حكم القيام للداخل إلى المجلس .
A-
A=
A+
الشيخ : ... كان لزامًا حين ذاك أن نعودَ إلى معرفة ما كان عليه الرسول - عليه السلام - من أمور دينه لنقتدي به ، ونحقِّق - أيضًا - قول ربنا - عز وجل - فيه : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر )) .
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعيش في مجتمع يُشبه مجتمعنا هذا ، وبخاصة قبل بعثته - عليه السلام - ؛ لأنه كان مجتمعًا جاهليًا ، لا شريعة ولا أخلاق إلا ما توارثوه من ... قليلة من آبائهم الذين تلقَّوا بعضَ ما كان عليه إبراهيم - عليه السلام - وابنه إسماعيل - عليه السلام - ، فمن عادات الجاهلية كما هي عاداتنا اليوم ؛ كان يقوم بعضهم لبعض إذا ما دخل الداخل إلى المجلس ، لكن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي قال من جهة : ( إنما بُعثت لِأتُمِّمَ مكارم الأخلاق ) ، وخاطبه ربُّ العالمين بقوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، فقد كان كاملًا مكمِّلًا في هذا الجانب المتعلق بالأخلاق ، لهذا وصفه أحد أصحابه المُلازمين له والذين كانوا قد نذروا نفوسهم لخدمته - عليه الصلاة والسلام - ؛ أعني بذلك أنس بن مالك ؛ حيث خدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عشر سنين ، وقد جاءت به أمه إليه وهو صغير ، وترعرع وشبَّ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي خدمته ، هذا الصحابي الجليل الذي عاش أكثر أصحاب النبي عمرًا مديدًا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد دعا له بطول العمر وكثرة المال والبركة فيه ، ولذلك فقد كانت بعض حدائقه تُثمر في السنة مرتين ، هذا في المدينة كان معروفًا لذلك هو وحده ، وكان له من الأولاد من صلبه وصلب أبنائه أكثر من 100 ولد في قيد حياته ، حتى كان يقول بأن ابنتي فلانة أخبرتني بأنه يوجد لديَّ الآن أكثر من 100 ولد ، يقول عن ابنته هي التي أخبرته ؛ لأنه يصعب عليه أن يقوم بالإحصاء ، فما شاء الله ! وعاش وتُوفي من أكثر الصحابة عمرًا مباركًا ، هذا كان يقول - رضي الله عنه - : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكانوا لا يقومون له ؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك " .
هكذا كانت سنَّته - عليه الصلاة والسلام - مع أصحابه الكرام ، لا يقومون له لِمَ ؟ ليس لأنَّ ذلك كان أصحابه لا يرغبون فيه ، بل كانوا يحبُّون أن يعظِّموه بكل وسيلة ، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه لا يخرجون عن إرضائه - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنها هي الغاية عندهم ؛ لسبب أنها توصلهم إلى مرضاة الله - تبارك وتعالى - كما قال - عز وجل - : (( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله )) ؛ فقد ذكر أنس - رضي الله عنه - في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكره هذا القيام ، ما هو السبب ؟ له علاقة بالعبادة ؛ ذلك لأن القيام لشخص ما إكرامًا وتعظيمًا وتبجيلًا فيه مضاهاة للمسلم الذي يقوم يصلي لله - عز وجل - قيامًا خاشعًا واضعًا الله على ... فضله ، فلا ينبغي للمسلم أن يعظِّم عبدًا من عباد الله بمثل هذه الشعيرة التي تدلُّ على تعظيم الله - عز وجل - من عبده إذا قام بين يديه يصلِّي .
يشير إلى هذا المعنى غيرُ هذا الحديث مما له علاقة بالصلاة ، وقد جاء في " صحيح مسلم " : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان راكبًا ذات يومٍ على دابَّته ، فـ ... به ورَمَتْه أرضًا ، فأُصيب في عضده ، فلم يستطع الصلاة قائمًا لما حضرت صلاة الظهر ، فصلى جالسًا ، ورأى النبي - عليه السلام - أنَّ من خلفه يصلون قيامًا - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، عليكم السلام - ، ورؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن خلفه في الصلاة هذه كانت خصوصية ومعجزة له - عليه الصلاة والسلام - ؛ حيث كان يرى في الصلاة فقط خلفه كما يرى أمامه ؛ ولذلك جاء في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال يومًا لأصحابه : ( لا تسبقوني بالركوع والسجود ؛ فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ) ، فرآهم يصلون قيامًا وهو جالس ، فأشار إليهم بيده هكذا ؛ أي : اجلسوا ، فجلسوا ، ولما أتمَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة قال لهم : ( كدتم آنفًا أن تفعلوا فعل فارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ؛ إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤتمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين ) .
ففي هذا الحديث لفتة نظر عظيمة جدًّا ؛ ألا وهي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر الأصحَّاء الذين لا يستطيعون أن يصلوا خلفه قيامًا وهو جالس ؛ أمرهم بأن يشاركوه في الجلوس ، وهذا يعني أنه أسقط عنهم ركنًا من أركان الصلاة ؛ ألا وهو القيام ، حيث قال رب الأنام : (( وقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين متعبِّدين ، أسقط هذا الركن لشيء واحد ؛ وهو ألَّا تظهر صورة وثنية ولو كانت النية صالحة وطيِّبة ، إنما أراد أن يُصلح الظاهر ؛ لأن الظاهر عنوان الباطن ، أراد ألَّا تظهر مشابهة بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الجالس مضطرًّا وليس متكبِّرًا كما يجلس كسرى ملك فارس ... ، والصحابة القائمين خلفه ما قاموا تعظيمًا له ، وإنما قاموا تعظيمًا لله رب العالمين ؛ مع هذا الفارق الكبير في النوايا أمرهم بأن يجلسوا لكي لا تظهرَ صورة مثل صورة ملوك فارس مع عظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ، ... بالجلوس ، فإذا عرفنا هذه الحقيقة أسقط القيام المفروض على كلِّ مصلي من أجل دفع الصورة هذه لأنها هي صورة المشركين أهل فارس ؛ فماذا يكون الحال إذا ما قام المسلمون ليس لله ، وإنما قاموا لغير الله - عز وجل - قيامًا ؛ فلا جرم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كره من أصحابه هذا القيام عندما يدخل إلى المجلس ، وهم يحبُّون أن يظهروا له حبَّهم إياه وتعظيمهم إياه فنهاهم عن ذلك ، وكره لهم ذلك ، ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - خلاف ما هو معروف اليوم ، ليس فقط عند الرؤساء والأمراء ونحو ذلك ؛ بل عند كثير من أهل العلم والمشايخ فيه إذا دخلوا مجلسًا فلا بد أن يقوم له الناس ، وأن يبجِّلوه ويعظِّموه بهذا القيام ، فجاء الترهيب الشديد لمن يحب هذا القيام بعد أن عرفنا عدمَ شرعيَّته ؛ ذلك هو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، لقد جعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حبَّ الداخل إلى المجلس القيام من الجالسين فيه كبيرةً من الكبائر تُشبه كبيرة الافتراء على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والتقوُّل عليه في أحاديثه ؛ كما جاء في الحديث الصحيح المتواتر : ( من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، كذلك قال للداخل إلى المجلس يحبُّ أن يقوم الناس له تعظيمًا : ( فليتبوأ مقعده من النار ) .
وحتمًا لداء حبِّ التعاظم والتعالي والتكبر على المسلمين من مثل هذه الظاهرة نجد أن راوي هذا الحديث الأخير وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - دخل ذات يوم مجلس حكمِه ، وكان فيه رجلان من العبادلة ؛ أحدهما عبد الله بن الزبير المعروف المشهور ، والآخر عبد الله بن عامر ، فقام هذا الثاني ولم يقُمْ الأول ، فنهاه معاوية - وهذا من ورعه وتقواه - ؛ نهى ابن عامر اللي قام له واحتجَّ عليه بهذا الحديث ؛ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، قد لا يبدو استدلال معاوية لهذا الحديث على مَن قام له واضحًا جليًّا ؛ لأنه يتعلق بالمحبِّ ، ومعاوية لا يحبُّه ؛ ولذلك نهاه ؛ فإذًا لماذا ذكره ؟ فيه فقهٌ دقيقٌ ؛ كأنه يقول له : أنت يا عبد الله بن عامر إذا قمت لي كلما دخلتُ فربَّما يزيِّن لي الشيطان أن أحِبَّ منك ومن غيرك هذا القيام ، فإذا ما أنا وقعت في هذا الحبِّ أصابَني وعيدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فليتبوَّأ مقعده من النار ) ؛ فمَن كان السبب ؟ أنت تكون السبب ، وغيرك ممَّن يساعدون المتعاونين على حبِّ لهذا القيام لِمُطاوعتهم له بالقيام .
والمتشدِّد في الشيء حكم الفاعل له ، أما أن ننظر إلى عادات الناس وتقاليدهم ومع ذلك أن ندع القديم على قدمه ونغضُّ النظر عن إحياء السنة وإماتة البدعة ، وهذا لا يُجيزه الإسلام ، ولكن علينا نحن أن نبيِّن حكم القيام للداخل وحكم القيام إلى الداخل ، وهذه نقطة كثير من أهل العلم فضلًا عن غيرهم لا يفرِّقون لا لغةً ولا شرعًا بين " قام فلان لفلان " ، و " قام فلان إلى فلان " ، ولذلك كنت أريد أن أقول : لكن أنتَ استعجلت ، ولعل في العجلة خير هنا ، كنت أريد أن أتفلسفَ في حديثي كما سمعتم ؛ يعني قسم منه مما سبق لأتوصَّل إلى بيان أن هناك نوعًا من القيام لا يشمَلُه حديثنا هذا ، لكن هذا النوع قد جرَّبته في نفسي أن أتحدث به قي نهاية المطاف بعد أن أنتهي من بيان هذا القيام المنهيِّ عنه في بعض الأحاديث التي ذكرناها آنفًا ، وأردت أن أصل في النهاية إلى حكم هذا القيام عند العلماء ، وبعد ذلك نبيِّن قيامًا من نوع آخر قد يكون هو المخرج لبعض الأحوال التي يتعامل فيها الناس اليوم ، فتبيَّن مما سبق أن القيام للداخل هو مفسدة له وفتنة له ، من أجل ذلك قال معاوية لمن قام له : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من أحبَّ أن يتمثَّل الناس له قيامًا فليتبوأ مقعده من النار ) ، يقول له : لا تقم لي ؛ لأن قيامك يكون فتنة لي ، أتشوَّف فيما بعد وأحبُّ هذا القيام من الناس إذا ما اعتادوا القيام لي ، أما إذا سدُّوا هذا الباب وهو من باب سد الذريعة أن لا يقومَ أحد لأحد تبقى العادة كما هي موجودة في بعض البلاد العربية ؛ يدخل الداخل ، أهلًا وسهلًا ، صاحب الدار يستقبله ، ويحسن استقباله ، ويُجلسه في المكان الذي يُناسبه دون أن يقوم أحد من الضيوف الجالسين في الغرفة أو في الدار .
قلت بأن العلماء اختلفوا في هذا القيام ؛ فمن قائل بأنه مكروه وهذا لا شك فيه ؛ لأنه خلاف السنة كما علمتم ، ولأنه مدعاة لتعويد الناس على أن يقعوا في تلك الكبيرة التي هدَّد عليها الرسول بقوله : ( فليتبوأ مقعده من النار ) ، ومن قائل بأنه حرام وليس فقط مكروه ، ومن هؤلاء أحد كبار علماء الحنابلة ؛ ألا وهو أبو عبد الله بن بطة ، لقد كان هذا العالم الفاضل يتشدَّد جدًّا في هذا القيام ، ويصرِّح بأنه حرام ، وقد ذكروا في ترجمته أنه خرج ذات يوم يمشي مع صاحبه له شاعر ، فدخلوا السوق ، فمرُّوا برجل عالم فاضل جالس في دكانه في محلِّه ، فقام لابن بطة ، قام له وهو يعلم أن ابن بطة يكره هذا القيام أشدَّ الكراهة - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وعليكم السلام ... - فقال ذلك العالم الذي قام لابن بطة معتذرًا له ببيتين من الشعر ، ماذا قال ؟
لا تلُمْني على القيام فحقِّي *** حين تبدو أن لا أملَّ القياما
أنت من أكرم البريَّة عندي *** ومن الحقِّ أن أجلَّ الكراما
هذا بلا شك كلام مقبول عند الناس ، لكنه مرفوض عند هذا الفقيه ابن بطة ؛ ولذلك قال لصاحبه الذي معه وهو شاعر مطبق ، قال : أجِبْه عنِّي وهو تلميذه ، فقال لذلك العالم الذي قام لابن بطة :
أنت إن كنت لا عدمتك ترعى *** لي حقًّا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدُّم والعلم *** ولسنا نريد منك احتشاما
فاعفني الآن من قيامك هذا *** أولًا فسأجزيك بالقيام القياما
وأنا كاره لذلك جدًّا *** إن فيه تملُّقًا وأثاما
لا تكلِّفْ أخاك أن يتبقَّاك *** بما يستحلُّ به الحراما
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعبَ الأجساما
كلنا واثقٌ بودِّ أخيه *** فَفِيمَ انزعاجنا وعلاما
الحقيقة أن القسم الأخير من البيت هو بيت القصيد كما يقال في هذه المسألة ؛ أن نربِّي أنفسنا على أن نصلح قلوبنا ، وأن تكون ظواهرنا مطابقةً لقلوبنا ، والأمر في هذا القيام ليس كذلك ، لهذا قال هذا الرجل :
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثقٌ بودِّ أخيه *** فَفِيمَ انزعاجنا وعلاما
لقد حدثني أحد أصدقائي في دمشق الشام منذ نحو أربعين سنة ، قال : حضرنا حفلًا وما كدنا نجلس على الكراسي إلا خرج إشاعة كبيرة الآن يدخل من باب المكان الحفل الضخم فلان الأمير ، توجَّهت الأنظار إلى المدخل ... ، فقمنا ، جلس الأمير جلسنا ، قال : ما كِدْنا أن نجلس إلا سرت إشاعة ثانية ؛ الآن يدخل الباشا الفلاني ، فعلًا دخل الباشا ، فقمنا ، ثمَّ جلستُ ، وهكذا ، قال : شعرت كأن تحتي بيقولوا عندنا في سوريا : " زمبرك " ، يعني نابض ، معروف هذا ؟ أو راصور أو ما أدري إيش اسمه عندكم ؟
سائل آخر : زمبرك .
الشيخ : " زمبرك " ، كويس ، قال : فشعرت كأن تحتي زمبرك يخفضني يرفعني ... هكذا ، أخيرًا قلت في نفسي : إلى متى ؟ والله ما في أريح من أن أتَّبع السنة ، والله ماني قائم مهما دخل الداخل ... فعلًا هذا البيت من الشعر :
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعب الأجساما
وهذا مُلاحظ في كثير من الاجتماعات إذا كان يحضر فيه كبار القوم ... بالناس هكذا قائمون قاعدون ، هذا من الإسلام ؟ هذا ليس من الإسلام في شيء ، بهذا الجزء من الحديث ينتهى كلامي حول القيام للداخل إكرامًا .
هناك قيام من نوع آخر ، لكنَّه خاص بصاحب الدار وربِّ الدار ، دخل داخل أو طرق طارق الباب فقال القادم أو الولد : يا أبت فلان ، يقوم ويستقبله ويرحِّب به ويُجلسه في المكان المناسب له كما قلنا آنفًا ، لكن هؤلاء ضيوف ليس لهم علاقة بهذا الداخل ، فلا يقومون له ، وإنما عليهم أدب خاص ألا وهو قول - تبارك وتعالى - : (( ذا قيل لكم افسحوا بالمجالس فافسحوا يفسح الله لكم )) ؛ يعني كما قلت أنت في الصباح أنُّو كانت المجالس ليس فيها هذه الكراسي والكنبايات إلى آخره ، و ... عالأرض ، وقد يكون هناك شيء من الوسائد ، فقد يكون المجلس ممتلئًا فيتفسَّح الناس لإجلاس ضيفهم ، أما أن يقوموا ... قيامًا فهذا ما سبق الكلام به ، وأنه لا يُشرع ، أما القيام إليه وهذا من سنَّة رب الدار استقبال الضيف ، من هنا ينبغي أن نفرِّق بين القيام للداخل فلا يُشرع ، وبين القيام إلى الداخل فيُشرع ، وهنا نأتي لحديثين يبيِّنان هذا القيام الثاني وليس الأول :
الحديث الأول : ما رواه الامام البخاري في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قضى على بني قريظة ونصره الله عليهم وصاروا أسرى له ؛ أسلموا له بشرط أن يكون الحَكَم هو سعد بن معاذ أمير الأنصار ، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فجاء سعد بن معاذ إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو على دابَّة له ، وكان مُصابًا في أكحله في عرقٍ في العضد ؛ أي : كان مريضًا ، فقال لأصحابه من الأنصار : ( قوموا إلى سيِّدكم ) ، بعض الناس حتى من الذين كتبوا في هذه المسألة تحرَّف الحديث عليهم فكتبوه وروَوْه بلفظ : قوموا لسيِّدكم !! وشتان بين ما نطق به الرسول وبين ما انحرف عليه من حديث ، لفظ الرسول : ( قوموا إلى سيِّدكم ) ، هم تحرَّف عليهم : قوموا لسيِّدكم ، والفرق إذا عرفنا البحث السابق قوموا معناه قوموا لسيدكم ، لو كان هذا هو لفظ الرسول ؛ أي : قوموا له تبجيلًا واحترامًا ؛ لأنه رئيسكم وأميركم يا معشر الأنصار ، لكن الحديث لفظه : ( قوموا إلى سيدكم ) ؛ فلماذا قال : ( قوموا إلى سيدكم ) ؟ أي : ساعدوه لينزل من دابته ؛ لأنه مريض ، وقد جاء هذا اللفظ من حديث السيدة عائشة - رضي الله عنها - في " مسند الإمام أحمد " بلفظ : ( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ) ؛ لذلك لا يجوز أن يُفهم الحديث بمعنى قوموا له إكرامًا ، وإنما لفظ الحديث : قوموا إليه فساعدوه على النزول من دابته ؛ ليسمع منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يحكم على اليهود الذين رضوا بحكم سعد بن معاذ ؛ إذًا هذا الحديث ليس له علاقة بالقيام الأول الذي هو بالإكرام والتعظيم كما يفعله الناس ، بل هو من باب المساعدة لنزول هذا الأمير - أمير الأنصار - سعد بن معاذ ، هذا الحديث الأول .
والحديث الآخر : هو - أيضًا - من رواية السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : ( ما رأيت أحدًا أشبه دلًّا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشبهًا به من ابنته فاطمة - رضي الله تعالى عنها - ) ، لقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه ، وكانت بدورها إذا دخل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها قامت إليه وقبَّلته وأجلسته في مجلسها ، وأنتم ترون - أيضًا - هنا في قيام ، لكن ليس قيام ... وإنما قيام إلى الداخل ، وهي ابنته وهو أبوها ، يقبِّل أحدهما الآخر ، ثم يكرمه بإجلاسه في المجلس اللَّائق به ، هذا النوع من القيام للاستقبال هو الجائز ، أما النوع الأول فهو غير جائز ، فيجب أن نفرِّق بين القيامين .
السائل : ... هذا النوع من القيام لو تخلوا عنه .
الشيخ : ما بهمُّو ، ... تحقيق السنة .
السائل : هل عليه ذنب ، ... نبغى الإجابة ؟
الشيخ : أنت - بارك الله فيك - يجب أن تأخذ المسائل بالراحة بهدوء ليس بالحماس ، نحن لقد أوضحنا المسالة ، الآن إذا دخل الداخل أنت ربُّ الدار ، أنت تقوم إليه تستقبله ، أما الآخرون فلا علاقة لهم به ، لقد أوضحنا المسألة ، أما أنت بتحكي عن عاداتكم ، يجب تسيير هذه العادات بحيث أنها تتوافق مع السنة ولا تتخالف معها ، صاحب الدار هو الذي يقوم إلى الضيف ، أما مَن عن يمينك ويسارك ومن كان في المجلس فليس لهم هذا ... ولا يقومون .
السائل : ... .
الشيخ : نحن منقول ايش ؟
السائل : هذا شيء آخر ... ، هل أنا عليَّ أن أقوم ؟ ... التعظيم غير .
الشيخ : ولَّا ، إذا ما كان تعظيم ، لِمَ ؟
السائل : ... .
الشيخ : أقول لِمَ إذا ؟
السائل : نعم .
الشيخ : لم يقوم ؟
السائل : ... يسلم عليك وتسلم عليه ... .
الشيخ : يسلم على من ؟
السائل : ... .
الشيخ : على الجالسين ؟
السائل : على جميع من هناك ... .
الشيخ : ... دخل الداخل .
السائل : يقومون له .
الشيخ : ها ، لازم .
السائل : ... .
الشيخ : سبحان الله ! والحاصل كمان عبادة القبور وتبرج النساء و وإلى آخره ، أليس حاصلًا ؟
السائل : هل هذا القيام عليه لوم ؟
الشيخ : عليه .
السائل : ... .
الشيخ : نحن ذكرنا - بارك الله فيك - منهم من يقول : مكروه ، ومنهم من يقول : حرام ، إيش بعد هذا من البيان ؟
السائل : ... .
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعيش في مجتمع يُشبه مجتمعنا هذا ، وبخاصة قبل بعثته - عليه السلام - ؛ لأنه كان مجتمعًا جاهليًا ، لا شريعة ولا أخلاق إلا ما توارثوه من ... قليلة من آبائهم الذين تلقَّوا بعضَ ما كان عليه إبراهيم - عليه السلام - وابنه إسماعيل - عليه السلام - ، فمن عادات الجاهلية كما هي عاداتنا اليوم ؛ كان يقوم بعضهم لبعض إذا ما دخل الداخل إلى المجلس ، لكن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي قال من جهة : ( إنما بُعثت لِأتُمِّمَ مكارم الأخلاق ) ، وخاطبه ربُّ العالمين بقوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، فقد كان كاملًا مكمِّلًا في هذا الجانب المتعلق بالأخلاق ، لهذا وصفه أحد أصحابه المُلازمين له والذين كانوا قد نذروا نفوسهم لخدمته - عليه الصلاة والسلام - ؛ أعني بذلك أنس بن مالك ؛ حيث خدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عشر سنين ، وقد جاءت به أمه إليه وهو صغير ، وترعرع وشبَّ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي خدمته ، هذا الصحابي الجليل الذي عاش أكثر أصحاب النبي عمرًا مديدًا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد دعا له بطول العمر وكثرة المال والبركة فيه ، ولذلك فقد كانت بعض حدائقه تُثمر في السنة مرتين ، هذا في المدينة كان معروفًا لذلك هو وحده ، وكان له من الأولاد من صلبه وصلب أبنائه أكثر من 100 ولد في قيد حياته ، حتى كان يقول بأن ابنتي فلانة أخبرتني بأنه يوجد لديَّ الآن أكثر من 100 ولد ، يقول عن ابنته هي التي أخبرته ؛ لأنه يصعب عليه أن يقوم بالإحصاء ، فما شاء الله ! وعاش وتُوفي من أكثر الصحابة عمرًا مباركًا ، هذا كان يقول - رضي الله عنه - : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكانوا لا يقومون له ؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك " .
هكذا كانت سنَّته - عليه الصلاة والسلام - مع أصحابه الكرام ، لا يقومون له لِمَ ؟ ليس لأنَّ ذلك كان أصحابه لا يرغبون فيه ، بل كانوا يحبُّون أن يعظِّموه بكل وسيلة ، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه لا يخرجون عن إرضائه - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنها هي الغاية عندهم ؛ لسبب أنها توصلهم إلى مرضاة الله - تبارك وتعالى - كما قال - عز وجل - : (( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله )) ؛ فقد ذكر أنس - رضي الله عنه - في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكره هذا القيام ، ما هو السبب ؟ له علاقة بالعبادة ؛ ذلك لأن القيام لشخص ما إكرامًا وتعظيمًا وتبجيلًا فيه مضاهاة للمسلم الذي يقوم يصلي لله - عز وجل - قيامًا خاشعًا واضعًا الله على ... فضله ، فلا ينبغي للمسلم أن يعظِّم عبدًا من عباد الله بمثل هذه الشعيرة التي تدلُّ على تعظيم الله - عز وجل - من عبده إذا قام بين يديه يصلِّي .
يشير إلى هذا المعنى غيرُ هذا الحديث مما له علاقة بالصلاة ، وقد جاء في " صحيح مسلم " : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان راكبًا ذات يومٍ على دابَّته ، فـ ... به ورَمَتْه أرضًا ، فأُصيب في عضده ، فلم يستطع الصلاة قائمًا لما حضرت صلاة الظهر ، فصلى جالسًا ، ورأى النبي - عليه السلام - أنَّ من خلفه يصلون قيامًا - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، عليكم السلام - ، ورؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن خلفه في الصلاة هذه كانت خصوصية ومعجزة له - عليه الصلاة والسلام - ؛ حيث كان يرى في الصلاة فقط خلفه كما يرى أمامه ؛ ولذلك جاء في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال يومًا لأصحابه : ( لا تسبقوني بالركوع والسجود ؛ فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ) ، فرآهم يصلون قيامًا وهو جالس ، فأشار إليهم بيده هكذا ؛ أي : اجلسوا ، فجلسوا ، ولما أتمَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة قال لهم : ( كدتم آنفًا أن تفعلوا فعل فارس بعظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ؛ إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤتمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين ) .
ففي هذا الحديث لفتة نظر عظيمة جدًّا ؛ ألا وهي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر الأصحَّاء الذين لا يستطيعون أن يصلوا خلفه قيامًا وهو جالس ؛ أمرهم بأن يشاركوه في الجلوس ، وهذا يعني أنه أسقط عنهم ركنًا من أركان الصلاة ؛ ألا وهو القيام ، حيث قال رب الأنام : (( وقوموا لله قانتين )) ؛ أي : ساكتين متعبِّدين ، أسقط هذا الركن لشيء واحد ؛ وهو ألَّا تظهر صورة وثنية ولو كانت النية صالحة وطيِّبة ، إنما أراد أن يُصلح الظاهر ؛ لأن الظاهر عنوان الباطن ، أراد ألَّا تظهر مشابهة بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الجالس مضطرًّا وليس متكبِّرًا كما يجلس كسرى ملك فارس ... ، والصحابة القائمين خلفه ما قاموا تعظيمًا له ، وإنما قاموا تعظيمًا لله رب العالمين ؛ مع هذا الفارق الكبير في النوايا أمرهم بأن يجلسوا لكي لا تظهرَ صورة مثل صورة ملوك فارس مع عظمائها يقومون على رؤوس ملوكهم ، ... بالجلوس ، فإذا عرفنا هذه الحقيقة أسقط القيام المفروض على كلِّ مصلي من أجل دفع الصورة هذه لأنها هي صورة المشركين أهل فارس ؛ فماذا يكون الحال إذا ما قام المسلمون ليس لله ، وإنما قاموا لغير الله - عز وجل - قيامًا ؛ فلا جرم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كره من أصحابه هذا القيام عندما يدخل إلى المجلس ، وهم يحبُّون أن يظهروا له حبَّهم إياه وتعظيمهم إياه فنهاهم عن ذلك ، وكره لهم ذلك ، ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - خلاف ما هو معروف اليوم ، ليس فقط عند الرؤساء والأمراء ونحو ذلك ؛ بل عند كثير من أهل العلم والمشايخ فيه إذا دخلوا مجلسًا فلا بد أن يقوم له الناس ، وأن يبجِّلوه ويعظِّموه بهذا القيام ، فجاء الترهيب الشديد لمن يحب هذا القيام بعد أن عرفنا عدمَ شرعيَّته ؛ ذلك هو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، لقد جعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حبَّ الداخل إلى المجلس القيام من الجالسين فيه كبيرةً من الكبائر تُشبه كبيرة الافتراء على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والتقوُّل عليه في أحاديثه ؛ كما جاء في الحديث الصحيح المتواتر : ( من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، كذلك قال للداخل إلى المجلس يحبُّ أن يقوم الناس له تعظيمًا : ( فليتبوأ مقعده من النار ) .
وحتمًا لداء حبِّ التعاظم والتعالي والتكبر على المسلمين من مثل هذه الظاهرة نجد أن راوي هذا الحديث الأخير وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - دخل ذات يوم مجلس حكمِه ، وكان فيه رجلان من العبادلة ؛ أحدهما عبد الله بن الزبير المعروف المشهور ، والآخر عبد الله بن عامر ، فقام هذا الثاني ولم يقُمْ الأول ، فنهاه معاوية - وهذا من ورعه وتقواه - ؛ نهى ابن عامر اللي قام له واحتجَّ عليه بهذا الحديث ؛ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، قد لا يبدو استدلال معاوية لهذا الحديث على مَن قام له واضحًا جليًّا ؛ لأنه يتعلق بالمحبِّ ، ومعاوية لا يحبُّه ؛ ولذلك نهاه ؛ فإذًا لماذا ذكره ؟ فيه فقهٌ دقيقٌ ؛ كأنه يقول له : أنت يا عبد الله بن عامر إذا قمت لي كلما دخلتُ فربَّما يزيِّن لي الشيطان أن أحِبَّ منك ومن غيرك هذا القيام ، فإذا ما أنا وقعت في هذا الحبِّ أصابَني وعيدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فليتبوَّأ مقعده من النار ) ؛ فمَن كان السبب ؟ أنت تكون السبب ، وغيرك ممَّن يساعدون المتعاونين على حبِّ لهذا القيام لِمُطاوعتهم له بالقيام .
والمتشدِّد في الشيء حكم الفاعل له ، أما أن ننظر إلى عادات الناس وتقاليدهم ومع ذلك أن ندع القديم على قدمه ونغضُّ النظر عن إحياء السنة وإماتة البدعة ، وهذا لا يُجيزه الإسلام ، ولكن علينا نحن أن نبيِّن حكم القيام للداخل وحكم القيام إلى الداخل ، وهذه نقطة كثير من أهل العلم فضلًا عن غيرهم لا يفرِّقون لا لغةً ولا شرعًا بين " قام فلان لفلان " ، و " قام فلان إلى فلان " ، ولذلك كنت أريد أن أقول : لكن أنتَ استعجلت ، ولعل في العجلة خير هنا ، كنت أريد أن أتفلسفَ في حديثي كما سمعتم ؛ يعني قسم منه مما سبق لأتوصَّل إلى بيان أن هناك نوعًا من القيام لا يشمَلُه حديثنا هذا ، لكن هذا النوع قد جرَّبته في نفسي أن أتحدث به قي نهاية المطاف بعد أن أنتهي من بيان هذا القيام المنهيِّ عنه في بعض الأحاديث التي ذكرناها آنفًا ، وأردت أن أصل في النهاية إلى حكم هذا القيام عند العلماء ، وبعد ذلك نبيِّن قيامًا من نوع آخر قد يكون هو المخرج لبعض الأحوال التي يتعامل فيها الناس اليوم ، فتبيَّن مما سبق أن القيام للداخل هو مفسدة له وفتنة له ، من أجل ذلك قال معاوية لمن قام له : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من أحبَّ أن يتمثَّل الناس له قيامًا فليتبوأ مقعده من النار ) ، يقول له : لا تقم لي ؛ لأن قيامك يكون فتنة لي ، أتشوَّف فيما بعد وأحبُّ هذا القيام من الناس إذا ما اعتادوا القيام لي ، أما إذا سدُّوا هذا الباب وهو من باب سد الذريعة أن لا يقومَ أحد لأحد تبقى العادة كما هي موجودة في بعض البلاد العربية ؛ يدخل الداخل ، أهلًا وسهلًا ، صاحب الدار يستقبله ، ويحسن استقباله ، ويُجلسه في المكان الذي يُناسبه دون أن يقوم أحد من الضيوف الجالسين في الغرفة أو في الدار .
قلت بأن العلماء اختلفوا في هذا القيام ؛ فمن قائل بأنه مكروه وهذا لا شك فيه ؛ لأنه خلاف السنة كما علمتم ، ولأنه مدعاة لتعويد الناس على أن يقعوا في تلك الكبيرة التي هدَّد عليها الرسول بقوله : ( فليتبوأ مقعده من النار ) ، ومن قائل بأنه حرام وليس فقط مكروه ، ومن هؤلاء أحد كبار علماء الحنابلة ؛ ألا وهو أبو عبد الله بن بطة ، لقد كان هذا العالم الفاضل يتشدَّد جدًّا في هذا القيام ، ويصرِّح بأنه حرام ، وقد ذكروا في ترجمته أنه خرج ذات يوم يمشي مع صاحبه له شاعر ، فدخلوا السوق ، فمرُّوا برجل عالم فاضل جالس في دكانه في محلِّه ، فقام لابن بطة ، قام له وهو يعلم أن ابن بطة يكره هذا القيام أشدَّ الكراهة - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وعليكم السلام ... - فقال ذلك العالم الذي قام لابن بطة معتذرًا له ببيتين من الشعر ، ماذا قال ؟
لا تلُمْني على القيام فحقِّي *** حين تبدو أن لا أملَّ القياما
أنت من أكرم البريَّة عندي *** ومن الحقِّ أن أجلَّ الكراما
هذا بلا شك كلام مقبول عند الناس ، لكنه مرفوض عند هذا الفقيه ابن بطة ؛ ولذلك قال لصاحبه الذي معه وهو شاعر مطبق ، قال : أجِبْه عنِّي وهو تلميذه ، فقال لذلك العالم الذي قام لابن بطة :
أنت إن كنت لا عدمتك ترعى *** لي حقًّا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدُّم والعلم *** ولسنا نريد منك احتشاما
فاعفني الآن من قيامك هذا *** أولًا فسأجزيك بالقيام القياما
وأنا كاره لذلك جدًّا *** إن فيه تملُّقًا وأثاما
لا تكلِّفْ أخاك أن يتبقَّاك *** بما يستحلُّ به الحراما
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعبَ الأجساما
كلنا واثقٌ بودِّ أخيه *** فَفِيمَ انزعاجنا وعلاما
الحقيقة أن القسم الأخير من البيت هو بيت القصيد كما يقال في هذه المسألة ؛ أن نربِّي أنفسنا على أن نصلح قلوبنا ، وأن تكون ظواهرنا مطابقةً لقلوبنا ، والأمر في هذا القيام ليس كذلك ، لهذا قال هذا الرجل :
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نتعب الأجساما
كلنا واثقٌ بودِّ أخيه *** فَفِيمَ انزعاجنا وعلاما
لقد حدثني أحد أصدقائي في دمشق الشام منذ نحو أربعين سنة ، قال : حضرنا حفلًا وما كدنا نجلس على الكراسي إلا خرج إشاعة كبيرة الآن يدخل من باب المكان الحفل الضخم فلان الأمير ، توجَّهت الأنظار إلى المدخل ... ، فقمنا ، جلس الأمير جلسنا ، قال : ما كِدْنا أن نجلس إلا سرت إشاعة ثانية ؛ الآن يدخل الباشا الفلاني ، فعلًا دخل الباشا ، فقمنا ، ثمَّ جلستُ ، وهكذا ، قال : شعرت كأن تحتي بيقولوا عندنا في سوريا : " زمبرك " ، يعني نابض ، معروف هذا ؟ أو راصور أو ما أدري إيش اسمه عندكم ؟
سائل آخر : زمبرك .
الشيخ : " زمبرك " ، كويس ، قال : فشعرت كأن تحتي زمبرك يخفضني يرفعني ... هكذا ، أخيرًا قلت في نفسي : إلى متى ؟ والله ما في أريح من أن أتَّبع السنة ، والله ماني قائم مهما دخل الداخل ... فعلًا هذا البيت من الشعر :
وإذا صحَّت الضمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعب الأجساما
وهذا مُلاحظ في كثير من الاجتماعات إذا كان يحضر فيه كبار القوم ... بالناس هكذا قائمون قاعدون ، هذا من الإسلام ؟ هذا ليس من الإسلام في شيء ، بهذا الجزء من الحديث ينتهى كلامي حول القيام للداخل إكرامًا .
هناك قيام من نوع آخر ، لكنَّه خاص بصاحب الدار وربِّ الدار ، دخل داخل أو طرق طارق الباب فقال القادم أو الولد : يا أبت فلان ، يقوم ويستقبله ويرحِّب به ويُجلسه في المكان المناسب له كما قلنا آنفًا ، لكن هؤلاء ضيوف ليس لهم علاقة بهذا الداخل ، فلا يقومون له ، وإنما عليهم أدب خاص ألا وهو قول - تبارك وتعالى - : (( ذا قيل لكم افسحوا بالمجالس فافسحوا يفسح الله لكم )) ؛ يعني كما قلت أنت في الصباح أنُّو كانت المجالس ليس فيها هذه الكراسي والكنبايات إلى آخره ، و ... عالأرض ، وقد يكون هناك شيء من الوسائد ، فقد يكون المجلس ممتلئًا فيتفسَّح الناس لإجلاس ضيفهم ، أما أن يقوموا ... قيامًا فهذا ما سبق الكلام به ، وأنه لا يُشرع ، أما القيام إليه وهذا من سنَّة رب الدار استقبال الضيف ، من هنا ينبغي أن نفرِّق بين القيام للداخل فلا يُشرع ، وبين القيام إلى الداخل فيُشرع ، وهنا نأتي لحديثين يبيِّنان هذا القيام الثاني وليس الأول :
الحديث الأول : ما رواه الامام البخاري في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قضى على بني قريظة ونصره الله عليهم وصاروا أسرى له ؛ أسلموا له بشرط أن يكون الحَكَم هو سعد بن معاذ أمير الأنصار ، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فجاء سعد بن معاذ إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو على دابَّة له ، وكان مُصابًا في أكحله في عرقٍ في العضد ؛ أي : كان مريضًا ، فقال لأصحابه من الأنصار : ( قوموا إلى سيِّدكم ) ، بعض الناس حتى من الذين كتبوا في هذه المسألة تحرَّف الحديث عليهم فكتبوه وروَوْه بلفظ : قوموا لسيِّدكم !! وشتان بين ما نطق به الرسول وبين ما انحرف عليه من حديث ، لفظ الرسول : ( قوموا إلى سيِّدكم ) ، هم تحرَّف عليهم : قوموا لسيِّدكم ، والفرق إذا عرفنا البحث السابق قوموا معناه قوموا لسيدكم ، لو كان هذا هو لفظ الرسول ؛ أي : قوموا له تبجيلًا واحترامًا ؛ لأنه رئيسكم وأميركم يا معشر الأنصار ، لكن الحديث لفظه : ( قوموا إلى سيدكم ) ؛ فلماذا قال : ( قوموا إلى سيدكم ) ؟ أي : ساعدوه لينزل من دابته ؛ لأنه مريض ، وقد جاء هذا اللفظ من حديث السيدة عائشة - رضي الله عنها - في " مسند الإمام أحمد " بلفظ : ( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ) ؛ لذلك لا يجوز أن يُفهم الحديث بمعنى قوموا له إكرامًا ، وإنما لفظ الحديث : قوموا إليه فساعدوه على النزول من دابته ؛ ليسمع منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يحكم على اليهود الذين رضوا بحكم سعد بن معاذ ؛ إذًا هذا الحديث ليس له علاقة بالقيام الأول الذي هو بالإكرام والتعظيم كما يفعله الناس ، بل هو من باب المساعدة لنزول هذا الأمير - أمير الأنصار - سعد بن معاذ ، هذا الحديث الأول .
والحديث الآخر : هو - أيضًا - من رواية السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : ( ما رأيت أحدًا أشبه دلًّا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشبهًا به من ابنته فاطمة - رضي الله تعالى عنها - ) ، لقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه ، وكانت بدورها إذا دخل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها قامت إليه وقبَّلته وأجلسته في مجلسها ، وأنتم ترون - أيضًا - هنا في قيام ، لكن ليس قيام ... وإنما قيام إلى الداخل ، وهي ابنته وهو أبوها ، يقبِّل أحدهما الآخر ، ثم يكرمه بإجلاسه في المجلس اللَّائق به ، هذا النوع من القيام للاستقبال هو الجائز ، أما النوع الأول فهو غير جائز ، فيجب أن نفرِّق بين القيامين .
السائل : ... هذا النوع من القيام لو تخلوا عنه .
الشيخ : ما بهمُّو ، ... تحقيق السنة .
السائل : هل عليه ذنب ، ... نبغى الإجابة ؟
الشيخ : أنت - بارك الله فيك - يجب أن تأخذ المسائل بالراحة بهدوء ليس بالحماس ، نحن لقد أوضحنا المسالة ، الآن إذا دخل الداخل أنت ربُّ الدار ، أنت تقوم إليه تستقبله ، أما الآخرون فلا علاقة لهم به ، لقد أوضحنا المسألة ، أما أنت بتحكي عن عاداتكم ، يجب تسيير هذه العادات بحيث أنها تتوافق مع السنة ولا تتخالف معها ، صاحب الدار هو الذي يقوم إلى الضيف ، أما مَن عن يمينك ويسارك ومن كان في المجلس فليس لهم هذا ... ولا يقومون .
السائل : ... .
الشيخ : نحن منقول ايش ؟
السائل : هذا شيء آخر ... ، هل أنا عليَّ أن أقوم ؟ ... التعظيم غير .
الشيخ : ولَّا ، إذا ما كان تعظيم ، لِمَ ؟
السائل : ... .
الشيخ : أقول لِمَ إذا ؟
السائل : نعم .
الشيخ : لم يقوم ؟
السائل : ... يسلم عليك وتسلم عليه ... .
الشيخ : يسلم على من ؟
السائل : ... .
الشيخ : على الجالسين ؟
السائل : على جميع من هناك ... .
الشيخ : ... دخل الداخل .
السائل : يقومون له .
الشيخ : ها ، لازم .
السائل : ... .
الشيخ : سبحان الله ! والحاصل كمان عبادة القبور وتبرج النساء و وإلى آخره ، أليس حاصلًا ؟
السائل : هل هذا القيام عليه لوم ؟
الشيخ : عليه .
السائل : ... .
الشيخ : نحن ذكرنا - بارك الله فيك - منهم من يقول : مكروه ، ومنهم من يقول : حرام ، إيش بعد هذا من البيان ؟
السائل : ... .
- رحلة النور - شريط : 6
- توقيت الفهرسة : 00:00:02
- نسخة مدققة إملائيًّا