الحديث الأخير من باب الترهيب من كراهية الإنسان الموت .
A-
A=
A+
الشيخ : حديثنا اليوم حديثٌ فردٌ وهو الأخير من باب الترهيب من كراهية الإنسان الموت من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب .
قال الحافظ المنذري - رحمه الله - : وعن فضالة بن عُبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( اللهم من آمنَ بك وشهد أنِّي رسولك فحبِّبْ إليه لقاءَك ، وسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأقلِلْ له من الدنيا ، ومن لم يُؤمن بك ولم يشهد أنِّي رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأكثر له من الدنيا ) رواه بن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان في " صحيحه " ، ورواه بن ماجه من حديث عمرو بن غيلان الثقفي ، وهو ممن اختُلف في صحبته ، ولفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( اللهم من آمن بي وصدَّقني ، وعلم أن ما جئتُ به الحقُّ من عندك ؛ فأقلِلْ ماله وولده ، وحبِّبْ إليه لقاءك ، وعجِّل له القضاء ، ومن لم يؤمن بي ولم يصدِّقني ، ولم يعلم أن ما جئتُ به الحقُّ من عندك ؛ فأكثِرْ ماله وولده ، وأطِلْ عمره ) .
الحديث باللفظ الأول حديث صحيح ، واللفظ الآخر لو ثبتت صحبة هذا الذي سمَّاه بعمرو بن غيلان الثقفي لَكان - أيضًا - صحيحًا ، ولذلك فنحن نقتصر في التعليق على اللفظ الأول ؛ وهو الذي رواه بن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان في " صحيحه " .
في هذا الحديث يدعو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للمؤمن بالله ورسوله حقًّا بالخير ، ويدعو على الكافر الذي لم يُؤمن بالله ولا برسوله بالشَّرِّ ، أما ذاك الخير الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن آمن بالله وشهد لنبيِّه بالرسالة هو قوله : ( حبِّبْ إليه لقاءك ) في هذا الحديث إشارة إلى بعض الأحاديث التي تقدَّمت معنا في الدرس الماضي ؛ وفيه أن ( من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه ، ومن كَرِهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ) ، وعرفتم من تمام الأحاديث بأن المقصود في هذا اللقاء إنما هو حينما يحضر الموت الإنسان ؛ أي : حينما تأتيه المنيَّة التي لا بدَّ منها ، فهناك كما ذكرنا لكم تتجلَّى للمؤمن الحقيقة التي سيلقاها أمامه من النَّعيم المقيم ، وعلى العكس من ذلك تتجلَّى للكافر الحقيقة التي - أيضًا - سيلقاها من الجحيم ، فهذا اللقاء الأول هو الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن آمن بالله وشهد أنه - عليه السلام - رسول الله .
قال مناجيًا ربه : ( اللهمَّ من آمن بك ، وشهد أني رسولك ؛ فحبِّبْ إليه لقاءَك ، وسهِّلْ عليه قضاءَك ) تسهيل القضاء يمكن أن يُفسَّر هنا بمعنيين ؛ هو أحدهما هو : أن القضاء يكون وقعه سهلًا عليه ، يعني ممكن أن يكون القضاء المقدَّر قدرًا مُعلَّقًا شديدًا ، فحينما يأتي مثل دعاء الرسول - عليه السلام - فيصبح هذا القدر قدرًا سهلًا مطاقًا تحمُّله ، ويمكن أن يكون بمعنًى آخر ؛ وهو أن هذا القضاء مهما كان ثقيلًا ومهما كان صعبًا على النفس البشرية ؛ فالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يدعو ربَّه ويطلب منه أن يجعل هذا القضاء مهما كان شأنه سهلًا على المؤمن ، وسواء كان المراد هذا أو ذاك ؛ فهذا الدُّعاء هو في الواقع توجيهٌ من النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - للمؤمن به بطريق الدعاء لربِّه إلى ما كان هو وجَّه أتباعه المؤمنين بحديث خاص مما ذكرناه أكثر من مرَّة ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( عجبٌ أمرُ المؤمن كله ، إن أصابته سرَّاء حمد الله وشكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له ، فأمر المؤمن كله خير ، وليس ذلك إلا للمؤمن ) فالمؤمن الذي هذه صفته يتلقَّى القضاء من ربِّه بنوعَيه ؛ إن كان خيرًا أو كان شرًّا يتلقَّاه بالرضا والتسليم ، فينقلب ذلك الشَّرُّ بالنسبة إليه خيرًا ، وهذا من التسهيل الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ربَّه أن يسهِّلَ على من آمن بالله وصدق بنبوَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أن يسهِّل عليه قضاءه .
ثم تابع فدعا - أيضًا - لهذا المؤمن بالله ورسوله فقال مخاطبًا لربِّه : ( وأقلِلْ له من الدنيا ) ما أظنُّ أن أحدًا منكم يستشكل مثل هذا الدعاء الصادر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنسبة للمؤمن ؛ حيث دعا ربَّه أن يقلِّلَ له من دنياه ، ما أظن أن أحدًا يستشكل هذا ؛ لأن الدنيا بلا شك هي أولًا مشغلة ، ثم هي فتنة ، فإذا انغمس المؤمن فيها كان ذلك بلاءً عليه ، وقلَّ من ينجو من فتنة الدنيا وزهرتها وزخرفها ؛ فكان بدهيًّا جدًّا أن يدعو النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لعامَّة الناس بمثل المؤمنين بمثل هذا الدعاء أن يقلِّل لهم من الدنيا ، وهذا لا يَنفي أنه - عليه السلام - يدعو لأفرادٍ من الناس بخلاف ما يبدو من هذا الحديث ، فمن المعلوم في الصحيح في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لخادمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - بأن يُباركَ له في ماله وفي ولده ، واستجاب الله - عز وجل - دعاء نبيِّه فيه ؛ حتى مات وقد توالد منه بشرٌ كثيرٌ ، وأذكر أنه قال مرَّةً عن نفسه قال : حدَّثتني بنتي فلانة ، آ ؟
السائل : أميمة .
الشيخ : أميمة بأن له سبعين ولد يمكن .
السائل : مات من صلبه مقدم حجاج البصرة مائة وخمس وعشرون ولدًا .
الشيخ : الله أكبر ، مات من صلبه مائة وخمسين ، خمس وعشرين ؟
السائل : مائة وخمس وعشرين أو عشرين ولد مقدم حجَّاج البصرة .
الشيخ : هذا الإنسان لا يزال في قيد الحياة مات منه هذا العدد الضَّخم ، هذا بسبب دعاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - له بأن يُبارك له في ماله ، وفي بعض الروايات في " الأدب المفرد " للبخاري بأنه - أيضًا - دعا له بأن يطيل عمره ، وفعلًا عاش سنين طويلة حتى أسنَّ وشاخ .
أقول : إن هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لخادمه أنس بما سمعتم لا يُنافي هذا الدعاء الذي هو في درسنا الآن ، ذلك لأن هناك قواعد ، ولكلِّ قاعدةٍ شواذّ ، فهل ينفع عامة الناس الدعاء لهم بمثل ما دعا الرسول - عليه السلام - هنا لعامة الناس أم ينفع عامة الناس مثل ما دعا لخادمه أنس بن مالك ؟ لا شك أن الجواب هو الأمر الأول ؛ أي : إن الذين ينجون من فتنة الدنيا وزخرفها هم قليل ، بل أقلُّ من القليل ، فالذي يُؤتى من هذا المال من زينة الدنيا ومن الولد الذي هم بنصِّ القرآن فتنة كالمال (( إنما أموالكم وأولادكم فتنة )) ، فالذين يُبتَلَون بهذا المال والولد الكثير قلَّ من ينجو منهم سالمًا برأسه ، والعكس صواب ؛ أي : أن الذين يُؤتون من الرزق كفافًا ؛ فهؤلاء في الغالب لا يُفتنون فتنة أولئك الذين أوتوا من المال والولد ، فكان بدهيًّا جدًّا كما قلت أولًا بأن يدعو الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - لمن آمن بالله وبرسوله بأن يقلِّل - أيضًا - له من الدنيا .
ويظهر أثر هذا الدعاء النافع للمؤمنين الدعاء الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الكافرين بخلاف ذلك كله ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ومن لم يُؤمن بك ، ولم يشهد أنِّي رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءك ، وأكثِرْ له من الدنيا ) ، وكأن هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الأدعية التي استجاب الله - عز وجل - دعاءه - عليه السلام - ... لأنه ليس من الضروري أن كل دعوة يدعو بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تكون هذه الدعوةُ مستجابةً ؛ خلاف ما يقوم في أذهان بعض الناس ممَّن يعالجون الأحكام الشرعية بأهوائهم ، أو على الأقل بعواطفهم ؛ ليس كل دعوة يدعو بها الرسول - عليه السلام - من الضروري أن يستجيبها الله له ، وإن كان الأمر غالبه كذلك ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - - وهذا من فضله ورحمته ورأفته بأمته - قال : ( إن لكلِّ نبيٍّ دعوة مستجابة ، وإني خبَّأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ؛ فهي نائلةٌ - إن شاء الله - كلَّ مَن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ) ؛ فهذه الدعوة مستجابة يقينًا ، ولذلك فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عرف كيف يُحسن استعمالها ، وعرف أين يضعها الموضع اللَّائق بها ؛ فقال : ( خبَّأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ) ، أما سائر الدعوات فقد تستجاب وقد لا تستجاب ، ومن الأدعية المشهورة التي لم يستجبها ربنا - تبارك وتعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لحكمةٍ يعلمها أنه دعا أن لا يجعل بأس أمَّته بينهم شديدا ؛ فلم يُقبل ذلك منه - عليه السلام - .
أقول : الظاهر أن هذا الدعاء الذي هو موضع درسنا الليلة ممَّا استجابه الله - عز وجل - لنبيِّه ؛ لأن معناه في كلٍّ من الفقرتين ، الفقرة الأولى المتعلِّقة بالمؤمن ، والفقرة الأخرى المتعلقة بالكافر ، معنى هذه ومعنى هذه متجلٍّ في المؤمن وفي الكافر ، وهذا كما قلنا بالنسبة للفقرة الأولى أمرٌ غالبي ، أما فيما يتعلق بالكافر ربنا - عز وجل - قد ذكر في كتابه ما يمكن اعتباره تأييدًا أو شرحًا لجملة في هذا الحديث ؛ ألا وهو قوله - تبارك وتعالى - : (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا )) هذا الضَّنك الذي يعيشه الكافر ، وأجلى ما تجلَّى هذا الضَّنك إنما هو في هذا العصر الحاضر الذي كان من المفروض أن ينالَ الكافر فيه حظوته من المتعة والراحة ؛ بسبب ما قُيِّضَ له من وسائل من مخترعات وابتكارات تسهِّل له ذلك ، ولكن ذلك كلَّه انقلب عليه بسبب كفره ، ولذلك قال - عليه السلام - ومن لم يؤمن به ولم يصدق به - عليه السلام - فلا تسهِّل عليه قضاءه ؛ فهو لا يرضى بالقضاء مهما كان كانت صعوبته قليلة ، ويأخذ ويشتم ويضطرب و و وحياته كلها تنكرب ، هذا ظاهر جدًّا ؛ فهو مصداق للآية السابقة أولًا ، ولهذا الحديث الصحيح ثانيًا .
( ومن لم يؤمن بك ، ولم يشهد أني رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ) كما قال - تعالى - : (( ولتجدنَّهم أحرص الناس على حياة )) ؛ بخلاف المؤمن كما هو معروف في سيرة السلف الصالح ، ( فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ) ؛ فهو ضيِّق دائمًا ، ( وأكثر له من الدنيا ) وهل أكثر من هذه الدنيا التي ترونها اليوم عند الكفار؟!
وفي هذا الحديث إشارة إلى عقيدةٍ إسلاميَّةٍ أساسية أعتقد أن بعض الشباب الذي انحرفَ عن دينه بحاجةٍ إلى أن يسمع مثل هذا الحديث ؛ ذلك لأنه من الشائع اليوم أن هناك فلاسفة في أوروبا وأمريكا يُؤمنون بأن لهذا الكون خالقًا ، ولا أقول كما يقول بعض الناس يؤمنون بأن لهذا الكون إلهًا ؛ لأنَّ الألوهية ما عرفها حتى اليوم كثيرٌ من المسلمين فضلًا عن أن يعرفَها أولئك المشركون الكافرون بالله ورسوله ، فأريد أن أقول :
إن وجود مثل هؤلاء الكفار الذين وصلوا بعقلهم إلى الاعتقاد بأن لهذا الكون خالقًا ، فنقول : هذا لا يكفي ليكون صاحبه ناجيًا عند الله يوم القيامة ، وذلك لأسباب ألمحتُ آنفًا إلى واحدٍ منها ؛ وهو أن الإيمان بالله - عز وجل - لا ينفع إذا اقتصر على الإيمان بأنَّه هو الخالق لهذا الكون ؛ لأن هذا الإيمان في الواقع كأنه أمرٌ اضطراري يشعر به الإنسان بفطرته ، ولكن لوازم هذا الإيمانِ الإيمانُ بهذه الخالقية الخاصة بالله - عز وجل - التي منها الخضوع له ، والتألُّه له ، والتعبُّد له فقط دون غيره من المخلوقات مهما جلَّت وعظمت ، هذه الألوهية التي تليق بالله - عز وجل - لا بدَّ من أن تنضمَّ إلى الإيمان بخالقيته - تبارك وتعالى - ، ولما كفر بها المشركون كفروا وحُوربوا وقتلوا ، ولذلك قال - عليه السلام - : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) ، لم يُؤمر بأن يقاتل الناس حتى يشهدوا بأن لهذا الكون خالقًا ؛ لأنه هذا إيمان قاصر ؛ وإنما أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ولا أريد أن أخوض في هذه الشهادة ومعناها ولوازمها من الإيمان بتوحيد الألوهية وتوحيد الصفات والأسماء ؛ فإن هذا كرَّرنا فيه الكلام كثيرًا وكثيرًا ، وإنما أردت أن أذكِّر بأن لا يغترَّ الشباب بهؤلاء الفلاسفة وأمثالهم ممَّن يؤمنون بأن الله - عز وجل - متفرِّد بصفة الخلق ، وليس إلا فهذا لا يفيدهم شيئًا ؛ لا سيَّما وأنه لو انضم إلى إيمانهم بخالقية الله - عز وجل - الإيمان بألوهيته - أيضًا - وبكل الأسماء والصفات ذلك - أيضًا - لا يكفيهم ولا يفيدهم شيئًا حتى يؤمنوا به - عليه الصلاة والسلام - نبيًّا رسولًا .
هذا معنى الشهادة ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها ، وحسابهم عند الله ) ، ولذلك جاء في الحديث في الصحيح عند مسلم وغيره قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ما من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ يسمع بي ثمَّ لا يؤمن بي إلا دخل النار ) . ( يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) ولهذا فهناك واجب كبير جدًّا على المسلمين ، لكن مع الأسف المسلمون مشغولون بأنفسهم ، عليهم واجب أن يُبلِّغوا هذه الدعوة دعوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أولئك الناس من النصارى واليهود وأمثالهم من المشركين حتَّى يؤمنوا بالله ورسوله ، وهذا من الشفقة والرحمة بهم ؛ لأن الذي يحرص على أن يدخل البشر كلهم الجنة هذا شفيقٌ ورحيمٌ بخلاف الذي لا يبالي بالناس أَدَخلوا الجنة أم ولجوا النار .
ويجب أن نعلم حقيقةً أخرى طالما غفلَ - أيضًا - بعض المسلمين خاصَّة في العصر الحاضر ، إنَّ معنى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( سمع بي ولم يؤمن بي إلا دخل النار ) ليس المقصود أنه سمع باسمه ؛ لأننا نعلم يقينًا أن الكفار خاصَّة في العصر الحاضر بسبب الوسائل العلمية الميسرة من نقل المكان من أبعد مكان إلى أبعد مكان هذه الوسائل المعروفة لديكم جميعًا قد يسَّرت لكلِّ الناس أو لجلِّ الناس ؛ حتى ما ندخِّل في الناس مَن كان في القطب الشمالي والجنوبي - مثلًا - ممن لا يزالون يعيشون الحياة البدائية الأولى ، جلُّ الناس اليوم لا شك أنهم سمعوا به - عليه الصلاة والسلام - ، لكنهم سمعوا باسمه ، أما باسمه وصفته على حقيقته فلا يزال أكثر الكفار لم يسمعوا به .
إذًا نستطيع أن نقول سمعوا ولم يسمعوا ، سمعوا باسمه ولم يسمعوا باسمه على حقيقته ، كيف وهم عاشوا هذه القرون الطويلة وهم يُلقَّنون من قسِّيسيهم ورهبانهم خلاف ما يعلم هؤلاء القسِّيسون والرُّهبان من حقيقة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهم إذا بالغوا في الافتراء والبُهت قالوا فيه - عليه السلام - كلَّ سوء ، وإذا قصَّروا ولم يبالغوا قالوا : رجل عاقل ، رئيس قبيلة ، جاء إلى العرب بقانون ، بنظام إلى آخره ، وليس له علاقة بدعوة البشر والعالم كله إلى التديُّن بدينه إلى آخره ، وهذا مما كان اليهود أنفسهم يقولون به في زمنه - عليه السلام - ، يقولون بأنه أُرسل للعرب ولم يُرسل إلى اليهود ، العرب الأميين هم بحاجة إلى مثله - عليه السلام - زعموا ، أما اليهود فعندهم التوراة ؛ فهم ليسوا بحاجة إلى مثله - عليه الصلاة والسلام - .
فالنصارى ومثلهم اليهود اليوم مُضلَّلون أشدَّ التضليل ؛ فهم لا يعرفون حقيقة دعوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لذلك يتأكَّد على المسلمين الواجب الذي أشرت إليه سابقًا ؛ وهو أنه ينبغي عليهم أن يُبلِّغوا دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حقيقتها إلى أولئك الأقوام والشعوب المُضلَّلين من قبل رؤسائهم ورهبانهم .
يزعم بعض الناس أنه لا يوجد اليوم أهل فترة بنفس الدعوة التي أشرت إليه آنفًا أن اسم الرسول - عليه السلام - بلغهم ، فنحن نقول أكثر أهل الأرض - مع الأسف - اليوم هم من أهل الفترة ؛ لأن أهل الفترة ليسوا هم كما يتوهَّم بعض طلاب العلم وقد يُلقَّنون ذلك خطأً من بعض أهل العلم ، أهل الفترة ليسوا هم الذين لم يُبعث إليهم نبيٌّ أو رسولٌ ، وإنما هم الذين لم تبلُغْهم دعوة نبي أو رسول كاليوم ، وليس بعد دعوة الرسول - عليه السلام - دعوة ، وليس بعد دينه دين آخر ، ولكن هذا الدين يجب أن يُبلَّغ إلى كل الناس أجمعين مصداقًا أو تحقيقًا لمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) ، ولكن تبليغ الدين ينبغي أن يُبلغ بمفهومه الصحيح ، وهنا يتجلَّى لكم مأساة كبيرة جدًّا يحياها المسلمون غير المآسي التي حلَّت بنا في عصرنا الحاضر ، تلك المآسي قد توارثناه أبًا عن جدٍّ ، وهي أصلُ كلِّ المآسي التي يصاب بها المسلمون في الدنيا ؛ ألا وهي سوء فهمهم لإسلامهم ؛ فنحن إذا أردنا أن نبلِّغَ أولئك الناس الإسلام ؛ فما صورة هذا الإسلام الذي سنُبلِّغُه إليهم ؟
لا شك أنكم جميعًا تلتقون معي بأنه سيُقدَّم إليهم مفاهيم عديدة ، مفاهيم عديدة لإسلام واحد ، وهذا مما يصدُّ الناس عن ذكر الله ، وعن كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لا يمكن أن يدخل في عقل إنسانٍ سويٍّ في الخلق والفطرة أن أمرين متناقضين يصدران من منبعٍ واحدٍ صافٍ أن يخرج من عين ماء عذب فرات وآخر أُجاج ، لا يلتقيان أبدًا ، فأن يأتي إنسان ويقول - مثلًا - للكفار ليعرِّفهم بالإيمان ؛ فيقول لهم بنصوص الكتاب والسنة أن الإيمان يزيد وينقص ، فيأتي آخر ويقول داعيًا إلى إسلامه معرِّفًا من بعض جوانبه بأنَّه لا يزيد ولا ينقص ، كيف يُمكن أن ندعو أولئك الناس إلى مثل هذا الإسلام فيه مثل هذا التناقض الجليِّ الواضح البيِّن ، لذلك أنا أقولها صريحةً : لسنا اليوم بحاجة إلى أن ندعوَ غيرنا إلى ديننا ، وإنما نحن بحاجة إلى أن نتعلَّم نحن ديننا وأن نتبيَّن منه ما تصحُّ نسبته إليه ممَّا لا يصح ، وكم تظنُّون يحتاج هذا الجمهور الضَّخم من المسلمين هاللي بلغ عدده - يقولون - ثمانمائة مليون مسلم على وجه الأرض ! كم يحتاج هؤلاء حتى يتفهَّموا الإسلام بالمفهوم الصحيح المفهوم الأول السلفي الناصع الذي كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟!
من هنا نحن نقول دائمًا وأبدًا كما عُلِّمنا من سلفنا : " عليكم بالأمر العتيق " ، في زمن الصحابة لم يكن هناك من يقول الإيمان لا يزيد ولا ينقص ؛ لأنَّ هذا خلاف الكتاب والسنة ، لكن وُجِدَ بعده بنحو مائة سنة أو أكثر من رأى رأيًا فأخطأ ، وهو رجل عالم فاضل ، رأى أن الإيمان يستحيل أن يقبل الزيادة والنقص ، وإنما الذي يزيد هو آثاره ، وهي الأعمال الصالحة ، والله - عز وجل - يقول دائمًا وأبدًا أن الإيمان يزيد وبالتالي تزيد الأعمال الصالحة ، ثم هذا الرأي الذي صدر من بعض أهل العلم اتُّخذ دينًا ، وهذه مصيبة من مصائب المسلمين ! كيف اتُّخذ دينا والدين هو الإسلام ، والإسلام هو القرآن ، والقرآن يقول إن الإيمان يزيد وينقص صراحة ، (( فزادهم إيمانًا )) ، كم وكم من آيات في القرآن بهذا المعنى ! هذا الرأي صار دينًا ؛ لأنه سبقه شيء آخر - أيضًا - جُعِلَ دينًا ؛ ألا وهو التقليد ، ولا يزال بعض الناس حتى المثقَّفين وحتى الذين ينظرون إلى أنفسهم بعين الرِّضا من الناحية العلمية لا يكادون يفقهون حديثًا ، لا يعلمون حتى اليوم لماذا نحن نُدندن دائمًا وأبدًا في محاربة التقليد ؛ لأنه صار دينًا ، وصار عقيدةً ، وصار أيُّ إمام يقول أيَّ قول مهما كان بعيد عن الكتاب والسنة فهو دين ، تقليد !! ونحن من أجل هذه الحقيقة نحارب التقليد ؛ أي : أن يُتَّخذ دينًا يصدُّ صاحبه عن الإيمان بالله ورسوله مما جاء في الكتاب والسنة ، وأبسط عبارة تسمعونها أو بعضكم على الأقل : يا أخي شو فلان جاهل ؟ لأ ، عالم ؛ لكن هل فلان معصوم ؟ هنا يصمت لجهله ، ما عُلِّم مبادئ الإسلام الأساسية ، عُلِّم أن هذا الرجل عالم فاضل ، وما بيتكلَّم عن هوى ، وما بيتكلَّم عن غرض ، وهذا كله صحيح ؛ لكن لم يُعلَّم ، وإذا عُلِّم لم يركَّز عليه في التعليم أنُّو انتبه هذا الرجل العالم الفاضل الذي لا يتكلَّم عن هوى ولا عن عصبيَّة ولا عن غرضيَّة ولا أي شيء ممكن أن يخطئ ؛ لذلك أن تتمسَّك بكلامه في حدود عدم معارضته لكتاب الله وسنة نبيِّه ، هذا التوجيه نحو عشرة قرون فقده المسلمون بسبب التقليد .
لذلك نحن نقول في الوقت الذي نشرح بأن الإيمان لا يُفيد إلا بأن يجمع بين الإيمان بالله كما شرع الله ، وبتوحيد الربوبية والألوهية والصفات ، والإيمان - أيضًا - بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ، وهاتان الحقيقتان لا يزال جماهير سكَّان الأرض هم جاهلون بها ، فهم بحاجة للتبليغ ؛ لكننا نحن أحوج إلى ذلك منهم ، لأنَّنا لا نزال نعيش وفي بلاد الإسلام ونحن نكفر عمليًّا وفكريًّا - أيضًا - بمعنى لا إله إلا الله ؛ كيف يُؤمن من يدعو الله من يدعو - أردت أن أقول - من يدعو غير الله فسبقني لساني ! لكن سأرقِّع كلامي فأقول : كيف يؤمن من يدعو الله ويقرن معه وليًّا من أولياء الله - عز وجل - ، وأنتم تسمعون - مثلًا - وأنتم سائرون في الطريق واحد بتتزحلق قدمه أو قدم دابته فسرعان ما بيلطع من فمه : يا الله يا باز ؟!! ما بيكفي الله وحده !! وربنا يقول : (( فلا تدعو مع الله أحدًا )) ، (( فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون )) هذا ند !! قال : يا الله يا باز !! هذا هو الند الباز ؛ ماذا يصنع الباز لا سيَّما مع الله قرنْتَه ؟! هذا هو الشرك بعينه لا يلتقي أبدًا مع الإيمان بالله - عز وجل - ، هذا الإيمان الذي أرادَه الرسول - عليه السلام - بقوله في هذا الحديث ، وبه ننهي الدرس ، ونتوجه إلى الجواب عن الأسئلة أو ما تيسَّر منها .
قال - عليه الصلاة والسلام - : ( اللهم من آمن بك ، وشهد أني رسولك ؛ فحبِّبْ إليه لقاءك ، وسهِّلْ عليه قضاءك ، وأقلِلْ له من الدنيا ، ومن لم يؤمن بك ، ولم يشهد أني رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأكثر له من الدنيا ) .
نسأل الله - عز وجل - أن يحشرنا في زمرة الذين آمنوا به ، وشهدوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - برسالته .
قال الحافظ المنذري - رحمه الله - : وعن فضالة بن عُبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( اللهم من آمنَ بك وشهد أنِّي رسولك فحبِّبْ إليه لقاءَك ، وسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأقلِلْ له من الدنيا ، ومن لم يُؤمن بك ولم يشهد أنِّي رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأكثر له من الدنيا ) رواه بن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان في " صحيحه " ، ورواه بن ماجه من حديث عمرو بن غيلان الثقفي ، وهو ممن اختُلف في صحبته ، ولفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( اللهم من آمن بي وصدَّقني ، وعلم أن ما جئتُ به الحقُّ من عندك ؛ فأقلِلْ ماله وولده ، وحبِّبْ إليه لقاءك ، وعجِّل له القضاء ، ومن لم يؤمن بي ولم يصدِّقني ، ولم يعلم أن ما جئتُ به الحقُّ من عندك ؛ فأكثِرْ ماله وولده ، وأطِلْ عمره ) .
الحديث باللفظ الأول حديث صحيح ، واللفظ الآخر لو ثبتت صحبة هذا الذي سمَّاه بعمرو بن غيلان الثقفي لَكان - أيضًا - صحيحًا ، ولذلك فنحن نقتصر في التعليق على اللفظ الأول ؛ وهو الذي رواه بن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان في " صحيحه " .
في هذا الحديث يدعو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للمؤمن بالله ورسوله حقًّا بالخير ، ويدعو على الكافر الذي لم يُؤمن بالله ولا برسوله بالشَّرِّ ، أما ذاك الخير الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن آمن بالله وشهد لنبيِّه بالرسالة هو قوله : ( حبِّبْ إليه لقاءك ) في هذا الحديث إشارة إلى بعض الأحاديث التي تقدَّمت معنا في الدرس الماضي ؛ وفيه أن ( من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه ، ومن كَرِهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ) ، وعرفتم من تمام الأحاديث بأن المقصود في هذا اللقاء إنما هو حينما يحضر الموت الإنسان ؛ أي : حينما تأتيه المنيَّة التي لا بدَّ منها ، فهناك كما ذكرنا لكم تتجلَّى للمؤمن الحقيقة التي سيلقاها أمامه من النَّعيم المقيم ، وعلى العكس من ذلك تتجلَّى للكافر الحقيقة التي - أيضًا - سيلقاها من الجحيم ، فهذا اللقاء الأول هو الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن آمن بالله وشهد أنه - عليه السلام - رسول الله .
قال مناجيًا ربه : ( اللهمَّ من آمن بك ، وشهد أني رسولك ؛ فحبِّبْ إليه لقاءَك ، وسهِّلْ عليه قضاءَك ) تسهيل القضاء يمكن أن يُفسَّر هنا بمعنيين ؛ هو أحدهما هو : أن القضاء يكون وقعه سهلًا عليه ، يعني ممكن أن يكون القضاء المقدَّر قدرًا مُعلَّقًا شديدًا ، فحينما يأتي مثل دعاء الرسول - عليه السلام - فيصبح هذا القدر قدرًا سهلًا مطاقًا تحمُّله ، ويمكن أن يكون بمعنًى آخر ؛ وهو أن هذا القضاء مهما كان ثقيلًا ومهما كان صعبًا على النفس البشرية ؛ فالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يدعو ربَّه ويطلب منه أن يجعل هذا القضاء مهما كان شأنه سهلًا على المؤمن ، وسواء كان المراد هذا أو ذاك ؛ فهذا الدُّعاء هو في الواقع توجيهٌ من النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - للمؤمن به بطريق الدعاء لربِّه إلى ما كان هو وجَّه أتباعه المؤمنين بحديث خاص مما ذكرناه أكثر من مرَّة ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( عجبٌ أمرُ المؤمن كله ، إن أصابته سرَّاء حمد الله وشكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له ، فأمر المؤمن كله خير ، وليس ذلك إلا للمؤمن ) فالمؤمن الذي هذه صفته يتلقَّى القضاء من ربِّه بنوعَيه ؛ إن كان خيرًا أو كان شرًّا يتلقَّاه بالرضا والتسليم ، فينقلب ذلك الشَّرُّ بالنسبة إليه خيرًا ، وهذا من التسهيل الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ربَّه أن يسهِّلَ على من آمن بالله وصدق بنبوَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أن يسهِّل عليه قضاءه .
ثم تابع فدعا - أيضًا - لهذا المؤمن بالله ورسوله فقال مخاطبًا لربِّه : ( وأقلِلْ له من الدنيا ) ما أظنُّ أن أحدًا منكم يستشكل مثل هذا الدعاء الصادر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنسبة للمؤمن ؛ حيث دعا ربَّه أن يقلِّلَ له من دنياه ، ما أظن أن أحدًا يستشكل هذا ؛ لأن الدنيا بلا شك هي أولًا مشغلة ، ثم هي فتنة ، فإذا انغمس المؤمن فيها كان ذلك بلاءً عليه ، وقلَّ من ينجو من فتنة الدنيا وزهرتها وزخرفها ؛ فكان بدهيًّا جدًّا أن يدعو النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لعامَّة الناس بمثل المؤمنين بمثل هذا الدعاء أن يقلِّل لهم من الدنيا ، وهذا لا يَنفي أنه - عليه السلام - يدعو لأفرادٍ من الناس بخلاف ما يبدو من هذا الحديث ، فمن المعلوم في الصحيح في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لخادمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - بأن يُباركَ له في ماله وفي ولده ، واستجاب الله - عز وجل - دعاء نبيِّه فيه ؛ حتى مات وقد توالد منه بشرٌ كثيرٌ ، وأذكر أنه قال مرَّةً عن نفسه قال : حدَّثتني بنتي فلانة ، آ ؟
السائل : أميمة .
الشيخ : أميمة بأن له سبعين ولد يمكن .
السائل : مات من صلبه مقدم حجاج البصرة مائة وخمس وعشرون ولدًا .
الشيخ : الله أكبر ، مات من صلبه مائة وخمسين ، خمس وعشرين ؟
السائل : مائة وخمس وعشرين أو عشرين ولد مقدم حجَّاج البصرة .
الشيخ : هذا الإنسان لا يزال في قيد الحياة مات منه هذا العدد الضَّخم ، هذا بسبب دعاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - له بأن يُبارك له في ماله ، وفي بعض الروايات في " الأدب المفرد " للبخاري بأنه - أيضًا - دعا له بأن يطيل عمره ، وفعلًا عاش سنين طويلة حتى أسنَّ وشاخ .
أقول : إن هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لخادمه أنس بما سمعتم لا يُنافي هذا الدعاء الذي هو في درسنا الآن ، ذلك لأن هناك قواعد ، ولكلِّ قاعدةٍ شواذّ ، فهل ينفع عامة الناس الدعاء لهم بمثل ما دعا الرسول - عليه السلام - هنا لعامة الناس أم ينفع عامة الناس مثل ما دعا لخادمه أنس بن مالك ؟ لا شك أن الجواب هو الأمر الأول ؛ أي : إن الذين ينجون من فتنة الدنيا وزخرفها هم قليل ، بل أقلُّ من القليل ، فالذي يُؤتى من هذا المال من زينة الدنيا ومن الولد الذي هم بنصِّ القرآن فتنة كالمال (( إنما أموالكم وأولادكم فتنة )) ، فالذين يُبتَلَون بهذا المال والولد الكثير قلَّ من ينجو منهم سالمًا برأسه ، والعكس صواب ؛ أي : أن الذين يُؤتون من الرزق كفافًا ؛ فهؤلاء في الغالب لا يُفتنون فتنة أولئك الذين أوتوا من المال والولد ، فكان بدهيًّا جدًّا كما قلت أولًا بأن يدعو الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - لمن آمن بالله وبرسوله بأن يقلِّل - أيضًا - له من الدنيا .
ويظهر أثر هذا الدعاء النافع للمؤمنين الدعاء الذي دعا به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الكافرين بخلاف ذلك كله ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ومن لم يُؤمن بك ، ولم يشهد أنِّي رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءك ، وأكثِرْ له من الدنيا ) ، وكأن هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الأدعية التي استجاب الله - عز وجل - دعاءه - عليه السلام - ... لأنه ليس من الضروري أن كل دعوة يدعو بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تكون هذه الدعوةُ مستجابةً ؛ خلاف ما يقوم في أذهان بعض الناس ممَّن يعالجون الأحكام الشرعية بأهوائهم ، أو على الأقل بعواطفهم ؛ ليس كل دعوة يدعو بها الرسول - عليه السلام - من الضروري أن يستجيبها الله له ، وإن كان الأمر غالبه كذلك ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - - وهذا من فضله ورحمته ورأفته بأمته - قال : ( إن لكلِّ نبيٍّ دعوة مستجابة ، وإني خبَّأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ؛ فهي نائلةٌ - إن شاء الله - كلَّ مَن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ) ؛ فهذه الدعوة مستجابة يقينًا ، ولذلك فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عرف كيف يُحسن استعمالها ، وعرف أين يضعها الموضع اللَّائق بها ؛ فقال : ( خبَّأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ) ، أما سائر الدعوات فقد تستجاب وقد لا تستجاب ، ومن الأدعية المشهورة التي لم يستجبها ربنا - تبارك وتعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لحكمةٍ يعلمها أنه دعا أن لا يجعل بأس أمَّته بينهم شديدا ؛ فلم يُقبل ذلك منه - عليه السلام - .
أقول : الظاهر أن هذا الدعاء الذي هو موضع درسنا الليلة ممَّا استجابه الله - عز وجل - لنبيِّه ؛ لأن معناه في كلٍّ من الفقرتين ، الفقرة الأولى المتعلِّقة بالمؤمن ، والفقرة الأخرى المتعلقة بالكافر ، معنى هذه ومعنى هذه متجلٍّ في المؤمن وفي الكافر ، وهذا كما قلنا بالنسبة للفقرة الأولى أمرٌ غالبي ، أما فيما يتعلق بالكافر ربنا - عز وجل - قد ذكر في كتابه ما يمكن اعتباره تأييدًا أو شرحًا لجملة في هذا الحديث ؛ ألا وهو قوله - تبارك وتعالى - : (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا )) هذا الضَّنك الذي يعيشه الكافر ، وأجلى ما تجلَّى هذا الضَّنك إنما هو في هذا العصر الحاضر الذي كان من المفروض أن ينالَ الكافر فيه حظوته من المتعة والراحة ؛ بسبب ما قُيِّضَ له من وسائل من مخترعات وابتكارات تسهِّل له ذلك ، ولكن ذلك كلَّه انقلب عليه بسبب كفره ، ولذلك قال - عليه السلام - ومن لم يؤمن به ولم يصدق به - عليه السلام - فلا تسهِّل عليه قضاءه ؛ فهو لا يرضى بالقضاء مهما كان كانت صعوبته قليلة ، ويأخذ ويشتم ويضطرب و و وحياته كلها تنكرب ، هذا ظاهر جدًّا ؛ فهو مصداق للآية السابقة أولًا ، ولهذا الحديث الصحيح ثانيًا .
( ومن لم يؤمن بك ، ولم يشهد أني رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ) كما قال - تعالى - : (( ولتجدنَّهم أحرص الناس على حياة )) ؛ بخلاف المؤمن كما هو معروف في سيرة السلف الصالح ، ( فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ) ؛ فهو ضيِّق دائمًا ، ( وأكثر له من الدنيا ) وهل أكثر من هذه الدنيا التي ترونها اليوم عند الكفار؟!
وفي هذا الحديث إشارة إلى عقيدةٍ إسلاميَّةٍ أساسية أعتقد أن بعض الشباب الذي انحرفَ عن دينه بحاجةٍ إلى أن يسمع مثل هذا الحديث ؛ ذلك لأنه من الشائع اليوم أن هناك فلاسفة في أوروبا وأمريكا يُؤمنون بأن لهذا الكون خالقًا ، ولا أقول كما يقول بعض الناس يؤمنون بأن لهذا الكون إلهًا ؛ لأنَّ الألوهية ما عرفها حتى اليوم كثيرٌ من المسلمين فضلًا عن أن يعرفَها أولئك المشركون الكافرون بالله ورسوله ، فأريد أن أقول :
إن وجود مثل هؤلاء الكفار الذين وصلوا بعقلهم إلى الاعتقاد بأن لهذا الكون خالقًا ، فنقول : هذا لا يكفي ليكون صاحبه ناجيًا عند الله يوم القيامة ، وذلك لأسباب ألمحتُ آنفًا إلى واحدٍ منها ؛ وهو أن الإيمان بالله - عز وجل - لا ينفع إذا اقتصر على الإيمان بأنَّه هو الخالق لهذا الكون ؛ لأن هذا الإيمان في الواقع كأنه أمرٌ اضطراري يشعر به الإنسان بفطرته ، ولكن لوازم هذا الإيمانِ الإيمانُ بهذه الخالقية الخاصة بالله - عز وجل - التي منها الخضوع له ، والتألُّه له ، والتعبُّد له فقط دون غيره من المخلوقات مهما جلَّت وعظمت ، هذه الألوهية التي تليق بالله - عز وجل - لا بدَّ من أن تنضمَّ إلى الإيمان بخالقيته - تبارك وتعالى - ، ولما كفر بها المشركون كفروا وحُوربوا وقتلوا ، ولذلك قال - عليه السلام - : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) ، لم يُؤمر بأن يقاتل الناس حتى يشهدوا بأن لهذا الكون خالقًا ؛ لأنه هذا إيمان قاصر ؛ وإنما أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ولا أريد أن أخوض في هذه الشهادة ومعناها ولوازمها من الإيمان بتوحيد الألوهية وتوحيد الصفات والأسماء ؛ فإن هذا كرَّرنا فيه الكلام كثيرًا وكثيرًا ، وإنما أردت أن أذكِّر بأن لا يغترَّ الشباب بهؤلاء الفلاسفة وأمثالهم ممَّن يؤمنون بأن الله - عز وجل - متفرِّد بصفة الخلق ، وليس إلا فهذا لا يفيدهم شيئًا ؛ لا سيَّما وأنه لو انضم إلى إيمانهم بخالقية الله - عز وجل - الإيمان بألوهيته - أيضًا - وبكل الأسماء والصفات ذلك - أيضًا - لا يكفيهم ولا يفيدهم شيئًا حتى يؤمنوا به - عليه الصلاة والسلام - نبيًّا رسولًا .
هذا معنى الشهادة ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها ، وحسابهم عند الله ) ، ولذلك جاء في الحديث في الصحيح عند مسلم وغيره قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ما من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ يسمع بي ثمَّ لا يؤمن بي إلا دخل النار ) . ( يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) ولهذا فهناك واجب كبير جدًّا على المسلمين ، لكن مع الأسف المسلمون مشغولون بأنفسهم ، عليهم واجب أن يُبلِّغوا هذه الدعوة دعوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أولئك الناس من النصارى واليهود وأمثالهم من المشركين حتَّى يؤمنوا بالله ورسوله ، وهذا من الشفقة والرحمة بهم ؛ لأن الذي يحرص على أن يدخل البشر كلهم الجنة هذا شفيقٌ ورحيمٌ بخلاف الذي لا يبالي بالناس أَدَخلوا الجنة أم ولجوا النار .
ويجب أن نعلم حقيقةً أخرى طالما غفلَ - أيضًا - بعض المسلمين خاصَّة في العصر الحاضر ، إنَّ معنى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( سمع بي ولم يؤمن بي إلا دخل النار ) ليس المقصود أنه سمع باسمه ؛ لأننا نعلم يقينًا أن الكفار خاصَّة في العصر الحاضر بسبب الوسائل العلمية الميسرة من نقل المكان من أبعد مكان إلى أبعد مكان هذه الوسائل المعروفة لديكم جميعًا قد يسَّرت لكلِّ الناس أو لجلِّ الناس ؛ حتى ما ندخِّل في الناس مَن كان في القطب الشمالي والجنوبي - مثلًا - ممن لا يزالون يعيشون الحياة البدائية الأولى ، جلُّ الناس اليوم لا شك أنهم سمعوا به - عليه الصلاة والسلام - ، لكنهم سمعوا باسمه ، أما باسمه وصفته على حقيقته فلا يزال أكثر الكفار لم يسمعوا به .
إذًا نستطيع أن نقول سمعوا ولم يسمعوا ، سمعوا باسمه ولم يسمعوا باسمه على حقيقته ، كيف وهم عاشوا هذه القرون الطويلة وهم يُلقَّنون من قسِّيسيهم ورهبانهم خلاف ما يعلم هؤلاء القسِّيسون والرُّهبان من حقيقة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهم إذا بالغوا في الافتراء والبُهت قالوا فيه - عليه السلام - كلَّ سوء ، وإذا قصَّروا ولم يبالغوا قالوا : رجل عاقل ، رئيس قبيلة ، جاء إلى العرب بقانون ، بنظام إلى آخره ، وليس له علاقة بدعوة البشر والعالم كله إلى التديُّن بدينه إلى آخره ، وهذا مما كان اليهود أنفسهم يقولون به في زمنه - عليه السلام - ، يقولون بأنه أُرسل للعرب ولم يُرسل إلى اليهود ، العرب الأميين هم بحاجة إلى مثله - عليه السلام - زعموا ، أما اليهود فعندهم التوراة ؛ فهم ليسوا بحاجة إلى مثله - عليه الصلاة والسلام - .
فالنصارى ومثلهم اليهود اليوم مُضلَّلون أشدَّ التضليل ؛ فهم لا يعرفون حقيقة دعوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لذلك يتأكَّد على المسلمين الواجب الذي أشرت إليه سابقًا ؛ وهو أنه ينبغي عليهم أن يُبلِّغوا دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حقيقتها إلى أولئك الأقوام والشعوب المُضلَّلين من قبل رؤسائهم ورهبانهم .
يزعم بعض الناس أنه لا يوجد اليوم أهل فترة بنفس الدعوة التي أشرت إليه آنفًا أن اسم الرسول - عليه السلام - بلغهم ، فنحن نقول أكثر أهل الأرض - مع الأسف - اليوم هم من أهل الفترة ؛ لأن أهل الفترة ليسوا هم كما يتوهَّم بعض طلاب العلم وقد يُلقَّنون ذلك خطأً من بعض أهل العلم ، أهل الفترة ليسوا هم الذين لم يُبعث إليهم نبيٌّ أو رسولٌ ، وإنما هم الذين لم تبلُغْهم دعوة نبي أو رسول كاليوم ، وليس بعد دعوة الرسول - عليه السلام - دعوة ، وليس بعد دينه دين آخر ، ولكن هذا الدين يجب أن يُبلَّغ إلى كل الناس أجمعين مصداقًا أو تحقيقًا لمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) ، ولكن تبليغ الدين ينبغي أن يُبلغ بمفهومه الصحيح ، وهنا يتجلَّى لكم مأساة كبيرة جدًّا يحياها المسلمون غير المآسي التي حلَّت بنا في عصرنا الحاضر ، تلك المآسي قد توارثناه أبًا عن جدٍّ ، وهي أصلُ كلِّ المآسي التي يصاب بها المسلمون في الدنيا ؛ ألا وهي سوء فهمهم لإسلامهم ؛ فنحن إذا أردنا أن نبلِّغَ أولئك الناس الإسلام ؛ فما صورة هذا الإسلام الذي سنُبلِّغُه إليهم ؟
لا شك أنكم جميعًا تلتقون معي بأنه سيُقدَّم إليهم مفاهيم عديدة ، مفاهيم عديدة لإسلام واحد ، وهذا مما يصدُّ الناس عن ذكر الله ، وعن كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لا يمكن أن يدخل في عقل إنسانٍ سويٍّ في الخلق والفطرة أن أمرين متناقضين يصدران من منبعٍ واحدٍ صافٍ أن يخرج من عين ماء عذب فرات وآخر أُجاج ، لا يلتقيان أبدًا ، فأن يأتي إنسان ويقول - مثلًا - للكفار ليعرِّفهم بالإيمان ؛ فيقول لهم بنصوص الكتاب والسنة أن الإيمان يزيد وينقص ، فيأتي آخر ويقول داعيًا إلى إسلامه معرِّفًا من بعض جوانبه بأنَّه لا يزيد ولا ينقص ، كيف يُمكن أن ندعو أولئك الناس إلى مثل هذا الإسلام فيه مثل هذا التناقض الجليِّ الواضح البيِّن ، لذلك أنا أقولها صريحةً : لسنا اليوم بحاجة إلى أن ندعوَ غيرنا إلى ديننا ، وإنما نحن بحاجة إلى أن نتعلَّم نحن ديننا وأن نتبيَّن منه ما تصحُّ نسبته إليه ممَّا لا يصح ، وكم تظنُّون يحتاج هذا الجمهور الضَّخم من المسلمين هاللي بلغ عدده - يقولون - ثمانمائة مليون مسلم على وجه الأرض ! كم يحتاج هؤلاء حتى يتفهَّموا الإسلام بالمفهوم الصحيح المفهوم الأول السلفي الناصع الذي كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟!
من هنا نحن نقول دائمًا وأبدًا كما عُلِّمنا من سلفنا : " عليكم بالأمر العتيق " ، في زمن الصحابة لم يكن هناك من يقول الإيمان لا يزيد ولا ينقص ؛ لأنَّ هذا خلاف الكتاب والسنة ، لكن وُجِدَ بعده بنحو مائة سنة أو أكثر من رأى رأيًا فأخطأ ، وهو رجل عالم فاضل ، رأى أن الإيمان يستحيل أن يقبل الزيادة والنقص ، وإنما الذي يزيد هو آثاره ، وهي الأعمال الصالحة ، والله - عز وجل - يقول دائمًا وأبدًا أن الإيمان يزيد وبالتالي تزيد الأعمال الصالحة ، ثم هذا الرأي الذي صدر من بعض أهل العلم اتُّخذ دينًا ، وهذه مصيبة من مصائب المسلمين ! كيف اتُّخذ دينا والدين هو الإسلام ، والإسلام هو القرآن ، والقرآن يقول إن الإيمان يزيد وينقص صراحة ، (( فزادهم إيمانًا )) ، كم وكم من آيات في القرآن بهذا المعنى ! هذا الرأي صار دينًا ؛ لأنه سبقه شيء آخر - أيضًا - جُعِلَ دينًا ؛ ألا وهو التقليد ، ولا يزال بعض الناس حتى المثقَّفين وحتى الذين ينظرون إلى أنفسهم بعين الرِّضا من الناحية العلمية لا يكادون يفقهون حديثًا ، لا يعلمون حتى اليوم لماذا نحن نُدندن دائمًا وأبدًا في محاربة التقليد ؛ لأنه صار دينًا ، وصار عقيدةً ، وصار أيُّ إمام يقول أيَّ قول مهما كان بعيد عن الكتاب والسنة فهو دين ، تقليد !! ونحن من أجل هذه الحقيقة نحارب التقليد ؛ أي : أن يُتَّخذ دينًا يصدُّ صاحبه عن الإيمان بالله ورسوله مما جاء في الكتاب والسنة ، وأبسط عبارة تسمعونها أو بعضكم على الأقل : يا أخي شو فلان جاهل ؟ لأ ، عالم ؛ لكن هل فلان معصوم ؟ هنا يصمت لجهله ، ما عُلِّم مبادئ الإسلام الأساسية ، عُلِّم أن هذا الرجل عالم فاضل ، وما بيتكلَّم عن هوى ، وما بيتكلَّم عن غرض ، وهذا كله صحيح ؛ لكن لم يُعلَّم ، وإذا عُلِّم لم يركَّز عليه في التعليم أنُّو انتبه هذا الرجل العالم الفاضل الذي لا يتكلَّم عن هوى ولا عن عصبيَّة ولا عن غرضيَّة ولا أي شيء ممكن أن يخطئ ؛ لذلك أن تتمسَّك بكلامه في حدود عدم معارضته لكتاب الله وسنة نبيِّه ، هذا التوجيه نحو عشرة قرون فقده المسلمون بسبب التقليد .
لذلك نحن نقول في الوقت الذي نشرح بأن الإيمان لا يُفيد إلا بأن يجمع بين الإيمان بالله كما شرع الله ، وبتوحيد الربوبية والألوهية والصفات ، والإيمان - أيضًا - بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ، وهاتان الحقيقتان لا يزال جماهير سكَّان الأرض هم جاهلون بها ، فهم بحاجة للتبليغ ؛ لكننا نحن أحوج إلى ذلك منهم ، لأنَّنا لا نزال نعيش وفي بلاد الإسلام ونحن نكفر عمليًّا وفكريًّا - أيضًا - بمعنى لا إله إلا الله ؛ كيف يُؤمن من يدعو الله من يدعو - أردت أن أقول - من يدعو غير الله فسبقني لساني ! لكن سأرقِّع كلامي فأقول : كيف يؤمن من يدعو الله ويقرن معه وليًّا من أولياء الله - عز وجل - ، وأنتم تسمعون - مثلًا - وأنتم سائرون في الطريق واحد بتتزحلق قدمه أو قدم دابته فسرعان ما بيلطع من فمه : يا الله يا باز ؟!! ما بيكفي الله وحده !! وربنا يقول : (( فلا تدعو مع الله أحدًا )) ، (( فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون )) هذا ند !! قال : يا الله يا باز !! هذا هو الند الباز ؛ ماذا يصنع الباز لا سيَّما مع الله قرنْتَه ؟! هذا هو الشرك بعينه لا يلتقي أبدًا مع الإيمان بالله - عز وجل - ، هذا الإيمان الذي أرادَه الرسول - عليه السلام - بقوله في هذا الحديث ، وبه ننهي الدرس ، ونتوجه إلى الجواب عن الأسئلة أو ما تيسَّر منها .
قال - عليه الصلاة والسلام - : ( اللهم من آمن بك ، وشهد أني رسولك ؛ فحبِّبْ إليه لقاءك ، وسهِّلْ عليه قضاءك ، وأقلِلْ له من الدنيا ، ومن لم يؤمن بك ، ولم يشهد أني رسولك ؛ فلا تحبِّبْ إليه لقاءك ، ولا تسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأكثر له من الدنيا ) .
نسأل الله - عز وجل - أن يحشرنا في زمرة الذين آمنوا به ، وشهدوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - برسالته .
- سلسلة الترغيب والترهيب - شريط : 7
- توقيت الفهرسة : 00:00:00
- نسخة مدققة إملائيًّا