من أحاديث الترغيب في حفر القبور وتكفين الموتى .
A-
A=
A+
الشيخ : ... نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) ، (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا )) ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا )) ، أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
درسنا الليلة من " الترغيب والترهيب " ، وعلى ما جرينا عليه من الاقتصار في التدريس على الأحاديث الثابتة من حسن وصحيح ، وتجنُّب ما دون ذلك من الأحاديث ، وهو : " الترغيب في حفر القبور و تغسيل الموتى وتكفينهم " .
الحديث الأول - وهو صحيح - : قال - رحمه الله - : عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن غسَّل ميِّتًا فكتمَ عليه غفر الله له أربعين كبيرة ، ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه ؛ فكأنَّما أسكنه مسكنًا حتى يُبعث ) رواه الطبراني في " الكبير " ورواته مُحتَجٌّ بهم في الصحيح ، والحاكم وقال : " صحيح على شرط مسلم " ، ولفظه : ( من غسَّل ميِّتًا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرَّة ، ومن كفن ميتًا كساه الله من سندس وإستبرق في الجنة ، ومن حفر لميِّتٍ قبرًا فأجنَّه فيه أجرى الله له من الأجر كأجر مسكنٍ أسكنه إلى يوم القيامة ) ، إلى آخره ، التخريج فيه روايات أخرى لسنا أو ليست من شرطنا .
في هذا الحديث حضٌّ بالغٌ على أن يتولَّى المسلم غسل أخيه الميت المسلم أولًا ، وهذا في الواقع من الأمور التي أصبحت مهجورة ومتروكة اليوم من جماهير المسلمين المتعبِّدين فضلًا عن غيرهم ؛ أعني : أن يتولَّى المسلم غسل أخيه المسلم ، وأن لا يُسلِّمَ غسله لمن اتَّخذوا غسل أموات المسلمين مهنةً لا يقومون بها إلا لأجرٍ يقبضونه من الدولة أو من غيرها ، فغسل الميت كتكفينه وتجهيزه ودفنه هو عبادة من العبادات الإسلامية التي حضَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها ، ونوَّعَ أنواعَ الحضِّ على ذلك ، منه هذا الحديث الذي بين أيديكم ؛ حيث فيه قوله - عليه السلام - : ( من غسَّل ميِّتًا فكتم عليه ) الكتم هنا يشمل أمرين اثنين :
أحدهما : لا يدل عادةً على صلاح أو طلاح ، وهو ما قد يخرج من الميت وهو على المغتسل من فضلات أو قاذورات ، هذا شيء طبيعي من بعض الناس الذين لهم بدنٌ خاص أو صحَّة خاصة أو نحو ذلك من العلل ؛ فقد يخرج من أمثال هؤلاء شيء ، فهذا أولًا ينبغي كتمه من الذي تولَّى غسله وتكفينه .
والشيء الآخر - وهو أهم من الأول - : ما قد يبدو على الميت وهو يُغسَل أو يُغسَّل من ظلمة من أمرٍ يتعلق بالنواحي المعنوية الروحية ؛ قد يشعر الغاسل بأن ما رآه على هذا الميت الذي تولَّى غسله هو علامة على عدم صلاحه ، هذا أقل ما يُقال ؛ فسواء كان ما رآه الغاسل للميت من النوع الأول أو من النوع الآخر ؛ فعليه أن يكتمَ ذلك على الناس ، وأن يبقى سرًّا في نفسه لا يبوح به أبدًا .
من غسل ميِّتًا هكذا ، وكتم ما رأى عليه مما لا يحسن إظهاره وإشاعته ( غفر الله له أربعين كبيرة ) ، وفي الرواية الأخرى : ( مرَّة ) ، ويؤسفني أن أقول الآن : إنني لم أتنبَّه حينما حضَّرت هذا الدرس إلى الفرق بين الروايتين ؛ الرواية الأولى : ( أربعين كبيرة ) ، والأخرى : ( أربعين مرَّة ) ، وفرق بين الروايتين ، وإن كان هذا الفرق يُمكن التوفيق بينهما من حيث قواعد علم أصول الفقه ؛ بأن يُحمل المُطلق على المقيَّد ، ولكن ذلك شرطه أن يكون كلٌّ من الروايتين ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأما إن كانت إحداهما ثابتة والأخرى غير ثابتة ؛ فحين ذاك لا حاجةَ بنا إلى التوفيق بينهما ؛ على قاعدة ونحن في آداب غسل الميت تلك القاعدة التي تقول : " هذا الميت لا يستحقُّ هذا العزاء " ، فإذا كان إحدى الروايتين لا تصحُّ ؛ فلماذا نشغل أنفسنا بها ؟ أقول آسفًا : لم أتنبَّه للخلاف بين الروايتين لأتحقَّقَ من ثبوتهما معًا أو من إحداهما ، فهذا إذًا يُعلَّق إلى الدرس الآتي - إن شاء الله - حتى لا نتكلَّم بغير علم .
وعلى كل حال ففي هذا الحديث حضٌّ عظيمٌ جدًّا على أن يتولَّى المسلم تغسيل أخيه المسلم ، وأن يكتمَ ما قد يرى عليه مما أشرنا إليه آنفًا ؛ ففيه أن الله - عز وجل - يغفر له أربعين ذنبًا ، قد تكون هذه الذنوب - كما في الرواية الأولى - من الكبائر ، وليس ذلك على الله بعزيز ، وقد تكون دون ذلك ؛ ففضل الله - عز وجل - أوسع من ذلك .
وفي حديث آخر سيأتي قريبًا - إن شاء الله - ما يؤكِّد الرواية المطلقة ، لكن الأمر يتوقَّف إلى الرجوع إلى سند الرواية الأولى التي نحن الآن في صددها ؛ وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من غسَّل ميتًا فكتمَ عليه غفر الله له أربعين كبيرة ) .
ولا شك أن الذي يتولَّى غسل الأموات ليس رغبةً فيما عند الله ، وإنما طمعًا في أن ينالَ ما عند عباد الله من الأجر والمادة ؛ لا شكَّ أن أمثال هؤلاء لا يهمُّهم التقيد بمثل هذا الأدب ، فقد يتحدَّث بسوء ما رأى ممَّن تولى تغسيله ، ففي هذا الحديث إذًا تحذير غير مباشر من أن يتحدث المغسِّل بشيء مما يرى ممَّن تولى تغسيله ، ثم في الحديث حضٌّ على أمر آخر - أيضًا - أصبح مع الأسف مهنةً لا يُمكننا أن نرى أحدًا يقوم بذلك إلا ما قد يقع في بعض القرى أو الضَّواحي البعيدة عن العاصمة ؛ ذلك هو قوله - عليه السلام - : ( ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه ) أي : يستره ويحفظه من أن يُنبش سواء من الوحوش أو أمثال الوحوش من بعض الناس الذين لهم غاية في التَّنبيش عن مقابر المسلمين ؛ ففي هذه الفقرة الثانية من الحديث حضٌّ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أن يحفرَ المسلمُ قبرَ أخيه المسلم حتى يُجِنَّه ويواريَه ويسترَه ، يقول في بيان فضل مَن حَفَرَ القبر للمسلم : ( فكأنَّما أسكنَه مسكنًا حتى يُبعث ) ، وفي هذا الحديث أو في هذا التشبيه بيان لأمر طالما غفل عنه جماهير الأغنياء من المسلمين اليوم ؛ ألا وهو فضل من ييسِّر لأخيه المسلم الفقير الذي لا يجد له مأوًى ومسكنًا يأوي إليه ، ونأخذ فضل هذا من التشبيه ؛ لأن من حفر قبرًا لأخيه فكأنَّه أسكنه في مسكن إلى يوم يبعث ، فالمُشبَّه دون المُشبَّه به عادةً ؛ فإذًا إسكان المسلم الحيِّ الفقير إسكانه في بيت يكنُّه ويحفظه أفضل بلا شك من أن يحفرَ له أو لغيره من المسلمين قبرًا يستره ويُجنُّه إلى يوم يُبعث ، فالرسول - عليه السلام - يقول : ( ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه فكأنما أسكنَه مسكنًا حتى يُبعث ) ؛ فإذًا فيه حضٌّ لأغنياء من المسلمين أن يفكِّروا بالفقراء والمساكين الذين لا يجدون لهم مسكنًا ، ويعيشون ربَّما في مساكن ضيِّقة يجدون في ذلك حرجًا من جهات عديدة ، ومنها أنه لا يتيسَّر لهم تأمين أجرة هذا السَّكن في كثيرٍ من الأحيان ، فمَن ساعد أخاه المسلم وأوجَدَ له سكنًا ؛ وذلك بأن يشتري له سَكَنًا أو يُغنيه عن أجرة السَّكن الذي يسكنه ؛ فهذا من باب أولى يكون له أجره كما لو أسكنَه إلى يوم القيامة .
هكذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضُّ المسلمين على أن يتعاونوا وعلى أن يقوم أحياؤهم ببعض الحقوق التي لأمواتهم عليهم ، ولا شك ولا ريب أن مثل هذا التوجيه لا وجود له في الأديان الأخرى ، وهذا مما يدلُّ على كمال وتمام شريعة الإسلام ، وصدق الله العظيم إذ يقول : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا )) .
وهنا شيء لا بأس به من التنبيه عليه ؛ وهو تعليقًا على قوله - عليه السلام - ( من حفر لأخيه قبرًا ) ، إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - كما ذكرنا لكم مرارًا وتكرارًا قد وضع للمسلمين مبادئ وقواعد أمرَهم أن يلتزموها لكي يحتفظوا بذلك إذا ما حافظوا عليها على شخصيَّتهم المسلمة ، وأن يمتازوا ليس فقط بعقائدهم وأخلاقهم ؛ وإنما - أيضًا - بمظاهرهم وأعمالهم ، من ذلك أنه جعل قبر المسلم يختلف وهو شيء باطني غير الشيء الظاهري ؛ لأننا نتكلَّم عن حفر القبر ، لقد جعل الرسول - عليه السلام - حفرَ قبرِ المسلم ينبغي - أيضًا - أن يختلف في صورته عن قبر الكافر ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( اللَّحد لنا ، والشِّقُّ لغيرنا ) ، أو في رواية أخرى : ( لأهل الكتاب ) ، فما هو اللحد وما هو الشَّق ؟
الحفرة التي تُحفر على شكل المستطيل ولا إيش نسمِّيه ؟
السائل : متوازي المستطيلات .
الشيخ : نعم ؟
السائل : متوازي المستطيلات .
الشيخ : متوازي ؟ متوازي المستطيلات ، الحفرة هذه التي تُحفر هكذا هذه حفرة سوانا معشر المسلمين ، أما اللَّحد الذي هو لنا في الحديث الذي ذكرناه آنفًا سواء الحفرة التي لا بد منها أولًا ، ثم يُحفر حفرة في جدار تلك الحفرة الأولى الجدار القبلي منها ، هذه القبلة قبلتنا ، وهذه الحفرة المستطيلة كما ذكرنا ، وهذه الواجهة وهذا الجدار هو الجدار الذي يستقبل القبلة ، فيحفر من الداخل حفرة بمقدار جسد الميت كبيرًا كان أو صغيرًا ؛ بحيث تتسع هذه الحفرة الثانية لجسد هذا الميت ، فيُودع فيه ووجهه إلى القبلة ، وظهره إلى الحفرة الكبيرة ، والسِّرُّ في ذلك أنه إذا أُهيل التراب عليه جاء التراب من خلفه ، ولم يتساقط التراب على وجهه كما هو الشأن في الحفرة في الشِّقِّ الذي هو لغيرنا .
فحينما يقول الرسول - عليه السلام - في هذا الحديث : ( مَن حَفَرَ لأخيه قبرًا ) فإنما يعني الحفرة المشروعة لدينا ، وليس كل حفرة ولو كانت تلك من عادة غيرنا من أهل الكتاب ، ومع الأسف إن هذه السنة - أي : ما سمَّاه الرسول عليه السلام باللحد - أصبح أمرًا منسيًّا في كثير لا أقول في كل البلاد الإسلامية ، فقد رأيت في بعض البلاد التي لا تزال أقرب من بلادنا إلى السنة مَن يحافظون على اللَّحد ، وأنا شخصيًّا أنعم الله - تبارك وتعالى - عليَّ أن شاركت ولا أقول حفرتُ ؛ لأني ما أستطيع ذلك مع الأسف ، لكني شاركتُ أوَّلًا بالتوجيه إلى حفر اللحد ، ثم شاركت بالتعاون معهم في حفر هذا اللحد في بعض البلاد العربية ، ولذلك فالمسلم يجب - أيضًا - أن يلاحظ هذه القضية ولا يهملها ، ولا شك أن ذلك في حدود (( اتقوا الله ما استطعتم )) ؛ لأنه مع الأسف الشديد اليوم أصبح المسلم لا يستطيع أن يؤمِّنَ بنفسه قبره الذي سيكون المصير إليه ، وإنما ذلك راجع إلى من اتَّخذ ذلك مهنةً وتسلَّط على الناس بأن يأخذ ثمن القبر أثمانًا بالغة باهظة ، وقد يعجز عن القيام بهذا الثمن كثير من الناس إلا أن يستقرضوا أو أن يُسألوا ، بينما كانت المسألة فطرية بدهيَّة كل من مات فسرعان ما سيجد من يهيِّئ له القبر بدون أيِّ ثمن وبدون أيِّ منَّة ؛ لأنه من الأمور التي كانوا يتقرَّبون بها إلى الله - تبارك وتعالى - .
فإن كنَّا لا نستطيع - مع الأسف - أن نحقِّق مثل هذه الأمور عمليًّا للأمور التي تحيط بنا مع الأسف الشديد ؛ فعلى الأقل يجب أن يبقى هذا في أذهاننا ، لكي لا ننسى شريعتنا مع مضيِّ الأيام والسنين ، ويعود أمرنا إلى الضَّلال الذي وقع فيه النصارى ، والذين وُصفوا في سورة الفاتحة : (( غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين )) ، أي : المغضوب عليهم هم كلُّ جنسٍ من البشر عرفوا الحقَّ وحادوا عنه ، أما الضالون فهم الذين جهلوا الحقَّ فحادوا عنه بطبيعة الحال ، فمثال الفريق الأول من المغضوب عليهم اليهود ، ومثال الفريق الآخر النَّصارى ، وهذا أصحُّ ما قيل في تفسير هذه الآية (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) ، ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الحديث الذي جاء في تفسير هذه الآية قائلًا (( غير المغضوب عليهم )) اليهود (( ولا الضالين )) النصارى ؛ لا يظنَّنَّ ظانٌّ أن هذا التفسير هو على سبيل الحصر ؛ أي : (( المغضوب عليهم )) هم اليهود فقط ، و (( الضالين )) هم النصارى فقط ، ليس الأمر كذلك ، وإنما جاء الحديث على سبيل التَّمثيل وليس على سبيل التَّحديد ، لذلك قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " إنَّ لكثير من علماء المسلمين شبهًا بالمغضوب عليهم والضالين " ، فالذين عرفوا الحقَّ وحادوا عنه مثلهم مثل اليهود ، والذين جهلوا الحقَّ وحادوا بطبيعة الحال عنه فمثلهم مثل النصارى ؛ فعلينا نحن أن نعرف شريعتنا ولا ننساها لكي نعمل بها حينما يتيسَّر لنا سبيل العمل والتطبيق ، هذا ما أردتُ لفتَ النظر إليه بمناسبة قوله - عليه السلام - : ( ومن حفرَ لأخيه قبرًا حتى يٌجِنَّه فكأنَّما أسكنَه مسكنًا حتى يبعث) .
الحديث الذي بعد هذا هو حديث ضعيف نتجنَّبه كما ذكرنا .
أما الذي يليه وهو حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من غسَّل ميتًا فكتمَ عليه طهَّره الله من ذنوبه ، فإن كفَّنه كساه الله من السندس ) رواه الطبراني في الكبير ، وهذا حديث حسن .
وفيه حضٌّ على نوعٍ آخر هو أيسر من الأمرين السابقين على كثير من الناس ، وبخاصَّة منهم الأغنياء المَيسورين ، في الحديث السابق فيه حضٌّ على غسل الميت ، هذا الغسل يخشاه كثير من الناس توهُّمًا ، كثير من الناس يخشون من تولي غسل الميت أنهم ممكن يشوفوه بالليل فينزعجون برؤياه ، هذا كلُّه من ضعف الايمان وقلة قوة القلب وضعف قوة القلب ، كما أنه تولي حفر القبر ما هو بالأمر السهل ؛ لأنه يحتاج إلى قوَّة كما أشرنا آنفًا ، لكن هنا شيء ثالث سهلٌ جدًّا ؛ وهو أن يتولَّى رجل تكفين الميت ، ولكن هل المقصود بتولِّي تكفينه هو فقط شراء الكفن ؟ ونقول - مثلًا - للجنائزي الذي يتولَّى التكفين ثمن الكفن منِّي ، ولَّا المعنى أنه يتولى تكفينه شراءً للكفن وتولِّيًا منه بتكفين الميِّت فيه ؟
ولاشك أنَّ هذا المعنى هو الذي ينبغي أن يُفهم ؛ لأن اللفظ المطلق ، وهذه طريقة اللغة العربية أن اللفظ المطلق ينبغي إجراؤه على إطلاقه ما لم يأتِ شيء يقيِّده ، فقوله : فإن كفَّنه شامل لشراء الكفن ولتولي تكفينه بيده ، وهذا إذًا أمرٌ ثالثٌ في حضِّ الشارع للمسلم على أن يتولَّى تكفين الميت ، ويكون أجره عند الله - عز وجل - أن يُجازى بخير من جنس عمله ؛ لأننا نقول : " الجزاء من جنس العمل " ، فهذا المسلم تولَّى تكفين أخيه الميت المسلم ، لكنَّ الله - عز وجل - يجازيه بخير من ذلك ؛ أن يُلبسه في الجنة من حريرها ومن إستبرقها ومن سندسها ، وإذًا في الحديث تبشير لمن تولَّى تكفين الميت بأنَّه يدخل الجنة ، لأن هذ الإكساء من السندس لا يمكن أن نتصوَّره خارج الجنة ، لأنُّو ليس هناك إلا الدنيا وإلا البرزخ وإلا الآخرة ، فالدنيا غير وارد هذا الإشكال ؛ لأن السندس محرَّم على المسلم ، البرزخ ليس هناك حياة مادِّيَّة كالحياة التي نحياها الآن والحياة الأسمى والأعلى التي سنحياها - إن شاء الله - فيما بعد في الجنان ، فإذًا لم يبقَ إلا أن يكون هذا الإكساء جزاء تكفين المسلم لأخيه الميِّت إلا في الجنة ، وهذا أسلوب نعرفه من الشارع الحكيم " لازم الشيء " يجب أن يُفهم ؛ ما دام أنه بُشِّر بالإكساء فذلك يتضمَّن أنه بُشِّر بالجنة ، كما أنه من لم يشرَبِ الخمر في الدنيا شربها في الآخرة ، ومن شربها في الدنيا لم يشربها بالآخرة ، فمعنى هذا وذاك أن من لم يشرب الخمر في الدنيا شربها في الآخرة يعني في الجنة ، كذلك من يلبس الحرير في الدنيا لبسه في الآخرة (( ولباسهم فيها حرير )) ؛ إذًا من هذه الجملة الموجزة القصيرة كساه الله - عز وجل - من السندس ؛ معنى ذلك أن الله - تبارك وتعالى - يتولَّى من كفَّن أخاه المسلم بأن يُدخله الجنة وأن يُلبسه من حريرها ومن سندسها .
أما بقيَّة الأحاديث الآتية في الباب فهي ما بين ضعيف وضعيف جدًّا ، ودرسنا الآتي - إن شاء الله - الترغيب في تشييع الميت وحضور دفنه .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
درسنا الليلة من " الترغيب والترهيب " ، وعلى ما جرينا عليه من الاقتصار في التدريس على الأحاديث الثابتة من حسن وصحيح ، وتجنُّب ما دون ذلك من الأحاديث ، وهو : " الترغيب في حفر القبور و تغسيل الموتى وتكفينهم " .
الحديث الأول - وهو صحيح - : قال - رحمه الله - : عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن غسَّل ميِّتًا فكتمَ عليه غفر الله له أربعين كبيرة ، ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه ؛ فكأنَّما أسكنه مسكنًا حتى يُبعث ) رواه الطبراني في " الكبير " ورواته مُحتَجٌّ بهم في الصحيح ، والحاكم وقال : " صحيح على شرط مسلم " ، ولفظه : ( من غسَّل ميِّتًا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرَّة ، ومن كفن ميتًا كساه الله من سندس وإستبرق في الجنة ، ومن حفر لميِّتٍ قبرًا فأجنَّه فيه أجرى الله له من الأجر كأجر مسكنٍ أسكنه إلى يوم القيامة ) ، إلى آخره ، التخريج فيه روايات أخرى لسنا أو ليست من شرطنا .
في هذا الحديث حضٌّ بالغٌ على أن يتولَّى المسلم غسل أخيه الميت المسلم أولًا ، وهذا في الواقع من الأمور التي أصبحت مهجورة ومتروكة اليوم من جماهير المسلمين المتعبِّدين فضلًا عن غيرهم ؛ أعني : أن يتولَّى المسلم غسل أخيه المسلم ، وأن لا يُسلِّمَ غسله لمن اتَّخذوا غسل أموات المسلمين مهنةً لا يقومون بها إلا لأجرٍ يقبضونه من الدولة أو من غيرها ، فغسل الميت كتكفينه وتجهيزه ودفنه هو عبادة من العبادات الإسلامية التي حضَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها ، ونوَّعَ أنواعَ الحضِّ على ذلك ، منه هذا الحديث الذي بين أيديكم ؛ حيث فيه قوله - عليه السلام - : ( من غسَّل ميِّتًا فكتم عليه ) الكتم هنا يشمل أمرين اثنين :
أحدهما : لا يدل عادةً على صلاح أو طلاح ، وهو ما قد يخرج من الميت وهو على المغتسل من فضلات أو قاذورات ، هذا شيء طبيعي من بعض الناس الذين لهم بدنٌ خاص أو صحَّة خاصة أو نحو ذلك من العلل ؛ فقد يخرج من أمثال هؤلاء شيء ، فهذا أولًا ينبغي كتمه من الذي تولَّى غسله وتكفينه .
والشيء الآخر - وهو أهم من الأول - : ما قد يبدو على الميت وهو يُغسَل أو يُغسَّل من ظلمة من أمرٍ يتعلق بالنواحي المعنوية الروحية ؛ قد يشعر الغاسل بأن ما رآه على هذا الميت الذي تولَّى غسله هو علامة على عدم صلاحه ، هذا أقل ما يُقال ؛ فسواء كان ما رآه الغاسل للميت من النوع الأول أو من النوع الآخر ؛ فعليه أن يكتمَ ذلك على الناس ، وأن يبقى سرًّا في نفسه لا يبوح به أبدًا .
من غسل ميِّتًا هكذا ، وكتم ما رأى عليه مما لا يحسن إظهاره وإشاعته ( غفر الله له أربعين كبيرة ) ، وفي الرواية الأخرى : ( مرَّة ) ، ويؤسفني أن أقول الآن : إنني لم أتنبَّه حينما حضَّرت هذا الدرس إلى الفرق بين الروايتين ؛ الرواية الأولى : ( أربعين كبيرة ) ، والأخرى : ( أربعين مرَّة ) ، وفرق بين الروايتين ، وإن كان هذا الفرق يُمكن التوفيق بينهما من حيث قواعد علم أصول الفقه ؛ بأن يُحمل المُطلق على المقيَّد ، ولكن ذلك شرطه أن يكون كلٌّ من الروايتين ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأما إن كانت إحداهما ثابتة والأخرى غير ثابتة ؛ فحين ذاك لا حاجةَ بنا إلى التوفيق بينهما ؛ على قاعدة ونحن في آداب غسل الميت تلك القاعدة التي تقول : " هذا الميت لا يستحقُّ هذا العزاء " ، فإذا كان إحدى الروايتين لا تصحُّ ؛ فلماذا نشغل أنفسنا بها ؟ أقول آسفًا : لم أتنبَّه للخلاف بين الروايتين لأتحقَّقَ من ثبوتهما معًا أو من إحداهما ، فهذا إذًا يُعلَّق إلى الدرس الآتي - إن شاء الله - حتى لا نتكلَّم بغير علم .
وعلى كل حال ففي هذا الحديث حضٌّ عظيمٌ جدًّا على أن يتولَّى المسلم تغسيل أخيه المسلم ، وأن يكتمَ ما قد يرى عليه مما أشرنا إليه آنفًا ؛ ففيه أن الله - عز وجل - يغفر له أربعين ذنبًا ، قد تكون هذه الذنوب - كما في الرواية الأولى - من الكبائر ، وليس ذلك على الله بعزيز ، وقد تكون دون ذلك ؛ ففضل الله - عز وجل - أوسع من ذلك .
وفي حديث آخر سيأتي قريبًا - إن شاء الله - ما يؤكِّد الرواية المطلقة ، لكن الأمر يتوقَّف إلى الرجوع إلى سند الرواية الأولى التي نحن الآن في صددها ؛ وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من غسَّل ميتًا فكتمَ عليه غفر الله له أربعين كبيرة ) .
ولا شك أن الذي يتولَّى غسل الأموات ليس رغبةً فيما عند الله ، وإنما طمعًا في أن ينالَ ما عند عباد الله من الأجر والمادة ؛ لا شكَّ أن أمثال هؤلاء لا يهمُّهم التقيد بمثل هذا الأدب ، فقد يتحدَّث بسوء ما رأى ممَّن تولى تغسيله ، ففي هذا الحديث إذًا تحذير غير مباشر من أن يتحدث المغسِّل بشيء مما يرى ممَّن تولى تغسيله ، ثم في الحديث حضٌّ على أمر آخر - أيضًا - أصبح مع الأسف مهنةً لا يُمكننا أن نرى أحدًا يقوم بذلك إلا ما قد يقع في بعض القرى أو الضَّواحي البعيدة عن العاصمة ؛ ذلك هو قوله - عليه السلام - : ( ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه ) أي : يستره ويحفظه من أن يُنبش سواء من الوحوش أو أمثال الوحوش من بعض الناس الذين لهم غاية في التَّنبيش عن مقابر المسلمين ؛ ففي هذه الفقرة الثانية من الحديث حضٌّ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أن يحفرَ المسلمُ قبرَ أخيه المسلم حتى يُجِنَّه ويواريَه ويسترَه ، يقول في بيان فضل مَن حَفَرَ القبر للمسلم : ( فكأنَّما أسكنَه مسكنًا حتى يُبعث ) ، وفي هذا الحديث أو في هذا التشبيه بيان لأمر طالما غفل عنه جماهير الأغنياء من المسلمين اليوم ؛ ألا وهو فضل من ييسِّر لأخيه المسلم الفقير الذي لا يجد له مأوًى ومسكنًا يأوي إليه ، ونأخذ فضل هذا من التشبيه ؛ لأن من حفر قبرًا لأخيه فكأنَّه أسكنه في مسكن إلى يوم يبعث ، فالمُشبَّه دون المُشبَّه به عادةً ؛ فإذًا إسكان المسلم الحيِّ الفقير إسكانه في بيت يكنُّه ويحفظه أفضل بلا شك من أن يحفرَ له أو لغيره من المسلمين قبرًا يستره ويُجنُّه إلى يوم يُبعث ، فالرسول - عليه السلام - يقول : ( ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يُجِنَّه فكأنما أسكنَه مسكنًا حتى يُبعث ) ؛ فإذًا فيه حضٌّ لأغنياء من المسلمين أن يفكِّروا بالفقراء والمساكين الذين لا يجدون لهم مسكنًا ، ويعيشون ربَّما في مساكن ضيِّقة يجدون في ذلك حرجًا من جهات عديدة ، ومنها أنه لا يتيسَّر لهم تأمين أجرة هذا السَّكن في كثيرٍ من الأحيان ، فمَن ساعد أخاه المسلم وأوجَدَ له سكنًا ؛ وذلك بأن يشتري له سَكَنًا أو يُغنيه عن أجرة السَّكن الذي يسكنه ؛ فهذا من باب أولى يكون له أجره كما لو أسكنَه إلى يوم القيامة .
هكذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضُّ المسلمين على أن يتعاونوا وعلى أن يقوم أحياؤهم ببعض الحقوق التي لأمواتهم عليهم ، ولا شك ولا ريب أن مثل هذا التوجيه لا وجود له في الأديان الأخرى ، وهذا مما يدلُّ على كمال وتمام شريعة الإسلام ، وصدق الله العظيم إذ يقول : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا )) .
وهنا شيء لا بأس به من التنبيه عليه ؛ وهو تعليقًا على قوله - عليه السلام - ( من حفر لأخيه قبرًا ) ، إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - كما ذكرنا لكم مرارًا وتكرارًا قد وضع للمسلمين مبادئ وقواعد أمرَهم أن يلتزموها لكي يحتفظوا بذلك إذا ما حافظوا عليها على شخصيَّتهم المسلمة ، وأن يمتازوا ليس فقط بعقائدهم وأخلاقهم ؛ وإنما - أيضًا - بمظاهرهم وأعمالهم ، من ذلك أنه جعل قبر المسلم يختلف وهو شيء باطني غير الشيء الظاهري ؛ لأننا نتكلَّم عن حفر القبر ، لقد جعل الرسول - عليه السلام - حفرَ قبرِ المسلم ينبغي - أيضًا - أن يختلف في صورته عن قبر الكافر ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( اللَّحد لنا ، والشِّقُّ لغيرنا ) ، أو في رواية أخرى : ( لأهل الكتاب ) ، فما هو اللحد وما هو الشَّق ؟
الحفرة التي تُحفر على شكل المستطيل ولا إيش نسمِّيه ؟
السائل : متوازي المستطيلات .
الشيخ : نعم ؟
السائل : متوازي المستطيلات .
الشيخ : متوازي ؟ متوازي المستطيلات ، الحفرة هذه التي تُحفر هكذا هذه حفرة سوانا معشر المسلمين ، أما اللَّحد الذي هو لنا في الحديث الذي ذكرناه آنفًا سواء الحفرة التي لا بد منها أولًا ، ثم يُحفر حفرة في جدار تلك الحفرة الأولى الجدار القبلي منها ، هذه القبلة قبلتنا ، وهذه الحفرة المستطيلة كما ذكرنا ، وهذه الواجهة وهذا الجدار هو الجدار الذي يستقبل القبلة ، فيحفر من الداخل حفرة بمقدار جسد الميت كبيرًا كان أو صغيرًا ؛ بحيث تتسع هذه الحفرة الثانية لجسد هذا الميت ، فيُودع فيه ووجهه إلى القبلة ، وظهره إلى الحفرة الكبيرة ، والسِّرُّ في ذلك أنه إذا أُهيل التراب عليه جاء التراب من خلفه ، ولم يتساقط التراب على وجهه كما هو الشأن في الحفرة في الشِّقِّ الذي هو لغيرنا .
فحينما يقول الرسول - عليه السلام - في هذا الحديث : ( مَن حَفَرَ لأخيه قبرًا ) فإنما يعني الحفرة المشروعة لدينا ، وليس كل حفرة ولو كانت تلك من عادة غيرنا من أهل الكتاب ، ومع الأسف إن هذه السنة - أي : ما سمَّاه الرسول عليه السلام باللحد - أصبح أمرًا منسيًّا في كثير لا أقول في كل البلاد الإسلامية ، فقد رأيت في بعض البلاد التي لا تزال أقرب من بلادنا إلى السنة مَن يحافظون على اللَّحد ، وأنا شخصيًّا أنعم الله - تبارك وتعالى - عليَّ أن شاركت ولا أقول حفرتُ ؛ لأني ما أستطيع ذلك مع الأسف ، لكني شاركتُ أوَّلًا بالتوجيه إلى حفر اللحد ، ثم شاركت بالتعاون معهم في حفر هذا اللحد في بعض البلاد العربية ، ولذلك فالمسلم يجب - أيضًا - أن يلاحظ هذه القضية ولا يهملها ، ولا شك أن ذلك في حدود (( اتقوا الله ما استطعتم )) ؛ لأنه مع الأسف الشديد اليوم أصبح المسلم لا يستطيع أن يؤمِّنَ بنفسه قبره الذي سيكون المصير إليه ، وإنما ذلك راجع إلى من اتَّخذ ذلك مهنةً وتسلَّط على الناس بأن يأخذ ثمن القبر أثمانًا بالغة باهظة ، وقد يعجز عن القيام بهذا الثمن كثير من الناس إلا أن يستقرضوا أو أن يُسألوا ، بينما كانت المسألة فطرية بدهيَّة كل من مات فسرعان ما سيجد من يهيِّئ له القبر بدون أيِّ ثمن وبدون أيِّ منَّة ؛ لأنه من الأمور التي كانوا يتقرَّبون بها إلى الله - تبارك وتعالى - .
فإن كنَّا لا نستطيع - مع الأسف - أن نحقِّق مثل هذه الأمور عمليًّا للأمور التي تحيط بنا مع الأسف الشديد ؛ فعلى الأقل يجب أن يبقى هذا في أذهاننا ، لكي لا ننسى شريعتنا مع مضيِّ الأيام والسنين ، ويعود أمرنا إلى الضَّلال الذي وقع فيه النصارى ، والذين وُصفوا في سورة الفاتحة : (( غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين )) ، أي : المغضوب عليهم هم كلُّ جنسٍ من البشر عرفوا الحقَّ وحادوا عنه ، أما الضالون فهم الذين جهلوا الحقَّ فحادوا عنه بطبيعة الحال ، فمثال الفريق الأول من المغضوب عليهم اليهود ، ومثال الفريق الآخر النَّصارى ، وهذا أصحُّ ما قيل في تفسير هذه الآية (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) ، ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الحديث الذي جاء في تفسير هذه الآية قائلًا (( غير المغضوب عليهم )) اليهود (( ولا الضالين )) النصارى ؛ لا يظنَّنَّ ظانٌّ أن هذا التفسير هو على سبيل الحصر ؛ أي : (( المغضوب عليهم )) هم اليهود فقط ، و (( الضالين )) هم النصارى فقط ، ليس الأمر كذلك ، وإنما جاء الحديث على سبيل التَّمثيل وليس على سبيل التَّحديد ، لذلك قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " إنَّ لكثير من علماء المسلمين شبهًا بالمغضوب عليهم والضالين " ، فالذين عرفوا الحقَّ وحادوا عنه مثلهم مثل اليهود ، والذين جهلوا الحقَّ وحادوا بطبيعة الحال عنه فمثلهم مثل النصارى ؛ فعلينا نحن أن نعرف شريعتنا ولا ننساها لكي نعمل بها حينما يتيسَّر لنا سبيل العمل والتطبيق ، هذا ما أردتُ لفتَ النظر إليه بمناسبة قوله - عليه السلام - : ( ومن حفرَ لأخيه قبرًا حتى يٌجِنَّه فكأنَّما أسكنَه مسكنًا حتى يبعث) .
الحديث الذي بعد هذا هو حديث ضعيف نتجنَّبه كما ذكرنا .
أما الذي يليه وهو حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من غسَّل ميتًا فكتمَ عليه طهَّره الله من ذنوبه ، فإن كفَّنه كساه الله من السندس ) رواه الطبراني في الكبير ، وهذا حديث حسن .
وفيه حضٌّ على نوعٍ آخر هو أيسر من الأمرين السابقين على كثير من الناس ، وبخاصَّة منهم الأغنياء المَيسورين ، في الحديث السابق فيه حضٌّ على غسل الميت ، هذا الغسل يخشاه كثير من الناس توهُّمًا ، كثير من الناس يخشون من تولي غسل الميت أنهم ممكن يشوفوه بالليل فينزعجون برؤياه ، هذا كلُّه من ضعف الايمان وقلة قوة القلب وضعف قوة القلب ، كما أنه تولي حفر القبر ما هو بالأمر السهل ؛ لأنه يحتاج إلى قوَّة كما أشرنا آنفًا ، لكن هنا شيء ثالث سهلٌ جدًّا ؛ وهو أن يتولَّى رجل تكفين الميت ، ولكن هل المقصود بتولِّي تكفينه هو فقط شراء الكفن ؟ ونقول - مثلًا - للجنائزي الذي يتولَّى التكفين ثمن الكفن منِّي ، ولَّا المعنى أنه يتولى تكفينه شراءً للكفن وتولِّيًا منه بتكفين الميِّت فيه ؟
ولاشك أنَّ هذا المعنى هو الذي ينبغي أن يُفهم ؛ لأن اللفظ المطلق ، وهذه طريقة اللغة العربية أن اللفظ المطلق ينبغي إجراؤه على إطلاقه ما لم يأتِ شيء يقيِّده ، فقوله : فإن كفَّنه شامل لشراء الكفن ولتولي تكفينه بيده ، وهذا إذًا أمرٌ ثالثٌ في حضِّ الشارع للمسلم على أن يتولَّى تكفين الميت ، ويكون أجره عند الله - عز وجل - أن يُجازى بخير من جنس عمله ؛ لأننا نقول : " الجزاء من جنس العمل " ، فهذا المسلم تولَّى تكفين أخيه الميت المسلم ، لكنَّ الله - عز وجل - يجازيه بخير من ذلك ؛ أن يُلبسه في الجنة من حريرها ومن إستبرقها ومن سندسها ، وإذًا في الحديث تبشير لمن تولَّى تكفين الميت بأنَّه يدخل الجنة ، لأن هذ الإكساء من السندس لا يمكن أن نتصوَّره خارج الجنة ، لأنُّو ليس هناك إلا الدنيا وإلا البرزخ وإلا الآخرة ، فالدنيا غير وارد هذا الإشكال ؛ لأن السندس محرَّم على المسلم ، البرزخ ليس هناك حياة مادِّيَّة كالحياة التي نحياها الآن والحياة الأسمى والأعلى التي سنحياها - إن شاء الله - فيما بعد في الجنان ، فإذًا لم يبقَ إلا أن يكون هذا الإكساء جزاء تكفين المسلم لأخيه الميِّت إلا في الجنة ، وهذا أسلوب نعرفه من الشارع الحكيم " لازم الشيء " يجب أن يُفهم ؛ ما دام أنه بُشِّر بالإكساء فذلك يتضمَّن أنه بُشِّر بالجنة ، كما أنه من لم يشرَبِ الخمر في الدنيا شربها في الآخرة ، ومن شربها في الدنيا لم يشربها بالآخرة ، فمعنى هذا وذاك أن من لم يشرب الخمر في الدنيا شربها في الآخرة يعني في الجنة ، كذلك من يلبس الحرير في الدنيا لبسه في الآخرة (( ولباسهم فيها حرير )) ؛ إذًا من هذه الجملة الموجزة القصيرة كساه الله - عز وجل - من السندس ؛ معنى ذلك أن الله - تبارك وتعالى - يتولَّى من كفَّن أخاه المسلم بأن يُدخله الجنة وأن يُلبسه من حريرها ومن سندسها .
أما بقيَّة الأحاديث الآتية في الباب فهي ما بين ضعيف وضعيف جدًّا ، ودرسنا الآتي - إن شاء الله - الترغيب في تشييع الميت وحضور دفنه .
وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
- سلسلة الترغيب والترهيب - شريط : 8
- توقيت الفهرسة : 00:00:00
- نسخة مدققة إملائيًّا