد ... وذكرت بهذه المناسبة حديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء في " صحيح مسلم " أن الأنصار كانت دورهم بعيدة عن المسجد ، فهمُّوا بالانتقال إليها إلى المسجد قريبًا من مسجده - عليه السلام - ، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ديارَكم تكتَبْ آثاركم ) .
أما أن يتقصَّد الإنسان الابتعاد بالدار بعيدة عن المسجد لأنه أشقُّ هذا الذي نحن ننفيه ، أما الابتعاد والصلاة في مكان فيه الفائدة ... والعلمية ؛ فهذا نحن نفعله شخصيًّا حتى قبل أن أُصاب بمرض الرُّكب هذه ؛ حيث مَنَعَني عن النزول إلى المساجد في أكثر الأوقات ، كانت العادة في صلاة الصبح نذهب ونصلي كل يوم الصبح في مكان بعيد جدًّا ؛ لماذا ؟ لأن الإمام الذي يصلي في ذاك المسجد هو من إخواننا من أهل السنة ، وقراءته جيدة ، وأجمَعُ الإخوانَ وأُركِبُهم سيارتي بحيث تزدحم السيارة ، وكانت عندي سيارة قبل هذه مما يسمونها بـ " ستيشن " ، تسمُّونها أنتم ماذا ؟ باص ، فأُملِئها ... في المقدمة والمؤخرة ؛ طلبًا لهذه الفضيلة ، وفي صلاة الفجر نحن دارنا في شرق عمان فنذهب ... في صلاة الجمعة ذلك في صلاة الفجر ، فنذهب إلى غرب عمان لنحضر صلاة أحد إخواننا السلفيين ، وخطبته فيها علم ، لعلكم تسمعون به المسمَّى بـ " محمد شقرة أبو مالك " ، إي نعم ؛ فأنا قصدي أن هذا التتبُّع لغير أمر مشروع هو المنهي عنه ، أما ما سوى ذلك فشدُّ الرَّحل لطلب العلم في أيِّ مكان كان بعيدًا كما تعلمون لا يدخل تحت عموم قوله - عليه السلام - : ( لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) ، فهذا مثل هذا تقريبًا .
- رحلة النور - شريط : 50
- توقيت الفهرسة : 00:20:59
- نسخة مدققة إملائيًّا