شرح حديث : ( ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر ، وما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن أخشى عليكم التعمُّد ) .
A-
A=
A+
الشيخ : درسنا في هذه الليلة في الحديث الثاني والستين ، وهو قوله :
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم التكاثر ، وما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن أخشى عليكم التعمُّد ) رواه أحمد ، ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح ، وابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم .
هذا الحديث الطرف الأول منه قطعة من الحديث السابق في الدرس الأخير من حديث عمرو بن عوف الأنصاري ، وفيه يقول الرسول - عليه السلام - بعدما جاءه مال الجزية من البحرين ، وتعرَّض له أصحابه - عليه الصلاة والسلام - ، يريدون أن ينالوا ما لهم من حقٍّ في ذلك المال الذي أتاهم من البحرين ؛ فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ( أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على مَن كان قبلكم ؛ فتنافسوها كما تنافسوها ؛ فتهلككم كما أهلكتهم ) طرف من هذا الحديث هذا الحديث حديث أبي هريرة : ( ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر ) ، وكأن هذا الحديث بشطريه بفقريه مأخوذ من القرآن الكريم .
أما الفقرة الأولى : ( ما الفقر أخشى عليكم ، إنما أخشى عليكم التكاثر ) ؛ فذلك قوله - تبارك وتعالى - : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) ، فهذا خطاب لعموم البشر ، كأن الله - عز وجل - يُشير إلى أن طبيعة البشر الذين لم يُربَّوا على الإسلام وعلى أخلاق الإسلام ، ولم يتأثَّروا بأوامر الإسلام ووعي الإسلام ؛ أنهم يحبُّون التكاثر في الأموال والأولاد ، وأن ذلك ديدنهم وشغلهم حتَّى يزوروا المقابر ؛ كناية عن الموت ؛ حتى ... (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) هذا خطاب لعامة البشر ، فلا ينجو من هذا الخطاب إلا المسلم الذي تربَّى بتربية الإسلام ، وتأدَّب بآداب الإسلام .
فيخشى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على أصحابه أصلًا ، وعلى من يأتون من بعدهم تبعًا ، يخشى عليهم التكاثر في الأموال ، ولا يخشى عليه الفقر ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قد أخبر نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - بكثير من المُغيَّبات ، ومنها : أن الله - عز وجل - سيفتح له كسرى وقيصر ، وقد تحقَّق ذلك كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة وأخبار السيرة ؛ لذلك قال لهم : ( ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم التكاثر ) ، كأنه يقول لهم : لا تكونوا من عامة الناس الذين يُلهيهم التكاثر حتى يزوروا المقابر ؛ حتى يموتوا ؛ فلا ينفعهم حين ذاك مالهم كما مرَّ معنا في أحاديث كثيرة أن المسلم أو المرء إذا مات يتبعه ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع عنه أهله وماله ، ويبقى معه عمله .
ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث والحديث السابق وأمثالهما كثير يخشى على أمته المال ؛ الغنى الثروة ، ولا يخشى عليهم الفقر ، وهذا هو واقع الأمة الأولى الجيل الأول من المسلمين ، وواقعنا اليوم ؛ فنحن لا نكاد نرى فقيرًا يشكو الجوع يشكو العريَّ ، لا يمكن هذا الذي يجد أفقر الناس تراه متظاهرًا بأحسن اللباس ، وقد يأكل - أيضًا - من أنواع من الطعام وألذِّه ، لذلك فلا ينبغي للمسلم أن يخشى الفقر ؛ وإنما يخشى العكس ؛ يخشى الغنى ، لأنُّو الغنى والمال كما سبق أن ذكرنا ملهاة وفتنة كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) .
فهذا الشطر الأول من الحديث كأنه كما قلنا مشتقٌّ من الآية الكريمة : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) .
الشطر الثاني : وهو قوله - عليه السلام - : ( وما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن أخشى عليكم التعمُّد ) ؛ هذا - أيضًا - مُقتبس من القرآن الكريم في غير ما آية في القرآن ، من ذلك قوله - تعالى - : (( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) ، فهذا نصُّ القرآن اقتُبس منه هذا الحديث ، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( ما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن يخشى علينا التعمُّد ) ، وهذا من لطف الله - عز وجل - ويسره بعباده ، كما قال - عز وجل - : (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )) ؛ ذلك لأن الخطأ لا يكاد ينجو منه إنسان ؛ ولذلك فربنا - عز وجل - لا يؤاخذ عباده على ما يقع منهم من الخطأ مهما كان هذا الخطأ كبيرًا وعظيمًا ، وعلى العكس من ذلك ؛ يؤاخذ المرءَ إذا تعمَّد الإثم ولو كان صغيرًا ، فمجال المؤاخذة إنما هو على التعمُّد ، ولا مؤاخذة إذا وقع من الإنسان الخطأ بغير قصد منه .
لذلك هذه النصوص من قرآن ومن حديث وغير ذلك مما لا مجال لذكره الآن يُلفت نظرنا بقوة إلى أنه لا يُمكن بوجهٍ من الوجوه أن يكون الإنسان مجبورًا على أعماله التي تصدر منه باختياره ؛ أي : ما يقوله عامة الناس اليوم وقد يتكلم به بعض خاصَّتهم من قولهم : إن الإنسان مسيَّر ما مخيَّر ، ويزعمون أن الإنسان هو مسيَّر وليس مخيَّرًا .
فهذا الكلام على إطلاقه باطل ، وإنما هو كما شرحنا لكم ولا أريد الإطالة ، وإنما إشارة سريعة :
أعمال الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بدون قصد منه ؛ فهنا يصح أن يقال : إن الإنسان مسيَّر .
والقسم الآخر يصدر منه قصدًا وعمدًا وتوجُّهًا واختيارًا ؛ هذا لا يصح أن يقال : إنه مسيَّر ؛ يعني رغمًا عنه ، بل هو في ذلك مختار ، والواقع الذي يلمسه كل إنسان عاقل يشهد بأن أعماله لا تتعدَّى هذين القسمين ؛ إما مسيَّر فيها لا قصد له فيها ولا اختيار ، وإما هو مخيَّر له فيه محض الاختيار .
ومثال الأول : الطول والقصر واللون والحياة ... والخ ، فهذا لا يملكه الإنسان ، ولا أقول : العمل الصالح والعمل الطالح ، تكتب جملة فيها خير ، تكتب جملة فيها شر ، تنطق بكلمة فيها خير تنطق بكلمة فيها شر ، هذا كله يعود إلى القسم الثاني مما هو فيه مختار .
هذا التقسيم هو رأي أكثر عقلاء الناس لا أخصُّ المسلمين ، هذا التقسيم رأي عقلاء الناس إلا من شذُّوا في عقلهم وفي فهمهم ، أولئك الذين يقولون : إن الإنسان مجبور ، وعبَّر عن هذا الرأي الخاطئ شاعرهم حين قال واصفًا علاقة الإنسان مع الله بحيث أنه كبَّله وغلَّله ، فقال :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
هكذا يصفون الإنسان من حيث أنه لا إرادة له ولا اختيار مع الله - عز وجل - - حاشا لله ! - ؛ الله يقول في كثير من الآيات التي يذكر فيها العمل ، ويبني عليه دخول الجنة : (( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) ، (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) ، (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )) .
أقول : إن هذا التَّفريق أن أعمال الإنسان إلى قسمين ، هذا الذي يحكم به العقل فضلًا عن الشرع ، ولكن ههنا دقيقة يجب أن يتنبَّه لها هؤلاء الناس ؛ لا سيَّما الذين ليس عندهم علم بالعقيدة الإسلامية ، ليس معنى كون الإنسان في بعض أعماله مختارًا وفي البعض الآخر ليس مختارًا ، أنه في القسم الأول الذي هو فيه مختار ؛ أن ذلك ليس مقدَّرًا عليه وليس نصيبًا عليه ، وليس وارثًا إرادة الله ومشيئته ؛ لا ، كل ذلك مقدَّر عليه ومكتوب عليه ، وهو بمشيئة الله - عز وجل - : (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ )) .
فكل شيء مسجَّل ، وكل أمر مستطر مسجَّل : (( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ، هذا الجمع بين الإيمان بالقدر الإلهي ، والإيمان باختيار الإنسان في القسم الذي له فيه الاختيار ؛ هذا الجمع هو من الإيمان ؛ أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشرِّه .
فناس يضلُّون يمينًا أو يسارًا الذين يحكِّمون عقولهم فقط ، نراهم - كما قلنا - مع عموم الناس أن الإنسان مُختار ، لكن لا بد من التفصيل السابق ، ثم يقولون أن الأمر ... لا علاقة لإرادة الله ولا لمشيئته ولا لقضائه ولا لقدره في شيء من ذلك !!
هؤلاء يقولون قولًا نُكرًا يُخالف الكتاب والسنة ، يخالف إجماع الصحابة ، الذين كان أحدهم إذا بلغه عن رجل يحكِّم عقله هكذا أن الإنسان مختار ، والأمر أُنُف جديد يستأنفه الآن ، ولم يسبق ذلك قضاء وقدر ، هؤلاء هم المعتزلة قديمًا وأشباههم حديثًا ؛ الذين باعتمادهم على عقولهم ينكرون القدر .
يُقابل هؤلاء أناسٌ آخرون ، إيمانًا منهم بالقدر نفوا الاختيار للإنسان ؛ وحينذاك نعود إلى أصل الحديث ، لا فرق عندهم بين العمد وبين الخطأ ؛ ما دام الإنسان في كل شيء يصدر منه فهو مُرغم ومجبور عليه ؛ إذًا هذا تعطيل لعشرات - إن لم نقل مئات - النصوص من الكتاب والسنة ، التي تفرِّق بين العمد وبين الخطأ : (( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )) .
هل نقول : ربنا لا تؤاخذنا إن تعمَّدنا ؟! فهناك نصوص تفرِّق بين التعمد - كما سمعتم - وبين الخطأ ، وإذا كان الإنسان لا يملك وليس له إرادة ، إذًا : هذا تفريط له من الكلام ، وحاشا كلام الله - عز وجل - ! بل وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، حاشا لكلامهما أن يكون فيه شيء من اللغو أو الخطأ ، إذًا الخطأ ممَّن ؟ من هؤلاء الذين يقولون قولًا يسوِّي بين فعل الإنسان العمد وفعله الخطأ ؛ فهؤلاء هم الجبرية ، وأولئك هم المعتزلة ، أولئك بعقلهم حكموا أنَّ الإنسان مُختار ، لكن جحدوا نصوص الكتاب والسنة التي فيها التصريح بأن كلَّ شيء بقدر ، وهؤلاء الجبريُّون إيمانًا بما سُطِّر جحدوا ما هو واقع من اختيار الإنسان ، وما هو أصل التكليف للإنسان ، أصل تكليف الإنسان هو هذا الاختيار الذي يعبِّر عنه بعضهم تعبيرًا لا للتحقير يقولون عنه بالجبر الاختياري ، هو مختار ... ، إما اختيار وإما اضطرار ، إما عمد وإما خطأ ؛ فلذلك هذا التفريق هو من تمام الإيمان بالإسلام ، أما التسوية بين العمد والخطأ فهو إنكار لهذا الاختيار الذي به ربط الله - عز وجل - تكليف عباده .
والاعتقاد بأن الإنسان يفعل دون أن تسبقَ بذلك مشيئة الله وإرادته هذا اعتزال ، وهو انفراد - كما قلنا - عن الإيمان بالقدر ، الذي هو ركن من أركان الإيمان .
إذا عرفنا هذا التفريق الذي هو شرعيٌّ وطبيعيٌّ بين الخطأ وبين التعمُّد ممكن أن نفهم هذا التيسير الإلهي الذي عبَّر عنه الرسول - عليه السلام - في هذا الشطر الثاني من الحديث حين قال : ( ما أخشى عليكم الخطأ ، إنما أخشى عليكم التعمُّد ) .
فإذًا : علينا نحن أن نأخذَ من هذا الحديث ... ألَّا نتعمد مخالفة الإسلام ، مخالفة كتاب الله أو مخالفة حديث رسول الله عمدًا ، أما إنسان يقع منه مخالفة بغير قصدٍ فالله لا يؤاخذه .
ومن هنا نحن وأرى من الضروري التنبيه على هذا ، أولًا : بيانًا ... وثانيًا : ردًّا على كثير ممن يتكلم بالبهت والكذب على الأبرياء ، فيقولون : بأننا نحن نضلِّل ونكفِّر المسلمين عامة ، فهذا كلام نتبرَّأ منه ومن قائله ، ومن الذي ينسبه - أيضًا - إلينا زورًا وبهتانًا ، نحن نفرِّق ... فهو يستحقُّ المؤاخذة المتعمِّدون لمخالفة الكتاب والسنة ، وهؤلاء طائفة أُشربوا حبَّ الدنيا في قلوبهم ، حبَّ المظاهر والمناصب والكراسي وما إلى ذلك ، فيظهر لهم الحقُّ ثم يعادون أهل هذا الحق ، ويعادون نفس الحق متجاهلينه ، أما جماهير الناس فلا علم عندهم بهذا الحق ، لذلك هؤلاء الذين يحاربون الحق ... يعلمون هم الذين يؤاخذون ، أما الجمهور فغير مؤاخذ ؛ لأنه لم يتعمَّد الخطأ .
خُذْ مثلًا بسيطًا : إنسان حنفي المذهب لا يرفع يديه عند الركوع ... مسألة بسيطة جدًا ؛ هذا غير مؤاخذ ؛ لأنه يظن أن هذا المذهب في هذه المسألة خاص ، لكن ما بال ذلك الشيخ الذي إن يقرأ البخاري ومسلم لبعده عن ... السنة ؛ فلا بد أنه قرأ من مختصرات كتب السنة ، مثل مثلًا " بلوغ المرام من أحاديث الأحكام " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، لا بد أنه قرأ مثلًا " مشكاة المصابيح " للخطيب التبريزي ، ولا بد أنه قرأ " المنتقى من أخبار المصطفى " لابن تيمية الجد ، لا بد قرأ شيئًا من هذه الكتب ، فوجد أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم ، أن الرسول كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ، ويجد في حديث واحد في " صحيح البخاري " أنَّ أحد الصحابة في مجلس فيه نحو عشرة منهم يصف لهم صلاة الرسول - عليه السلام - ، فبعد ما يبدأ بتكبيرة الإحرام ثم يركع ويرفع يديه ويرفع رأسه ويكون رافع يديه ثم يتمِّم الصلاة يقولون له جميعًا : صدقت ؛ هكذا كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا الحديث لا بد أن هؤلاء قرؤوه فأعرضوا عنه ؛ لماذا ؟ لأنه خلاف المذهب ! الجمهور لا يعلمون هذه الحقيقة ، الجمهور خاصة عامة المسلمين لا يعرفون هذا الحديث ، لكن خاصَّتهم - على الأقل بعضهم - عرفوا هذا الحديث ، لماذا تركوه ؟ تعصُّبًا للمذهب ، بينما الواجب عليهم أن يتَّبعوا الرسول - عليه السلام - بصورة عامة ، وفي الصلاة بصورة خاصَّة : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) ، ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، ما قال : صلوا كما صلى أبو حنيفة ، ولا كما صلى مالك ، ولا ولا الخ ، وتجدنَّ هؤلاء قد عكسوا الآية تمامًا : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )) تجد أحدهم قد أخلص في اتباع إمامه .
تجد - مثلًا - بعض الحنفية إذا قام قائمًا يصلي اعتمد على إحدى رجليه ، ما قام هكذا كما خلقه الله وإنما يعتمد على رجله ، لماذا تفعل هكذا ؟ يقول : هكذا كان أبو حنيفة يصلي ، فإذا قلت له : كيف كان رسول الله يصلي ؟ لا يدري ، إذًا هذا الاتباع نُقل من اتباع الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى اتباع إمام ، نحن إذا قلنا هذا الكلام فسَّروه وتأوَّلوه بغير تأويل الحق ؛ قالوا : هذا طعن في الإمام ، سبحان الله ! إذا وجَّهنا الناس لاتباع سيد الأئمة سيد الأنبياء والمرسلين وأن يخلصوا له في الاتباع يكون هذا طعن في أولئك الأئمة الذين كان ... حديثًا على أن يكون مخلصًا في اتباعه للرسول - عليه السلام - ! ولكن بعض الأشياء ربما أخطؤوا فيها ، بعض أشياء أخرى ربما نُسبت إليهم ، مثل هذه المراوحة بين رجل وأخرى ، هذه لا تنقل عن أبي حنيفة في كتاب معتمد .
الشاهد أن هذا الفعل يفعلونه ؛ لأن أبا حنيفة - زعموا ! - هكذا فعل ، طيب الرسول رفع يديه ؛ لماذا لا تفعل ؟ خلاف مذهب أبي حنيفة ! فجعلنا الأصل فرعًا والفرع أصلًا ، الأصل اتباع الرسول - عليه السلام - جعلناه فرعًا ، يعني والفرع أصلًا ، عكس للحقائق !! إذًا المؤاخذة تأتي منهم بمعرفة الحق ثم يحيدون عنه .
وجماهير المسلمين لا يعرفون الحق فيما اختلف فيه الناس ، لكن بعض الخاصة منهم يعرفون ، هؤلاء قسمان : منهم من يعرف الحق ويصدع به ، وهؤلاء عليهم أن يتحمَّلوا نتيجة الصدع بالحق أن يُقال فيهم ويتكلم فيهم ، هذا إذا ما ضُربوا إذا ما سُجنوا إذا ما افتُري عليهم سنة الله في خلقه ، والبعض الآخر يعلم ثم يجادل بالباطل ، فنرجو الله - عز وجل - أن يجعلنا من الذين لا يتعمَّدون مخالفة الكتاب والسنة ، وإنما إذا أخطأنا الله - عز وجل - قد وعدنا بأنه لا يؤاخذنا فيما أخطأنا ، ولكن فيما تعمَّدته قلوبنا .
هذا الحديث إذًا الغاية منه الفقرة الأولى منه : ( ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم الدنيا ) .
وهنا أحاديث ضعيفة متسلسلة رقم : ( 63 ، 64 ، 65 ، 66 ) هذه كلها ضعيفة .
الحديث الذي بعده صحيح ، ولكن قبل أن أشرعَ فيه لا بد من التذكير بمسألة أصولية حديثية ؛ وذلك لسببين اثنين :
السبب الأول : غربة علم الحديث بين خاصة الناس فضلًا عن عامتهم .
والسبب الآخر : أن هذه العبارة - السبب الآخر هو السبب الأول في الواقع - أن هذه العبارة حينما قال : رواه أحمد ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح تُفهم هذه العبارة خطأً ، بسبب إعراض الناس عن دراسة علم الحديث ، فيفهمون من هذه العبارة تصحيح الحديث ، وهذا لا يعني كذلك ، قول المؤلف أو المحدث في حديث ما : رجاله رجال الصحيح ، أو رواته محتجٌّ بهم في الصحيح ، أو رجاله ثقات ؛ كل ذلك لا يعني أن إسناد هذا الحديث صحيح ، بل ولا يعني أن إسناده حسن ؛ لذلك إذا مرت هذه العبارة في كتاب من الكتب التي تطالعونها ، فلا يفهمنَّ أحد منها تصحيح الحديث ولا تحسينه ؛ إذًا ماذا يعني ؟ يعني : أن شرطًا من شروط صحة الحديث قد توفرت في إسناد هذا الحديث ؛ ألا وهو ثقة الرواة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم ، هذا شرط من شروط الحديث الصحيح ؛ لأن التعريف المتفق عليه : ما رواه عدل ضابط ، هذا هو الثقة ، عدل أي : غير فاسق ، ضابط أي : ليس سيئ الحفظ ، هذا هو الثقة ، وهذا هو الذي يُحتجُّ به في الصحيح يعني في البخاري ومسلم ، لكن ليس هذا هو فقط تعريف الحديث الصحيح : ما رواه عدل ضابط عن مثله بس ، لأ ؛ عن مثله عن مثله إلى منتهاه ، ولم يشذَّ ولم يعلَّ .
ولم يعل : كلمة يدخل فيها عشرات العلل ، فواحدنا يقول : رواته رواة الصحيح لا يقول : وليس له علة ، لو قال : ليس له علة ؛ لصح الحديث حين ذاك ، ولو أرادوا وصول ذلك لَأغناه عن قوله : ليس له علة ، ولَقال : إسناده صحيح ؛ إذًا الحديث صحيح .
لماذا ؟ - يأتي سؤال - لماذا هؤلاء المؤلفون كالمنذري والهيثمي وغيرهما ، لماذا لا يقولون : إسناده صحيح إذا ريَّحونا من سوء الفهم الذي يقع فيه جماهير الناس اليوم ؟
الجواب : إن علم الحديث لم يُهمل لم يُهدر إلا من صعوبته ، هاهم علماء الحديث كالمنذري وأمثاله لا يقولون إلا ما ندر في إسناد حديث ما : إسناده صحيح ، أو إسناده حسن ؛ لماذا ؟ لأنه يقول القائل في حديث ما : إسناده صحيح أو إسناده حسن ، يجب أن يدرس ساعة بل ساعات وربما عشرة أيام فقط إسناد حديث واحد ، ولو توفر الإنسان لمثل هذا التحقيق لَقضى عمره كله وهو لا يستطيع أن يحقِّق إلا يعني أقل من نصف الحديث المتداول اليوم في الكتب وبين ... ونحو ذلك ؛ لأن هذا يتطلَّب دراسة السند الأول إلى آخره ، من حيث الاتصال ، وسلامته من الانقطاع ، وسلامته من التدليس ، وأخيرًا سلامته من العلة الخفيَّة ، وهو أدقُّ علوم الحديث ، وهو الذي يسمَّى بالمرسل الخفي ، لذلك فعلماء الحديث - إلا ما ندر ، ومن هؤلاء النادرين الحافظ ابن حجر - علماء الحديث لا يقولون : إسناده صحيح إلا إذا ظهر لهم بداهةً بدون كلفة .
وإذا ظهر لهم أن الأمر يتطلب بحثًا وذلك مما لا يتَّسع له وقتهم ، لجؤوا إلى هذا التعبير : " رجاله معروفين أنهم من رجال الصحيح " يعني البخاري ومسلم ، لكن هل هناك علة أو لا ؟ يحتاج إلى دراسة ولا يتسع له الوقت ، لذلك يقتصرون على هذه الكلمة ، فلا تفيد هذا الكلمة تصحيح الحديث إسناد الحديث ولا تحسينه ، وإنما كل ما تُعطيه هذه الجملة أن شرطًا من شروط الصحة وجد في هذا الإسناد " موافقة الرجال " إذا قال : رجال الإسناد ثقات ، وإذا قال : رجاله رجال الصحيح ؛ فمعنى ذلك أنهم ثقات زائد أنهم احتج بهم البخاري أو مسلم أو كلاهما معًا .
هذا الذي أردت أن أنبَّه عليه من الناحية الحديثية ، لكن واقع هذا الحديث صحيح ، ولذلك تعمَّدت إخراجه في كتابي " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ، ورقمه : ( 2216 ) .
الآن ننتقل إلى الحديث الثاني من أحاديث الباب في هذه الليلة ؛ ألا وهو الحديث السابع والستون ، وهو قوله :
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يُعطي الناس عطاءهم ، فجاءه رجل فأعطاه ألف درهم ، ثم قال : خذها ؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : ( إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم ، وهما مهلكاكم ) ، هذه السلعة التي نحن نُدندن حولها في هذه الظروف ؛ حيث قلنا : إن الإسلام لا ينهى عن جمع المال وعن كسبه من طريق مشروع حلال ، لكن المشكلة هذا الجمع ، كم أولئك الناس الذين يتيسَّر لهم أولًا أن يجمعوه من طريق مشروع ؟ ثم إن تيسَّر لهم ذلك فكم هم أولئك الذين يصرفون هذا المال المُكتسب من طريق مشروع في طريق مشروع ؟! قليل جدًا ، كما سيأتي في بعض الأحاديث الصريحة الآن ؛ هؤلاء الذين وأغناهم الله من فضله بالمال قليل من ينجو منهم من تبعاته في جمع هذا المال ؛ لذلك كان ابن مسعود - رضي الله عنه - ينبِّه مَن يأتيه ليقبض عطاءه - يعني معاشه - فابن مسعود كان واليًا على بعض البلاد ، وأظن هذه البلاد الكوفة ، فكان حينما يقسم العطاء للناس ويأتيه ... يقول له : " خذه لكن ... لا تغتر به " ، أي : لا يكون سببًا لإهلاكك ؛ فإن الرسول - عليه السلام - قال : ( إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم ) .
طبعًا ليس المقصود بهذا الإخبار ( وهما مهلكاكم ) كل فرد من الأفراد ، لا ، وإنما كمبدأ عام كما قلنا في آية : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) هذا هو الأصل ، ولا ينجو من هذا إلا القليل ، وذلك ما سيصرِّح به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قصة جرت له مع أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - .
الحديث الذي بعده وهو صحيح - أيضًا - ، عفوًا بعده بحديث ، الحديث الذي قرأناه عن ابن مسعود هو السابع والستين ، الثامن والستون ضعيف - أيضًا - .
التاسع والستون صحيح ؛ وهو قوله : عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله ؛ فقال : ( إن مما أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) .
هذا الذي يخشاه الرسول - عليه السلام - ؛ ما سيفتحه الله - عز وجل - من مغانم ومكاسب تأتي بسبب اتِّساع الدعوة الإسلامية ، وهذا ما وقع ، ولذلك - كما مر معنا وسيأتي أيضًا - كان بعض الصحابة يخشون على أنفسهم أن يكونوا قد فُتنوا في زهرة الدنيا وزينتها حينما جاءتهم الأموال ، فكان الواحد منهم يعمل طيلة النهار ليحصل على قوت يومه .
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عمل ذات يوم عند يهودي على أن ينضحَ له من بئر بستانه ، المقابل كل دلو تمرة فقط ، عَمِلَ أجيرًا علي بن أبي طالب الذي صار خليفة في زمانه عند يهودي مقابل كل نضحة سطل دلو مقابل تمرة فقط ، هؤلاء الصحابة الذين كانوا يعيشون في ضنك من العيش فُتحت لهم الدنيا ، صار عندهم عبيد ، صار عندهم جواري ، منهم من يتمتع كما شرع الله له ، منهم من يبيع ويشتري ، وأباح الله له ذلك - أيضًا - ، فكان بعضهم من الأتقياء يخافون على أنفسهم أن يكونوا فُتنوا ؛ لأن الرسول أخبرهم أنه ما يخشى عليهم الفقر وإنما يخشى عليهم أن تُفتَّح لهم الدنيا ، ويخشى عليهم زينة الدنيا وفتنتها .
الأحاديث الثلاثة التي بعد الحديث السابق ضعيفة - أيضًا - ، لكني - أيضًا - أستدرك فألفت النظر إلى أثر من آثار الصحابة حينما يجلسون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ، لقد سمعتم أنهم جلسوا حوله ، أنتم الآن لا يصح أن يقال : جلستم حولي ، جلستم أمامي ، فكيف يُتصوَّر كون جلوسهم حوله ، وفي المسجد وهو على المنبر ؟ معنى هذا أن جماهير المصلين اليوم يخالفون هذا الأدب ؛ لأنهم يظلُّون مستقبلين القبلة ، بينما السنة أن يستقبلوا الإمام وهو يخطبهم على المنبر ، هكذا يقول أبو سعيد الخدري : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله " ، فهناك شبه نصف دائرة تحوَّط حول الرسول - عليه السلام - باعتبار أن المسجد طوله أكثر من عمقه خلاف وضعنا الآن ، ولذلك مع أن وضعنا الآن ووضع يعني ما هو كوضع مسجد الرسول ، الطول ضيِّق جدًا والعرض هو الطويل ، مع ذلك يلاحظ أن الفكرة تقتضي - كما يُشعر من ذلك الكلمة السائدة عند العامة : " العين مغرفة الكلام " مع ذلك أنا أُلاحظ الآن في بعض الناس غير مستقبلين الجدار القبلة يعني برغم ضيق المكان ، مستقبلين الذي يتكلَّم ؛ لماذا ؟ لأن هذه قضية نفسية ، العامة حينما يقولون : " العين مغرفة الكلام " هذا ليس كلام عوام ، كلام حكماء ؛ لأنه من المتقرِّر أو مستقر في العلم أن أيَّ أمر تتوفر عليه حاسَّتان فتأثير ذلك الأمر فيمن توفَّرت فيه حاسَّتان تجاهه أكثر ممن توفرت فيه حاسَّة واحدة ، وكلما ازدادت الحواسُّ كلما زاد التأثير ، فالإنسان الذي يسمع يتأثر بهذا الكلام ، ولكن الذي يسمع ويرى يتأثر أكثر وأكثر ، ومن هنا تظهر لنا بعضُ حِكَم التشريع وبعض الحركات التي سنَّها الله ، إما على لسان نبيِّه أو على شأنه وسلوكه ؛ مثلًا : تحريك ، رفع الأيدي في الصلاة ، تحريك الإصبع في التشهد ، النظر إلى هذه الإصبع ، وتوجيه هذه الإصبع إلى القبلة ، هذه كلها ... توجِّه قلب هذا المصلي إلى حقيقة واحدة هي الاستقلال لله رب العالمين ، هو الذي أمره أن يتوجَّه بكلِّيَّته إلى القبلة ، فيتوجَّه حتى بإصبعه حتى بأصابع قدميه ، وهو في السجود مثلًا ، وهو في التشهد ، فيوجِّه أصابع قدمه اليمنى إلى القبلة ، كلُّ هذا تأكيد إلى أن الإنسان يتوجَّه بكل جوارحه إلى طاعة ربه - عز وجل - ، هذه الطاعة تركِّز في قلبه المعاني المقصودة من هذه العبادة .
كذلك حينما يجلس الناس لسماع الخطيب ، لا يكفي أن يتوجَّه هو إلى القبلة فقط ؛ لأنه الآن هو في صلاة ، الآن في موعظة في ذكر ؛ (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )) ، أنت الآن في ذكر ، فيجب أن تتوجَّه بكلِّيَّتك إلى هذا الذكر ، من هذه الكلِّيَّة أن تتوجَّه ببدنك ، أن تتوجَّه ببصرك ، أن تتوجَّه بسمعك ، من تتوفر فيه هذه الصفات يكون تأثُّره بما يسمع من الذكر أكثر من الذي يتوجَّه إلى هذا الخطيب - مثلًا - أو هذا المذكِّر ببصره فقط أو بسمعه .
هذا أدب مأخوذ من هذا الحديث ، وإن كان قد سيق في فصل أو في باب الزهد في الدنيا ، لكن ههنا أدب من آداب الصحابة مع الرسول - عليه السلام - ؛ كانوا يجلسون حوله وهو على المنبر .
إذًا يوم الجمعة ليست السنة أن يقف الناس صفوفًا ؛ لأن معنى إذا قاموا للصلاة كانوا متهيِّئين للصَّفِّ ؛ لا ، وإنما عليهم أن يتحلقوا حول الإمام دوائر ، فإذا ما أقيمت الصلاة حين ذاك يهتمون بتسوية الصفوف لها ، هذا تذكير بمناسبة قول أبي سعيد الخدري : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله " .
أما الحديث الثالث والسبعون فهو قوله : وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : " كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حرة المدينة ، فاستقبَلَنا أحدٌ ، فقال : يا أبا ذر ! قلت : لبيك يا رسول الله ! قال : ( ما يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليه ثالثةٌ وعندي منه دينار إلا شيءٌ أرصده لِدَيني ، إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ) ؛ عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ثم سار ، ثم انطلق - عليه الصلاة والسلام - فقام يمشي فقال : ( إن الأكثرين - هنا الشاهد - إن الأكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة ) ، وفي حديث يأتي بعده : ( هم الأخسرون ) ، ( إن الأكثرين - يعني : مالًا - هم الأقلُّون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ) ؛ عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ، وقليلٌ ما هم ) ، ثم قال لي : ( مكانك لا تبرح حتى آتيك ) الحديث . قال : رواه البخاري واللفظ له ، ومسلم ، ولفظه وفي لفظ لـ مسلم قال - يعني أبا ذر - : " انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو جالس في يمين الكعبة ، فلما رآني قال : ( هم الأخسرون ورب الكعبة ) ، قال : فجئت حتى جلست فلم أتقارَّ أن قلتُ : فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي مَن هم - الأخسرون - ؟ قال : ( هم الأكثرون أموالًا ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، وقليلٌ ما هم ) الحديث ، ورواه ابن ماجة مختصرًا : ( الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا ، وكسبُه من طيِّب ) هذه هي هامة جدًا .
... ومكسبه إيش ؟ حرام ، لا ، بل قال : ( ومكسبه من طيِّب ) - أيضًا - .
نعود إلى شرح ما هو من الضَّروري شرحه من الحديث ، يقول أبو ذر - وهو صحابي معروف ، ومن المشهورين بالزهد والرغبة عن الدنيا - قال : " كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حرَّة المدينة " الحرَّة : هي الأرض التي يكثر فيها الحجارة السوداء الصغيرة ، والمدينة تقريبًا كلُّ ما حولها هي حرَّة ، وإن كان بعض العلماء يحصرون الحرَّة بالجهة الشمالية فقط ، لكن الأعم هو الأصح ؛ لأن هناك بعض أحاديث تدل على أن الحرة ليست محصورة فقط في أرض المدينة الشمالية ، ويؤكد هذا أنه لا فرق بين الأرض الشمالية والشرقية والغربية ؛ لأن كلها فيها هذه الحجارة السوداء ، فهو يقول :
قال : ( فاستقبلنا أحدًا ) وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر : ( جبل أحد يحبنا ... ) ، فهنا أثبت لـ أحد إحساسًا وذلك بأنه يحبهم ، وقد يقول قائل : كيف ذلك وهو جماد ؟ فنقول : هذا مثل إحساس الكلب الذي إذا رأى صاحبه فإنه يبدي حركة خاصة ، فهو يفرح بقدوم صاحبه بتحريك خاص ... هذا حيوان لا يفهم ، له فهمه ، لكن فهم حيواني في حدوده ، وهذا الفهم الحيواني خاص بهذا الحيوان الذي هو كلب ، وهناك حيوانات عديدة كما نعلم ، وكل حيوان له فهم خاص به ، فما الذي يمنع ... الله واسعة أن يكون الله - عز وجل - خلق حتى في الجمادات نوعًا من الإحساس ، ليس من النوع الخاص بالبشر ؛ فإذا ذاع الخبر وجب الإيمان والتسليم .
السائل : حادثة الجذع .
الشيخ : كثيرة لا نريد التوسُّع ، حادثة الجذع ، وحادثة الـ .
السائل : ... .
لا ، أريد أن أذكر قصة الكهف ؛ (( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ )) ؛ الجدار يريد أن ينقضَّ ، نسب هنا إلى الجدار إرادة ، فيأتي المعطِّلون يقولون : هذا مجاز وليس إيش ؟ حقيقة ، نحن مع القاعدة الشرعية اللغوية : أن الأصل في كل عبارة الحقيقة ، وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا بدليل اضطرَّنا إلى هذا الخروج إذا كان لم يكن هناك دليل ، فالقاعدة تقول : يجب أن نبقى على الحقيقة ، فالآن في مثل هذا الحديث : ( جبل أحد يحبُّنا ) ؛ ما هو الدليل للذي يضطرُّنا إلى التأويل ؟ جهلنا ؛ أن يكون هناك في هذا الجبل إحساس خاص بالحبِّ ، هل هذا الجهل هو دليل ؟
الجواب : لا ؛ لذلك نقول : الإيمان بالإسلام كتابًا وسنةً هو الذي يوسِّع أفق المؤمن وعقله وتفكيره ، والعكس بالعكس تمامًا ، لهذا نحن ندعو دائمًا وأبدًا إلى اتباع الكتاب والسنة ، ليس على طريقة التأويل ؛ هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف ، وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف ، ولذلك نكرِّر دائمًا وأبدًا : نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط ، بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، وإلا لا فرق بين هؤلاء المسلمين الذين بلغوا ثلاثًا وسبعين فرقة ، أو كادوا أو زادوا ، الله أعلم بذلك ، لكن المهم أن التفرُّق كثير وكثير جدًا ، كلهم يقول : كتاب وسنة ، حتى القاديانية الذين يقولون بنبوَّة الغلام أحمد القادياني ، يقولون : على الكتاب والسنة ، لكن يفسرون النصوص هكذا بطريق التأويل ، وإنكار المعاني الحقيقية من نصوص الكتاب والسنة .
" يقول : فاستقبلنا أحد ، فقال - يعني : الرسول - عليه السلام - يا أبا ذر ! قال : لبيك يا رسول الله ! " ، هنا ملاحظة ، لماذا يُناديه وهو معه ؟ هذا من باب تهيئة النفس لتلقي ما سيلقى عليه من العلم .. ، " قال : ( يا أبا ذر ! ) . قال : لبيك يا رسول الله ! " ، وهذا جواب معروف لغة ، ومعروف استعماله من الصحابة كثيرًا وكثيرًا جدًّا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولعله ... من كلمة " نعم " .
قلت : لبيك يا رسول الله ! قال - عليه الصلاة والسلام - - انظروا خير البشر المعصوم عن أن يتلاعب به الشيطان ويفتنه بالمال - ، يقول : ( ما يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا ) الرسول لا يحبُّ أن يكون عنده جبل ذهب مثل جبل أحد .
( يمضي ) هكذا النسخة لكن ... البخاري ( تمضي عليه ) أي : على هذا الذهب الكثير الموجود عند الرسول - عليه السلام - .
( ثالثة ) أي : ليلة ثالثة من بعد ما حصَّل الرسول - عليه السلام - هذا المال الكثير ، ولو كان كجبل أحد ، لا يسرُّه أن يبقى هذا المال عنده أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة ، تدخل والمال لا يزال عنده ، لا يسرُّ النبي - عليه السلام - هذا ، ( لا يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار واحد ) أي : أن الرسول لا يُبقي عنده مالًا إطلاقًا ؛ ما الذي يفعل به ؟ يفرِّقه كما أشار في الحديث ، يمينًا ويسارًا وخلفًا وليس أمامًا فقط ؛ يعني : ينفقه على مَن حوله من المسلمين .
فيه استثناء ، يقول : ( إلا شيء أرصده لِدَيني ) ؛ يعني هو لا يدَّخر شيئًا من المال إطلاقًا ، إلا مال عليه دين يريد أن يَفِيَه ، وقد جاءه مال كثير ، فيقتطع منه هذا الدَّين ويدَّخره عنده حتى إذا جاءه صاحبه قدَّمه إياه ، حتى لا يرده ؛ لأنه قد جاءه مال ، لهذا العذر وهذا الإرصاد هذا المال لوفاء الدَّين الذي عليه فقط يحبسه - عليه السلام - ، أما ما سوى ذلك فهو يفرِّقه وينفقه كما قال : ( إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ؛ عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ) ، هكذا يحضُّ الرسول - عليه السلام - أمته أنهم إذا جاءهم مال ألَّا يدخروه ، وأن يُنفقوه في سُبل الخير .
ولكن هذا الإنفاق وترك هذا الادِّخار الذي أشار إليه الرسول - عليه السلام - أنه لا يدخر المال مهما كان كثيرًا إلا ما كان عليه دين ، ما حكمه في الإسلام ؟ هذا الإنفاق أهو واجب ؟ هذا الادِّخار أهو حرام ؟
هنا يجب أن نفهم الآن الموضوع الذي يُثار في العصر الحاضر استغلالًا للإسلام في خدمة بعض المذاهب المخالفة للإسلام ؛ ألا وهو المذهب الاشتراكي أو الشيوعي ، وكثير من الكتَّاب المغرضين وبعض الكُتَّاب المخلصين استغلُّوا مثل هذا الحديث فجعلوا الإسلام يحرِّم على الأغنياء أن يدَّخروا مالهم ، وزعموا أن الإسلام يوجب ويفرض عليهم أن ينفقوا كل مالهم ، كما هو حديث أبي ذر هذا .
من أجل ذلك نحن نقول : أي حكم في الإسلام لا يجوز أن يُؤخذ من نصٍّ واحدٍ ، وإنما من مجموعة النصوص ، هذا الحديث بلا شك فيه حضٌّ بالغ جدًّا على الإنفاق ، والتحذير من الادخار ، ولكن الحكم الدقيق والحكم الفقهي لا يؤخذ من هذا الحديث وحده ، فكل ... أجمعوا أن الله - عز وجل - فرض على أنواع معيَّنة من الأموال زكاة - أيضًا - محدودة في كل سنة ، في كل موسم ، وبنسبة مئوية معروفة ، فحينما فرض هذه الزكاة بالمية اثنين ونصف - مثلًا - ، على النقد بالمية عشرة أو أقل من ذلك بالنسبة للمحاصيل الزراعية ؛ معنى ذلك أن ما سوى ذلك جائز للمسلم أن يتمتَّع به ، وجائز أن يدَّخره ، ولذلك فكل مال أُخرجت زكاته فليس بكنز يُعذَّب عليه صاحبه يوم القيامة ، ومرَّت معنا أحاديث في كتاب " الترغيب والترهيب " في التحذير للأغنياء الذي يكنزون الذهب والفضة ، وأنها تُكوى يوم القيامة ، فإيش معنى يكنزونها ؟ أي : لا يُخرجون ما فرض الله عليهم فيها من حقٍّ .
فإذًا ليس من الواجب أن يخرج المسلم من ماله كله وألَّا يبيت وعنده أيُّ مال ، لكن هذا من فضائل الأعمال ، من مكارم الأخلاق ؛ أن المسلم إذا أغناه الله من فضله أن ينفقه ، ومع ذلك فهنا شيء آخر يجب أن يُذكر ، لا يعني أن يدعَ عياله وأهله وأطفاله فقراء ، جاءه هذا المال فخرجَ منه بكلِّيَّته ، ولم يعبث به وإنما على المسلمين ، ولكن أحق المسلمين بشيء من هذا المال هم الأقربون ، ولذلك فلا يتناقض هذا مع حديث مضى معنا - أيضًا - في كتاب الزكاة : " أن الرسول - عليه السلام - كان يدَّخر لأهله قوت سنة " ، فهذا جمع بين الحقوق ، فهو من ناحية لا ينسى حقوق أهله ، ومن ناحية لا يدخر المال الذي زاد عنده على حقوق أهله وينفقه على المسلمين .
خلاصة القول : المال الواجب إخراجه ليس هو كل مال ، وإنما هي نسبة معروفة في كتب الفقه وبإجماع المسلمين ، أما الخروج عن كل ذلك أو نصف المال فهذه أمور من فضائل ومكارم الأخلاق ، والناس يختلفون في ذلك أشدَّ الاختلاف ، وقد كنَّا ذكرنا - أيضًا - في بعض الدروس السابقة أن البخل بخلين : بخل يُعذَّب عليه الإنسان ؛ وهو إذا بخل بما فرض الله عليه ، والبخل الآخر يُذمُّ عليه ، ولكن لا يعاقب عليه ، وهو الذي لا يُنفق يمينًا ويسارًا وأمام وخلف .
فمن هذا نفرِّق بين ما هو واجب وبين ما هو مستحب ، والناس في هذا متفاوتون ، ولعله مرَّ في كتابنا هذا أو في درسنا حديث مسابقة عمر لأبي بكر ، قال عمر بعد تجربة أخيرة بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : أن أبا بكر سمع بمناسبة ما حضًّا على الإنفاق في سبيل الله ، فجاء بكلِّ ماله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال له - عليه الصلاة والسلام - : ( ماذا تركت لأهلك ؟ ) . قال : تركت لهم الله ورسوله ، فجاء عمر وقدَّم نصف ماله ، فلما علم ما فعل صاحبه ، قال : " ما سابَقَني إلا سَبَقَني " ، ولم يسابقه ، فأبو بكر خرج عن كل ماله ، وعمر خرج عن نصف ماله ، والناس درجات ، ومن النادر جدًّا أن مسلمًا عاقلًا يخرج عن جميع ماله ، ولذلك أنا أكاد أعتبر خروج أبي بكر عن كل ماله هذه مزية كمزية الرسول - عليه السلام - ههنا ، حيث يقول : أنه لا يسره أن تمضي عليه ثلاث ليالٍ وعنده مثل جبل أحد ذهبًا أن يبقى عنده .
ذلك لأن العدل في الحقوق صعب جدًّا ، إنسان يخرج عن ماله يا ترى قائم بكل الحقوق بالنسبة لأولاده لزوجته لأقاربه ؟ الموازنة الدقيقة لا يحسنها إلا أفراد قليلين جدًّا ، ومنهم أبو بكر الصديق ، أو هو أولهم وآخرهم .
لذلك فيُنقم على الصوفية الذين جعلوا مبدأً لهم الخروج عن المال ، مبدأ لهم بدون هذا التفصيل الذي يجب أن يراعي فيه الخارج عن ماله ألا ينسى حقوق الآخرين ، ولذلك فهم يروون القصة المزعومة التي وقعت بين الإمام الشافعي وبين شيبان الراعي ، وأهل العلم يقولون : هذه قصة مختلقة ؛ لأن الإمام الشافعي ما أدرك شيبان الراعي ، فبينهما مسافة ، وإنما وضعتها بعض الطوائف الصوفية للدعوة إلى مذهبهم ؛ زعموا بأن الشافعي لَقِيَ شيبان الراعي فكان وصفه بأنه رجل أمِّيٌّ ومع ذلك فهو فقيه ؛ يعني عنده العلم اللدني المزعوم ، فسأله عن الرجل يسهو في الصلاة ماذا عليه ؟ - السائل الإمام الشافعي ، والمسؤول شيبان الراعي - ، قال شيبان للشافعي : فعندنا أم عندكم ؟
قال : إيش عندنا عندكم في فرق ؟
قال : نعم .
قال : لا ... ، إيش عندنا وإيش عندكم ؟
قال : أما عندكم فالذي يسهو في الصلاة فيسجد سجود السهو ، وانتهى الأمر .
قال : وعندكم إيه ؟
قال : هذا الذي يسهو في الصلاة ينبغي أن تُقطعَ رقبته !
سأله سؤال آخر : ما الذي يجب على المسلم من الزكاة ؟
قال له : عندنا أم عندكم ؟
قال له : و - أيضًا - فيها عندنا وعندكم ؟
قال : نعم .
قال : عندنا وعندكم فصِّل .
قال : عندكم يخرج بالمية اثنين ونص ، وإذا به قد أدَّى الواجب .
قال : وعندكم ؟
قال : عندنا يخرج عن جميع ماله .
جعلوها قاعدة ، وهذا خطأ ؛ لأن الخروج عن جميع المال قد يؤدي إلى أمور مخالفة للإسلام .
وفعلًا إذا قرأت حكايات الصوفية في هذا المجال تجد العجب العجاب ، هذا الذي ، حتى عندنا بعض المحدِّثين ابتُلوا بالتصوف ، فكان ضيَّع قسمًا من حياته في علم الحديث ، لمَّا تصوَّف أخذ كتب الحديث وحرقها ، وآخر أخذها ودفنها في الأرض ، وآخر عنده مال رماه في البحر ، هذا كله خروج عن المال ، كأن صار الخروج عن المال هدف ، بينما الخروج عن المال هدفه تطهير النفس وتزكيته ، لكن مو خراب بيت آخرين !! ساعد نفسك بأن تساعد إخوانك المسلمين .
لعلي أطلت الآن ، وهذا الحديث في الواقع عليه تعليقات كثيرة ، فلعلنا نؤجِّل ذلك إلى الدرس الآتي ؛ لنتوجه إلى الإجابة عن بقية الأسئلة ، وهي من الكثرة بحيث أننا لا نستطيع الإجابة عنها كلها ، ولذلك اعفونا عن أسئلتكم الليلة .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم التكاثر ، وما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن أخشى عليكم التعمُّد ) رواه أحمد ، ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح ، وابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم .
هذا الحديث الطرف الأول منه قطعة من الحديث السابق في الدرس الأخير من حديث عمرو بن عوف الأنصاري ، وفيه يقول الرسول - عليه السلام - بعدما جاءه مال الجزية من البحرين ، وتعرَّض له أصحابه - عليه الصلاة والسلام - ، يريدون أن ينالوا ما لهم من حقٍّ في ذلك المال الذي أتاهم من البحرين ؛ فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ( أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على مَن كان قبلكم ؛ فتنافسوها كما تنافسوها ؛ فتهلككم كما أهلكتهم ) طرف من هذا الحديث هذا الحديث حديث أبي هريرة : ( ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر ) ، وكأن هذا الحديث بشطريه بفقريه مأخوذ من القرآن الكريم .
أما الفقرة الأولى : ( ما الفقر أخشى عليكم ، إنما أخشى عليكم التكاثر ) ؛ فذلك قوله - تبارك وتعالى - : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) ، فهذا خطاب لعموم البشر ، كأن الله - عز وجل - يُشير إلى أن طبيعة البشر الذين لم يُربَّوا على الإسلام وعلى أخلاق الإسلام ، ولم يتأثَّروا بأوامر الإسلام ووعي الإسلام ؛ أنهم يحبُّون التكاثر في الأموال والأولاد ، وأن ذلك ديدنهم وشغلهم حتَّى يزوروا المقابر ؛ كناية عن الموت ؛ حتى ... (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) هذا خطاب لعامة البشر ، فلا ينجو من هذا الخطاب إلا المسلم الذي تربَّى بتربية الإسلام ، وتأدَّب بآداب الإسلام .
فيخشى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على أصحابه أصلًا ، وعلى من يأتون من بعدهم تبعًا ، يخشى عليهم التكاثر في الأموال ، ولا يخشى عليه الفقر ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قد أخبر نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - بكثير من المُغيَّبات ، ومنها : أن الله - عز وجل - سيفتح له كسرى وقيصر ، وقد تحقَّق ذلك كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة وأخبار السيرة ؛ لذلك قال لهم : ( ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم التكاثر ) ، كأنه يقول لهم : لا تكونوا من عامة الناس الذين يُلهيهم التكاثر حتى يزوروا المقابر ؛ حتى يموتوا ؛ فلا ينفعهم حين ذاك مالهم كما مرَّ معنا في أحاديث كثيرة أن المسلم أو المرء إذا مات يتبعه ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع عنه أهله وماله ، ويبقى معه عمله .
ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث والحديث السابق وأمثالهما كثير يخشى على أمته المال ؛ الغنى الثروة ، ولا يخشى عليهم الفقر ، وهذا هو واقع الأمة الأولى الجيل الأول من المسلمين ، وواقعنا اليوم ؛ فنحن لا نكاد نرى فقيرًا يشكو الجوع يشكو العريَّ ، لا يمكن هذا الذي يجد أفقر الناس تراه متظاهرًا بأحسن اللباس ، وقد يأكل - أيضًا - من أنواع من الطعام وألذِّه ، لذلك فلا ينبغي للمسلم أن يخشى الفقر ؛ وإنما يخشى العكس ؛ يخشى الغنى ، لأنُّو الغنى والمال كما سبق أن ذكرنا ملهاة وفتنة كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) .
فهذا الشطر الأول من الحديث كأنه كما قلنا مشتقٌّ من الآية الكريمة : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) .
الشطر الثاني : وهو قوله - عليه السلام - : ( وما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن أخشى عليكم التعمُّد ) ؛ هذا - أيضًا - مُقتبس من القرآن الكريم في غير ما آية في القرآن ، من ذلك قوله - تعالى - : (( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) ، فهذا نصُّ القرآن اقتُبس منه هذا الحديث ، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( ما أخشى عليكم الخطأ ، ولكن يخشى علينا التعمُّد ) ، وهذا من لطف الله - عز وجل - ويسره بعباده ، كما قال - عز وجل - : (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )) ؛ ذلك لأن الخطأ لا يكاد ينجو منه إنسان ؛ ولذلك فربنا - عز وجل - لا يؤاخذ عباده على ما يقع منهم من الخطأ مهما كان هذا الخطأ كبيرًا وعظيمًا ، وعلى العكس من ذلك ؛ يؤاخذ المرءَ إذا تعمَّد الإثم ولو كان صغيرًا ، فمجال المؤاخذة إنما هو على التعمُّد ، ولا مؤاخذة إذا وقع من الإنسان الخطأ بغير قصد منه .
لذلك هذه النصوص من قرآن ومن حديث وغير ذلك مما لا مجال لذكره الآن يُلفت نظرنا بقوة إلى أنه لا يُمكن بوجهٍ من الوجوه أن يكون الإنسان مجبورًا على أعماله التي تصدر منه باختياره ؛ أي : ما يقوله عامة الناس اليوم وقد يتكلم به بعض خاصَّتهم من قولهم : إن الإنسان مسيَّر ما مخيَّر ، ويزعمون أن الإنسان هو مسيَّر وليس مخيَّرًا .
فهذا الكلام على إطلاقه باطل ، وإنما هو كما شرحنا لكم ولا أريد الإطالة ، وإنما إشارة سريعة :
أعمال الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بدون قصد منه ؛ فهنا يصح أن يقال : إن الإنسان مسيَّر .
والقسم الآخر يصدر منه قصدًا وعمدًا وتوجُّهًا واختيارًا ؛ هذا لا يصح أن يقال : إنه مسيَّر ؛ يعني رغمًا عنه ، بل هو في ذلك مختار ، والواقع الذي يلمسه كل إنسان عاقل يشهد بأن أعماله لا تتعدَّى هذين القسمين ؛ إما مسيَّر فيها لا قصد له فيها ولا اختيار ، وإما هو مخيَّر له فيه محض الاختيار .
ومثال الأول : الطول والقصر واللون والحياة ... والخ ، فهذا لا يملكه الإنسان ، ولا أقول : العمل الصالح والعمل الطالح ، تكتب جملة فيها خير ، تكتب جملة فيها شر ، تنطق بكلمة فيها خير تنطق بكلمة فيها شر ، هذا كله يعود إلى القسم الثاني مما هو فيه مختار .
هذا التقسيم هو رأي أكثر عقلاء الناس لا أخصُّ المسلمين ، هذا التقسيم رأي عقلاء الناس إلا من شذُّوا في عقلهم وفي فهمهم ، أولئك الذين يقولون : إن الإنسان مجبور ، وعبَّر عن هذا الرأي الخاطئ شاعرهم حين قال واصفًا علاقة الإنسان مع الله بحيث أنه كبَّله وغلَّله ، فقال :
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا ثم قال له *** إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماءِ
هكذا يصفون الإنسان من حيث أنه لا إرادة له ولا اختيار مع الله - عز وجل - - حاشا لله ! - ؛ الله يقول في كثير من الآيات التي يذكر فيها العمل ، ويبني عليه دخول الجنة : (( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) ، (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) ، (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )) .
أقول : إن هذا التَّفريق أن أعمال الإنسان إلى قسمين ، هذا الذي يحكم به العقل فضلًا عن الشرع ، ولكن ههنا دقيقة يجب أن يتنبَّه لها هؤلاء الناس ؛ لا سيَّما الذين ليس عندهم علم بالعقيدة الإسلامية ، ليس معنى كون الإنسان في بعض أعماله مختارًا وفي البعض الآخر ليس مختارًا ، أنه في القسم الأول الذي هو فيه مختار ؛ أن ذلك ليس مقدَّرًا عليه وليس نصيبًا عليه ، وليس وارثًا إرادة الله ومشيئته ؛ لا ، كل ذلك مقدَّر عليه ومكتوب عليه ، وهو بمشيئة الله - عز وجل - : (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ )) .
فكل شيء مسجَّل ، وكل أمر مستطر مسجَّل : (( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ، هذا الجمع بين الإيمان بالقدر الإلهي ، والإيمان باختيار الإنسان في القسم الذي له فيه الاختيار ؛ هذا الجمع هو من الإيمان ؛ أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشرِّه .
فناس يضلُّون يمينًا أو يسارًا الذين يحكِّمون عقولهم فقط ، نراهم - كما قلنا - مع عموم الناس أن الإنسان مُختار ، لكن لا بد من التفصيل السابق ، ثم يقولون أن الأمر ... لا علاقة لإرادة الله ولا لمشيئته ولا لقضائه ولا لقدره في شيء من ذلك !!
هؤلاء يقولون قولًا نُكرًا يُخالف الكتاب والسنة ، يخالف إجماع الصحابة ، الذين كان أحدهم إذا بلغه عن رجل يحكِّم عقله هكذا أن الإنسان مختار ، والأمر أُنُف جديد يستأنفه الآن ، ولم يسبق ذلك قضاء وقدر ، هؤلاء هم المعتزلة قديمًا وأشباههم حديثًا ؛ الذين باعتمادهم على عقولهم ينكرون القدر .
يُقابل هؤلاء أناسٌ آخرون ، إيمانًا منهم بالقدر نفوا الاختيار للإنسان ؛ وحينذاك نعود إلى أصل الحديث ، لا فرق عندهم بين العمد وبين الخطأ ؛ ما دام الإنسان في كل شيء يصدر منه فهو مُرغم ومجبور عليه ؛ إذًا هذا تعطيل لعشرات - إن لم نقل مئات - النصوص من الكتاب والسنة ، التي تفرِّق بين العمد وبين الخطأ : (( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )) .
هل نقول : ربنا لا تؤاخذنا إن تعمَّدنا ؟! فهناك نصوص تفرِّق بين التعمد - كما سمعتم - وبين الخطأ ، وإذا كان الإنسان لا يملك وليس له إرادة ، إذًا : هذا تفريط له من الكلام ، وحاشا كلام الله - عز وجل - ! بل وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، حاشا لكلامهما أن يكون فيه شيء من اللغو أو الخطأ ، إذًا الخطأ ممَّن ؟ من هؤلاء الذين يقولون قولًا يسوِّي بين فعل الإنسان العمد وفعله الخطأ ؛ فهؤلاء هم الجبرية ، وأولئك هم المعتزلة ، أولئك بعقلهم حكموا أنَّ الإنسان مُختار ، لكن جحدوا نصوص الكتاب والسنة التي فيها التصريح بأن كلَّ شيء بقدر ، وهؤلاء الجبريُّون إيمانًا بما سُطِّر جحدوا ما هو واقع من اختيار الإنسان ، وما هو أصل التكليف للإنسان ، أصل تكليف الإنسان هو هذا الاختيار الذي يعبِّر عنه بعضهم تعبيرًا لا للتحقير يقولون عنه بالجبر الاختياري ، هو مختار ... ، إما اختيار وإما اضطرار ، إما عمد وإما خطأ ؛ فلذلك هذا التفريق هو من تمام الإيمان بالإسلام ، أما التسوية بين العمد والخطأ فهو إنكار لهذا الاختيار الذي به ربط الله - عز وجل - تكليف عباده .
والاعتقاد بأن الإنسان يفعل دون أن تسبقَ بذلك مشيئة الله وإرادته هذا اعتزال ، وهو انفراد - كما قلنا - عن الإيمان بالقدر ، الذي هو ركن من أركان الإيمان .
إذا عرفنا هذا التفريق الذي هو شرعيٌّ وطبيعيٌّ بين الخطأ وبين التعمُّد ممكن أن نفهم هذا التيسير الإلهي الذي عبَّر عنه الرسول - عليه السلام - في هذا الشطر الثاني من الحديث حين قال : ( ما أخشى عليكم الخطأ ، إنما أخشى عليكم التعمُّد ) .
فإذًا : علينا نحن أن نأخذَ من هذا الحديث ... ألَّا نتعمد مخالفة الإسلام ، مخالفة كتاب الله أو مخالفة حديث رسول الله عمدًا ، أما إنسان يقع منه مخالفة بغير قصدٍ فالله لا يؤاخذه .
ومن هنا نحن وأرى من الضروري التنبيه على هذا ، أولًا : بيانًا ... وثانيًا : ردًّا على كثير ممن يتكلم بالبهت والكذب على الأبرياء ، فيقولون : بأننا نحن نضلِّل ونكفِّر المسلمين عامة ، فهذا كلام نتبرَّأ منه ومن قائله ، ومن الذي ينسبه - أيضًا - إلينا زورًا وبهتانًا ، نحن نفرِّق ... فهو يستحقُّ المؤاخذة المتعمِّدون لمخالفة الكتاب والسنة ، وهؤلاء طائفة أُشربوا حبَّ الدنيا في قلوبهم ، حبَّ المظاهر والمناصب والكراسي وما إلى ذلك ، فيظهر لهم الحقُّ ثم يعادون أهل هذا الحق ، ويعادون نفس الحق متجاهلينه ، أما جماهير الناس فلا علم عندهم بهذا الحق ، لذلك هؤلاء الذين يحاربون الحق ... يعلمون هم الذين يؤاخذون ، أما الجمهور فغير مؤاخذ ؛ لأنه لم يتعمَّد الخطأ .
خُذْ مثلًا بسيطًا : إنسان حنفي المذهب لا يرفع يديه عند الركوع ... مسألة بسيطة جدًا ؛ هذا غير مؤاخذ ؛ لأنه يظن أن هذا المذهب في هذه المسألة خاص ، لكن ما بال ذلك الشيخ الذي إن يقرأ البخاري ومسلم لبعده عن ... السنة ؛ فلا بد أنه قرأ من مختصرات كتب السنة ، مثل مثلًا " بلوغ المرام من أحاديث الأحكام " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، لا بد أنه قرأ مثلًا " مشكاة المصابيح " للخطيب التبريزي ، ولا بد أنه قرأ " المنتقى من أخبار المصطفى " لابن تيمية الجد ، لا بد قرأ شيئًا من هذه الكتب ، فوجد أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم ، أن الرسول كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ، ويجد في حديث واحد في " صحيح البخاري " أنَّ أحد الصحابة في مجلس فيه نحو عشرة منهم يصف لهم صلاة الرسول - عليه السلام - ، فبعد ما يبدأ بتكبيرة الإحرام ثم يركع ويرفع يديه ويرفع رأسه ويكون رافع يديه ثم يتمِّم الصلاة يقولون له جميعًا : صدقت ؛ هكذا كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا الحديث لا بد أن هؤلاء قرؤوه فأعرضوا عنه ؛ لماذا ؟ لأنه خلاف المذهب ! الجمهور لا يعلمون هذه الحقيقة ، الجمهور خاصة عامة المسلمين لا يعرفون هذا الحديث ، لكن خاصَّتهم - على الأقل بعضهم - عرفوا هذا الحديث ، لماذا تركوه ؟ تعصُّبًا للمذهب ، بينما الواجب عليهم أن يتَّبعوا الرسول - عليه السلام - بصورة عامة ، وفي الصلاة بصورة خاصَّة : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) ، ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، ما قال : صلوا كما صلى أبو حنيفة ، ولا كما صلى مالك ، ولا ولا الخ ، وتجدنَّ هؤلاء قد عكسوا الآية تمامًا : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )) تجد أحدهم قد أخلص في اتباع إمامه .
تجد - مثلًا - بعض الحنفية إذا قام قائمًا يصلي اعتمد على إحدى رجليه ، ما قام هكذا كما خلقه الله وإنما يعتمد على رجله ، لماذا تفعل هكذا ؟ يقول : هكذا كان أبو حنيفة يصلي ، فإذا قلت له : كيف كان رسول الله يصلي ؟ لا يدري ، إذًا هذا الاتباع نُقل من اتباع الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى اتباع إمام ، نحن إذا قلنا هذا الكلام فسَّروه وتأوَّلوه بغير تأويل الحق ؛ قالوا : هذا طعن في الإمام ، سبحان الله ! إذا وجَّهنا الناس لاتباع سيد الأئمة سيد الأنبياء والمرسلين وأن يخلصوا له في الاتباع يكون هذا طعن في أولئك الأئمة الذين كان ... حديثًا على أن يكون مخلصًا في اتباعه للرسول - عليه السلام - ! ولكن بعض الأشياء ربما أخطؤوا فيها ، بعض أشياء أخرى ربما نُسبت إليهم ، مثل هذه المراوحة بين رجل وأخرى ، هذه لا تنقل عن أبي حنيفة في كتاب معتمد .
الشاهد أن هذا الفعل يفعلونه ؛ لأن أبا حنيفة - زعموا ! - هكذا فعل ، طيب الرسول رفع يديه ؛ لماذا لا تفعل ؟ خلاف مذهب أبي حنيفة ! فجعلنا الأصل فرعًا والفرع أصلًا ، الأصل اتباع الرسول - عليه السلام - جعلناه فرعًا ، يعني والفرع أصلًا ، عكس للحقائق !! إذًا المؤاخذة تأتي منهم بمعرفة الحق ثم يحيدون عنه .
وجماهير المسلمين لا يعرفون الحق فيما اختلف فيه الناس ، لكن بعض الخاصة منهم يعرفون ، هؤلاء قسمان : منهم من يعرف الحق ويصدع به ، وهؤلاء عليهم أن يتحمَّلوا نتيجة الصدع بالحق أن يُقال فيهم ويتكلم فيهم ، هذا إذا ما ضُربوا إذا ما سُجنوا إذا ما افتُري عليهم سنة الله في خلقه ، والبعض الآخر يعلم ثم يجادل بالباطل ، فنرجو الله - عز وجل - أن يجعلنا من الذين لا يتعمَّدون مخالفة الكتاب والسنة ، وإنما إذا أخطأنا الله - عز وجل - قد وعدنا بأنه لا يؤاخذنا فيما أخطأنا ، ولكن فيما تعمَّدته قلوبنا .
هذا الحديث إذًا الغاية منه الفقرة الأولى منه : ( ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم الدنيا ) .
وهنا أحاديث ضعيفة متسلسلة رقم : ( 63 ، 64 ، 65 ، 66 ) هذه كلها ضعيفة .
الحديث الذي بعده صحيح ، ولكن قبل أن أشرعَ فيه لا بد من التذكير بمسألة أصولية حديثية ؛ وذلك لسببين اثنين :
السبب الأول : غربة علم الحديث بين خاصة الناس فضلًا عن عامتهم .
والسبب الآخر : أن هذه العبارة - السبب الآخر هو السبب الأول في الواقع - أن هذه العبارة حينما قال : رواه أحمد ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح تُفهم هذه العبارة خطأً ، بسبب إعراض الناس عن دراسة علم الحديث ، فيفهمون من هذه العبارة تصحيح الحديث ، وهذا لا يعني كذلك ، قول المؤلف أو المحدث في حديث ما : رجاله رجال الصحيح ، أو رواته محتجٌّ بهم في الصحيح ، أو رجاله ثقات ؛ كل ذلك لا يعني أن إسناد هذا الحديث صحيح ، بل ولا يعني أن إسناده حسن ؛ لذلك إذا مرت هذه العبارة في كتاب من الكتب التي تطالعونها ، فلا يفهمنَّ أحد منها تصحيح الحديث ولا تحسينه ؛ إذًا ماذا يعني ؟ يعني : أن شرطًا من شروط صحة الحديث قد توفرت في إسناد هذا الحديث ؛ ألا وهو ثقة الرواة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم ، هذا شرط من شروط الحديث الصحيح ؛ لأن التعريف المتفق عليه : ما رواه عدل ضابط ، هذا هو الثقة ، عدل أي : غير فاسق ، ضابط أي : ليس سيئ الحفظ ، هذا هو الثقة ، وهذا هو الذي يُحتجُّ به في الصحيح يعني في البخاري ومسلم ، لكن ليس هذا هو فقط تعريف الحديث الصحيح : ما رواه عدل ضابط عن مثله بس ، لأ ؛ عن مثله عن مثله إلى منتهاه ، ولم يشذَّ ولم يعلَّ .
ولم يعل : كلمة يدخل فيها عشرات العلل ، فواحدنا يقول : رواته رواة الصحيح لا يقول : وليس له علة ، لو قال : ليس له علة ؛ لصح الحديث حين ذاك ، ولو أرادوا وصول ذلك لَأغناه عن قوله : ليس له علة ، ولَقال : إسناده صحيح ؛ إذًا الحديث صحيح .
لماذا ؟ - يأتي سؤال - لماذا هؤلاء المؤلفون كالمنذري والهيثمي وغيرهما ، لماذا لا يقولون : إسناده صحيح إذا ريَّحونا من سوء الفهم الذي يقع فيه جماهير الناس اليوم ؟
الجواب : إن علم الحديث لم يُهمل لم يُهدر إلا من صعوبته ، هاهم علماء الحديث كالمنذري وأمثاله لا يقولون إلا ما ندر في إسناد حديث ما : إسناده صحيح ، أو إسناده حسن ؛ لماذا ؟ لأنه يقول القائل في حديث ما : إسناده صحيح أو إسناده حسن ، يجب أن يدرس ساعة بل ساعات وربما عشرة أيام فقط إسناد حديث واحد ، ولو توفر الإنسان لمثل هذا التحقيق لَقضى عمره كله وهو لا يستطيع أن يحقِّق إلا يعني أقل من نصف الحديث المتداول اليوم في الكتب وبين ... ونحو ذلك ؛ لأن هذا يتطلَّب دراسة السند الأول إلى آخره ، من حيث الاتصال ، وسلامته من الانقطاع ، وسلامته من التدليس ، وأخيرًا سلامته من العلة الخفيَّة ، وهو أدقُّ علوم الحديث ، وهو الذي يسمَّى بالمرسل الخفي ، لذلك فعلماء الحديث - إلا ما ندر ، ومن هؤلاء النادرين الحافظ ابن حجر - علماء الحديث لا يقولون : إسناده صحيح إلا إذا ظهر لهم بداهةً بدون كلفة .
وإذا ظهر لهم أن الأمر يتطلب بحثًا وذلك مما لا يتَّسع له وقتهم ، لجؤوا إلى هذا التعبير : " رجاله معروفين أنهم من رجال الصحيح " يعني البخاري ومسلم ، لكن هل هناك علة أو لا ؟ يحتاج إلى دراسة ولا يتسع له الوقت ، لذلك يقتصرون على هذه الكلمة ، فلا تفيد هذا الكلمة تصحيح الحديث إسناد الحديث ولا تحسينه ، وإنما كل ما تُعطيه هذه الجملة أن شرطًا من شروط الصحة وجد في هذا الإسناد " موافقة الرجال " إذا قال : رجال الإسناد ثقات ، وإذا قال : رجاله رجال الصحيح ؛ فمعنى ذلك أنهم ثقات زائد أنهم احتج بهم البخاري أو مسلم أو كلاهما معًا .
هذا الذي أردت أن أنبَّه عليه من الناحية الحديثية ، لكن واقع هذا الحديث صحيح ، ولذلك تعمَّدت إخراجه في كتابي " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ، ورقمه : ( 2216 ) .
الآن ننتقل إلى الحديث الثاني من أحاديث الباب في هذه الليلة ؛ ألا وهو الحديث السابع والستون ، وهو قوله :
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يُعطي الناس عطاءهم ، فجاءه رجل فأعطاه ألف درهم ، ثم قال : خذها ؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : ( إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم ، وهما مهلكاكم ) ، هذه السلعة التي نحن نُدندن حولها في هذه الظروف ؛ حيث قلنا : إن الإسلام لا ينهى عن جمع المال وعن كسبه من طريق مشروع حلال ، لكن المشكلة هذا الجمع ، كم أولئك الناس الذين يتيسَّر لهم أولًا أن يجمعوه من طريق مشروع ؟ ثم إن تيسَّر لهم ذلك فكم هم أولئك الذين يصرفون هذا المال المُكتسب من طريق مشروع في طريق مشروع ؟! قليل جدًا ، كما سيأتي في بعض الأحاديث الصريحة الآن ؛ هؤلاء الذين وأغناهم الله من فضله بالمال قليل من ينجو منهم من تبعاته في جمع هذا المال ؛ لذلك كان ابن مسعود - رضي الله عنه - ينبِّه مَن يأتيه ليقبض عطاءه - يعني معاشه - فابن مسعود كان واليًا على بعض البلاد ، وأظن هذه البلاد الكوفة ، فكان حينما يقسم العطاء للناس ويأتيه ... يقول له : " خذه لكن ... لا تغتر به " ، أي : لا يكون سببًا لإهلاكك ؛ فإن الرسول - عليه السلام - قال : ( إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم ) .
طبعًا ليس المقصود بهذا الإخبار ( وهما مهلكاكم ) كل فرد من الأفراد ، لا ، وإنما كمبدأ عام كما قلنا في آية : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )) هذا هو الأصل ، ولا ينجو من هذا إلا القليل ، وذلك ما سيصرِّح به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قصة جرت له مع أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - .
الحديث الذي بعده وهو صحيح - أيضًا - ، عفوًا بعده بحديث ، الحديث الذي قرأناه عن ابن مسعود هو السابع والستين ، الثامن والستون ضعيف - أيضًا - .
التاسع والستون صحيح ؛ وهو قوله : عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله ؛ فقال : ( إن مما أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) .
هذا الذي يخشاه الرسول - عليه السلام - ؛ ما سيفتحه الله - عز وجل - من مغانم ومكاسب تأتي بسبب اتِّساع الدعوة الإسلامية ، وهذا ما وقع ، ولذلك - كما مر معنا وسيأتي أيضًا - كان بعض الصحابة يخشون على أنفسهم أن يكونوا قد فُتنوا في زهرة الدنيا وزينتها حينما جاءتهم الأموال ، فكان الواحد منهم يعمل طيلة النهار ليحصل على قوت يومه .
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عمل ذات يوم عند يهودي على أن ينضحَ له من بئر بستانه ، المقابل كل دلو تمرة فقط ، عَمِلَ أجيرًا علي بن أبي طالب الذي صار خليفة في زمانه عند يهودي مقابل كل نضحة سطل دلو مقابل تمرة فقط ، هؤلاء الصحابة الذين كانوا يعيشون في ضنك من العيش فُتحت لهم الدنيا ، صار عندهم عبيد ، صار عندهم جواري ، منهم من يتمتع كما شرع الله له ، منهم من يبيع ويشتري ، وأباح الله له ذلك - أيضًا - ، فكان بعضهم من الأتقياء يخافون على أنفسهم أن يكونوا فُتنوا ؛ لأن الرسول أخبرهم أنه ما يخشى عليهم الفقر وإنما يخشى عليهم أن تُفتَّح لهم الدنيا ، ويخشى عليهم زينة الدنيا وفتنتها .
الأحاديث الثلاثة التي بعد الحديث السابق ضعيفة - أيضًا - ، لكني - أيضًا - أستدرك فألفت النظر إلى أثر من آثار الصحابة حينما يجلسون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ، لقد سمعتم أنهم جلسوا حوله ، أنتم الآن لا يصح أن يقال : جلستم حولي ، جلستم أمامي ، فكيف يُتصوَّر كون جلوسهم حوله ، وفي المسجد وهو على المنبر ؟ معنى هذا أن جماهير المصلين اليوم يخالفون هذا الأدب ؛ لأنهم يظلُّون مستقبلين القبلة ، بينما السنة أن يستقبلوا الإمام وهو يخطبهم على المنبر ، هكذا يقول أبو سعيد الخدري : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله " ، فهناك شبه نصف دائرة تحوَّط حول الرسول - عليه السلام - باعتبار أن المسجد طوله أكثر من عمقه خلاف وضعنا الآن ، ولذلك مع أن وضعنا الآن ووضع يعني ما هو كوضع مسجد الرسول ، الطول ضيِّق جدًا والعرض هو الطويل ، مع ذلك يلاحظ أن الفكرة تقتضي - كما يُشعر من ذلك الكلمة السائدة عند العامة : " العين مغرفة الكلام " مع ذلك أنا أُلاحظ الآن في بعض الناس غير مستقبلين الجدار القبلة يعني برغم ضيق المكان ، مستقبلين الذي يتكلَّم ؛ لماذا ؟ لأن هذه قضية نفسية ، العامة حينما يقولون : " العين مغرفة الكلام " هذا ليس كلام عوام ، كلام حكماء ؛ لأنه من المتقرِّر أو مستقر في العلم أن أيَّ أمر تتوفر عليه حاسَّتان فتأثير ذلك الأمر فيمن توفَّرت فيه حاسَّتان تجاهه أكثر ممن توفرت فيه حاسَّة واحدة ، وكلما ازدادت الحواسُّ كلما زاد التأثير ، فالإنسان الذي يسمع يتأثر بهذا الكلام ، ولكن الذي يسمع ويرى يتأثر أكثر وأكثر ، ومن هنا تظهر لنا بعضُ حِكَم التشريع وبعض الحركات التي سنَّها الله ، إما على لسان نبيِّه أو على شأنه وسلوكه ؛ مثلًا : تحريك ، رفع الأيدي في الصلاة ، تحريك الإصبع في التشهد ، النظر إلى هذه الإصبع ، وتوجيه هذه الإصبع إلى القبلة ، هذه كلها ... توجِّه قلب هذا المصلي إلى حقيقة واحدة هي الاستقلال لله رب العالمين ، هو الذي أمره أن يتوجَّه بكلِّيَّته إلى القبلة ، فيتوجَّه حتى بإصبعه حتى بأصابع قدميه ، وهو في السجود مثلًا ، وهو في التشهد ، فيوجِّه أصابع قدمه اليمنى إلى القبلة ، كلُّ هذا تأكيد إلى أن الإنسان يتوجَّه بكل جوارحه إلى طاعة ربه - عز وجل - ، هذه الطاعة تركِّز في قلبه المعاني المقصودة من هذه العبادة .
كذلك حينما يجلس الناس لسماع الخطيب ، لا يكفي أن يتوجَّه هو إلى القبلة فقط ؛ لأنه الآن هو في صلاة ، الآن في موعظة في ذكر ؛ (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )) ، أنت الآن في ذكر ، فيجب أن تتوجَّه بكلِّيَّتك إلى هذا الذكر ، من هذه الكلِّيَّة أن تتوجَّه ببدنك ، أن تتوجَّه ببصرك ، أن تتوجَّه بسمعك ، من تتوفر فيه هذه الصفات يكون تأثُّره بما يسمع من الذكر أكثر من الذي يتوجَّه إلى هذا الخطيب - مثلًا - أو هذا المذكِّر ببصره فقط أو بسمعه .
هذا أدب مأخوذ من هذا الحديث ، وإن كان قد سيق في فصل أو في باب الزهد في الدنيا ، لكن ههنا أدب من آداب الصحابة مع الرسول - عليه السلام - ؛ كانوا يجلسون حوله وهو على المنبر .
إذًا يوم الجمعة ليست السنة أن يقف الناس صفوفًا ؛ لأن معنى إذا قاموا للصلاة كانوا متهيِّئين للصَّفِّ ؛ لا ، وإنما عليهم أن يتحلقوا حول الإمام دوائر ، فإذا ما أقيمت الصلاة حين ذاك يهتمون بتسوية الصفوف لها ، هذا تذكير بمناسبة قول أبي سعيد الخدري : " جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله " .
أما الحديث الثالث والسبعون فهو قوله : وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : " كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حرة المدينة ، فاستقبَلَنا أحدٌ ، فقال : يا أبا ذر ! قلت : لبيك يا رسول الله ! قال : ( ما يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليه ثالثةٌ وعندي منه دينار إلا شيءٌ أرصده لِدَيني ، إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ) ؛ عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ثم سار ، ثم انطلق - عليه الصلاة والسلام - فقام يمشي فقال : ( إن الأكثرين - هنا الشاهد - إن الأكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة ) ، وفي حديث يأتي بعده : ( هم الأخسرون ) ، ( إن الأكثرين - يعني : مالًا - هم الأقلُّون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ) ؛ عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ، وقليلٌ ما هم ) ، ثم قال لي : ( مكانك لا تبرح حتى آتيك ) الحديث . قال : رواه البخاري واللفظ له ، ومسلم ، ولفظه وفي لفظ لـ مسلم قال - يعني أبا ذر - : " انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو جالس في يمين الكعبة ، فلما رآني قال : ( هم الأخسرون ورب الكعبة ) ، قال : فجئت حتى جلست فلم أتقارَّ أن قلتُ : فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي مَن هم - الأخسرون - ؟ قال : ( هم الأكثرون أموالًا ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، وقليلٌ ما هم ) الحديث ، ورواه ابن ماجة مختصرًا : ( الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا ، وكسبُه من طيِّب ) هذه هي هامة جدًا .
... ومكسبه إيش ؟ حرام ، لا ، بل قال : ( ومكسبه من طيِّب ) - أيضًا - .
نعود إلى شرح ما هو من الضَّروري شرحه من الحديث ، يقول أبو ذر - وهو صحابي معروف ، ومن المشهورين بالزهد والرغبة عن الدنيا - قال : " كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حرَّة المدينة " الحرَّة : هي الأرض التي يكثر فيها الحجارة السوداء الصغيرة ، والمدينة تقريبًا كلُّ ما حولها هي حرَّة ، وإن كان بعض العلماء يحصرون الحرَّة بالجهة الشمالية فقط ، لكن الأعم هو الأصح ؛ لأن هناك بعض أحاديث تدل على أن الحرة ليست محصورة فقط في أرض المدينة الشمالية ، ويؤكد هذا أنه لا فرق بين الأرض الشمالية والشرقية والغربية ؛ لأن كلها فيها هذه الحجارة السوداء ، فهو يقول :
قال : ( فاستقبلنا أحدًا ) وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر : ( جبل أحد يحبنا ... ) ، فهنا أثبت لـ أحد إحساسًا وذلك بأنه يحبهم ، وقد يقول قائل : كيف ذلك وهو جماد ؟ فنقول : هذا مثل إحساس الكلب الذي إذا رأى صاحبه فإنه يبدي حركة خاصة ، فهو يفرح بقدوم صاحبه بتحريك خاص ... هذا حيوان لا يفهم ، له فهمه ، لكن فهم حيواني في حدوده ، وهذا الفهم الحيواني خاص بهذا الحيوان الذي هو كلب ، وهناك حيوانات عديدة كما نعلم ، وكل حيوان له فهم خاص به ، فما الذي يمنع ... الله واسعة أن يكون الله - عز وجل - خلق حتى في الجمادات نوعًا من الإحساس ، ليس من النوع الخاص بالبشر ؛ فإذا ذاع الخبر وجب الإيمان والتسليم .
السائل : حادثة الجذع .
الشيخ : كثيرة لا نريد التوسُّع ، حادثة الجذع ، وحادثة الـ .
السائل : ... .
لا ، أريد أن أذكر قصة الكهف ؛ (( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ )) ؛ الجدار يريد أن ينقضَّ ، نسب هنا إلى الجدار إرادة ، فيأتي المعطِّلون يقولون : هذا مجاز وليس إيش ؟ حقيقة ، نحن مع القاعدة الشرعية اللغوية : أن الأصل في كل عبارة الحقيقة ، وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا بدليل اضطرَّنا إلى هذا الخروج إذا كان لم يكن هناك دليل ، فالقاعدة تقول : يجب أن نبقى على الحقيقة ، فالآن في مثل هذا الحديث : ( جبل أحد يحبُّنا ) ؛ ما هو الدليل للذي يضطرُّنا إلى التأويل ؟ جهلنا ؛ أن يكون هناك في هذا الجبل إحساس خاص بالحبِّ ، هل هذا الجهل هو دليل ؟
الجواب : لا ؛ لذلك نقول : الإيمان بالإسلام كتابًا وسنةً هو الذي يوسِّع أفق المؤمن وعقله وتفكيره ، والعكس بالعكس تمامًا ، لهذا نحن ندعو دائمًا وأبدًا إلى اتباع الكتاب والسنة ، ليس على طريقة التأويل ؛ هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف ، وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف ، ولذلك نكرِّر دائمًا وأبدًا : نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط ، بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، وإلا لا فرق بين هؤلاء المسلمين الذين بلغوا ثلاثًا وسبعين فرقة ، أو كادوا أو زادوا ، الله أعلم بذلك ، لكن المهم أن التفرُّق كثير وكثير جدًا ، كلهم يقول : كتاب وسنة ، حتى القاديانية الذين يقولون بنبوَّة الغلام أحمد القادياني ، يقولون : على الكتاب والسنة ، لكن يفسرون النصوص هكذا بطريق التأويل ، وإنكار المعاني الحقيقية من نصوص الكتاب والسنة .
" يقول : فاستقبلنا أحد ، فقال - يعني : الرسول - عليه السلام - يا أبا ذر ! قال : لبيك يا رسول الله ! " ، هنا ملاحظة ، لماذا يُناديه وهو معه ؟ هذا من باب تهيئة النفس لتلقي ما سيلقى عليه من العلم .. ، " قال : ( يا أبا ذر ! ) . قال : لبيك يا رسول الله ! " ، وهذا جواب معروف لغة ، ومعروف استعماله من الصحابة كثيرًا وكثيرًا جدًّا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولعله ... من كلمة " نعم " .
قلت : لبيك يا رسول الله ! قال - عليه الصلاة والسلام - - انظروا خير البشر المعصوم عن أن يتلاعب به الشيطان ويفتنه بالمال - ، يقول : ( ما يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا ) الرسول لا يحبُّ أن يكون عنده جبل ذهب مثل جبل أحد .
( يمضي ) هكذا النسخة لكن ... البخاري ( تمضي عليه ) أي : على هذا الذهب الكثير الموجود عند الرسول - عليه السلام - .
( ثالثة ) أي : ليلة ثالثة من بعد ما حصَّل الرسول - عليه السلام - هذا المال الكثير ، ولو كان كجبل أحد ، لا يسرُّه أن يبقى هذا المال عنده أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة ، تدخل والمال لا يزال عنده ، لا يسرُّ النبي - عليه السلام - هذا ، ( لا يسرُّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار واحد ) أي : أن الرسول لا يُبقي عنده مالًا إطلاقًا ؛ ما الذي يفعل به ؟ يفرِّقه كما أشار في الحديث ، يمينًا ويسارًا وخلفًا وليس أمامًا فقط ؛ يعني : ينفقه على مَن حوله من المسلمين .
فيه استثناء ، يقول : ( إلا شيء أرصده لِدَيني ) ؛ يعني هو لا يدَّخر شيئًا من المال إطلاقًا ، إلا مال عليه دين يريد أن يَفِيَه ، وقد جاءه مال كثير ، فيقتطع منه هذا الدَّين ويدَّخره عنده حتى إذا جاءه صاحبه قدَّمه إياه ، حتى لا يرده ؛ لأنه قد جاءه مال ، لهذا العذر وهذا الإرصاد هذا المال لوفاء الدَّين الذي عليه فقط يحبسه - عليه السلام - ، أما ما سوى ذلك فهو يفرِّقه وينفقه كما قال : ( إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ؛ عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ) ، هكذا يحضُّ الرسول - عليه السلام - أمته أنهم إذا جاءهم مال ألَّا يدخروه ، وأن يُنفقوه في سُبل الخير .
ولكن هذا الإنفاق وترك هذا الادِّخار الذي أشار إليه الرسول - عليه السلام - أنه لا يدخر المال مهما كان كثيرًا إلا ما كان عليه دين ، ما حكمه في الإسلام ؟ هذا الإنفاق أهو واجب ؟ هذا الادِّخار أهو حرام ؟
هنا يجب أن نفهم الآن الموضوع الذي يُثار في العصر الحاضر استغلالًا للإسلام في خدمة بعض المذاهب المخالفة للإسلام ؛ ألا وهو المذهب الاشتراكي أو الشيوعي ، وكثير من الكتَّاب المغرضين وبعض الكُتَّاب المخلصين استغلُّوا مثل هذا الحديث فجعلوا الإسلام يحرِّم على الأغنياء أن يدَّخروا مالهم ، وزعموا أن الإسلام يوجب ويفرض عليهم أن ينفقوا كل مالهم ، كما هو حديث أبي ذر هذا .
من أجل ذلك نحن نقول : أي حكم في الإسلام لا يجوز أن يُؤخذ من نصٍّ واحدٍ ، وإنما من مجموعة النصوص ، هذا الحديث بلا شك فيه حضٌّ بالغ جدًّا على الإنفاق ، والتحذير من الادخار ، ولكن الحكم الدقيق والحكم الفقهي لا يؤخذ من هذا الحديث وحده ، فكل ... أجمعوا أن الله - عز وجل - فرض على أنواع معيَّنة من الأموال زكاة - أيضًا - محدودة في كل سنة ، في كل موسم ، وبنسبة مئوية معروفة ، فحينما فرض هذه الزكاة بالمية اثنين ونصف - مثلًا - ، على النقد بالمية عشرة أو أقل من ذلك بالنسبة للمحاصيل الزراعية ؛ معنى ذلك أن ما سوى ذلك جائز للمسلم أن يتمتَّع به ، وجائز أن يدَّخره ، ولذلك فكل مال أُخرجت زكاته فليس بكنز يُعذَّب عليه صاحبه يوم القيامة ، ومرَّت معنا أحاديث في كتاب " الترغيب والترهيب " في التحذير للأغنياء الذي يكنزون الذهب والفضة ، وأنها تُكوى يوم القيامة ، فإيش معنى يكنزونها ؟ أي : لا يُخرجون ما فرض الله عليهم فيها من حقٍّ .
فإذًا ليس من الواجب أن يخرج المسلم من ماله كله وألَّا يبيت وعنده أيُّ مال ، لكن هذا من فضائل الأعمال ، من مكارم الأخلاق ؛ أن المسلم إذا أغناه الله من فضله أن ينفقه ، ومع ذلك فهنا شيء آخر يجب أن يُذكر ، لا يعني أن يدعَ عياله وأهله وأطفاله فقراء ، جاءه هذا المال فخرجَ منه بكلِّيَّته ، ولم يعبث به وإنما على المسلمين ، ولكن أحق المسلمين بشيء من هذا المال هم الأقربون ، ولذلك فلا يتناقض هذا مع حديث مضى معنا - أيضًا - في كتاب الزكاة : " أن الرسول - عليه السلام - كان يدَّخر لأهله قوت سنة " ، فهذا جمع بين الحقوق ، فهو من ناحية لا ينسى حقوق أهله ، ومن ناحية لا يدخر المال الذي زاد عنده على حقوق أهله وينفقه على المسلمين .
خلاصة القول : المال الواجب إخراجه ليس هو كل مال ، وإنما هي نسبة معروفة في كتب الفقه وبإجماع المسلمين ، أما الخروج عن كل ذلك أو نصف المال فهذه أمور من فضائل ومكارم الأخلاق ، والناس يختلفون في ذلك أشدَّ الاختلاف ، وقد كنَّا ذكرنا - أيضًا - في بعض الدروس السابقة أن البخل بخلين : بخل يُعذَّب عليه الإنسان ؛ وهو إذا بخل بما فرض الله عليه ، والبخل الآخر يُذمُّ عليه ، ولكن لا يعاقب عليه ، وهو الذي لا يُنفق يمينًا ويسارًا وأمام وخلف .
فمن هذا نفرِّق بين ما هو واجب وبين ما هو مستحب ، والناس في هذا متفاوتون ، ولعله مرَّ في كتابنا هذا أو في درسنا حديث مسابقة عمر لأبي بكر ، قال عمر بعد تجربة أخيرة بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : أن أبا بكر سمع بمناسبة ما حضًّا على الإنفاق في سبيل الله ، فجاء بكلِّ ماله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال له - عليه الصلاة والسلام - : ( ماذا تركت لأهلك ؟ ) . قال : تركت لهم الله ورسوله ، فجاء عمر وقدَّم نصف ماله ، فلما علم ما فعل صاحبه ، قال : " ما سابَقَني إلا سَبَقَني " ، ولم يسابقه ، فأبو بكر خرج عن كل ماله ، وعمر خرج عن نصف ماله ، والناس درجات ، ومن النادر جدًّا أن مسلمًا عاقلًا يخرج عن جميع ماله ، ولذلك أنا أكاد أعتبر خروج أبي بكر عن كل ماله هذه مزية كمزية الرسول - عليه السلام - ههنا ، حيث يقول : أنه لا يسره أن تمضي عليه ثلاث ليالٍ وعنده مثل جبل أحد ذهبًا أن يبقى عنده .
ذلك لأن العدل في الحقوق صعب جدًّا ، إنسان يخرج عن ماله يا ترى قائم بكل الحقوق بالنسبة لأولاده لزوجته لأقاربه ؟ الموازنة الدقيقة لا يحسنها إلا أفراد قليلين جدًّا ، ومنهم أبو بكر الصديق ، أو هو أولهم وآخرهم .
لذلك فيُنقم على الصوفية الذين جعلوا مبدأً لهم الخروج عن المال ، مبدأ لهم بدون هذا التفصيل الذي يجب أن يراعي فيه الخارج عن ماله ألا ينسى حقوق الآخرين ، ولذلك فهم يروون القصة المزعومة التي وقعت بين الإمام الشافعي وبين شيبان الراعي ، وأهل العلم يقولون : هذه قصة مختلقة ؛ لأن الإمام الشافعي ما أدرك شيبان الراعي ، فبينهما مسافة ، وإنما وضعتها بعض الطوائف الصوفية للدعوة إلى مذهبهم ؛ زعموا بأن الشافعي لَقِيَ شيبان الراعي فكان وصفه بأنه رجل أمِّيٌّ ومع ذلك فهو فقيه ؛ يعني عنده العلم اللدني المزعوم ، فسأله عن الرجل يسهو في الصلاة ماذا عليه ؟ - السائل الإمام الشافعي ، والمسؤول شيبان الراعي - ، قال شيبان للشافعي : فعندنا أم عندكم ؟
قال : إيش عندنا عندكم في فرق ؟
قال : نعم .
قال : لا ... ، إيش عندنا وإيش عندكم ؟
قال : أما عندكم فالذي يسهو في الصلاة فيسجد سجود السهو ، وانتهى الأمر .
قال : وعندكم إيه ؟
قال : هذا الذي يسهو في الصلاة ينبغي أن تُقطعَ رقبته !
سأله سؤال آخر : ما الذي يجب على المسلم من الزكاة ؟
قال له : عندنا أم عندكم ؟
قال له : و - أيضًا - فيها عندنا وعندكم ؟
قال : نعم .
قال : عندنا وعندكم فصِّل .
قال : عندكم يخرج بالمية اثنين ونص ، وإذا به قد أدَّى الواجب .
قال : وعندكم ؟
قال : عندنا يخرج عن جميع ماله .
جعلوها قاعدة ، وهذا خطأ ؛ لأن الخروج عن جميع المال قد يؤدي إلى أمور مخالفة للإسلام .
وفعلًا إذا قرأت حكايات الصوفية في هذا المجال تجد العجب العجاب ، هذا الذي ، حتى عندنا بعض المحدِّثين ابتُلوا بالتصوف ، فكان ضيَّع قسمًا من حياته في علم الحديث ، لمَّا تصوَّف أخذ كتب الحديث وحرقها ، وآخر أخذها ودفنها في الأرض ، وآخر عنده مال رماه في البحر ، هذا كله خروج عن المال ، كأن صار الخروج عن المال هدف ، بينما الخروج عن المال هدفه تطهير النفس وتزكيته ، لكن مو خراب بيت آخرين !! ساعد نفسك بأن تساعد إخوانك المسلمين .
لعلي أطلت الآن ، وهذا الحديث في الواقع عليه تعليقات كثيرة ، فلعلنا نؤجِّل ذلك إلى الدرس الآتي ؛ لنتوجه إلى الإجابة عن بقية الأسئلة ، وهي من الكثرة بحيث أننا لا نستطيع الإجابة عنها كلها ، ولذلك اعفونا عن أسئلتكم الليلة .
- سلسلة الترغيب والترهيب - شريط : 13
- توقيت الفهرسة : 00:00:01
- نسخة مدققة إملائيًّا