بم تنصح طالب علم الحديث وهو لا يجد مشايخ يأخذ على أيديهم ؟ ما هي الكتب التي يبدأ بها خاصة علم الرجال ؟
A-
A=
A+
السائل : شيخنا الفاضل ، بماذا تنصح طالب علم الحديث ولا يجد مشايخ يأخذ على أيديهم ؟ كيف يبدأ ؟ وما هي الكتب التي يبدأ بها وخاصَّة علم الرجال ؟
الشيخ : إن أحسن كتاب ينبغي أن يبتدئ بمطالعته ودراسته في كتب الرجال إنما هو كتاب الحافظ الذهبي المذكور آنفًا ؛ ألا وهو " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " ، ثم الكتاب الآخر الذي ألحَقَه الحافظ بن حجر العسقلاني الذي سمَّاه بـ " لسان الميزان " ؛ ذلك لأنَّ هذين الكتابين يدرِّبان طالب العلم وينبِّهانه على طريقة العلماء علماء الجرح والتعديل كيف كانوا ينقضون الراوي ولم يعاصروه ولم يعرفوه عن كثبٍ وعن قربٍ ؛ فمع ذلك فهم إما أن يوثِّقوه وإما أن يضعِّفوه ، فكيف وصلوا إلى معرفة حاله توثيقًا أو تجريحًا ولم يعاصروه ؟ يجد المطَّلع على هذين الكتابين بخاصة أسلوبهم في الوصول إلى ذلك ، الطريق الأولى التي كان يطرقها مثل الحافظ بن حجر والحافظ الذهبي لمعرفة بعض الرواة الذين لم يكونوا معاصرين للذين ينتقدوهم أنهم يتتبَّعون أقوال المعاصرين لهم ؛ فإن وثَّقوهم فهو ثقة ، وإلا فهو غير ثقة ؛ أي : إنهم يعرفون ثقة الرجال بالطريق الأولى وهي الرواية ، كما نعرف نحن اليوم ما قاله الرسول - عليه السلام - وما فعله من السنة ، كذلك هم عرفوا أحوال الرواة بالسند كما يعرفون أحوال الصحابة والتابعين ، كذلك عرفوا أحوال الرواة الموثوقين والمجروحين ، هذه طريقة من طريقين يلمسهما الدارس لهذين الكتابين .
والطريق الأخرى - وهي الأهم في هذا الموضوع أو في هذا المجال - : أنَّهم في كثير من الأحيان يذكِّرون بالراوي بعض الأحاديث التي تفرَّد بها ؛ فإذا قالوا - مثلًا - في راوٍ ما : لا يثاب على حديثه ، أو قالوا : منكر الحديث ، أو قالوا : له مناكير ، فسيسردون له بعض الأحاديث ، والقارئ حينما يقرأ هذه الأحاديث حقيقةً يُلقى بنفسه أن مثل هذا الرواي لا ينبغي أن يكون ثقة ؛ لأنه كما يعبر عن ذلك أحيانًا الحافظ ابن حبان في كتابه " الضعفاء والمتروكين " يقول : فلان بن فلان يروي المناكير عن المشاهير ، إذًا هو تتبَّع حديث هذا الراوي ولو لم يكن معاصرًا له ، ولو لم يروِ عمَّن عاصره تجريحه فهو يصل إلى تجريحه بطريقة تتبُّعه لأحاديثه ؛ فإما أن تكون مناكير من أصلها وفصلها ، وإما أن يكون في متنها بعض المنكرات التي قد شارك هذا الراوي بعض الثقات في رواية أصل الحديث لكن هو خالفهم بأن ذكر في متن ذاك الحديث زيادةً على الرواة الثقات ؛ فحينئذٍ يحكمون عليه بالضعف ، ويصفونه بأنه له مناكير ، وإن كثرت هذه المناكير وصفوا حديثه بأنه منكر الحديث ، وإذا كانت كثرت روايته للمناكير عن الثقات الأثبات جاء التعبير السابق عن الحافظ ابن حبان : " يروي المنكرات عن الثقات ، أو الموضوعات عن الأثبات " ونحو ذلك ، هذا الأسلوب تجدونه في هذين الكتابين ، ومنه يتأسَّس طالب هذا العلم لمعرفة كيف كان علماء الحديث سابقًا يتمكَّنون من معرفة ثقة الرجل أو ضعفه وهم لا يشاركونه ولا يعاصرونه بالرواية عنهم .
وهذا الموضوع يذكِّرني بشيء يجب ذكره بهذه المناسبة ؛ وهي أن العلماء المستشرقين الغربيِّين لما درسوا علم الحديث وهو علم تفرَّد به المسلمون كما شهد هؤلاء الغرباء عن الإسلام بل الكفار بدين الإسلام قد شهدوا أن الأمة الإسلامية تفرَّدت بعلم الرواية دون عن سائر الأمم ، ولا غرابة في ذلك ؛ فبعض الأئمة المتقدمين وأظنه عبد الله بن المبارك يقول : " الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لم يعرف ما قاله - عليه السلام - مما لم يقله " ، ولذلك امتازت الشريعة الإسلامية بهذا الإسناد الذي مكَّنهم من تمييز الأحاديث الضعيفة من الأحاديث الصحيحة ، بينما الأمم الأخرى وعلى رأسها اليهود والنصارى فهم لا يستطيعون أن يميِّزوا ما صحَّ عن أنبيائهم وبخاصَّة عن كليم الله موسى وعن عيسى - عليه الصلاة والسلام - ؛ ولذلك فدينهم فيه ما هو صحيح ثابت وما هو باطل ظاهر البطلان ، ولسنا بالإفاضة في هذا السبب ، لكننا نقول : إن بعض المستشرقين قد عرفوا هذه الفضيلة التي تميَّزت بها الأمة الاسلامية فدرسوا علم الحديث ، وأتوا باصطلاحين اثنين ، هذين الاصطلاحين تغنّوا بالتعبير باصطلاح أحدثوه سبقَهم علماء الإسلام ، علماء الاسلام يقولون : الحديث يُنتقد من ناحيتين ؛ من ناحية السند ومن ناحية المتن ، ومن أجل ذلك ذكرنا لكم من فوائد كتاب ... " لسان الميزان " و " الميزان " للذهبي أنَّهم يذكرون نماذج من روايات المُترجَم ويأخذون ضعفَه من النظر في متون رواياته ؛ فيقولون فيه : إنه منكر الحديث . فهذا معلوم عند علماء المسلمين ؛ لأن نقد الحديث يكون تارةً من حيث السند ، وتارةً من حيث المتن ، ومن أقسام نقد المتن - وهذه نقطة حساسة يجب على الراغبين في طلب هذا العلم أن يتنبَّهوا له - من أقسام نقد المتن الحديث الشاذ ؛ لأن الحديث الشاذ هو ما رواه الثقة لو تفرَّد بهذا الحديث ولم يُخالف مَن هو أوثق منه لَكان حديثه صحيحًا ، ولكن لمَّا خالف في متنه الثقات قالوا بأن هذا الحديث بشذوذه ما يُحتجُّ به .
فإذًا إذا ذكرنا لكم ما جاء به بعضُ المستشرقين من تعبير جديد بديل التعبير الإسلامي القديم " نقد السند ونقد المتن " ؛ قالوا مقابل نقد السند هم قالوا : " النقد الخارجي " ، ومقابل نقد المتن قالوا : " النقد الداخلي " ، ثم في هذه النقطة بالذات - وهي نقد المتن - أخذوا على علماء الإسلام - زعموا هكذا - أن علماء الاسلام لم يُعنوا بنقد المتن ؛ أي : النقد الخارجي في تعبيرهم كما عُنوا بنقد الإسناد ؛ أي ، - عفوًا - يقول الأوربيون هؤلاء المستشرقون : إن علماء الاسلام لم يُعنوا بنقد المتن الذي يسمُّونه هم بالنقد الداخلي كما عُنوا بنقد الإسناد الذي يسمُّونه هم بالنقد الخارجي ، وهذا له وجهة نظر لهم فيه وجهة نظر ؛ لكن هو الحق لا شك ولا ريب فيه ، وذلك لأن الأوروبيين لما كانوا لا يؤمنون بالله بكتاب الله ولا بحديث رسول الله ؛ لأنهم إن مدحوه فغاية قولهم فيه : إنه رجل عبقري ، واستطاع أن يجمع العرب حوله و إلى آخره ، لكن لا يؤمنون بأنه كان يوحى إليه من السماء ، وأن الله - عز وجل - يوحي إليه بأقوال وأحاديث سواء ما كان بالسنة أو ما كان في القرآن ؛ فيوجد في السنة كما يوجد في القرآن أمور تتعلَّق بعلم الغيب ، وهذه من شرط الإيمان الأول هو كما قال - تعالى - : (( ألم * ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب )) ، وأول شرط للمؤمن لكل مؤمن أن يكون مؤمنًا بالغيب ، فمن البداهة بمكان أنَّ هؤلاء الكفار لا يُؤمنون بشيء اسمه الغيب ، ولذلك فهم يضعون ليس الأحاديث النبوية فقط ، بل يضعون القرآن - وهو متواتر وروده إلى المسلمين - تحت النقد الداخلي كما يزعمون ، فيأخذون منه ما شاؤوا ، ويدعون منه ما شاؤوا ، وقياسًا على فعلتهم هذه التي لم تَقُمْ على الايمان بكتاب الله وأنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكذلك لم يُؤمنوا بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فتوسَّعوا بالنقد الداخلي واتَّهموا علماء المسلمين بأنهم لم يُعنوا بالنقد الداخلي .
والجواب : أن علم الجرح والتعديل قد قام على النقد الداخلي ، قد قام على نقد المتن ، ولذلك ضُعِّفَ الرواة إما بالنكارة وإما بالشذوذ ، أما عدم توسُّع علماء المسلمين في النقد الداخلي فذلك لأنهم يؤمنون بالغيب ، وليس إيمانهم به - عليه الصلاة والسلام - كإيمانهم به على أنه رجل عبقري ، فيمكن أن يُخطئ وأن يُصيب ، وأن يقول من باب السياسة وليس من باب الحقيقة ؛ ولذلك يعلِّلون أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما جمع العرب حول القرآن وحول السنة كان - وكذبوا فيما قالوا - كان يكذب على الناس إنه يوحى إليه من السماء ليتمكَّن من جلبهم من جلب قولهم وجَمْعِهم حوله ، وقد تمكَّن من ذلك ؛ لكن هذا هو الفرق بين المؤمن وبين الكافر ، المؤمن يشهد بأن محمدًا رسول الله بخلاف المنافقين والكافرين .
فإذًا أردت هذه الكلمة أن تعرفوا أنكم إذا قرأتم في بعض البحوث الحديثة اليوم أن بعض المستشرقين يُنكرون على المحدِّثين أنهم لم يُعنَوا بنقد المتن فهذا كذب ، بل هم الذين أسَّسوا نقد المتن وأقاموا على أساس هذا النقد جرح كثير من الرواة ؛ لأنه تبيَّن لهم أنهم قد أخطؤوا في روايتهم في بعض أحاديثه .
وفي نهاية أو ختام هذا الجواب : أذكر أن الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - سُئل في رسالته " المنار " الرسالة اللطيفة التي جمعت قواعد عامَّة في الأحاديث التي لا تصحُّ ؛ ذكر فصلًا خاصًّا أورَدَه على نفسه فقال : فإن قيل : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع دون الرجوع إلى إسناد الحديث ؟ فأجاب : نعم ، يمكن ذلك لِمَن درس السنة دراسةً جرت السنة في عروقه مجرى الدم فيها ، وصار عنده ذوق خاص بمعرفته بحلاوة وطلاوة لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وحديثه ؛ هذا يمكنه أن يحكم على الحديث بأنه يتبرَّأ منه الرسول - عليه السلام - ولم يقله دون أن يرجع إلى الإسناد .
والحقيقة أن الناس في هذا المجال يختلفون ؛ فمنهم من يكثر في الإطالة ، ومنهم المقل ، ومنهم المخطئ بسبب قربهم من سنة الرسول - عليه السلام - أو ... فيها أو بعدهم عنها ، هذا آخر هذه الوصيَّة .
الشيخ : إن أحسن كتاب ينبغي أن يبتدئ بمطالعته ودراسته في كتب الرجال إنما هو كتاب الحافظ الذهبي المذكور آنفًا ؛ ألا وهو " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " ، ثم الكتاب الآخر الذي ألحَقَه الحافظ بن حجر العسقلاني الذي سمَّاه بـ " لسان الميزان " ؛ ذلك لأنَّ هذين الكتابين يدرِّبان طالب العلم وينبِّهانه على طريقة العلماء علماء الجرح والتعديل كيف كانوا ينقضون الراوي ولم يعاصروه ولم يعرفوه عن كثبٍ وعن قربٍ ؛ فمع ذلك فهم إما أن يوثِّقوه وإما أن يضعِّفوه ، فكيف وصلوا إلى معرفة حاله توثيقًا أو تجريحًا ولم يعاصروه ؟ يجد المطَّلع على هذين الكتابين بخاصة أسلوبهم في الوصول إلى ذلك ، الطريق الأولى التي كان يطرقها مثل الحافظ بن حجر والحافظ الذهبي لمعرفة بعض الرواة الذين لم يكونوا معاصرين للذين ينتقدوهم أنهم يتتبَّعون أقوال المعاصرين لهم ؛ فإن وثَّقوهم فهو ثقة ، وإلا فهو غير ثقة ؛ أي : إنهم يعرفون ثقة الرجال بالطريق الأولى وهي الرواية ، كما نعرف نحن اليوم ما قاله الرسول - عليه السلام - وما فعله من السنة ، كذلك هم عرفوا أحوال الرواة بالسند كما يعرفون أحوال الصحابة والتابعين ، كذلك عرفوا أحوال الرواة الموثوقين والمجروحين ، هذه طريقة من طريقين يلمسهما الدارس لهذين الكتابين .
والطريق الأخرى - وهي الأهم في هذا الموضوع أو في هذا المجال - : أنَّهم في كثير من الأحيان يذكِّرون بالراوي بعض الأحاديث التي تفرَّد بها ؛ فإذا قالوا - مثلًا - في راوٍ ما : لا يثاب على حديثه ، أو قالوا : منكر الحديث ، أو قالوا : له مناكير ، فسيسردون له بعض الأحاديث ، والقارئ حينما يقرأ هذه الأحاديث حقيقةً يُلقى بنفسه أن مثل هذا الرواي لا ينبغي أن يكون ثقة ؛ لأنه كما يعبر عن ذلك أحيانًا الحافظ ابن حبان في كتابه " الضعفاء والمتروكين " يقول : فلان بن فلان يروي المناكير عن المشاهير ، إذًا هو تتبَّع حديث هذا الراوي ولو لم يكن معاصرًا له ، ولو لم يروِ عمَّن عاصره تجريحه فهو يصل إلى تجريحه بطريقة تتبُّعه لأحاديثه ؛ فإما أن تكون مناكير من أصلها وفصلها ، وإما أن يكون في متنها بعض المنكرات التي قد شارك هذا الراوي بعض الثقات في رواية أصل الحديث لكن هو خالفهم بأن ذكر في متن ذاك الحديث زيادةً على الرواة الثقات ؛ فحينئذٍ يحكمون عليه بالضعف ، ويصفونه بأنه له مناكير ، وإن كثرت هذه المناكير وصفوا حديثه بأنه منكر الحديث ، وإذا كانت كثرت روايته للمناكير عن الثقات الأثبات جاء التعبير السابق عن الحافظ ابن حبان : " يروي المنكرات عن الثقات ، أو الموضوعات عن الأثبات " ونحو ذلك ، هذا الأسلوب تجدونه في هذين الكتابين ، ومنه يتأسَّس طالب هذا العلم لمعرفة كيف كان علماء الحديث سابقًا يتمكَّنون من معرفة ثقة الرجل أو ضعفه وهم لا يشاركونه ولا يعاصرونه بالرواية عنهم .
وهذا الموضوع يذكِّرني بشيء يجب ذكره بهذه المناسبة ؛ وهي أن العلماء المستشرقين الغربيِّين لما درسوا علم الحديث وهو علم تفرَّد به المسلمون كما شهد هؤلاء الغرباء عن الإسلام بل الكفار بدين الإسلام قد شهدوا أن الأمة الإسلامية تفرَّدت بعلم الرواية دون عن سائر الأمم ، ولا غرابة في ذلك ؛ فبعض الأئمة المتقدمين وأظنه عبد الله بن المبارك يقول : " الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لم يعرف ما قاله - عليه السلام - مما لم يقله " ، ولذلك امتازت الشريعة الإسلامية بهذا الإسناد الذي مكَّنهم من تمييز الأحاديث الضعيفة من الأحاديث الصحيحة ، بينما الأمم الأخرى وعلى رأسها اليهود والنصارى فهم لا يستطيعون أن يميِّزوا ما صحَّ عن أنبيائهم وبخاصَّة عن كليم الله موسى وعن عيسى - عليه الصلاة والسلام - ؛ ولذلك فدينهم فيه ما هو صحيح ثابت وما هو باطل ظاهر البطلان ، ولسنا بالإفاضة في هذا السبب ، لكننا نقول : إن بعض المستشرقين قد عرفوا هذه الفضيلة التي تميَّزت بها الأمة الاسلامية فدرسوا علم الحديث ، وأتوا باصطلاحين اثنين ، هذين الاصطلاحين تغنّوا بالتعبير باصطلاح أحدثوه سبقَهم علماء الإسلام ، علماء الاسلام يقولون : الحديث يُنتقد من ناحيتين ؛ من ناحية السند ومن ناحية المتن ، ومن أجل ذلك ذكرنا لكم من فوائد كتاب ... " لسان الميزان " و " الميزان " للذهبي أنَّهم يذكرون نماذج من روايات المُترجَم ويأخذون ضعفَه من النظر في متون رواياته ؛ فيقولون فيه : إنه منكر الحديث . فهذا معلوم عند علماء المسلمين ؛ لأن نقد الحديث يكون تارةً من حيث السند ، وتارةً من حيث المتن ، ومن أقسام نقد المتن - وهذه نقطة حساسة يجب على الراغبين في طلب هذا العلم أن يتنبَّهوا له - من أقسام نقد المتن الحديث الشاذ ؛ لأن الحديث الشاذ هو ما رواه الثقة لو تفرَّد بهذا الحديث ولم يُخالف مَن هو أوثق منه لَكان حديثه صحيحًا ، ولكن لمَّا خالف في متنه الثقات قالوا بأن هذا الحديث بشذوذه ما يُحتجُّ به .
فإذًا إذا ذكرنا لكم ما جاء به بعضُ المستشرقين من تعبير جديد بديل التعبير الإسلامي القديم " نقد السند ونقد المتن " ؛ قالوا مقابل نقد السند هم قالوا : " النقد الخارجي " ، ومقابل نقد المتن قالوا : " النقد الداخلي " ، ثم في هذه النقطة بالذات - وهي نقد المتن - أخذوا على علماء الإسلام - زعموا هكذا - أن علماء الاسلام لم يُعنوا بنقد المتن ؛ أي : النقد الخارجي في تعبيرهم كما عُنوا بنقد الإسناد ؛ أي ، - عفوًا - يقول الأوربيون هؤلاء المستشرقون : إن علماء الاسلام لم يُعنوا بنقد المتن الذي يسمُّونه هم بالنقد الداخلي كما عُنوا بنقد الإسناد الذي يسمُّونه هم بالنقد الخارجي ، وهذا له وجهة نظر لهم فيه وجهة نظر ؛ لكن هو الحق لا شك ولا ريب فيه ، وذلك لأن الأوروبيين لما كانوا لا يؤمنون بالله بكتاب الله ولا بحديث رسول الله ؛ لأنهم إن مدحوه فغاية قولهم فيه : إنه رجل عبقري ، واستطاع أن يجمع العرب حوله و إلى آخره ، لكن لا يؤمنون بأنه كان يوحى إليه من السماء ، وأن الله - عز وجل - يوحي إليه بأقوال وأحاديث سواء ما كان بالسنة أو ما كان في القرآن ؛ فيوجد في السنة كما يوجد في القرآن أمور تتعلَّق بعلم الغيب ، وهذه من شرط الإيمان الأول هو كما قال - تعالى - : (( ألم * ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب )) ، وأول شرط للمؤمن لكل مؤمن أن يكون مؤمنًا بالغيب ، فمن البداهة بمكان أنَّ هؤلاء الكفار لا يُؤمنون بشيء اسمه الغيب ، ولذلك فهم يضعون ليس الأحاديث النبوية فقط ، بل يضعون القرآن - وهو متواتر وروده إلى المسلمين - تحت النقد الداخلي كما يزعمون ، فيأخذون منه ما شاؤوا ، ويدعون منه ما شاؤوا ، وقياسًا على فعلتهم هذه التي لم تَقُمْ على الايمان بكتاب الله وأنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكذلك لم يُؤمنوا بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فتوسَّعوا بالنقد الداخلي واتَّهموا علماء المسلمين بأنهم لم يُعنوا بالنقد الداخلي .
والجواب : أن علم الجرح والتعديل قد قام على النقد الداخلي ، قد قام على نقد المتن ، ولذلك ضُعِّفَ الرواة إما بالنكارة وإما بالشذوذ ، أما عدم توسُّع علماء المسلمين في النقد الداخلي فذلك لأنهم يؤمنون بالغيب ، وليس إيمانهم به - عليه الصلاة والسلام - كإيمانهم به على أنه رجل عبقري ، فيمكن أن يُخطئ وأن يُصيب ، وأن يقول من باب السياسة وليس من باب الحقيقة ؛ ولذلك يعلِّلون أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما جمع العرب حول القرآن وحول السنة كان - وكذبوا فيما قالوا - كان يكذب على الناس إنه يوحى إليه من السماء ليتمكَّن من جلبهم من جلب قولهم وجَمْعِهم حوله ، وقد تمكَّن من ذلك ؛ لكن هذا هو الفرق بين المؤمن وبين الكافر ، المؤمن يشهد بأن محمدًا رسول الله بخلاف المنافقين والكافرين .
فإذًا أردت هذه الكلمة أن تعرفوا أنكم إذا قرأتم في بعض البحوث الحديثة اليوم أن بعض المستشرقين يُنكرون على المحدِّثين أنهم لم يُعنَوا بنقد المتن فهذا كذب ، بل هم الذين أسَّسوا نقد المتن وأقاموا على أساس هذا النقد جرح كثير من الرواة ؛ لأنه تبيَّن لهم أنهم قد أخطؤوا في روايتهم في بعض أحاديثه .
وفي نهاية أو ختام هذا الجواب : أذكر أن الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - سُئل في رسالته " المنار " الرسالة اللطيفة التي جمعت قواعد عامَّة في الأحاديث التي لا تصحُّ ؛ ذكر فصلًا خاصًّا أورَدَه على نفسه فقال : فإن قيل : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع دون الرجوع إلى إسناد الحديث ؟ فأجاب : نعم ، يمكن ذلك لِمَن درس السنة دراسةً جرت السنة في عروقه مجرى الدم فيها ، وصار عنده ذوق خاص بمعرفته بحلاوة وطلاوة لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وحديثه ؛ هذا يمكنه أن يحكم على الحديث بأنه يتبرَّأ منه الرسول - عليه السلام - ولم يقله دون أن يرجع إلى الإسناد .
والحقيقة أن الناس في هذا المجال يختلفون ؛ فمنهم من يكثر في الإطالة ، ومنهم المقل ، ومنهم المخطئ بسبب قربهم من سنة الرسول - عليه السلام - أو ... فيها أو بعدهم عنها ، هذا آخر هذه الوصيَّة .
- رحلة النور - شريط : 14
- توقيت الفهرسة : 00:25:38
- نسخة مدققة إملائيًّا