صيام يوم السبت ، وبيان الشيخ متى يكون القول تشريعًا عامًّا ؟
A-
A=
A+
السائل : أريد أن أعود إلى نقطة تكلَّمتم عنها في الصباح حول صيام يوم السبت ؟
الشيخ : ما شبعنا في هذا ؟ لا بأس تفضل ، بس بشرط واحد ؛ ما يملُّ الناس .
السائل : جزاك الله خيرًا .
الشيخ : أيوا تفضل .
السائل : أنا فهمت من كلامكم أنه لا ينبغي صيام يوم السبت إلا في رمضان ؟
الشيخ : لا ليس إلا في رمضان .
السائل : لا ، اسمح لي حتى أكمل ... .
الشيخ : لا لا تعمل محاضرة ، أنا أقول لك لا ، فمعنى أن هذا الفهم ليس صحيحًا .
السائل : حسنًا .
الشيخ : فإذًا تريد أن تعمل محاضرة على شفا جرف هار ؟ هذا الفهم ليس صحيحًا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - (( بلسان عربي مبين )) - : ( إلا فيما افترض عليكم ) ، فالآن أنا أسألك : رجل عليه قضاء أيام من رمضان .
السائل : هذا مُفترض طبعًا .
الشيخ : طول بالك ، لكن ليس رمضان ، لا يصوم في رمضان .
السائل : في مفترض .
الشيخ : طيب ، هذه واحدة ، والأخرى رجل نذر على نفسه نذرًا .
السائل : إي نعم .
الشيخ : هذا رمضان ؟!
السائل : ... .
الشيخ : نعم ؟
سائل آخر : وآخر عليه صيام شهرين متتابعين .
الشيخ : هذا هو ، ... أليست هذه فروض ؟
السائل : يعني فيما عدا المفترض تقصد ؟
الشيخ : نعم ؟
السائل : فيما عدا المفترض ؟ المفترض يعني ؟
الشيخ : ما أنا هذا ليس كلامي ، هذا كلام نبي الجميع : ( إلا فيما افترض عليكم ) .
السائل : حسنًا .
الشيخ : لكن أنت استجعلت عليَّ إلا في رمضان قلت !! أنا ما قلت هذا أولًا ، وإنما هذا فهم منك .
السائل : حسنًا .
الشيخ : وهو في نفسه خطأ ، كما عرفت الآن ، طيب ، تابع الكلام .
السائل : يعني إذا مثلًا وافق يوم السبت يوم عرفة أو يوم عاشوراء .
الشيخ : سامحك الله ، ترجِّعنا تخلينا رجعيِّين ... كما يقولون ( يضحك الشيخ - رحمه الله - ) .
السائل : بس لو توسِّع صدرك جزاك الله خيرًا .
الشيخ : هذا كلام جرى هناك ، وسوف تضطرُّني إلى أن أعود لنفس الجواب - أيضًا - الذي سبق هناك .
السائل : لا أبدًا ، وإنما مختصرًا .
الشيخ : آ ، تفضَّل " يلي ما يجي معك تعا معو " ، تفضل .
السائل : جزاك الله خير يا شيخ .
الشيخ : تفضَّل .
السائل : فتواك وكلمتك مسموعة ، ولك قبول وأشياء لا تنكر ، فأقول : إذا وافق يوم السبت يوم عرفة ، أو يوم عاشوراء ، أو من أيام البيض ، أو ستة من شوال ؛ لا ينبغي أن يصام ؟ هكذا ؟
الشيخ : مائة هكذا .
السائل : أحسنت ، طيب ، لأني كنت أتذكَّر حديثين في هذا ، فأودُّ أن توضِّح وجه التعارض ، يعني في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام - : " كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ؛ السبت والأحد والاثنين ، وفي الشهر الآخر يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس " ، وهذا حسَّنه الترمذي ، لكن لا معرفة لي بتدقيق الإسناد .
الشيخ : نعم .
السائل : الحديث الثاني حديث ابن عباس عن أمِّ سلمة ؛ أنه سألوها عن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ( كان يصوم السبت والأحد ) ، فأنكروا على كريب الذي نقل إليهم رواية أم سلمة ، وقاموا بأنفسهم وسألوها ، فقالت : ( إنه كان يصوم السبت والأحد مخالفةً للمشركين ) ، وصحَّحه كما يقول الشوكاني ابن حبان وابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي ، فأنا أشكل عليَّ هذا الحديث .
الشيخ : حُقَّ لك الإشكال .
السائل : جزاك الله خير .
الشيخ : ولم يحق لك أن تنسبَ إليَّ ما لم أقل .
السائل : آسف كلمة رمضان في حكمها وفي معناها .
الشيخ : طيب ، أما أنك أشكل عليك الأمر فالجواب فعلًا يعني يُؤخذ من أجوبتي السابقة على غير هذا الحديث ، لكن في كثير من الأحيان الناس أو بعض الناس لا يهتمُّون بالقواعد وبالأصول ، ولذلك فهم يريدون جوابًا عن كل فرع وعن كل حديث ، والآن أنا أذكِّرك بما جرى هناك ، حينما تفضَّل بعض المشايخ الفضلاء وجاء بحديث جويرية وأنت حاضر .
السائل : أيوا .
الشيخ : كان جوابي هذا الحديث يُبيح صيام يوم السبت ، صح ؟
السائل : إي .
الشيخ : طيب ، حديثك الأول والثاني يبيح صيام يوم السبت ، هل سمعت جواب عن ذاك الحديث ؟ فأقول لك الآن باختصار قد يتلوه التفصيل : الجواب الذي سمعته عن حديث جويرية هو عين الجواب عن حديث أم سلمة وعن حديث الأول ، الجواب هو هو نفسه ، مع شيء من التحفظ سأذكره فيما بعد ، لكن أريد أن أذكِّر حضرتك بأن ذاك الجواب هو الجواب .
السائل : نفس الجواب .
الشيخ : هو الجواب بمعنى هذا هو الشرح الذي قد نضطرُّ إلى ذكره ما دام أنك رغبتَ أن نعود القهقرى ، وأن نعود رجعيِّين إلى الوراء .
السائل : شيخنا إذا كان الإخوة لهم رغبة .
الشيخ : معليش .
السائل : شيخ يقول لك بإيجاز .
الشيخ : يقول إيش ؟
السائل : بإيجاز .
الشيخ : طيب ، جزاه الله خير ، نقول الآن بإيجاز : هذه الأحاديث التي ذكرتها الآن ، أو هذان الحديثان كحديث جويرية ، ما أتينا بشيء جديد سوى أنَّنا زدنا في العدد ، فصارت الأحاديث المبيحة بدل حديث واحد هو حديث جويرية ؛ صار المجموع ثلاثة أحاديث ، وكل هذه الأحاديث الثلاثة تدخل في دائرة إباحة الصيام المُختلف فيه ؛ ألا وهو صيام يوم السبت ، وإذا كان هذا الكلام الذي أقوله الآن مسلَّمًا به ولا أظن أحدًا يناقش به ، فإذًا الجواب سبق عن هذا ، لأنه لا فرق بين حديث جويرية من حيث أنه دلَّ على إباحة صيام يوم السبت ، ولا فرق بالتالي بين حديث أم سلمة ؛ لأنَّه دل على نفس الدلالة ، وأخيرًا الحديث الثالث ، فما كان جوابًا عن الحديث الأول كان جوابًا عن الحديث الثاني ، وما كان جوابًا عن الحديث الثاني كان جوابًا عن الحديث الثالث ، وأخيرًا ذاك الجواب هو جواب عن الأحاديث الثلاثة !
هذا من حيث تطبيق علم أصول الفقه ، أن " الحاظر مقدَّم على المبيح " ، وضربنا أمثلة تقريبية ، وبعض مَن على يمينك من الأفاضل ممَّن يحضرون مجالس العلم ، قال لما سمع المثل الذي ضربته لكم وأنتم جميعًا حاضرون : افترض أنه جاء يوم الاثنين أو يوم الخميس يوم عيد ؛ فهل تفضِّل صيامه بما فيه من الفضيلة ؟ أم تُؤثر ترك هذا الصيام لأنه صادف يوم عيد ، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم العيد ؟ صرَّح بعض الأفاضل الحاضرين ، والله أنُّو هذا المثال يقنعنا تمامًا ، وقد كنا من قبل نقول خلاف ما يقوله الشيخ ، أما الآن فهذا المثال مثال واضح جدًّا ، لأنه إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح ، لعلك تذكر معي أن هذا الكلام كله جرى في تلك الجلسة .
السائل : نعم .
الشيخ : فالآن ما الذي استفدناه - ولا مؤاخذة - من أنك ضَمَمْتَ إلى الحديث الأول حديث جويرية حديثين آخرين ، وهما كالأول ؟ كلهم داخلون في موضوع الإباحة ، وحينئذٍ فالقاعدة كما ذكرنا " إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح " ، هذا من الناحية الفقهية .
من الناحية الحديثية حديث ابن عباس الذي ذكرته آنفًا الحقيقة أنني كنت في سنين مضت حسَّنته في بعض كتبي ، ثم تبيَّن لي أن فيه رجلًا مجهول العدالة ، ولذلك رجعتُ عن تقوية هذا الحديث وتحسينه كما نقلت أنت عن الترمذي ، وأدخلته في القسم الذي لم يُطبع بعدُ من " ضعيف الترغيب والترهيب " ، بينما كان في الطبعة الأولى من " صحيح الترغيب والترهيب " كان موجودًا فيه ، والآن لمَّا أعدنا طباعة المجلد الأول من " صحيح الترغيب والترهيب " وتبيَّن لي أن فيه تلك العلة ؛ رفعت هذا الحديث من الصحيح ، فالطبعة الجديدة التي هي من طباعة دار المعارف ليس فيها هذا الحديث ، لأنني نقلته إلى " ضعيف الترغيب والترهيب " فنقول .
الحلبي : شيخنا .
الشيخ : نعم ؟
الحلبي : أرسلته في " السلسلة الضعيفة " الجزء الرابع .
الشيخ : موجود - أيضًا - جزاك الله خير ، نعود لنقول : فمن كان لا يزال يقتنع أو مقتنعًا بأن هذا الحديث ثابت كما رأيت أنت من الترمذي ؛ فالجواب الفقهي يكفيه ، ومن كان يقتنع بمثل ما اقتنعتُ أنا به أنه حديث ضعيف الإسناد ؛ فنعيد الكلمة التي قلناها هناك ، أن هذا الميت لا يستحق هذا العزاء ، حديث ضعيف يخالف حديثًا صحيحًا لا قيمة له ، أما الحديث الثاني فالذي أذكره الآن - غير متيقِّن - أن فيه اضطرابًا في متنه ، وفي بعض رواته - أيضًا - شيء من الجهالة ، ولعل أخانا عليًّا يمدُّنا بمدده .
الحلبي : شيخنا في انقطاع بين عائشة والراوي عنها ، وسألتك عنه فلم تُورده في " صحيح الترمذي " ، فبالتالي هو من نصيب الكتاب الآخر .
الشيخ : " ضعيف الترمذي " .
الحلبي : " ضعيف الترمذي " .
الشيخ : هذا هو ، فإذًا فرجعت يا أستاذي بخُفَّي حنين ، ما استدفت شيئًا سوى على النظام العسكري السوري " مكانك راوِحْ " ( الشيخ يضحك - رحمه الله - ) .
الحلبي : شيخنا استفدنا يا شيخ .
الشيخ : جزاك الله خير ( يضحك الشيخ - رحمه الله - ) .
السائل : لو سمحتم .
الشيخ : تفضَّل .
السائل : - أيضًا - من القواعد الأصولية .
الشيخ : آ .
السائل : يعني " إذا تعارض القول والفعل يُقدَّم القول على الفعل " .
الشيخ : أحسنت ، جزاك الله خيرًا .
السائل : ثانيًا قاعدة - أيضًا - أصولية .
الشيخ : بس هذا الكلام أرجو أن توجِّهَه إلى جارك .
السائل : إيه هو أصولي .
سائل آخر : نفس حديث الصَّمَّاء وقفت على كلام ينسب للإمام مالك أنه كذب ، ولابن شهاب الزهري يقول : " هذا من حديث الحوثيين " ، وكلام الليث بن سعد يقول لنا : " ما كنت أحدث به ، وكنت أكتمه ؛ لولا أنه انتشر " ، ونُقل عن ابن تيمية أنه يقول : " شاذ " ، وأبو داود يقول منسوخ ؛ فما رأيك ؟
الشيخ : أيضًا أقول لك : كأنك لم تكن حاضرًا في تلك الجلسة الصباحية ، لقد نقلتُ أنا ، أنا شخصيًّا نقلتُ عن أبي داوود أنه ذكر عن الإمام مالك تعليقًا - أيضًا كنتُ دقيقًا في الذِّكر - تعليقًا أنه قال : " حديث باطل " ، وهذا ما لم تقله أنت الآن .
السائل : وأن الصحيح أنه كذب .
الشيخ : أقول . نعم ؟
السائل : كذب كذب .
الشيخ : طيب ، والشيء أن أبا داوود نفسه قال : " هذا حديث منسوخ " ، فأنا لست غافلًا عن هذه الأقوال التي تُوهن من قيمة هذا الحديث ومن شأنه ، ولكن ماذا تريد منِّي إذا أوجدتُ لنفسي أولًا ثم لغيري ثانيًا أربعة طرق لهذا الحديث ، هل يصح في حديث له أربعة طرق بعضها على الأقل صحيح لذاته ؛ هل يصح أن يقال فيه " حديث باطل " أو حديث كذب هاه ؟
السائل : هذا أشكل عليَّ كلام الأئمة يعني .
الشيخ : طيب - إن شاء الله - زال الإشكال وطاح .
السائل : لازال الإشكال قائمًا .
الشيخ : لا زال ؟
السائل : نعم .
الشيخ : سبحان الله !
الحلبي : ابن حجر وغيره أنكروا هذه الكلمة عن الإمام مالك ... .
الشيخ : هذا هو المفروض ، لكن لماذا لا يزال الإشكال قائمًا في صدر الأستاذ ما دام شُهد لك بأنك يعني من أهل العلم بالأصول ؟
السائل : بحثنا عن الحق - إن شاء الله - .
الشيخ : إن شاء الله ، طيب غيره ؟
السائل : القاعدة التي يردِّدها الشوكاني : " إذا تعارض قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله يُحمل الفعل على الخصوصية ، أو يُقدم القول على الفعل ؛ لأن فعله يحتمل الخصوصية " ؟
الشيخ : عفوًا ، ليس من الضروري أن يُحمل على الخصوصية ، وإنما يُحمل على محمل من ثلاث : إما الخصوصية ، وهذا آخر ما يمكن أن يلجأ إليه الفقيه ، إنما الأول أن يُقال هذا النص الذي صدر من الرسول - عليه السلام - فعلًا يُمكن أن يكون على الإباحة الأصلية ؛ لأن التشريع ، وهذا ذكرناه أيضًا في جلسة قريبة تعرضنا لهذا اليوم صباحًا ؛ أن الرسول - عليه السلام - قد يفعل شيئًا على البراءة الأصلية .
السائل : اليوم ؟
الحلبي : نعم اليوم .
الشيخ : اليوم ... هكذا أذكر ، فإذا تعارض القول مع فعله - عليه السلام - قُدِّم القول على الفعل ؛ هذه حقيقة علمية أصولية ، من الضروري جدًّا على طلاب العلم أن يكونوا ذاكرين لهذه القاعدة ؛ لأنهم إذا ما آمنوا بها أولًا ، ثم أحسنوا تطبيقها ثانيًا ؛ ستزول بعض الإشكالات التي دارت في نفسك ، ستزول أكيد لأنك مقتنع بأن هذه القاعدة هي قاعدة صحيحة ؛ " إذا تعارض القول مع الفعل قُدِّم القول على الفعل " ؛ لماذا ؟ لأن قول الرسول - عليه السلام - تشريع عام ، حتى جاء في علم الأصول أن الأمر الصادر من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - موجهًا إلى فرد من أفراد الأمة ؛ فهو خطاب لكل الأمة ، أليس هذا من الأصول ؟ فما بالك إذا كان الأمر موجَّهًا للأمة ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرض عليكم ) إلى آخر الحديث ، فإذا صدر أمر من الرسول - عليه السلام - لفردٍ من أفراد الأمة ، ثم ثبت لدينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل خلاف هذا الأمر ؛ قلنا الأمر تشريع عام ، والفعل قد يعترضه ويُحيط به ما يجعله خاصًّا به - عليه السلام - ، لا من باب الخصوصيات المعروفة ، والتي هي من مناقبه - عليه السلام - وخصائصه التي لا يشاركه فيها أحد من الناس ، حتى بعضها لا يشاركه فيها بعض الأنبياء والرسل كما هو معلوم .
فإذا تعارض أمره - عليه السلام - أو قوله مع فعله قُدِّم القول على الفعل لهذا السبب ، أن قوله تشريع عام ، فعله قد وقد ؛ أي : قد يكون تشريعًا عامًّا وقد لا يكون ، لا شك أنه يكون تشريعًا عامًّا بشرطين اثنين ، ذكرنا صباحًا الشرط الأول ، وهو أن يكون عبادة ، وأن لا يكون عادة ، لأن العادات لا تدخل في الشرعيات ، الشرط الثاني أن لا يكون له مخالفٌ من القول الصادر من الرسول - عليه الصلاة والسلام - كما نحن الآن في صدده ، فإذا وجدنا قولًا خالف فعله - عليه السلام - أخذنا بقوله وتركنا فعله ؛ لأن قوله هو الشرع العام ، وفعله قد وقد .
الآن نبحث في هذه القدقدة ؛ كيف نعلِّل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء خلاف ما خاطب به أمَّته ؟
من السهل جدًّا أن نقول : هذا الفعل إذا لم يكن عندنا دليل يبيِّن أنه جاء بعد القول ، فإذًا يُحمل على الأصل ، وهي البراءة الأصلية ؛ لأن الشريعة ما جاءت بالأحكام قطرة واحدة ، وقصة الخمر والتدريج في تحريمها أوضح مثال ، من الأمثلة التي تدلُّنا على أن الخمر كانت مباحةً على الأصل ، وقد لا نقول حلالًا ، وإنما على البراءة الأصلية ، فإذا جاءنا خبر بأن زيدًا من الناس شرب الخمر ، لكن شربه للخمر ممكن أن يكون في ذلك الزمان ، فإذا جاء الحديث عن الرسول - عليه السلام - في فعل ما كما نحن الآن في صدده ، كان يصوم يوم السبت ، يمكن أن يكون قبل هذا التشريع الجديد بقوله : ( لا تصوموا يوم السبت ) ، فإذًا ممكن أن يكون هذا الفعل كان في زمن الإباحة ، ثانيًا يمكن أن يكون لعذرٍ ، فعل صدر منه - عليه السلام - لعذر ؛ فحينئذٍ نقول مادام يحتمل أن يكون لعذر ؛ فنُقدِّم القول على الفعل ، كما جاء في القاعدة ، ثالثًا وأخيرًا نقول : يمكن أن يكون هذه خصوصية للرسول - عليه السلام - ، مادام تعارض فعله مع قوله ، فالقول مُقدَّم على الفعل ، الذي أردت بهذا أن أقول في عدة احتمالات ، وهي ثلاث ، إما كان فعله على الأصل ، وإنما أنه كان لعذر ، وإما أنه كان لخصوصية له - عليه الصلاة والسلام - لا يشاركه عليها أحد من الأنام .
الشيخ : ما شبعنا في هذا ؟ لا بأس تفضل ، بس بشرط واحد ؛ ما يملُّ الناس .
السائل : جزاك الله خيرًا .
الشيخ : أيوا تفضل .
السائل : أنا فهمت من كلامكم أنه لا ينبغي صيام يوم السبت إلا في رمضان ؟
الشيخ : لا ليس إلا في رمضان .
السائل : لا ، اسمح لي حتى أكمل ... .
الشيخ : لا لا تعمل محاضرة ، أنا أقول لك لا ، فمعنى أن هذا الفهم ليس صحيحًا .
السائل : حسنًا .
الشيخ : فإذًا تريد أن تعمل محاضرة على شفا جرف هار ؟ هذا الفهم ليس صحيحًا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - (( بلسان عربي مبين )) - : ( إلا فيما افترض عليكم ) ، فالآن أنا أسألك : رجل عليه قضاء أيام من رمضان .
السائل : هذا مُفترض طبعًا .
الشيخ : طول بالك ، لكن ليس رمضان ، لا يصوم في رمضان .
السائل : في مفترض .
الشيخ : طيب ، هذه واحدة ، والأخرى رجل نذر على نفسه نذرًا .
السائل : إي نعم .
الشيخ : هذا رمضان ؟!
السائل : ... .
الشيخ : نعم ؟
سائل آخر : وآخر عليه صيام شهرين متتابعين .
الشيخ : هذا هو ، ... أليست هذه فروض ؟
السائل : يعني فيما عدا المفترض تقصد ؟
الشيخ : نعم ؟
السائل : فيما عدا المفترض ؟ المفترض يعني ؟
الشيخ : ما أنا هذا ليس كلامي ، هذا كلام نبي الجميع : ( إلا فيما افترض عليكم ) .
السائل : حسنًا .
الشيخ : لكن أنت استجعلت عليَّ إلا في رمضان قلت !! أنا ما قلت هذا أولًا ، وإنما هذا فهم منك .
السائل : حسنًا .
الشيخ : وهو في نفسه خطأ ، كما عرفت الآن ، طيب ، تابع الكلام .
السائل : يعني إذا مثلًا وافق يوم السبت يوم عرفة أو يوم عاشوراء .
الشيخ : سامحك الله ، ترجِّعنا تخلينا رجعيِّين ... كما يقولون ( يضحك الشيخ - رحمه الله - ) .
السائل : بس لو توسِّع صدرك جزاك الله خيرًا .
الشيخ : هذا كلام جرى هناك ، وسوف تضطرُّني إلى أن أعود لنفس الجواب - أيضًا - الذي سبق هناك .
السائل : لا أبدًا ، وإنما مختصرًا .
الشيخ : آ ، تفضَّل " يلي ما يجي معك تعا معو " ، تفضل .
السائل : جزاك الله خير يا شيخ .
الشيخ : تفضَّل .
السائل : فتواك وكلمتك مسموعة ، ولك قبول وأشياء لا تنكر ، فأقول : إذا وافق يوم السبت يوم عرفة ، أو يوم عاشوراء ، أو من أيام البيض ، أو ستة من شوال ؛ لا ينبغي أن يصام ؟ هكذا ؟
الشيخ : مائة هكذا .
السائل : أحسنت ، طيب ، لأني كنت أتذكَّر حديثين في هذا ، فأودُّ أن توضِّح وجه التعارض ، يعني في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام - : " كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ؛ السبت والأحد والاثنين ، وفي الشهر الآخر يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس " ، وهذا حسَّنه الترمذي ، لكن لا معرفة لي بتدقيق الإسناد .
الشيخ : نعم .
السائل : الحديث الثاني حديث ابن عباس عن أمِّ سلمة ؛ أنه سألوها عن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ( كان يصوم السبت والأحد ) ، فأنكروا على كريب الذي نقل إليهم رواية أم سلمة ، وقاموا بأنفسهم وسألوها ، فقالت : ( إنه كان يصوم السبت والأحد مخالفةً للمشركين ) ، وصحَّحه كما يقول الشوكاني ابن حبان وابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي ، فأنا أشكل عليَّ هذا الحديث .
الشيخ : حُقَّ لك الإشكال .
السائل : جزاك الله خير .
الشيخ : ولم يحق لك أن تنسبَ إليَّ ما لم أقل .
السائل : آسف كلمة رمضان في حكمها وفي معناها .
الشيخ : طيب ، أما أنك أشكل عليك الأمر فالجواب فعلًا يعني يُؤخذ من أجوبتي السابقة على غير هذا الحديث ، لكن في كثير من الأحيان الناس أو بعض الناس لا يهتمُّون بالقواعد وبالأصول ، ولذلك فهم يريدون جوابًا عن كل فرع وعن كل حديث ، والآن أنا أذكِّرك بما جرى هناك ، حينما تفضَّل بعض المشايخ الفضلاء وجاء بحديث جويرية وأنت حاضر .
السائل : أيوا .
الشيخ : كان جوابي هذا الحديث يُبيح صيام يوم السبت ، صح ؟
السائل : إي .
الشيخ : طيب ، حديثك الأول والثاني يبيح صيام يوم السبت ، هل سمعت جواب عن ذاك الحديث ؟ فأقول لك الآن باختصار قد يتلوه التفصيل : الجواب الذي سمعته عن حديث جويرية هو عين الجواب عن حديث أم سلمة وعن حديث الأول ، الجواب هو هو نفسه ، مع شيء من التحفظ سأذكره فيما بعد ، لكن أريد أن أذكِّر حضرتك بأن ذاك الجواب هو الجواب .
السائل : نفس الجواب .
الشيخ : هو الجواب بمعنى هذا هو الشرح الذي قد نضطرُّ إلى ذكره ما دام أنك رغبتَ أن نعود القهقرى ، وأن نعود رجعيِّين إلى الوراء .
السائل : شيخنا إذا كان الإخوة لهم رغبة .
الشيخ : معليش .
السائل : شيخ يقول لك بإيجاز .
الشيخ : يقول إيش ؟
السائل : بإيجاز .
الشيخ : طيب ، جزاه الله خير ، نقول الآن بإيجاز : هذه الأحاديث التي ذكرتها الآن ، أو هذان الحديثان كحديث جويرية ، ما أتينا بشيء جديد سوى أنَّنا زدنا في العدد ، فصارت الأحاديث المبيحة بدل حديث واحد هو حديث جويرية ؛ صار المجموع ثلاثة أحاديث ، وكل هذه الأحاديث الثلاثة تدخل في دائرة إباحة الصيام المُختلف فيه ؛ ألا وهو صيام يوم السبت ، وإذا كان هذا الكلام الذي أقوله الآن مسلَّمًا به ولا أظن أحدًا يناقش به ، فإذًا الجواب سبق عن هذا ، لأنه لا فرق بين حديث جويرية من حيث أنه دلَّ على إباحة صيام يوم السبت ، ولا فرق بالتالي بين حديث أم سلمة ؛ لأنَّه دل على نفس الدلالة ، وأخيرًا الحديث الثالث ، فما كان جوابًا عن الحديث الأول كان جوابًا عن الحديث الثاني ، وما كان جوابًا عن الحديث الثاني كان جوابًا عن الحديث الثالث ، وأخيرًا ذاك الجواب هو جواب عن الأحاديث الثلاثة !
هذا من حيث تطبيق علم أصول الفقه ، أن " الحاظر مقدَّم على المبيح " ، وضربنا أمثلة تقريبية ، وبعض مَن على يمينك من الأفاضل ممَّن يحضرون مجالس العلم ، قال لما سمع المثل الذي ضربته لكم وأنتم جميعًا حاضرون : افترض أنه جاء يوم الاثنين أو يوم الخميس يوم عيد ؛ فهل تفضِّل صيامه بما فيه من الفضيلة ؟ أم تُؤثر ترك هذا الصيام لأنه صادف يوم عيد ، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم العيد ؟ صرَّح بعض الأفاضل الحاضرين ، والله أنُّو هذا المثال يقنعنا تمامًا ، وقد كنا من قبل نقول خلاف ما يقوله الشيخ ، أما الآن فهذا المثال مثال واضح جدًّا ، لأنه إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح ، لعلك تذكر معي أن هذا الكلام كله جرى في تلك الجلسة .
السائل : نعم .
الشيخ : فالآن ما الذي استفدناه - ولا مؤاخذة - من أنك ضَمَمْتَ إلى الحديث الأول حديث جويرية حديثين آخرين ، وهما كالأول ؟ كلهم داخلون في موضوع الإباحة ، وحينئذٍ فالقاعدة كما ذكرنا " إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح " ، هذا من الناحية الفقهية .
من الناحية الحديثية حديث ابن عباس الذي ذكرته آنفًا الحقيقة أنني كنت في سنين مضت حسَّنته في بعض كتبي ، ثم تبيَّن لي أن فيه رجلًا مجهول العدالة ، ولذلك رجعتُ عن تقوية هذا الحديث وتحسينه كما نقلت أنت عن الترمذي ، وأدخلته في القسم الذي لم يُطبع بعدُ من " ضعيف الترغيب والترهيب " ، بينما كان في الطبعة الأولى من " صحيح الترغيب والترهيب " كان موجودًا فيه ، والآن لمَّا أعدنا طباعة المجلد الأول من " صحيح الترغيب والترهيب " وتبيَّن لي أن فيه تلك العلة ؛ رفعت هذا الحديث من الصحيح ، فالطبعة الجديدة التي هي من طباعة دار المعارف ليس فيها هذا الحديث ، لأنني نقلته إلى " ضعيف الترغيب والترهيب " فنقول .
الحلبي : شيخنا .
الشيخ : نعم ؟
الحلبي : أرسلته في " السلسلة الضعيفة " الجزء الرابع .
الشيخ : موجود - أيضًا - جزاك الله خير ، نعود لنقول : فمن كان لا يزال يقتنع أو مقتنعًا بأن هذا الحديث ثابت كما رأيت أنت من الترمذي ؛ فالجواب الفقهي يكفيه ، ومن كان يقتنع بمثل ما اقتنعتُ أنا به أنه حديث ضعيف الإسناد ؛ فنعيد الكلمة التي قلناها هناك ، أن هذا الميت لا يستحق هذا العزاء ، حديث ضعيف يخالف حديثًا صحيحًا لا قيمة له ، أما الحديث الثاني فالذي أذكره الآن - غير متيقِّن - أن فيه اضطرابًا في متنه ، وفي بعض رواته - أيضًا - شيء من الجهالة ، ولعل أخانا عليًّا يمدُّنا بمدده .
الحلبي : شيخنا في انقطاع بين عائشة والراوي عنها ، وسألتك عنه فلم تُورده في " صحيح الترمذي " ، فبالتالي هو من نصيب الكتاب الآخر .
الشيخ : " ضعيف الترمذي " .
الحلبي : " ضعيف الترمذي " .
الشيخ : هذا هو ، فإذًا فرجعت يا أستاذي بخُفَّي حنين ، ما استدفت شيئًا سوى على النظام العسكري السوري " مكانك راوِحْ " ( الشيخ يضحك - رحمه الله - ) .
الحلبي : شيخنا استفدنا يا شيخ .
الشيخ : جزاك الله خير ( يضحك الشيخ - رحمه الله - ) .
السائل : لو سمحتم .
الشيخ : تفضَّل .
السائل : - أيضًا - من القواعد الأصولية .
الشيخ : آ .
السائل : يعني " إذا تعارض القول والفعل يُقدَّم القول على الفعل " .
الشيخ : أحسنت ، جزاك الله خيرًا .
السائل : ثانيًا قاعدة - أيضًا - أصولية .
الشيخ : بس هذا الكلام أرجو أن توجِّهَه إلى جارك .
السائل : إيه هو أصولي .
سائل آخر : نفس حديث الصَّمَّاء وقفت على كلام ينسب للإمام مالك أنه كذب ، ولابن شهاب الزهري يقول : " هذا من حديث الحوثيين " ، وكلام الليث بن سعد يقول لنا : " ما كنت أحدث به ، وكنت أكتمه ؛ لولا أنه انتشر " ، ونُقل عن ابن تيمية أنه يقول : " شاذ " ، وأبو داود يقول منسوخ ؛ فما رأيك ؟
الشيخ : أيضًا أقول لك : كأنك لم تكن حاضرًا في تلك الجلسة الصباحية ، لقد نقلتُ أنا ، أنا شخصيًّا نقلتُ عن أبي داوود أنه ذكر عن الإمام مالك تعليقًا - أيضًا كنتُ دقيقًا في الذِّكر - تعليقًا أنه قال : " حديث باطل " ، وهذا ما لم تقله أنت الآن .
السائل : وأن الصحيح أنه كذب .
الشيخ : أقول . نعم ؟
السائل : كذب كذب .
الشيخ : طيب ، والشيء أن أبا داوود نفسه قال : " هذا حديث منسوخ " ، فأنا لست غافلًا عن هذه الأقوال التي تُوهن من قيمة هذا الحديث ومن شأنه ، ولكن ماذا تريد منِّي إذا أوجدتُ لنفسي أولًا ثم لغيري ثانيًا أربعة طرق لهذا الحديث ، هل يصح في حديث له أربعة طرق بعضها على الأقل صحيح لذاته ؛ هل يصح أن يقال فيه " حديث باطل " أو حديث كذب هاه ؟
السائل : هذا أشكل عليَّ كلام الأئمة يعني .
الشيخ : طيب - إن شاء الله - زال الإشكال وطاح .
السائل : لازال الإشكال قائمًا .
الشيخ : لا زال ؟
السائل : نعم .
الشيخ : سبحان الله !
الحلبي : ابن حجر وغيره أنكروا هذه الكلمة عن الإمام مالك ... .
الشيخ : هذا هو المفروض ، لكن لماذا لا يزال الإشكال قائمًا في صدر الأستاذ ما دام شُهد لك بأنك يعني من أهل العلم بالأصول ؟
السائل : بحثنا عن الحق - إن شاء الله - .
الشيخ : إن شاء الله ، طيب غيره ؟
السائل : القاعدة التي يردِّدها الشوكاني : " إذا تعارض قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله يُحمل الفعل على الخصوصية ، أو يُقدم القول على الفعل ؛ لأن فعله يحتمل الخصوصية " ؟
الشيخ : عفوًا ، ليس من الضروري أن يُحمل على الخصوصية ، وإنما يُحمل على محمل من ثلاث : إما الخصوصية ، وهذا آخر ما يمكن أن يلجأ إليه الفقيه ، إنما الأول أن يُقال هذا النص الذي صدر من الرسول - عليه السلام - فعلًا يُمكن أن يكون على الإباحة الأصلية ؛ لأن التشريع ، وهذا ذكرناه أيضًا في جلسة قريبة تعرضنا لهذا اليوم صباحًا ؛ أن الرسول - عليه السلام - قد يفعل شيئًا على البراءة الأصلية .
السائل : اليوم ؟
الحلبي : نعم اليوم .
الشيخ : اليوم ... هكذا أذكر ، فإذا تعارض القول مع فعله - عليه السلام - قُدِّم القول على الفعل ؛ هذه حقيقة علمية أصولية ، من الضروري جدًّا على طلاب العلم أن يكونوا ذاكرين لهذه القاعدة ؛ لأنهم إذا ما آمنوا بها أولًا ، ثم أحسنوا تطبيقها ثانيًا ؛ ستزول بعض الإشكالات التي دارت في نفسك ، ستزول أكيد لأنك مقتنع بأن هذه القاعدة هي قاعدة صحيحة ؛ " إذا تعارض القول مع الفعل قُدِّم القول على الفعل " ؛ لماذا ؟ لأن قول الرسول - عليه السلام - تشريع عام ، حتى جاء في علم الأصول أن الأمر الصادر من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - موجهًا إلى فرد من أفراد الأمة ؛ فهو خطاب لكل الأمة ، أليس هذا من الأصول ؟ فما بالك إذا كان الأمر موجَّهًا للأمة ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرض عليكم ) إلى آخر الحديث ، فإذا صدر أمر من الرسول - عليه السلام - لفردٍ من أفراد الأمة ، ثم ثبت لدينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل خلاف هذا الأمر ؛ قلنا الأمر تشريع عام ، والفعل قد يعترضه ويُحيط به ما يجعله خاصًّا به - عليه السلام - ، لا من باب الخصوصيات المعروفة ، والتي هي من مناقبه - عليه السلام - وخصائصه التي لا يشاركه فيها أحد من الناس ، حتى بعضها لا يشاركه فيها بعض الأنبياء والرسل كما هو معلوم .
فإذا تعارض أمره - عليه السلام - أو قوله مع فعله قُدِّم القول على الفعل لهذا السبب ، أن قوله تشريع عام ، فعله قد وقد ؛ أي : قد يكون تشريعًا عامًّا وقد لا يكون ، لا شك أنه يكون تشريعًا عامًّا بشرطين اثنين ، ذكرنا صباحًا الشرط الأول ، وهو أن يكون عبادة ، وأن لا يكون عادة ، لأن العادات لا تدخل في الشرعيات ، الشرط الثاني أن لا يكون له مخالفٌ من القول الصادر من الرسول - عليه الصلاة والسلام - كما نحن الآن في صدده ، فإذا وجدنا قولًا خالف فعله - عليه السلام - أخذنا بقوله وتركنا فعله ؛ لأن قوله هو الشرع العام ، وفعله قد وقد .
الآن نبحث في هذه القدقدة ؛ كيف نعلِّل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء خلاف ما خاطب به أمَّته ؟
من السهل جدًّا أن نقول : هذا الفعل إذا لم يكن عندنا دليل يبيِّن أنه جاء بعد القول ، فإذًا يُحمل على الأصل ، وهي البراءة الأصلية ؛ لأن الشريعة ما جاءت بالأحكام قطرة واحدة ، وقصة الخمر والتدريج في تحريمها أوضح مثال ، من الأمثلة التي تدلُّنا على أن الخمر كانت مباحةً على الأصل ، وقد لا نقول حلالًا ، وإنما على البراءة الأصلية ، فإذا جاءنا خبر بأن زيدًا من الناس شرب الخمر ، لكن شربه للخمر ممكن أن يكون في ذلك الزمان ، فإذا جاء الحديث عن الرسول - عليه السلام - في فعل ما كما نحن الآن في صدده ، كان يصوم يوم السبت ، يمكن أن يكون قبل هذا التشريع الجديد بقوله : ( لا تصوموا يوم السبت ) ، فإذًا ممكن أن يكون هذا الفعل كان في زمن الإباحة ، ثانيًا يمكن أن يكون لعذرٍ ، فعل صدر منه - عليه السلام - لعذر ؛ فحينئذٍ نقول مادام يحتمل أن يكون لعذر ؛ فنُقدِّم القول على الفعل ، كما جاء في القاعدة ، ثالثًا وأخيرًا نقول : يمكن أن يكون هذه خصوصية للرسول - عليه السلام - ، مادام تعارض فعله مع قوله ، فالقول مُقدَّم على الفعل ، الذي أردت بهذا أن أقول في عدة احتمالات ، وهي ثلاث ، إما كان فعله على الأصل ، وإنما أنه كان لعذر ، وإما أنه كان لخصوصية له - عليه الصلاة والسلام - لا يشاركه عليها أحد من الأنام .
- رحلة الخير - شريط : 7
- توقيت الفهرسة : 00:00:01
- نسخة مدققة إملائيًّا