أرجو من فضيلتكم إيضاح المنهج الصحيح المعتبر لدخول علم الحديث وطلبه ، ونرجو - أيضًا - إيضاح طريقتك في ذلك مع توجيه ونصيحة لمن أراد أن يسلك هذا الطريق والتوجه إليه ؟
A-
A=
A+
السائل : بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فسوف يستمر الدرس بمشيئة الله إلى الساعة الثامنة .
السؤال الأول : فضيلة الشيخ - أثابك الله تعالى - ، أرجو من فضيلتكم إيضاح المنهج الصحيح المعتبر لدخول علم الحديث وطلبه ، ونرجو - أيضًا - إيضاح طريقتك في ذلك مع توجيه نصيحة لمن أراد سلك ذلك الطريق والتوجه إليه ؟
الشيخ : هذا موضوع لا يمكن شرحه بمثل هذا الوقت ، وإنما نذكر رؤوس أقلام - كما يقولون - لمَن أراد أن يَلِجَ هذا العلم العظيم الذي ينبني عليه الفقه الصحيح ؛ ذلك لأن من المتفق عليه بين علماء المسلمين أن الأحكام الشرعية إنما تقوم على الكتاب والسنة فقط ، وما يتفرَّع على ذلك من بعض الأصول ؛ كالإجماع - مثلًا - والقياس والمصالح المرسلة وباب سد الذرائع ونحو ذلك ، كل هذا وذلك مستقًى من الكتاب والسنة ، فالقرآن والسنة هما المرجع الوحيد لكلِّ عالم وفقيه بحقٍّ ، أما مَن لم يرجع اليهما معًا فاعتمد على أحدهما دون الآخر فهو كالرجل الكسير الذي يمشي على رجل واحدة ؛ ولا شك أنه لا يستطيع السَّير سويًّا على صراط مستقيم ؛ من أجل ذلك تجدون الآيات والأحاديث كلها تتجاوب بعضها مع بعض وتؤكِّد أن النجاة إنما هو بالتمسك بالكتاب والسنة ، ولستم الآن بحاجة إلى التذكير بشيء من تلك النصوص ، ولكني أقول :
إن القرآن محفوظ بين دفَّتي المصحف كما هو معلوم يقينًا ، أما السنة فهي ما وزَّع في بطون الكتب وهي بالألوف المؤلَّفة ، ثم هذه السنة قد دخل فيها من الغرائب والعجائب والأحاديث المُنكرات والموضوعات ما تبلغ مجلدات ، فلذلك كان لزامًا على كل من يريد أن يتفقَّه في دين الله وأن يفسِّر كتاب الله أن يكون تفسيره قائمًا على السنة والسنة الصحيحة ؛ لأن الله - عز وجل - يقول لنبيِّه : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم )) ، (( وأنزلنا إليك الذكر )) أي : القرآن ، (( إنا نحن نزلنا الذكرى وإنا له لحافظون )) .
(( أنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم )) بيانه - صلى الله عليه وآله وسلم - للقرآن إنما هو سنَّته - عليه الصلاة والسلام - ؛ ما كان منها قولًا أو فعلًا أو تقريرًا ، وإذ الأمر كذلك وكان قد دخل في السنة ما ليس منها ، فلا يستقيم فقه فقيه مطلقًا لا يعرف الحديث الصحيح من الضَّعيف ، ومن خاضَ في الاستدلال بالأحاديث أو في تفسير القرآن بالأحاديث مطلقًا دون تمييز صحيحها من ضعيفها فهو سيقعُ ولا شكَّ ولا ريب في الخطأ أولًا ، ثم في التقوُّل والكذب على رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ثانيًا شاء ذلك أم لم يشأ ؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، لا يتوهَّمنَّ أحدٌ أن المقصود من هذا الحديث ومن الحديث المتواتر بلفظ : ( من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) أن هذه العقوبة إنما تختصُّ بمن تعمَّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يشمل من روى الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا ينبغي أن يقعَ أحد في مثل هذا الوهم ؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) حكمة بالغة ، ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) هذا الحديث أصلٌ من أصول وضابطٌ من ضوابط الروايات ؛ سواء كانت هذه الروايات أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو كانت أقوالًا تُنسب إلى الناس بعامة ، فإن الإنسان إذا كان ديدنُه أن يقول : قال رسول الله ، قال رسول الله ، قال رسول الله بما يقرأ بأيِّ كتاب فلا مناص ولا بدَّ من أنه سيقع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شاء أم أبى ؛ لأنه قال : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع ) ، وهذا يشمل - أيضًا - كما قلت آنفًا التحدُّث عن بعض الناس ؛ لأن الأمر - كما قيل - : " وما آفةُ الأخبار إلا رواتُها " ؛ فكثيرًا ما نسمع أقوالًا مكذوبة ؛ قيل : أن فلان قال كذا ، قيل : أن فلان قال كذا ؛ فحينما يكثر الإنسان من الرواية عن أيِّ شخص كان دون تثبُّت وتروِّي فلا شك أنه سيقع في الكذب .
وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان فيه الخير والبركة ، وكان يُعدُّ الألوف المؤلفة ، وكان منتشرًا في الكتب على اختلاف أنواعها وأسانيدها في الرواية ، فبعضها نروى الأحاديث بالأسانيد ، وبعضها تروى الأحاديث معلَّقة دون أسانيد ، وكلٌّ من هذين القسمين بعضُها يروي ما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبعضها يروى ما هبَّ ودبَّ ، فمن روى من هذه الكتب فهو سيقع - ولا شك - في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ كما سمعتم قوله منبِّهًا على ذلك : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) ، وهذا معناه - أيها الإخوان - خذوا حذرَكم ؛ لا ترووا ولا تحدِّثوا بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تتثبَّتوا من صحَّته ؛ إما أن تنقلوه من كتاب يلتزم مؤلِّفه الصحة أو تسمعوه من عالم بالحديث يميِّز بين الصحيح وبين الضعيف ، وإلا لم يجُزْ لكم أن تقولوا في كل حديث قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ وإلا وقعتم بالكذب عليه شئتم أم أبيتم .
لأهمية الحديث - كما ظهر لكم الآن - كان من الواجب على بعض علماء المسلمين أن يكون لهم العناية الخاصَّة بمعرفة طرق تمييز الحديث الصحيح من الضعيف ، هذا التمييز يقوم على علمين اثنين : أحدهما ما يُعرف بعلم مصطلح الحديث ، والآخر ما يُعرف بعلم الجرح والتعديل ، ولكلٍّ من هذين العلمين مراجع ومصادر كثيرة وكثيرة جدًّا ، وهي تختلف من حيث التطويل والتقصير ، والضبط والاختصار ، ولهذا فنحن ننصح لمَن أراد ووجد في نفسه استعدادًا وثقافة شرعيَّة عامة عنده استعداد لدراسة هذا العلم بقسميه ننصح أن يدرسَ أولَ ما يدرس فيما يتعلَّق بعلم المصطلح كتاب الحافظ ابن كثير الدمشقي المعروف بـ " اختصار علوم الحديث " ، " علوم الحديث " كتاب لابن الصلاح ، وهو معروف بـ " مقدمة ابن الصلاح " ، مجلَّد مبسَّط في هذا العلم علم المصطلح ، جاء الحافظ ابن كثير من بعده ... واختصره في جزء صغير سمَّاه : " اختصار علوم الحديث " ، ثم جاء في العصر الحاضر أحد علماء الحديث المتقنين لهذا العلم نظرًا وعملًا ؛ ألا وهو الشيخ أحمد شاكر القاضي المصري - رحمه الله - ، فشرح كتاب ابن كثير وسمَّاه : " الباعث الحثيث شرح واختصار علوم الحديث " ، هذا الكتاب ينبغي على المبتدي في هذا العلم أن يفتتحَ دراسته لهذا العلم بهذا الكتاب ، وأنصح أنه إذا لم يتوفَّر لهذا الطالب شيخ متمكِّن في هذا العلم أن يستعين ببعض إخوانه الذين يشاركونه ؛ أعني لا ينفرد بدراسة هذا العلم ؛ لأن فيه صعوبة واضحة ، والأصل أن يُدرسَ هذا على أحد العلماء المتمكِّنين فيه ، ولكن إذا لم يتيسَّر له ذلك فليستَعِنْ ببعض إخوانه ويتدارسون هذا العلم متعاونين عليه .
ثم أنصح بهذه المناسبة أن لا يهتمَّ بدراسة هذا الكتاب من أوله إلى آخره ، وإنما يدرس نصفه الأول ؛ لأن النصف الثاني غالبه يتعلَّق برواية الحديث بالأسانيد ، معرفة - مثلًا - العلو والنازل ، وأسماء الآباء والأجداد ونحو ذلك ؛ فهذا يَدَعُه بعد أن يتقن القسم الأول منه ، وطالب هذا العلم إذا نظر في فهرس الكتاب المذكور فسيجد نفسه أنه ينبغي أن يختار بعض المواضيع أو أكثرها اختيارًا ، ولا يدرس كلَّ فصل هناك ؛ لأن بعضها يتعلق بطريقة رواية الأحاديث بالأسانيد ، وهذه الطريقة أصبحت اليوم - مع الأسف - نسيًا منسيًّا ؛ لأنا نحن نأخذ الروايات ليس عن شيخ عن شيخ حتى نعرف الأسماء بالتفاصيل ، وإنما نأخذها من كتب السنة المعروفة اليوم كالستة ونحوها .
فإذا انتهى من دراسة هذا القسم من هذا الكتاب انتقل بعد ذلك إلى دراسة كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني فهو مختصر ومكثَّف ، وهو المعروف بـ " شرح النخبة " ، " شرح النخبة " للحافظ ابن حجر هو من خير ما أُلِّف في هذا المصطلح ؛ لأن مؤلفه من نوابغ علماء الحديث الذين عرفوا هذا العلم اصطلاحًا وتطبيقًا ، ثم لا يزال يرتقي طالب هذا العلم من كتابٍ إلى كتابٍ حتى يينتهي بعد ذلك إلى الرجوع إلى الكتب الأولى التي هي الأصل من مثل كتاب " مقدمة علوم الحديث " للحافظ العراقي ، مثل كتاب " الكفاية " - مثلًا - للخطيب البغدادي الذي كان طبع في الهند قديمًا ، وكتاب " علوم الحديث " - أيضًا - لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، وكذلك كتاب للرامهرمزي ، وهكذا هي الأمَّهات التي منها استقى المتأخِّرون علوم هذا العلم في المصطلح .
أما في علم الجرح والتعديل ؛ فيحسن بطالب العلم أن يراجع وأن يكون ديدنه الرجوع إلى هذا الكتاب ؛ ألا وهو الميزان " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " للحافظ الذهبي الدمشقي - أيضًا - ، ويُلحق بدراسة هذه الملحقَ الذي وضعه الحافظ العسقلاني عليه ، وهو معروف بـ " لسان الميزان " ، " لسان الميزان " لابن حجر استدركَ فيه الألوف المؤلَّفة من الرواة الذين لم يذكُرْهم الحافظ الذهبي في كتابه " الميزان " ، مع تعديل أجراه في " لسانه " ؛ ذلك أن الذهبي - رحمه الله - خصَّ كتابه " الميزان " بترجمة كلِّ من تُكلِّم فيه ؛ سواء كان هذا المُتكلَّم فيه في شيء من الكتب الستة أو في غيرها ، هذا طريقة ترجمة الذهبي في " الميزان " ، أما الحافظ في " اللسان " فقد أجرى بعض التعديل ، كما أدخل عليه تلك الزيادات التي أشرت إليها ، أما التعديل فهو أنه لم يذكر في " لسانه " مَن كان مُترجمًا في " الميزان " من رجال الكتب الستة ، مَن كان مُترجمًا في " الميزان " وله رواية في الكتب الستة هؤلاء لا يذكرهم الحافظ العسقلاني في كتابه " اللسان " ؛ لأنه نصَّ في المقدمة أنه استغنى بكتابه " تهذيب التهذيب " عن إيراد الترجمات التي أورَدَها الذهبي في " الميزان " مما هو مُترجم في " التهذيب " خشية التكرار ؛ لكن الحقيقة أن الإنسان يجد - وهذا خاص بالباحث المتعمِّق - يجد أن كتاب " التهذيب " لا يُغني عن التراجم التي جاء ذكرها في " الميزان " من كلِّ ناحية ، لا يغني من كل ناحية ، وذلك واضح جدًّا في الصورة الآتية :
الذهبي في " الميزان " حينما يترجم لكلِّ فرد فيه فهو في الغالب يسوق نماذجَ من أحاديث المُترجَم ، وبخاصة إذا كان هذا المُترجَم مُتكلَّم فيه بالضعف أو متَّهمًا بالكذب والوضع ؛ فهو حينما يترجم لمثل هؤلاء يذكر نماذج من أحاديثهم تدلُّ الدارس على أن هذا المُترجَم فعلًا يستحقُّ أن يُطعنَ فيه لما في هذه الأحاديث من نكارة ومن آفات ودلالات باطلة ، هذا المُترجَم الذي ذكر له الحافظ الذهبي بعضَ الأمثلة من روايته الأحاديث لما الحافظ العسقلاني حذف هذه الترجمة المفروض أن هذه الأحاديث التي ذكرها الذهبي أن تكون - أيضًا - في " التهذيب " كأمثلة لبيان أو تأكيد انحراف هذا الراوي في الضَّعف أو في الوضع ، هذا ما لا يذكره الحافظ ابن حجر في كتابه " التهذيب " ؛ فحينئذٍ لا يكتفيَنَّ طالب هذا العلم بالرجوع إلى " اللسان " لابن حجر مستغنيًا بذلك بـ " لسان ابن حجر " و " تهذيبه " ، لا ، لا بدَّ له - أيضًا - أن يراجع " الميزان " ؛ لأنه سيجد فيه فوائد لا يجدها لا في " اللسان " ولا في " التهذيب " .
ثم - أيضًا - لا بد للمبتدي بهذا العلم أن يستعين بكتاب آخر يُقابل " الميزان " و " اللسان " ؛ ألا وهو كتاب " تقريب التهذيب " للحافظ المذكور آنفًا وهو العسقلاني ، كتاب " تقريب التهذيب " يُمكنني أن أقول إنه أصح أو أهم كتاب ينبغي أن يرجع اليه طالب هذا العلم ؛ لأنه يلخِّص الترجمة التي قد تكون أحيانًا في أصل " التقريب " - ألا وهو " التهذيب " - قد تكون ترجمة المُترجَم عدة صفحات ، فالحافظ ابن حجر بما أُوتي من علم وإتقان فيه يلخِّص تلك الترجمة بسطرين اثنين لا يزيد على ذلك إلا نادرًا جدًّا جدًّا ، يذكر في هذين السطرين ولادة المترجم بعد نسبه ، وموته - تاريخ وفاته - ، ومنزلته في الرواية ؛ كأن يقول - مثلًا - : ثقة ثبت ، أو ثقة ثقة ، أو ثقة ، أو لا بأس به ، أو صدوق ، أو صدوق يَهِمُ ، أو ضعيف ، أو مستور ، أو مجهول ، أو كذاب ، أو وضَّاع ، كلُّ هذا يلخِّصه لك بكلمات موجزات ، وذلك تلخيص لتلك التراجم المطوَّلات في أصل الكتاب الذي هو " تهذيب التهذيب " .
وإذا تدرَّب طالب العلم على هذا الكتاب فينبغي أن يذكرَ حقيقةً ؛ وهي أن كتاب " التقريب " إنما يمثِّل اجتهاد الحافظ ابن حجر في تلخيص تلك التراجم المطوَّلة ، والذي يُرى أحيانًا أن الحافظ ابن حجر له بعض اجتهادات ، تكون هذه الاجتهادات مرجوحة عند غيره كالحافظ الذهبي - مثلًا - ، فقد يقول الذهبي في راوٍ مترجم في " التهذيب " يقول فيه الذهبي في كتاب آخر له اسمه : " الكاشف " ؛ يجد اختلافًا بين قول الذهبي في " الكاشف " يقول فيه المترجم : صدوق ، ويقول الحافظ فيه : مستور ؛ هذا يجده الطالب لهذا العلم أن يستحضر حقيقةً تتعلَّق بالإنسان من حيث هو إنسان أنه معرَّضٌ للخطأ والنسيان ؛ حتى أكمل الإنسان وهو الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد قال في نفسه : ( إنما أنا بشر مثلكم ؛ أنسى كما تنسون ؛ فإذا نسيت فذكِّروني ) ؛ إذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرِّح بلسان عربي مبين : ( أنسى كما تنسون ؛ فإذا نسيت فذكِّروني ) ؛ فمن ذا الذي لا ينسى بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟!
لا أحد ، فإذا وجدنا اختلافًا بين قول الذهبي في راوٍ موحَّد وبين قول ابن حجر فيه هنا بقى الأمر يحتاج إلى ثقافة واسعة في علم الجرح والتعديل الذي تحدَّثنا آنفًا عن بعض كتبه ، وفي علم المصطلح الذي نحن الآن في صدد تتمَّة الموضوع ؛ حينئذٍ مَن كان قد تمرَّس في هذا العلم فيستطيع أن يرجِّح تارةً قول الذهبي على قول ابن حجر ، وعلى العكس أحيانًا ؛ وذلك برجوعه لأصل هذه الكتب ؛ ألا هو " تهذيب الكمال " ، " تهذيب الكمال " للحافظ المزي ، وهو - أيضًا - دمشقي ، وهذا يُشعركم بأن دمشق كانت يومًا ما عاصمةً العلوم الإسلامية ، " تهذيب الكمال " للحافظ المزي هو يُطبع الآن في عمان ، وصدر منه فوق العشر مجلدات ، إن الانسان لَيعجبُ من قدرة أولئك العلماء وهمَّتهم التي لا تشبه همم رجال آخر الزمان ، الحافظ المزي في كتابه " تهذيب الكمال " له أسلوب ليس الحافظ ابن حجر في تلخيصه إيَّاه في كتابه الذي سمَّاه " تهذيب التهذيب " ؛ وهو يعني " تهذيب تهذيب الكمال " ، لم يلتزم ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أسلوب الحافظ المزي ، وذلك لصعوبته وبأنه يحتاج إلى زمن طويل وطويل جدًّا ، الحافظ المزي من دقَّته في تأليفه لهذا الكتاب يذكر المُترجَم ، ثم يذكر شيوخه ، ثم الرواة عنه ، وحينما يذكر هؤلاء وهؤلاء يرتِّبهم على حروف المعجم ، يذكر شيوخ المترجم ، هؤلاء الشيوخ يرتِّبهم على حروف المعجم ؛ كأصل التراجم كلها ، نرتِّب كتاب " التهذيب " و " التقريب " كلها مرتبة على حروف ألف باء ؛ تيسيرًا للمراجعة ، فإذا مرَّ في إسناد ما مع الباحث أو الطالب رجل روى عن فلان يريد أن يستكشف مَن هذا فلان ؟ لو فرضنا عروة الشيخ عروة ؛ لكن لم ينسب ، ترجع إلى ترجمه أحمد بن مسعود - مثلًا - ، تطلب ترجمة أحمد بن مسعود في كتاب " تهذيب الكمال " ، أنت تريد أن تعرف عروة مَن هو ؟ أحمد بن مسعود له خمسين شيخ ، فالحافظ المزي يسرد أسماء هؤلاء الخمسين مرتَّبة على الحروف ، فإذا كنت متنبِّهًا لهذا الاصطلاح لستَ بحاجة أن تقرأ أسماء كل هؤلاء الشيوخ ، وإنما رأسًا تقفز إلى حرف العين والراء ، تنظر فهو عروة بن زهير هذا هو إذًا بأقل وقت وفَّر لك هذا الإمام الحافظ بجهده القوي الجبَّار ؛ حيث رتَّب ليس أسماء المترجمين بل وأسماء شيوخ المترجمين ، بل وأسماء الرواة عنهم ، هذا الترتيب الدَّقيق يوفِّر على الباحث أوقات كثيرة وكثيرة جدًّا ، إذا رجعت إلى " تهذيب التهذيب " أخلَّ الحافظ ابن حجر بهذا التنظيم الدقيق ، ولذلك يحتاج الباحث أن يُراجع أحيانًا كل أسماء الشيوخ أو كل أسماء الرواة ليعرفَ هذا الرجل الذي لم يُنسب مَن يكون ؟ هذا " تهذيب الكمال " للحافظ المزي .
" الكمال " هو كتاب المؤلَّف للشيخ عبد الغني المقدسي ، لا شك أن هذه ثمرة جيدة وهو مُختار من قبل المتقدمين كـ " الكامل " لابن عدي ، و " الضعفاء " للعقيلي ، " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي ، وهكذا ، لكن " الكمال " تخصَّص في الكتب الستة ، وعلى ذلك جرى " تهذيب الكمال " و " تهذيب التهذيب " وكل مَن جاء بعده مثل خلاصة " تهذيب الكمال " ، ويكفي هذا ... بالنسبة لهذه المسألة .
فسوف يستمر الدرس بمشيئة الله إلى الساعة الثامنة .
السؤال الأول : فضيلة الشيخ - أثابك الله تعالى - ، أرجو من فضيلتكم إيضاح المنهج الصحيح المعتبر لدخول علم الحديث وطلبه ، ونرجو - أيضًا - إيضاح طريقتك في ذلك مع توجيه نصيحة لمن أراد سلك ذلك الطريق والتوجه إليه ؟
الشيخ : هذا موضوع لا يمكن شرحه بمثل هذا الوقت ، وإنما نذكر رؤوس أقلام - كما يقولون - لمَن أراد أن يَلِجَ هذا العلم العظيم الذي ينبني عليه الفقه الصحيح ؛ ذلك لأن من المتفق عليه بين علماء المسلمين أن الأحكام الشرعية إنما تقوم على الكتاب والسنة فقط ، وما يتفرَّع على ذلك من بعض الأصول ؛ كالإجماع - مثلًا - والقياس والمصالح المرسلة وباب سد الذرائع ونحو ذلك ، كل هذا وذلك مستقًى من الكتاب والسنة ، فالقرآن والسنة هما المرجع الوحيد لكلِّ عالم وفقيه بحقٍّ ، أما مَن لم يرجع اليهما معًا فاعتمد على أحدهما دون الآخر فهو كالرجل الكسير الذي يمشي على رجل واحدة ؛ ولا شك أنه لا يستطيع السَّير سويًّا على صراط مستقيم ؛ من أجل ذلك تجدون الآيات والأحاديث كلها تتجاوب بعضها مع بعض وتؤكِّد أن النجاة إنما هو بالتمسك بالكتاب والسنة ، ولستم الآن بحاجة إلى التذكير بشيء من تلك النصوص ، ولكني أقول :
إن القرآن محفوظ بين دفَّتي المصحف كما هو معلوم يقينًا ، أما السنة فهي ما وزَّع في بطون الكتب وهي بالألوف المؤلَّفة ، ثم هذه السنة قد دخل فيها من الغرائب والعجائب والأحاديث المُنكرات والموضوعات ما تبلغ مجلدات ، فلذلك كان لزامًا على كل من يريد أن يتفقَّه في دين الله وأن يفسِّر كتاب الله أن يكون تفسيره قائمًا على السنة والسنة الصحيحة ؛ لأن الله - عز وجل - يقول لنبيِّه : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم )) ، (( وأنزلنا إليك الذكر )) أي : القرآن ، (( إنا نحن نزلنا الذكرى وإنا له لحافظون )) .
(( أنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم )) بيانه - صلى الله عليه وآله وسلم - للقرآن إنما هو سنَّته - عليه الصلاة والسلام - ؛ ما كان منها قولًا أو فعلًا أو تقريرًا ، وإذ الأمر كذلك وكان قد دخل في السنة ما ليس منها ، فلا يستقيم فقه فقيه مطلقًا لا يعرف الحديث الصحيح من الضَّعيف ، ومن خاضَ في الاستدلال بالأحاديث أو في تفسير القرآن بالأحاديث مطلقًا دون تمييز صحيحها من ضعيفها فهو سيقعُ ولا شكَّ ولا ريب في الخطأ أولًا ، ثم في التقوُّل والكذب على رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ثانيًا شاء ذلك أم لم يشأ ؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، لا يتوهَّمنَّ أحدٌ أن المقصود من هذا الحديث ومن الحديث المتواتر بلفظ : ( من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) أن هذه العقوبة إنما تختصُّ بمن تعمَّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يشمل من روى الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا ينبغي أن يقعَ أحد في مثل هذا الوهم ؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) حكمة بالغة ، ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) هذا الحديث أصلٌ من أصول وضابطٌ من ضوابط الروايات ؛ سواء كانت هذه الروايات أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو كانت أقوالًا تُنسب إلى الناس بعامة ، فإن الإنسان إذا كان ديدنُه أن يقول : قال رسول الله ، قال رسول الله ، قال رسول الله بما يقرأ بأيِّ كتاب فلا مناص ولا بدَّ من أنه سيقع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شاء أم أبى ؛ لأنه قال : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع ) ، وهذا يشمل - أيضًا - كما قلت آنفًا التحدُّث عن بعض الناس ؛ لأن الأمر - كما قيل - : " وما آفةُ الأخبار إلا رواتُها " ؛ فكثيرًا ما نسمع أقوالًا مكذوبة ؛ قيل : أن فلان قال كذا ، قيل : أن فلان قال كذا ؛ فحينما يكثر الإنسان من الرواية عن أيِّ شخص كان دون تثبُّت وتروِّي فلا شك أنه سيقع في الكذب .
وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان فيه الخير والبركة ، وكان يُعدُّ الألوف المؤلفة ، وكان منتشرًا في الكتب على اختلاف أنواعها وأسانيدها في الرواية ، فبعضها نروى الأحاديث بالأسانيد ، وبعضها تروى الأحاديث معلَّقة دون أسانيد ، وكلٌّ من هذين القسمين بعضُها يروي ما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وبعضها يروى ما هبَّ ودبَّ ، فمن روى من هذه الكتب فهو سيقع - ولا شك - في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ كما سمعتم قوله منبِّهًا على ذلك : ( كفى المرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ) ، وهذا معناه - أيها الإخوان - خذوا حذرَكم ؛ لا ترووا ولا تحدِّثوا بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تتثبَّتوا من صحَّته ؛ إما أن تنقلوه من كتاب يلتزم مؤلِّفه الصحة أو تسمعوه من عالم بالحديث يميِّز بين الصحيح وبين الضعيف ، وإلا لم يجُزْ لكم أن تقولوا في كل حديث قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ وإلا وقعتم بالكذب عليه شئتم أم أبيتم .
لأهمية الحديث - كما ظهر لكم الآن - كان من الواجب على بعض علماء المسلمين أن يكون لهم العناية الخاصَّة بمعرفة طرق تمييز الحديث الصحيح من الضعيف ، هذا التمييز يقوم على علمين اثنين : أحدهما ما يُعرف بعلم مصطلح الحديث ، والآخر ما يُعرف بعلم الجرح والتعديل ، ولكلٍّ من هذين العلمين مراجع ومصادر كثيرة وكثيرة جدًّا ، وهي تختلف من حيث التطويل والتقصير ، والضبط والاختصار ، ولهذا فنحن ننصح لمَن أراد ووجد في نفسه استعدادًا وثقافة شرعيَّة عامة عنده استعداد لدراسة هذا العلم بقسميه ننصح أن يدرسَ أولَ ما يدرس فيما يتعلَّق بعلم المصطلح كتاب الحافظ ابن كثير الدمشقي المعروف بـ " اختصار علوم الحديث " ، " علوم الحديث " كتاب لابن الصلاح ، وهو معروف بـ " مقدمة ابن الصلاح " ، مجلَّد مبسَّط في هذا العلم علم المصطلح ، جاء الحافظ ابن كثير من بعده ... واختصره في جزء صغير سمَّاه : " اختصار علوم الحديث " ، ثم جاء في العصر الحاضر أحد علماء الحديث المتقنين لهذا العلم نظرًا وعملًا ؛ ألا وهو الشيخ أحمد شاكر القاضي المصري - رحمه الله - ، فشرح كتاب ابن كثير وسمَّاه : " الباعث الحثيث شرح واختصار علوم الحديث " ، هذا الكتاب ينبغي على المبتدي في هذا العلم أن يفتتحَ دراسته لهذا العلم بهذا الكتاب ، وأنصح أنه إذا لم يتوفَّر لهذا الطالب شيخ متمكِّن في هذا العلم أن يستعين ببعض إخوانه الذين يشاركونه ؛ أعني لا ينفرد بدراسة هذا العلم ؛ لأن فيه صعوبة واضحة ، والأصل أن يُدرسَ هذا على أحد العلماء المتمكِّنين فيه ، ولكن إذا لم يتيسَّر له ذلك فليستَعِنْ ببعض إخوانه ويتدارسون هذا العلم متعاونين عليه .
ثم أنصح بهذه المناسبة أن لا يهتمَّ بدراسة هذا الكتاب من أوله إلى آخره ، وإنما يدرس نصفه الأول ؛ لأن النصف الثاني غالبه يتعلَّق برواية الحديث بالأسانيد ، معرفة - مثلًا - العلو والنازل ، وأسماء الآباء والأجداد ونحو ذلك ؛ فهذا يَدَعُه بعد أن يتقن القسم الأول منه ، وطالب هذا العلم إذا نظر في فهرس الكتاب المذكور فسيجد نفسه أنه ينبغي أن يختار بعض المواضيع أو أكثرها اختيارًا ، ولا يدرس كلَّ فصل هناك ؛ لأن بعضها يتعلق بطريقة رواية الأحاديث بالأسانيد ، وهذه الطريقة أصبحت اليوم - مع الأسف - نسيًا منسيًّا ؛ لأنا نحن نأخذ الروايات ليس عن شيخ عن شيخ حتى نعرف الأسماء بالتفاصيل ، وإنما نأخذها من كتب السنة المعروفة اليوم كالستة ونحوها .
فإذا انتهى من دراسة هذا القسم من هذا الكتاب انتقل بعد ذلك إلى دراسة كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني فهو مختصر ومكثَّف ، وهو المعروف بـ " شرح النخبة " ، " شرح النخبة " للحافظ ابن حجر هو من خير ما أُلِّف في هذا المصطلح ؛ لأن مؤلفه من نوابغ علماء الحديث الذين عرفوا هذا العلم اصطلاحًا وتطبيقًا ، ثم لا يزال يرتقي طالب هذا العلم من كتابٍ إلى كتابٍ حتى يينتهي بعد ذلك إلى الرجوع إلى الكتب الأولى التي هي الأصل من مثل كتاب " مقدمة علوم الحديث " للحافظ العراقي ، مثل كتاب " الكفاية " - مثلًا - للخطيب البغدادي الذي كان طبع في الهند قديمًا ، وكتاب " علوم الحديث " - أيضًا - لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، وكذلك كتاب للرامهرمزي ، وهكذا هي الأمَّهات التي منها استقى المتأخِّرون علوم هذا العلم في المصطلح .
أما في علم الجرح والتعديل ؛ فيحسن بطالب العلم أن يراجع وأن يكون ديدنه الرجوع إلى هذا الكتاب ؛ ألا وهو الميزان " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " للحافظ الذهبي الدمشقي - أيضًا - ، ويُلحق بدراسة هذه الملحقَ الذي وضعه الحافظ العسقلاني عليه ، وهو معروف بـ " لسان الميزان " ، " لسان الميزان " لابن حجر استدركَ فيه الألوف المؤلَّفة من الرواة الذين لم يذكُرْهم الحافظ الذهبي في كتابه " الميزان " ، مع تعديل أجراه في " لسانه " ؛ ذلك أن الذهبي - رحمه الله - خصَّ كتابه " الميزان " بترجمة كلِّ من تُكلِّم فيه ؛ سواء كان هذا المُتكلَّم فيه في شيء من الكتب الستة أو في غيرها ، هذا طريقة ترجمة الذهبي في " الميزان " ، أما الحافظ في " اللسان " فقد أجرى بعض التعديل ، كما أدخل عليه تلك الزيادات التي أشرت إليها ، أما التعديل فهو أنه لم يذكر في " لسانه " مَن كان مُترجمًا في " الميزان " من رجال الكتب الستة ، مَن كان مُترجمًا في " الميزان " وله رواية في الكتب الستة هؤلاء لا يذكرهم الحافظ العسقلاني في كتابه " اللسان " ؛ لأنه نصَّ في المقدمة أنه استغنى بكتابه " تهذيب التهذيب " عن إيراد الترجمات التي أورَدَها الذهبي في " الميزان " مما هو مُترجم في " التهذيب " خشية التكرار ؛ لكن الحقيقة أن الإنسان يجد - وهذا خاص بالباحث المتعمِّق - يجد أن كتاب " التهذيب " لا يُغني عن التراجم التي جاء ذكرها في " الميزان " من كلِّ ناحية ، لا يغني من كل ناحية ، وذلك واضح جدًّا في الصورة الآتية :
الذهبي في " الميزان " حينما يترجم لكلِّ فرد فيه فهو في الغالب يسوق نماذجَ من أحاديث المُترجَم ، وبخاصة إذا كان هذا المُترجَم مُتكلَّم فيه بالضعف أو متَّهمًا بالكذب والوضع ؛ فهو حينما يترجم لمثل هؤلاء يذكر نماذج من أحاديثهم تدلُّ الدارس على أن هذا المُترجَم فعلًا يستحقُّ أن يُطعنَ فيه لما في هذه الأحاديث من نكارة ومن آفات ودلالات باطلة ، هذا المُترجَم الذي ذكر له الحافظ الذهبي بعضَ الأمثلة من روايته الأحاديث لما الحافظ العسقلاني حذف هذه الترجمة المفروض أن هذه الأحاديث التي ذكرها الذهبي أن تكون - أيضًا - في " التهذيب " كأمثلة لبيان أو تأكيد انحراف هذا الراوي في الضَّعف أو في الوضع ، هذا ما لا يذكره الحافظ ابن حجر في كتابه " التهذيب " ؛ فحينئذٍ لا يكتفيَنَّ طالب هذا العلم بالرجوع إلى " اللسان " لابن حجر مستغنيًا بذلك بـ " لسان ابن حجر " و " تهذيبه " ، لا ، لا بدَّ له - أيضًا - أن يراجع " الميزان " ؛ لأنه سيجد فيه فوائد لا يجدها لا في " اللسان " ولا في " التهذيب " .
ثم - أيضًا - لا بد للمبتدي بهذا العلم أن يستعين بكتاب آخر يُقابل " الميزان " و " اللسان " ؛ ألا وهو كتاب " تقريب التهذيب " للحافظ المذكور آنفًا وهو العسقلاني ، كتاب " تقريب التهذيب " يُمكنني أن أقول إنه أصح أو أهم كتاب ينبغي أن يرجع اليه طالب هذا العلم ؛ لأنه يلخِّص الترجمة التي قد تكون أحيانًا في أصل " التقريب " - ألا وهو " التهذيب " - قد تكون ترجمة المُترجَم عدة صفحات ، فالحافظ ابن حجر بما أُوتي من علم وإتقان فيه يلخِّص تلك الترجمة بسطرين اثنين لا يزيد على ذلك إلا نادرًا جدًّا جدًّا ، يذكر في هذين السطرين ولادة المترجم بعد نسبه ، وموته - تاريخ وفاته - ، ومنزلته في الرواية ؛ كأن يقول - مثلًا - : ثقة ثبت ، أو ثقة ثقة ، أو ثقة ، أو لا بأس به ، أو صدوق ، أو صدوق يَهِمُ ، أو ضعيف ، أو مستور ، أو مجهول ، أو كذاب ، أو وضَّاع ، كلُّ هذا يلخِّصه لك بكلمات موجزات ، وذلك تلخيص لتلك التراجم المطوَّلات في أصل الكتاب الذي هو " تهذيب التهذيب " .
وإذا تدرَّب طالب العلم على هذا الكتاب فينبغي أن يذكرَ حقيقةً ؛ وهي أن كتاب " التقريب " إنما يمثِّل اجتهاد الحافظ ابن حجر في تلخيص تلك التراجم المطوَّلة ، والذي يُرى أحيانًا أن الحافظ ابن حجر له بعض اجتهادات ، تكون هذه الاجتهادات مرجوحة عند غيره كالحافظ الذهبي - مثلًا - ، فقد يقول الذهبي في راوٍ مترجم في " التهذيب " يقول فيه الذهبي في كتاب آخر له اسمه : " الكاشف " ؛ يجد اختلافًا بين قول الذهبي في " الكاشف " يقول فيه المترجم : صدوق ، ويقول الحافظ فيه : مستور ؛ هذا يجده الطالب لهذا العلم أن يستحضر حقيقةً تتعلَّق بالإنسان من حيث هو إنسان أنه معرَّضٌ للخطأ والنسيان ؛ حتى أكمل الإنسان وهو الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد قال في نفسه : ( إنما أنا بشر مثلكم ؛ أنسى كما تنسون ؛ فإذا نسيت فذكِّروني ) ؛ إذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرِّح بلسان عربي مبين : ( أنسى كما تنسون ؛ فإذا نسيت فذكِّروني ) ؛ فمن ذا الذي لا ينسى بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟!
لا أحد ، فإذا وجدنا اختلافًا بين قول الذهبي في راوٍ موحَّد وبين قول ابن حجر فيه هنا بقى الأمر يحتاج إلى ثقافة واسعة في علم الجرح والتعديل الذي تحدَّثنا آنفًا عن بعض كتبه ، وفي علم المصطلح الذي نحن الآن في صدد تتمَّة الموضوع ؛ حينئذٍ مَن كان قد تمرَّس في هذا العلم فيستطيع أن يرجِّح تارةً قول الذهبي على قول ابن حجر ، وعلى العكس أحيانًا ؛ وذلك برجوعه لأصل هذه الكتب ؛ ألا هو " تهذيب الكمال " ، " تهذيب الكمال " للحافظ المزي ، وهو - أيضًا - دمشقي ، وهذا يُشعركم بأن دمشق كانت يومًا ما عاصمةً العلوم الإسلامية ، " تهذيب الكمال " للحافظ المزي هو يُطبع الآن في عمان ، وصدر منه فوق العشر مجلدات ، إن الانسان لَيعجبُ من قدرة أولئك العلماء وهمَّتهم التي لا تشبه همم رجال آخر الزمان ، الحافظ المزي في كتابه " تهذيب الكمال " له أسلوب ليس الحافظ ابن حجر في تلخيصه إيَّاه في كتابه الذي سمَّاه " تهذيب التهذيب " ؛ وهو يعني " تهذيب تهذيب الكمال " ، لم يلتزم ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أسلوب الحافظ المزي ، وذلك لصعوبته وبأنه يحتاج إلى زمن طويل وطويل جدًّا ، الحافظ المزي من دقَّته في تأليفه لهذا الكتاب يذكر المُترجَم ، ثم يذكر شيوخه ، ثم الرواة عنه ، وحينما يذكر هؤلاء وهؤلاء يرتِّبهم على حروف المعجم ، يذكر شيوخ المترجم ، هؤلاء الشيوخ يرتِّبهم على حروف المعجم ؛ كأصل التراجم كلها ، نرتِّب كتاب " التهذيب " و " التقريب " كلها مرتبة على حروف ألف باء ؛ تيسيرًا للمراجعة ، فإذا مرَّ في إسناد ما مع الباحث أو الطالب رجل روى عن فلان يريد أن يستكشف مَن هذا فلان ؟ لو فرضنا عروة الشيخ عروة ؛ لكن لم ينسب ، ترجع إلى ترجمه أحمد بن مسعود - مثلًا - ، تطلب ترجمة أحمد بن مسعود في كتاب " تهذيب الكمال " ، أنت تريد أن تعرف عروة مَن هو ؟ أحمد بن مسعود له خمسين شيخ ، فالحافظ المزي يسرد أسماء هؤلاء الخمسين مرتَّبة على الحروف ، فإذا كنت متنبِّهًا لهذا الاصطلاح لستَ بحاجة أن تقرأ أسماء كل هؤلاء الشيوخ ، وإنما رأسًا تقفز إلى حرف العين والراء ، تنظر فهو عروة بن زهير هذا هو إذًا بأقل وقت وفَّر لك هذا الإمام الحافظ بجهده القوي الجبَّار ؛ حيث رتَّب ليس أسماء المترجمين بل وأسماء شيوخ المترجمين ، بل وأسماء الرواة عنهم ، هذا الترتيب الدَّقيق يوفِّر على الباحث أوقات كثيرة وكثيرة جدًّا ، إذا رجعت إلى " تهذيب التهذيب " أخلَّ الحافظ ابن حجر بهذا التنظيم الدقيق ، ولذلك يحتاج الباحث أن يُراجع أحيانًا كل أسماء الشيوخ أو كل أسماء الرواة ليعرفَ هذا الرجل الذي لم يُنسب مَن يكون ؟ هذا " تهذيب الكمال " للحافظ المزي .
" الكمال " هو كتاب المؤلَّف للشيخ عبد الغني المقدسي ، لا شك أن هذه ثمرة جيدة وهو مُختار من قبل المتقدمين كـ " الكامل " لابن عدي ، و " الضعفاء " للعقيلي ، " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي ، وهكذا ، لكن " الكمال " تخصَّص في الكتب الستة ، وعلى ذلك جرى " تهذيب الكمال " و " تهذيب التهذيب " وكل مَن جاء بعده مثل خلاصة " تهذيب الكمال " ، ويكفي هذا ... بالنسبة لهذه المسألة .
- رحلة النور - شريط : 36
- توقيت الفهرسة : 00:00:15
- نسخة مدققة إملائيًّا