القول في البدعة والرأي في تقسيمها ؟
A-
A=
A+
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون )) ، (( يا أيها الناس اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا )) ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا )) ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
هذه الخطبة مما كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفتتح بها خطبَه كلَّها ، وبخاصة يوم الجمعة ، ويذكر ابن تيمية - رحمه الله - " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " أنَّ تكرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذه الافتتاحية لخطبه كلها ، والتي تسمَّى بخطبة الحاجة ؛ كان من الحكمة في تكرارها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى بهذا التكرار لها أن يمكِّن من قلوب أصحابه قاعدةً من قواعد الشريعة الإسلامية الهامة الكلية التي لا استثناء فيها ؛ ألا وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )) .
يؤكِّد ابن تيمية - رحمه الله - أن مثل هذه العبارة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يكرِّرها على مسامع أصحابه دون أن يُدخل فيها تخصيصًا ما ، وبحديث آخر فذلك مما يؤكد أن هذا العموم هو على إطلاقه وشموله ؛ فلا يجوز لمؤمن يشهد لله - عز وجل - بالوحدانية ، ولنبيِّه بالرسالة أن يعارضَ هذه الكلية ، فيقول : ليس كل بدعة ضلالة ، وليس كل ضلالة في النار ؛ أولًا : لأن هذه العبارة العامة لا بدَّ لها من تخصيص ، وليس لها تخصيص ، وثانيًا : لأن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كما ذكرنا آنفًا كان يكرِّرها في كل جمعة ، فلا يُعقل أبدًا أن يكرِّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الكلية على مسامع أصحابه ، ثم لا يُتبع بها يومًا ما تخصيصًا ما ، هذا قرينة ما بعدها قرينة على بقاء هذه القاعدة على كلِّيَّتها وشمولها وعمومها ، وبخاصة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّرها في بعض خطبه الأخرى ، كما روى أصحاب السنن أن خطبة الحاجة التي ذكرناها فهي من حديث جابر - رضي الله عنه - وفي " صحيح مسلم " ؛ إلا أن زيادة : ( وكل ضلالة في النار ) هي من رواية الإمام النسائي في " سننه الصغرى " ، وإسنادها صحيح والحمد لله .
ثم إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّر هذه الكلية في غير ما مناسبة أخرى ، منها ما أخرجه أصحاب السنن وفي مقدِّمتهم أبو داود والترمذي وصحَّحه من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : وعظَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موعظةً وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، قلنا : أوصِنا يا رسول الله . قال : ( أوصيكم بالسمع والطاعة وإن وُلِّيَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليها بالنواجد ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) .
فها أنتم ترون وتسمعون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّر هذه القاعدة الكلية في خطبة أخرى وموعظة ألقاها على أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى جاء في رواية أن العرباض قال : قلنا : يا رسول الله ، كأنها وصية مودِّع ؛ فأوصنا وصيَّةً لا نحتاج إلى أحد بعدك أبدًا . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( أوصيكم بتقوى الله ) إلى أن قال : ( وإيَّاكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) ، إذا كان الأمر كذلك ، وأن الأمر في كل بدعة إنما هي ضلالة مهما كان أمرها ، ويظنُّ بعض الناس الحُسنَ فيها ؛ فذلك خطأ واضح بمخالفة ذلك التحكيم لقوله - عليه السلام - : ( كل بدعة ضلالة ) ، ولقد أكَّد هذه الكلية بعضُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعضهم تصريحًا وبعضهم تلميحًا أو إشارة ؛ فقد صحَّ عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : حديث منقوص ، قال ابن عمر - وهي كالبيان فيما ذكرته آنفًا - : ( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ) .
وجاء ما يُشير إلى هذا كما ألمحت آنفًا قوله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا - أيضًا - : " اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة " ، والسبب في هذا ظاهر جدًّا عند أهل العلم ؛ لأن المقتصد في السنة بالإتيان ببعضها مأجور إذا كان في ذلك مخلصًا عند الله - تبارك وتعالى - لا شكَّ ولا ريب ، وليس كذلك من اجتهد في الابتداع في الدين ؛ فذلك مردود على صاحبه كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) ، لذلك كان قول ابن مسعود في منتهى الحكمة وفي منتهى الموعظة الحسنة ؛ حيث قال : " اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة " ، وهذا يعني أن المسلم مكفيٌّ عن أن يجذب عقله وفكره لأن يُحدث في الدين ما لم يكن منه ، ثم يجتهد ؛ هل هو حسن فيعمل فيه ؟ لا ، لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من العبادات تَسَعُ هذه العبادات أفضل الناس ولو كان داود - عليه الصلاة والسلام - الذي روى الإمام البخاري في " صحيحه " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كان داود أعبدَ البشر ) ، فلو كان داود - عليه الصلاة والسلام - من أمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستطع أن ينهضَ كل العبادات التي جاء بها - عليه الصلاة والسلام - تأكيدًا لما جاء في حديثين اثنين :
الحديث الأول : ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يأمرَ أمَّته بخير ما يعلمه لهم ) .
والحديث الثاني : يتعلَّق بشخص النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاته ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - كما رواه الإمام الشافعي في " سننه " وغيره عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ، وما تركت شيئًا يبعِّدكم عن الله ويقرِّبكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه ) .
لذلك صحَّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق " ، " اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم " أي : قد شُرِعَ لكم من العبادات ما يكفيكم ويزيد عليكم ؛ فما عليكم إلا الاتباع .
" اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق " ؛ ولذلك جاء عن ابن مسعود - أيضًا - قصة رائعة جدًّا فيها تطبيق منه - ابن مسعود ... - فيه تطبيق لِما سبق من الأحاديث والآثار الموثوقة ؛ ذلك ما أخرجه الإمام الدارمي في " سننه " بسنده الصحيح أن أبا موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - جاء صباح يوم إلى ابن مسعود في داره ، فوجد الناس ينتظرونه ، فقال لهم متسائلًا : أَخَرَجَ أبو عبد الرحمن ؟ - كنية عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن - . أَخَرَجَ أبو عبد الرحمن ؟ قالوا : لا ، فجلس ينتظره إلى أن خرجَ ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، لقد رأيت بالمسجد آنفًا شيئًا أنكرته ، والحمد لله لم أر إلا خيرًا .
أرجو الانتباه إلى الجمع بين قوله : والحمد لله لم أر إلا خيرًا ، لكن قال : أنكرتٌه ؛ كيف يُنكر الخير ؟ لأنه مما أُحدث كما سيأتيكم البيان في تمام القصة - إن شاء الله تعالى - ، قال ابن مسعود : وماذا رأيت ؟ قال : إن عشت فستراه ؛ رأيت في المسجد حلقًا حلقًا ، وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله : سبِّحوا كذا ... ، واحمدوا كذا ، وكبِّروا كذا ، وأمام كلِّ رجل منهم حصى يعدُّ به التسبيح والتكبير والتحميد . قال ابن مسعود : أفلا أنكرتَ عليهم ؟ قال : لا ، انتظار أمرك أو انتظار رأيك . فعاد ابن مسعود إلى بيته وخرج متقنِّعًا لا يُعرف حتى وقف على الحلقات التي وُصفت له ، فلما رآهم كما قيل له كشفَ عن وجهه اللِّثام والقناع ، وقال : ويحكم ما هذا الذي تصنعونَ ؟ أنا صحابيُّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - . قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، هذا حصى نعدُّ به التسبيح والتكبير والتحميد . قال : عدُّوا سيئاتكم وأنا الضَّامن لكم ألا يضيعَ من حسناتكم شيء ، ويحكم ما أسرع هلكتكم ! هذه ثيابه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تبْلَ ، وهذه آنيته لم تُكسَرْ ، والذي نفسي بيده ؛ فإنكم لَأهدى من أمَّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أو إنكم متمسِّكون بذنب ضلالة .
لا شكَّ أن القضية الأولى مستحيلة ؛ أن يكونوا أهدى من جماعة الرسول - عليه السلام - ؛ فلم يبقَ إلا أنهم متمسِّكون بذنب ضلالة ، قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ، ما أردنا إلا الخير . وهذا لسان المبتدعة جميعهم ما يريدون إلا الخير ! ولكن شأنهم كما ستسمعون من كلام ابن مسعود الذي هو في منتهى الحكمة ، قال : وكم من مريدٍ للخير لا يُصيبه . كما قال الشاعر :
ترجو النَّجاةَ ولم تسلُكْ مسالكها *** إن السَّفينةَ لا تجري على اليبسِ
وكم من مريدٍ للخير لا يصيبه ! إن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - حدثنا إن أقوامًا يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم - أي : لا يصل إلى قلوبهم - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة . قال راوي هذه القصة - وهنا منتهى العبرة - : ولقد رأينا أولئك الأقوام - أي أصحاب حلقات الذكر - يقاتلوننا يوم النهروان ؛ أي : أصبحوا من الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وعن بقية الصحابة - .
واستنبطْتُ من هنا فائدةً قياسًا على قول العلماء : " الصغائر بريد الكبائر " ، استنبطْتُ من هذه القصة نحو قولهم فقلت : صغائر البدعة بريد الكبائر من البدع ، ولذلك فالعبرة من هذه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة ، وبهذه القصة أو من هذه القصة بصورة خاصَّة هو أن لا يحتقرنَّ المسلم بدعةً ما ، يقول : وإيش فيها ؟ هكذا يقول المبتدعة حينما نُناقشهم ونقول لهم : اتَّقوا الله ولا تحدثوا في دين الله ما لم يكن ، وإن نذكر لهم بعض هذه الأحاديث فيقولون - مثلًا - : إيش فيها ؟ يستصغرون البدعة ، ينظرون إليها بعقولهم يستحقرونَها ؛ فلا يشعرون أبدًا أنهم يقعون في نوع من الاعتزال ؛ ذلك لأن المعتزلة مما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة حقًّا هو قولهم بالتحسين والتقبيح العقليَّين ، هذا يعرفه العلماء من ضلالات المعتزلة ، ويعنون بهذه الجملة أي : إن المعتزلة يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين ؛ يعنون أن المعتزلة يقولون : ما حكم الشرع والعقل بحُسنه فهو حسن ، وما حكم العقل بقُبحه فهو قبيح ، أما أهل السنة كلهم دون اختلاف بينهم فيقولون : الحَسَن ما حسَّنه الشارع الحكيم ، والقبيح ما قبَّحه الشارع الحكيم ؛ فلا مجال لإدخال العقل في أمور التحسين ... .
... ابتلاءً منه لعباده ؛ ليراهم رؤية واقعهم ؛ هل يكفرون أم يشكرون ؟ لذلك فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولعلي أستطيع أن أرجئ هذه الكلمة للحديث التالي ؛ حتى نوفِّر بعض الوقت للإجابة على بعض الأسئلة ؛ لذلك أقول : فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله تعالى عنه - قال : كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاءه أعراب مُجتابي النِّمار ، متقلِّدي السيوف ، عامَّتهم من مضر ؛ بل كلُّهم من مضر ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تمعَّر وجهه - أي : تغيَّرت ملامح وجهه حزنًا على حالة هؤلاء الأعراب من الفقر - فخطب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحابة ، وتلا قوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ )) ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : ( تصدَّق رجلٌ بدرهمه ، بديناره ، بصاع برِّه ، بصاع شعيره ) . فقام رجل من الصحابة ، وانطلق إلى داره ليعودَ حاملًا في طرف ثوبه ما تيسَّر له من الصدقة ، ووضعها أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلما رأى سائرُ الصحابة ما فعل صاحبهم قام كلٌّ منهم إلى داره - أيضًا - ليعودَ بما تيسَّر له من الطعام والصدقة ، قال جرير : فاجتمع أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصدقات ... فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تنوَّر وجهه كأنَّه مُذهبة - أي : كأنه فضَّة مطليَّة بالذهب تلألأ نورًا ؛ فرحًا باستجابة أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لحضِّه لهم على الصدقة على أولئك القوم - فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه المناسبة : ( من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة ؛ فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ؛ دون أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيِّئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ؛ دون أن ينقص من أوزارهم شيء ) ، إلى هنا ينتهي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " .
والشاهد منه : أن من الخطأ الفاحش الآن وفي آخر الزمان أن يستدلَّ بعضُ الناس بهذا الحديث ضربًا لتلك القاعدة العامة : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة النار ) ؛ يستدلُّون بهذا الحديث على تخصيص تلك القاعدة ، ويزعمون أن معنى الحديث : ( من سنَّ بالإسلام سنَّة حسنة ) يزعمون أنَّ معناه : من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنة ، فهذا منتهى العجمة ومنتهى اللكنة ؛ حيث أن الحادثة - كما سمعتم - كلها تدور حول حضِّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الصدقة آيةً وقولًا منه ، ثم استجاب له أول مَن استجاب ذلك الصحابي الأول ، ثم تبعه ائر الصحابة ، فقال حاضًّا لِمَن يريد أن أن يكون له أجر عمله وأجر من يتَّبعه على عمله أن يسنَّ سنة حسنة ، فقال بهذه المناسبة - أي بمناسبة الصدقة وقيام الرجل الأول الذي هو سنَّ تلك السنة في ذلك المكان - فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( من سنَّ بالإسلام سنَّة حسنة ) ؛ أي : من فتح طريقًا تؤدِّي هذا الطريق أو يؤدِّي هذا الطريق إلى سنة حسنة ؛ من أين نعرف السُّنَّة الحسنة ؟ أَمِن عقولنا أم من شريعة ربِّنا ؟!
عرفتم الفرق بين أهل السنة وبين المعتزلة ، المعتزلة يقولون : الحسن ما حسَّنه العقل ، أما أهل الشَّرع فيقولون : الحسن ما حسَّنه الشرع
، والدليل في نفس هذه القصة ؛ حيث أمر الله عباده بأن يتصدقوا ... ، ثم أكَّد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك ببعض أحاديثه ، وقوله : ( تصدَّق رجلٌ ) أي : يتصدَّق الرجل بدرهمه أقل شيء ( بدرهمه ، بديناره ، بصاع برِّه ، بصاع شعيره ) ، فلما قام هذا الرجل فتح باب الصدقة فقد سنَّ سنة حسنة ، هذه السنة الحسنة ليست من عنده ، وإنما ممَّا سمعه من الموعظة الحسنة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ لذلك كان له أجر صدقته ، وأجر من اتَّبعه في تلك الموعظة .
كذلك قال - عليه الصلاة والسلام - في تمام الحديث : ( ومن سنَّ بالإسلام سنَّة سيِّئة ) ، من أين نعرف السنة السيئة ؟ أَمِن عقولنا أم من شريعة ربِّنا ؟ الجواب هو هو ؛ من الشرع ، التحسين والتقبيح كلاهما من الشرع ، ولا مدخل للعقل فيه ؛ إذ الأمر كذلك فختامًا أقول :
ينبغي على كل المسلمين أن يقفوا عند حدود العبادات التي جاءت واضحةً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولا يُدخلوا فيها زيادات لم تأتِ لا عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن السلف الصالح ، ولا جرمَ أن أهل العلم يقولون :
وكلُّ خيرٍ في اتِّباع من سلَفْ *** وكلُّ شرٍّ باتباع من خلَفْ
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
هذه الخطبة مما كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفتتح بها خطبَه كلَّها ، وبخاصة يوم الجمعة ، ويذكر ابن تيمية - رحمه الله - " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " أنَّ تكرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذه الافتتاحية لخطبه كلها ، والتي تسمَّى بخطبة الحاجة ؛ كان من الحكمة في تكرارها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى بهذا التكرار لها أن يمكِّن من قلوب أصحابه قاعدةً من قواعد الشريعة الإسلامية الهامة الكلية التي لا استثناء فيها ؛ ألا وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )) .
يؤكِّد ابن تيمية - رحمه الله - أن مثل هذه العبارة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يكرِّرها على مسامع أصحابه دون أن يُدخل فيها تخصيصًا ما ، وبحديث آخر فذلك مما يؤكد أن هذا العموم هو على إطلاقه وشموله ؛ فلا يجوز لمؤمن يشهد لله - عز وجل - بالوحدانية ، ولنبيِّه بالرسالة أن يعارضَ هذه الكلية ، فيقول : ليس كل بدعة ضلالة ، وليس كل ضلالة في النار ؛ أولًا : لأن هذه العبارة العامة لا بدَّ لها من تخصيص ، وليس لها تخصيص ، وثانيًا : لأن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كما ذكرنا آنفًا كان يكرِّرها في كل جمعة ، فلا يُعقل أبدًا أن يكرِّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الكلية على مسامع أصحابه ، ثم لا يُتبع بها يومًا ما تخصيصًا ما ، هذا قرينة ما بعدها قرينة على بقاء هذه القاعدة على كلِّيَّتها وشمولها وعمومها ، وبخاصة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّرها في بعض خطبه الأخرى ، كما روى أصحاب السنن أن خطبة الحاجة التي ذكرناها فهي من حديث جابر - رضي الله عنه - وفي " صحيح مسلم " ؛ إلا أن زيادة : ( وكل ضلالة في النار ) هي من رواية الإمام النسائي في " سننه الصغرى " ، وإسنادها صحيح والحمد لله .
ثم إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّر هذه الكلية في غير ما مناسبة أخرى ، منها ما أخرجه أصحاب السنن وفي مقدِّمتهم أبو داود والترمذي وصحَّحه من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : وعظَنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موعظةً وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، قلنا : أوصِنا يا رسول الله . قال : ( أوصيكم بالسمع والطاعة وإن وُلِّيَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، وإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليها بالنواجد ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) .
فها أنتم ترون وتسمعون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كرَّر هذه القاعدة الكلية في خطبة أخرى وموعظة ألقاها على أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى جاء في رواية أن العرباض قال : قلنا : يا رسول الله ، كأنها وصية مودِّع ؛ فأوصنا وصيَّةً لا نحتاج إلى أحد بعدك أبدًا . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( أوصيكم بتقوى الله ) إلى أن قال : ( وإيَّاكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) ، إذا كان الأمر كذلك ، وأن الأمر في كل بدعة إنما هي ضلالة مهما كان أمرها ، ويظنُّ بعض الناس الحُسنَ فيها ؛ فذلك خطأ واضح بمخالفة ذلك التحكيم لقوله - عليه السلام - : ( كل بدعة ضلالة ) ، ولقد أكَّد هذه الكلية بعضُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعضهم تصريحًا وبعضهم تلميحًا أو إشارة ؛ فقد صحَّ عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : حديث منقوص ، قال ابن عمر - وهي كالبيان فيما ذكرته آنفًا - : ( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ) .
وجاء ما يُشير إلى هذا كما ألمحت آنفًا قوله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا - أيضًا - : " اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة " ، والسبب في هذا ظاهر جدًّا عند أهل العلم ؛ لأن المقتصد في السنة بالإتيان ببعضها مأجور إذا كان في ذلك مخلصًا عند الله - تبارك وتعالى - لا شكَّ ولا ريب ، وليس كذلك من اجتهد في الابتداع في الدين ؛ فذلك مردود على صاحبه كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) ، لذلك كان قول ابن مسعود في منتهى الحكمة وفي منتهى الموعظة الحسنة ؛ حيث قال : " اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة " ، وهذا يعني أن المسلم مكفيٌّ عن أن يجذب عقله وفكره لأن يُحدث في الدين ما لم يكن منه ، ثم يجتهد ؛ هل هو حسن فيعمل فيه ؟ لا ، لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من العبادات تَسَعُ هذه العبادات أفضل الناس ولو كان داود - عليه الصلاة والسلام - الذي روى الإمام البخاري في " صحيحه " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كان داود أعبدَ البشر ) ، فلو كان داود - عليه الصلاة والسلام - من أمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستطع أن ينهضَ كل العبادات التي جاء بها - عليه الصلاة والسلام - تأكيدًا لما جاء في حديثين اثنين :
الحديث الأول : ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يأمرَ أمَّته بخير ما يعلمه لهم ) .
والحديث الثاني : يتعلَّق بشخص النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاته ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - كما رواه الإمام الشافعي في " سننه " وغيره عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ، وما تركت شيئًا يبعِّدكم عن الله ويقرِّبكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه ) .
لذلك صحَّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق " ، " اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم " أي : قد شُرِعَ لكم من العبادات ما يكفيكم ويزيد عليكم ؛ فما عليكم إلا الاتباع .
" اتَّبعوا ولا تبتدعوا ؛ فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق " ؛ ولذلك جاء عن ابن مسعود - أيضًا - قصة رائعة جدًّا فيها تطبيق منه - ابن مسعود ... - فيه تطبيق لِما سبق من الأحاديث والآثار الموثوقة ؛ ذلك ما أخرجه الإمام الدارمي في " سننه " بسنده الصحيح أن أبا موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - جاء صباح يوم إلى ابن مسعود في داره ، فوجد الناس ينتظرونه ، فقال لهم متسائلًا : أَخَرَجَ أبو عبد الرحمن ؟ - كنية عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن - . أَخَرَجَ أبو عبد الرحمن ؟ قالوا : لا ، فجلس ينتظره إلى أن خرجَ ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، لقد رأيت بالمسجد آنفًا شيئًا أنكرته ، والحمد لله لم أر إلا خيرًا .
أرجو الانتباه إلى الجمع بين قوله : والحمد لله لم أر إلا خيرًا ، لكن قال : أنكرتٌه ؛ كيف يُنكر الخير ؟ لأنه مما أُحدث كما سيأتيكم البيان في تمام القصة - إن شاء الله تعالى - ، قال ابن مسعود : وماذا رأيت ؟ قال : إن عشت فستراه ؛ رأيت في المسجد حلقًا حلقًا ، وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله : سبِّحوا كذا ... ، واحمدوا كذا ، وكبِّروا كذا ، وأمام كلِّ رجل منهم حصى يعدُّ به التسبيح والتكبير والتحميد . قال ابن مسعود : أفلا أنكرتَ عليهم ؟ قال : لا ، انتظار أمرك أو انتظار رأيك . فعاد ابن مسعود إلى بيته وخرج متقنِّعًا لا يُعرف حتى وقف على الحلقات التي وُصفت له ، فلما رآهم كما قيل له كشفَ عن وجهه اللِّثام والقناع ، وقال : ويحكم ما هذا الذي تصنعونَ ؟ أنا صحابيُّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - . قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، هذا حصى نعدُّ به التسبيح والتكبير والتحميد . قال : عدُّوا سيئاتكم وأنا الضَّامن لكم ألا يضيعَ من حسناتكم شيء ، ويحكم ما أسرع هلكتكم ! هذه ثيابه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تبْلَ ، وهذه آنيته لم تُكسَرْ ، والذي نفسي بيده ؛ فإنكم لَأهدى من أمَّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أو إنكم متمسِّكون بذنب ضلالة .
لا شكَّ أن القضية الأولى مستحيلة ؛ أن يكونوا أهدى من جماعة الرسول - عليه السلام - ؛ فلم يبقَ إلا أنهم متمسِّكون بذنب ضلالة ، قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ، ما أردنا إلا الخير . وهذا لسان المبتدعة جميعهم ما يريدون إلا الخير ! ولكن شأنهم كما ستسمعون من كلام ابن مسعود الذي هو في منتهى الحكمة ، قال : وكم من مريدٍ للخير لا يُصيبه . كما قال الشاعر :
ترجو النَّجاةَ ولم تسلُكْ مسالكها *** إن السَّفينةَ لا تجري على اليبسِ
وكم من مريدٍ للخير لا يصيبه ! إن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - حدثنا إن أقوامًا يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم - أي : لا يصل إلى قلوبهم - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة . قال راوي هذه القصة - وهنا منتهى العبرة - : ولقد رأينا أولئك الأقوام - أي أصحاب حلقات الذكر - يقاتلوننا يوم النهروان ؛ أي : أصبحوا من الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وعن بقية الصحابة - .
واستنبطْتُ من هنا فائدةً قياسًا على قول العلماء : " الصغائر بريد الكبائر " ، استنبطْتُ من هذه القصة نحو قولهم فقلت : صغائر البدعة بريد الكبائر من البدع ، ولذلك فالعبرة من هذه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة ، وبهذه القصة أو من هذه القصة بصورة خاصَّة هو أن لا يحتقرنَّ المسلم بدعةً ما ، يقول : وإيش فيها ؟ هكذا يقول المبتدعة حينما نُناقشهم ونقول لهم : اتَّقوا الله ولا تحدثوا في دين الله ما لم يكن ، وإن نذكر لهم بعض هذه الأحاديث فيقولون - مثلًا - : إيش فيها ؟ يستصغرون البدعة ، ينظرون إليها بعقولهم يستحقرونَها ؛ فلا يشعرون أبدًا أنهم يقعون في نوع من الاعتزال ؛ ذلك لأن المعتزلة مما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة حقًّا هو قولهم بالتحسين والتقبيح العقليَّين ، هذا يعرفه العلماء من ضلالات المعتزلة ، ويعنون بهذه الجملة أي : إن المعتزلة يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين ؛ يعنون أن المعتزلة يقولون : ما حكم الشرع والعقل بحُسنه فهو حسن ، وما حكم العقل بقُبحه فهو قبيح ، أما أهل السنة كلهم دون اختلاف بينهم فيقولون : الحَسَن ما حسَّنه الشارع الحكيم ، والقبيح ما قبَّحه الشارع الحكيم ؛ فلا مجال لإدخال العقل في أمور التحسين ... .
... ابتلاءً منه لعباده ؛ ليراهم رؤية واقعهم ؛ هل يكفرون أم يشكرون ؟ لذلك فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولعلي أستطيع أن أرجئ هذه الكلمة للحديث التالي ؛ حتى نوفِّر بعض الوقت للإجابة على بعض الأسئلة ؛ لذلك أقول : فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله تعالى عنه - قال : كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاءه أعراب مُجتابي النِّمار ، متقلِّدي السيوف ، عامَّتهم من مضر ؛ بل كلُّهم من مضر ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تمعَّر وجهه - أي : تغيَّرت ملامح وجهه حزنًا على حالة هؤلاء الأعراب من الفقر - فخطب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحابة ، وتلا قوله - تعالى - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ )) ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : ( تصدَّق رجلٌ بدرهمه ، بديناره ، بصاع برِّه ، بصاع شعيره ) . فقام رجل من الصحابة ، وانطلق إلى داره ليعودَ حاملًا في طرف ثوبه ما تيسَّر له من الصدقة ، ووضعها أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلما رأى سائرُ الصحابة ما فعل صاحبهم قام كلٌّ منهم إلى داره - أيضًا - ليعودَ بما تيسَّر له من الطعام والصدقة ، قال جرير : فاجتمع أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصدقات ... فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تنوَّر وجهه كأنَّه مُذهبة - أي : كأنه فضَّة مطليَّة بالذهب تلألأ نورًا ؛ فرحًا باستجابة أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لحضِّه لهم على الصدقة على أولئك القوم - فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه المناسبة : ( من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة ؛ فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ؛ دون أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيِّئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ؛ دون أن ينقص من أوزارهم شيء ) ، إلى هنا ينتهي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " .
والشاهد منه : أن من الخطأ الفاحش الآن وفي آخر الزمان أن يستدلَّ بعضُ الناس بهذا الحديث ضربًا لتلك القاعدة العامة : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة النار ) ؛ يستدلُّون بهذا الحديث على تخصيص تلك القاعدة ، ويزعمون أن معنى الحديث : ( من سنَّ بالإسلام سنَّة حسنة ) يزعمون أنَّ معناه : من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنة ، فهذا منتهى العجمة ومنتهى اللكنة ؛ حيث أن الحادثة - كما سمعتم - كلها تدور حول حضِّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الصدقة آيةً وقولًا منه ، ثم استجاب له أول مَن استجاب ذلك الصحابي الأول ، ثم تبعه ائر الصحابة ، فقال حاضًّا لِمَن يريد أن أن يكون له أجر عمله وأجر من يتَّبعه على عمله أن يسنَّ سنة حسنة ، فقال بهذه المناسبة - أي بمناسبة الصدقة وقيام الرجل الأول الذي هو سنَّ تلك السنة في ذلك المكان - فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( من سنَّ بالإسلام سنَّة حسنة ) ؛ أي : من فتح طريقًا تؤدِّي هذا الطريق أو يؤدِّي هذا الطريق إلى سنة حسنة ؛ من أين نعرف السُّنَّة الحسنة ؟ أَمِن عقولنا أم من شريعة ربِّنا ؟!
عرفتم الفرق بين أهل السنة وبين المعتزلة ، المعتزلة يقولون : الحسن ما حسَّنه العقل ، أما أهل الشَّرع فيقولون : الحسن ما حسَّنه الشرع
، والدليل في نفس هذه القصة ؛ حيث أمر الله عباده بأن يتصدقوا ... ، ثم أكَّد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك ببعض أحاديثه ، وقوله : ( تصدَّق رجلٌ ) أي : يتصدَّق الرجل بدرهمه أقل شيء ( بدرهمه ، بديناره ، بصاع برِّه ، بصاع شعيره ) ، فلما قام هذا الرجل فتح باب الصدقة فقد سنَّ سنة حسنة ، هذه السنة الحسنة ليست من عنده ، وإنما ممَّا سمعه من الموعظة الحسنة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ لذلك كان له أجر صدقته ، وأجر من اتَّبعه في تلك الموعظة .
كذلك قال - عليه الصلاة والسلام - في تمام الحديث : ( ومن سنَّ بالإسلام سنَّة سيِّئة ) ، من أين نعرف السنة السيئة ؟ أَمِن عقولنا أم من شريعة ربِّنا ؟ الجواب هو هو ؛ من الشرع ، التحسين والتقبيح كلاهما من الشرع ، ولا مدخل للعقل فيه ؛ إذ الأمر كذلك فختامًا أقول :
ينبغي على كل المسلمين أن يقفوا عند حدود العبادات التي جاءت واضحةً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولا يُدخلوا فيها زيادات لم تأتِ لا عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن السلف الصالح ، ولا جرمَ أن أهل العلم يقولون :
وكلُّ خيرٍ في اتِّباع من سلَفْ *** وكلُّ شرٍّ باتباع من خلَفْ
- رحلة النور - شريط : 38
- توقيت الفهرسة : 00:22:45
- نسخة مدققة إملائيًّا