من هم أهل الفترة ؟ وما حكمهم في الآخرة ؟ وهل أهل الجاهلية من أهل الفترة ؟
A-
A=
A+
السائل : شيخ ، من هم أهل الفترة ؟ وما حكمهم في الآخرة ؟ وهل أهل الجاهلية يُعتبرون من أهل الفترة ؟
الشيخ : نعم . المراد بأهل الفترة كلُّ من لم تبلغه الدعوة على الوجه الصحيح الذي جاء في الشرع ، ولكن ليس من المستطاع تحديد كل فرد من أفراد أهل الفترة ؛ لأن هذا أولًا : ليس بالمستطاع بالنسبة للبشر ، وثانيًا : لم يرد مثل هذا التحديد عن الله ورسوله ، ثم هذه التسمية أهل الفترة وإطلاقها على من لم تبلغهم الدعوة هو اصطلاح علمي لا مانع منه ؛ لأن لكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا ؛ بشرط أن لا يكون في اصطلاحهم شيء من المخالفة لنصٍّ من نصوص الكتاب أو السنة ، نحن نجد في القرآن مثل قول رب الأنام : (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، ولله الحجة البالغة ، ولو شاء لهدى الله الناس جميعًا ، أما أن نقول إن العصر الفلاني أو الزمن الفلاني هم كلهم أفرادًا وجماعات هم من أهل الفترة ؛ هذا أمر مستحيل ، لكننا نقول : من كان من أهل الفترة بالمعنى الذي أشارت إليه الآية ؛ أي : لم تبلغه الدعوة ، ولم تبلغه دعوة نبي أو رسول ؛ فهو الذي نستطيع أن نقوله إنه لا يُعذَّب يوم القيامة من لم تبلغه الدعوة ، أما من هم وفي أيِّ زمن هم ؛ هذا لاسبيل إلى تحديده ، بل قد يُمكن أن يوجد أهل الفترة بكل زمان ، سواء كان زمانه قبل الإسلام أو بعد الإسلام ، أما الذين كانوا قبل بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - من العرب في الجاهلية ؛ فهو مما يدخل في كلامي السابق ، لا يمكن أن نقول إنهم جميعًا ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة أو إنهم من أهل الفترة كلُّهم لم تبلغهم الدعوة ، لا يمكن أن يقال لا هذا ولا هذا بهذا الإطلاق والعموم والشمول ، ولكننا نعتقد أن كلًّا من النوعين كان موجودًا ؛ أي : كان في العرب من بلغتهم الدعوة وكان فيهم من لم تبلغهم الدعوة ، فإذا جاء النص عن الله ورسوله يحدد أن فلانًا لم تبلغه الدعوة قلنا بعينه بأنه لم تبلغه الدعوة ، والعكس بالعكس تمامًا ، إذا جاء النص عن شخص معيَّن إما أنه لم تبلغه الدعوة أو جاءنا لازم ذلك - أي : إنه من أهل النار - ؛ فذلك يستلزم أن يكون قد بلغته الدعوة ؛ لأن الله يقول - كما ذكرنا آنفًا - : (( وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولًا )) ، فقبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هناك رسالة إبراهيم وإسماعيل ، وكانت آثارها في العرب لا تزال قائمةً ، وبخاصة في مكة المشرفة والمقدسة من الله - تبارك وتعالى - ببناء إبراهيم الكعبة فيها ، وعبادة الله - عز و جل - فيها هو وولده إسماعيل ومن استجاب لدعوتهما ، فإسماعيل - عليه السلام - كان قد أُرسل إلى العرب ، ودعوته استمرَّت ظاهرة جلية في البلاد العربية ، وبخاصة في عاصمتها مكة ، واستمرَّت هذه الدعوة في العرب ما شاء الله ، وكان فيهم إلى قبيل بعثة الرسول - عليه السلام - من يعبد الله وحده لا شريك له ، وإن كانت غالبية العرب قد وقعوا في الشرك ، وهذا الأمر - أعني وقوعهم في الشرك وعبادتهم لغير الله - عز وجل - - هذا أمر لا يحتاج إلى كثير من البحث ، وإنما هذا البحث الذي ينبغي أن نوجِّه الكلام فيه هو : هل كل من كان قبل الرسول - عليه السلام - لم تبلغه الدعوة من هؤلاء العرب ، فهم غير مؤاخذين ، وغير مُخلَّدين في النار ؟
الجواب هذه الكلية باطلة لا يجوز إطلاقها أن يقول قائل : كل من كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو من أهل الفترة ، ذلك لأن لدينا أحاديث كثيرة وكثيرة جدًّا تصرِّح بأن بعض من كانوا في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم من أهل النار ، فأظن أن مثل هذه الأحاديث لا تخفى على أحد من الحاضرين ، بل ولا على أحد من طلَّاب العلم من غيرهم ، إلا أن بعض هؤلاء المشار إليهم من غير الحاضرين - إن شاء الله - عندهم بعض الشُّبه والإشكالات حول هذه النصوص التي أشرت إليها بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أخبر عن بعض من كان قبل بعثته من العرب ، وقد يكونون أو يكون بعضهم من أقاربه - عليه الصلاة والسلام - ، بل من أقرب الناس إليه ، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه في النار ، فيأتي هنا الإشكال ، ويحاول بعض الناس بالإطاحة بالإشكال من أصله بالحكم على الأحاديث التي وردت بعدم الصحة ، ذلك بزعمهم ؛ لأنها تتنافى مع كون العرب الذين كانوا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم من أهل الفترة ، فلذلك أنا أريد أن أُلفتَ النظر إلى شيئين قد سبق أن ذكرت آنفًا أحدهما ، وهو أنه لا يمكن أن يقال قولًا مطلقًا بأنَّ كل من كانوا قبل بعثة الرسول - عليه السلام - من العرب كانوا من أهل الفترة ؛ أي : من الذين لم تبلغهم الدعوة ، وحينذاك لا يصح الاستدلال بردِّ هذه الأحاديث التي أشرت إليها ، وسيأتي التنصيص على بعضها ، لا يجوز ردُّها بمثل الآية السابقة (( و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، لأننا سنقول هذه الآية محكمة ، ولكن تطبيقها على كلِّ فرد من الأفراد الذين كانوا في أمة قد أُرسل إليهم رسول ؛ لا يمكننا أن نقول إن كل فرد لم تبلغه الدعوة ، أو على العكس من ذلك ، والعكس ليس موضع إشكال ، وهو أن كل فرد قد بلغتهم الدعوة ، لا نقول بلغتهم الدعوة فردًا فردًا ، كما أننا لا نقول لم تبلغهم الدعوة فردًا فردًا ، من لم تبلغه الدعوة ؛ فهو من أهل الفترة الذين لا يُعذَّبون بكفرهم وضلالهم ، فحينئذٍ إنما نقف أمام أحاديث صحيحة يصرح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إن فلانًا وفلانًا من أهل النار ، فلا يجوز أن يقال في هذه الحالة أن هذا ليس صحيحًا ، لأنه كان من أهل الفترة ، لأننا سنقول ما يدريك أنه أو أنهم من أهل الفترة وقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيهم أنهم من أهل النار ؟ كما جاء في " الصحيحين " - مثلًا - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرَّ ذات يوم راكبًا على دابته فشمست به ، وكادت أن ترميه ، فنظر فوجد قبرين ، فسأل من كان معه من الصحابة متى مات هؤلاء ؟ قالوا : في الجاهلية . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لولا أن تدافنوا لأسمعتكم عذاب القبر ) ، فالشاهد من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد بأن هذين المقبورين ماتا في الجاهلية ، ومع ذلك فإنهما يُعذَّبان ، ولو قال - عليه السلام - : ( لولا أن تدافنوا لأسمعتكم عذاب القبر ) ، هذا العذاب الذي شمست به دابَّته خوفًا من هذا العذاب الذي سمعته الدابة ، فهذا العذاب كان منصبًّا على رجلين ماتا في الجاهلية ، فحينئذٍ لازم هذا الحديث وأمثاله أنهما ماتا على الشرك وعلى الضلال من جهة ، وأنهما ليسوا ممَّن لم تبلغهم الدعوة ؛ لأنهم لو كانوا كذلك لم يستحقُّوا العذاب بصريح الآية السابقة (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، كذلك قد جاء في غير ما حديث أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سُئل عن بعض الأجواد الكرماء الذين كان يُضرب بهم المثل بجودهم وكرمهم ممَّن ماتوا في الجاهلية ؛ هل نفعهم شيء من ذلك ؟ قال : ( لا ، إنه لم يقل يومًا ما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
وأخيرًا نأتي إلى مشكلة المشاكل بالنسبة لبعض الكُتَّاب المعاصرين الذي يتَّكئون على قاعدة أن أهل الفترة غير معذَّبين ، فيردُّون هذا الحديث الأخير ، أما ما سبق ذكره من الأحاديث ؛ فهذا يهمُّهم أن يتعرَّضوا لذكرها سلبًا أو إيجابًا ، لأنها لاعلاقة لها بعواطفهم ، بخلاف الحديث الذي سأذكره آتيًا ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إني استأذنتُ ربي في أن أزورَ قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ) ، فهذا الحديث باعتباره يتعلق بوالدة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو سيد البشر ، فكثير من الناس الذين يستسلمون لعواطفهم دون أن يُحكِّموا فيها شريعة ربهم ، وأن يسلِّموا لها تسليمًا يكبُر عليهم جدًّا أن يتقبَّلوه كما هو واجب كل مسلم في أن يكون موقفه تجاه حكم من أحكامه الله - عز وجل - كما قال - تبارك وتعالى - : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلِّموا تسليمًا )) ، فهم لا يسلمون لهذا الحديث تسليمًا كما أمرهم الله - عز وجل - في الآية المذكورة ، لأنهم لا تتَّسع قلوبهم بأن يعتقدوا بأن أمَّ سيد البشر هي من أهل النار ، مع علمهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول في حديث معروف في " صحيح مسلم " : ( من بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه ) ، والله - عز وجل - يقول : (( فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون )) ، فالأنساب يوم القيامة بالنسبة لمن مات على الشرك فلا فائدة منه إطلاقًا ، وهذا الحديث بخصوصه يدخل في هذا العموم ؛ أن النَّسب لا يفيد صاحبه إذا لم يكن مؤمنًا بالله ورسوله ، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( واستأذنتُ ربي في أن أستغفر لها ؛ فلم يأذن لي ) دليل واضح جدًّا أن والدة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من أهل النار ، مع أنها ماتت قبل أن يشبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فضلًا عن أنها ماتت قبل بعثته - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فهي إذًا ماتت في الجاهلية ؛ فهل هي من أهل الفترة ؛ أي : الذين لم تبلغهم الدعوة ؟
الجواب : لو كانت كذلك لما أبى الله - تبارك وتعالى - أن يأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يستغفر لها ، فإذًا هي ماتت على الشرك ، فمن مات على الشرك ؛ فلا تنفعه شفاعة الشافعين ، كذلك الحديث الآخر ، ولعله عند بعض الناس أشهر ، وهو - أيضًا - في " صحيح مسلم " من حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : ( أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : ( في النار ) ، ثم انصرف الرجل ، فقال - عليه الصلاة السلام - : ( هاتوا الرجل ) ، فلما رجع قال له - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إن أبي وأباك في النار ) ، فحكمه - أيضًا - - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث على والده الذي كان سبب وجوده أنه من أهل النار لَدليل واضح أنه ليس من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة ، لأنه لو كان كذلك لم يكن - أيضًا - من أهل النار ، بهذه الأحاديث لا يجوز لنا أن نقول : إن كل من كان قبل بعثة الرسول - عليه السلام - من المشركين هو من أهل الفترة ؛ لأننا بذلك نضرب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دونما حجة من عند أنفسنا ، إلا التمسك بعمومات لا تُفيد بالنسبة للنصوص الخاصة ، وحينئذٍ وجب الجمع بين ما دلَّت عليه الآية وما في معناها أن الله - عز وجل - لا يعذب أحدًا من عبده إلا بعد إرسال الرسول إليه .
ولعل من المفيد أن نذكر هنا شبهة أخرى تعترض سبيل أولئك الشَّاكِّين في بعض هذه الأحاديث المقطوع بصحَّتها عند أهل العلم ؛ حينما يقولون : إن هؤلاء الأفراد الذين جاءت الأحاديث لتصرِّح بأنهم من أهل النار لم تبلغهم الدعوة ؛ فنقول - حينذاك - : ما هو الدليل عندكم أن هذا الجنس من الناس المُعذَّبين ممن ماتوا في الجاهلية ؛ ما هو الدليل عندكم في النفي الذي تذكرونه ؛ أي : قولهم لم تبلغهم الدعوة ؟ لا يجدون جوابًا ، إلا أن يقولوا نحن نعلم يقينًا إن أبوي الرسول - مثلًا - وبعض أولئك الكرام الذين ماتوا في الجاهلية نعلم يقينًا أنهم ما أُرسل إليهم رسول ، هنا لا بد أن نقف قليلًا ، حينما قال الله - عز وجل - : (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ؛ هل المقصود ببعثة الرسول التي تقوم الحجة بها على الناس الذين جحدوها وكفروا بها أن يأتيهم رسول بشخصه ومعه الدعوة من ربِّه إليهم أم يكفي أن تصل دعوة الرسول إلى أولئك الناس ؛ ولو بواسطة بعض أصحاب ذلك الرسول ، أو الذين جاؤوا من بعدهم ؟
هنا دقة الموضوع ، وأظن أنه لا يستطيع أحد أن يفسِّر الآية (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) أن المقصود ببعثة الرسول بشخصه فقط ، أو بمعنى أنه إذا مات الرسول ماتت الدعوة ، وأن هذه الدعوة لو بلغت ناسًا بواسطة أتباع الرسول الأولين ، أو أتباع أتباعهم وهكذا ؛ فلا تقوم حجة الله على الناس إلا في حالة بعثة الرسول بشخصه فقط ، لا أعتقد أن أحدًا يُضيِّق معنى هذه الآية فيقول : (( وما كنَّا معذبين حتى نبعث رسولًا )) بشخصه ؛ أي : كل قوم لا بد أن يأتيهم رسول بشخصه بدعوته ، ذلك لأن من المعلوم أولًا بالنص قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فُضِّلت على الأنبياء قبلي بخمس خصال ) ، وذكر فيها - عليه الصلاة والسلام - قوله : ( وأنه كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ) ، قوله - عليه السلام - : ( وبعثت إلى الناس كافة ) مع قوله - تعالى - : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا )) ، وقوله : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ؛ كل هذا وذاك يدل على أن بعثة الرسول - عليه السلام - ليست فقط لشخصه بل ، وببلوغ الدعوة إلى من بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - ، كذلك نقول حينما قال - عليه السلام - : ( وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصَّة ) ؛ لا يعني يبعث بشخصه فقط ، بل وبدعوته بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - ، هذه حقائق - في اعتقادي - لا يمكن لأحد أن يُماري أو يجادل فيها ؛ لأنه سيلزمه محظوران اثنان:
المحظور الأول : أن يعتقد أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة محصورة بالعرب الذين دعاهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - مباشرة إلى الإسلام ، أما بعد وفاته ؛ فقد انتهت دعوته - عليه السلام - وبعثته ورسالته .
والشيء الآخر - وهذا بلا شك باطل - والشيء الآخر مثله ، وهو أن يعتقد أولئك الشَّاكِّين المُرتابين في صحة تلك الأحاديث - وهي صحيحة دون خلاف بين العلماء - أن يعتقدوا أننا نحن اليوم - معشر المسلمين - وعددهم يبلغ عشرات الملايين ؛ لم تبلغنا الدعوة ! لماذا ؟ لأنه ما جاءنا رسول مباشرة ؛ فهل من عاقل يقول بمثل هذا القول الذي يلزمهم أن يقولوا به إذا ما قالوه في العرب الذين كانوا قُبيل بعثة الرسول - عليه السلام - ، وأنهم يقولون هؤلاء ما جاءهم رسول ، لكنهم يعلمون أنهم جاءتهم دعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - ، وهي دعوة التوحيد ، فكفر من كفر بها ، وآمن من آمن بها ، فإذًا لا فرق بين دعوة إبراهيم وإسماعيل من حيث شمولها لكل من بلغته الدعوة ولو بعد وفاة الرسول المرسل إليهم مباشرة ؛ لأنه ليس المقصود من بعثة الرسول هو الشخص ، وإنما المقصود دعوته ورسالته ، ذلك بأننا لو فرضنا إنسانًا في زمن الرسول المبعوث مباشرةً إلى قوم ما كانَ أصمَّ أبكم التقى مع الرسول المبعوث ولكنه هو لا يفقه شيئًا مما يقوله ؛ لما به من صمم وبكم ؛ فهذا لم تبلغه الدعوة ، وإن كان قد بلغه الرسول بشخصه ، والعكس كذلك ، حين نتصوَّر قومًا جاءتهم دعوة الرسول - عليه السلام - دون أن يروا الرسول بعينه وشخصه ، فقد قامت الحجَّة عليهم .
إذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك دون خلاف بين مسلمَين - ؛ فحينئذ جاء ... بالنسبة لتلك الأحاديث الصحيحة التي تشهد بأن أولئك الأشخاص هم من أهل النار ، فلازم ذلك أنهم قد بلغتهم الدعوة وأقيمت عليهم الحجة ، فلا جرم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم عليهم بأنهم من أهل النار ، فقول من يقول بالذات في هذه الأحاديث أن إسماعيل أو إبراهيم أو غيرهما من الأنبياء الذين أُرسلوا إلى العرب ما جاءهم رسول مباشرة ؛ فهذا كما لو قال قائل اليوم أن التابعين وأتباع التابعين إلى هذا الزمان وإلى آخر الزمان الذي لا يبقى على وجه الأرض مَن يشهد أن لا إله إلا الله ؛ إلا جاءت ريح طيبة وقبضت أرواحهم ، كل هؤلاء من المسلمين أتباع الصحابة ومَن بعدهم ؛ نقول : لم تبلغهم الدعوة ؛ لأنهم ما جاءهم الرسول !! فهل من عاقل يقول بمثل هذه الكلمة ؟ ظنِّي أنه لا أحد يقول ، إذًا نحن نلزمهم بأن يقولوا نفس الكلمة معنا ، لأنه ليس المقصود من إرسال الرسل فيما قبل الرسول - عليه السلام - هو أشخاصهم فقط ، بل المقصود دعوتهم - أيضًا - ... لا فرق بين قوم دعاهم الرسول مباشرة بدعوته ، وبين قوم أو أقوام آخرين جاءتهم دعوة الرسول بواسطة أتباع الرسول ، فكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء قد قامت حجة الله - عز وجل - على الناس جميعًا بطريقٍ من هاتين الطريقتين ؛ إما وصول دعوة الرسول بواسطته هو مباشرة ، أو وصول دعوة الرسول بواسطة غيره من أتباعه الذين آمنوا به ؛ فحينئذٍ نعرف من هم أهل الفترة .
وخلاصة ذلك أن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم دعوة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة منه إليهم ، أو بواسطة أحد أتباع هذا الرسول ، إلى هنا - فيما يبدو لي - ينتهي الجواب عن السؤال السابق ، ولكن لا بد لي من كلمة قصيرة حول الدعوة التي يجب أن تبلغ ناسًا لتكون حجة الله قائمة عليهم ؛ لأنهم قد تكون جاءتهم الدعوة بطريق غير طريق الرسول ، فلا تكون الحجة قائمة في هذه الحالة لتقصيرٍ وقع من هؤلاء المبلغين ، فقد ذكرت آنفًا أن الرسالة قد تبلغ بطريق من طريقتين :
الطريقة الأولى بشخص الرسول - وهذه بلا شك ولا ريب أقوى من الطريقة الأخرى - ، وهي أن تصل الدعوة إلى قوم ما بواسطة أتباع الرسول ، سواء كان هؤلاء الأتباع من أتباع الرسول مباشرة أو على التسلسل ، كما نقول في فهم حديث الرسول - عليه السلام - : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) ، فخير الناس أصحابه - عليه السلام - ؛ لأنهم هم الذين أُرسل إليهم الرسول مباشرة ، ثم التابعون لهؤلاء الأصحاب ، ثم أتباعهم .
فالطريقة الأخرى أن تصلَ الدعوة إلى ناسٍ ما بطريق أتباع الرسول ، سواء التابعين للصحابة أو أتباعهم ، أو من جاؤوا من بعدهم ، كما هو واقعنا اليوم .
الذي أريد أن أذكر به إتمامًا للفائدة ؛ أن الدعوة التي تصل إلى قومٍ ما بالطريقة الأخرى ، ليس بطريقة الرسول مباشرة ؛ يجب أن تكون هذه الدعوة قد بلغتهم صافيةً نقيَّةً ، لا تغيير فيها ولا تبديل ولا تحوير ؛ لأنها في هذه الحالة إذا بلغتهم كذلك تكون بلوغ الدعوة إليهم بواسطة الأتباع كما لو كانت وصلت إليهم بواسطة الرسول مباشرة ، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك ؛ أي : إن قومًا ما أو ناسًا ما بلغتهم دعوة الإسلام محرَّفة مُغيَّرة مبدَّلة ، وبخاصة ما كان منها متعلقًا في أصولها وفي عقيدتها ؛ فهؤلاء الناس أنا أول من يقول إنهم لم تبلغهم الدعوة ؛ لأن المقصود بلوغ الدعوة على صفائها وبياضها ونقائها ، أما والفَرَضُ الآن أنها بلغتهم مغيَّرة مبدَّلة ؛ فهؤلاء لم تبلغهم الدعوة ، وبالتالي لم تقم حجة الله - تبارك وتعالى - عليهم ، هذا الذي أردتُ أن أضيفَه إلى ما سبق من البيان لتتمَّ الفائدة - إن شاء الله - .
الشيخ : نعم . المراد بأهل الفترة كلُّ من لم تبلغه الدعوة على الوجه الصحيح الذي جاء في الشرع ، ولكن ليس من المستطاع تحديد كل فرد من أفراد أهل الفترة ؛ لأن هذا أولًا : ليس بالمستطاع بالنسبة للبشر ، وثانيًا : لم يرد مثل هذا التحديد عن الله ورسوله ، ثم هذه التسمية أهل الفترة وإطلاقها على من لم تبلغهم الدعوة هو اصطلاح علمي لا مانع منه ؛ لأن لكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا ؛ بشرط أن لا يكون في اصطلاحهم شيء من المخالفة لنصٍّ من نصوص الكتاب أو السنة ، نحن نجد في القرآن مثل قول رب الأنام : (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، ولله الحجة البالغة ، ولو شاء لهدى الله الناس جميعًا ، أما أن نقول إن العصر الفلاني أو الزمن الفلاني هم كلهم أفرادًا وجماعات هم من أهل الفترة ؛ هذا أمر مستحيل ، لكننا نقول : من كان من أهل الفترة بالمعنى الذي أشارت إليه الآية ؛ أي : لم تبلغه الدعوة ، ولم تبلغه دعوة نبي أو رسول ؛ فهو الذي نستطيع أن نقوله إنه لا يُعذَّب يوم القيامة من لم تبلغه الدعوة ، أما من هم وفي أيِّ زمن هم ؛ هذا لاسبيل إلى تحديده ، بل قد يُمكن أن يوجد أهل الفترة بكل زمان ، سواء كان زمانه قبل الإسلام أو بعد الإسلام ، أما الذين كانوا قبل بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - من العرب في الجاهلية ؛ فهو مما يدخل في كلامي السابق ، لا يمكن أن نقول إنهم جميعًا ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة أو إنهم من أهل الفترة كلُّهم لم تبلغهم الدعوة ، لا يمكن أن يقال لا هذا ولا هذا بهذا الإطلاق والعموم والشمول ، ولكننا نعتقد أن كلًّا من النوعين كان موجودًا ؛ أي : كان في العرب من بلغتهم الدعوة وكان فيهم من لم تبلغهم الدعوة ، فإذا جاء النص عن الله ورسوله يحدد أن فلانًا لم تبلغه الدعوة قلنا بعينه بأنه لم تبلغه الدعوة ، والعكس بالعكس تمامًا ، إذا جاء النص عن شخص معيَّن إما أنه لم تبلغه الدعوة أو جاءنا لازم ذلك - أي : إنه من أهل النار - ؛ فذلك يستلزم أن يكون قد بلغته الدعوة ؛ لأن الله يقول - كما ذكرنا آنفًا - : (( وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولًا )) ، فقبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هناك رسالة إبراهيم وإسماعيل ، وكانت آثارها في العرب لا تزال قائمةً ، وبخاصة في مكة المشرفة والمقدسة من الله - تبارك وتعالى - ببناء إبراهيم الكعبة فيها ، وعبادة الله - عز و جل - فيها هو وولده إسماعيل ومن استجاب لدعوتهما ، فإسماعيل - عليه السلام - كان قد أُرسل إلى العرب ، ودعوته استمرَّت ظاهرة جلية في البلاد العربية ، وبخاصة في عاصمتها مكة ، واستمرَّت هذه الدعوة في العرب ما شاء الله ، وكان فيهم إلى قبيل بعثة الرسول - عليه السلام - من يعبد الله وحده لا شريك له ، وإن كانت غالبية العرب قد وقعوا في الشرك ، وهذا الأمر - أعني وقوعهم في الشرك وعبادتهم لغير الله - عز وجل - - هذا أمر لا يحتاج إلى كثير من البحث ، وإنما هذا البحث الذي ينبغي أن نوجِّه الكلام فيه هو : هل كل من كان قبل الرسول - عليه السلام - لم تبلغه الدعوة من هؤلاء العرب ، فهم غير مؤاخذين ، وغير مُخلَّدين في النار ؟
الجواب هذه الكلية باطلة لا يجوز إطلاقها أن يقول قائل : كل من كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو من أهل الفترة ، ذلك لأن لدينا أحاديث كثيرة وكثيرة جدًّا تصرِّح بأن بعض من كانوا في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم من أهل النار ، فأظن أن مثل هذه الأحاديث لا تخفى على أحد من الحاضرين ، بل ولا على أحد من طلَّاب العلم من غيرهم ، إلا أن بعض هؤلاء المشار إليهم من غير الحاضرين - إن شاء الله - عندهم بعض الشُّبه والإشكالات حول هذه النصوص التي أشرت إليها بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أخبر عن بعض من كان قبل بعثته من العرب ، وقد يكونون أو يكون بعضهم من أقاربه - عليه الصلاة والسلام - ، بل من أقرب الناس إليه ، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه في النار ، فيأتي هنا الإشكال ، ويحاول بعض الناس بالإطاحة بالإشكال من أصله بالحكم على الأحاديث التي وردت بعدم الصحة ، ذلك بزعمهم ؛ لأنها تتنافى مع كون العرب الذين كانوا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم من أهل الفترة ، فلذلك أنا أريد أن أُلفتَ النظر إلى شيئين قد سبق أن ذكرت آنفًا أحدهما ، وهو أنه لا يمكن أن يقال قولًا مطلقًا بأنَّ كل من كانوا قبل بعثة الرسول - عليه السلام - من العرب كانوا من أهل الفترة ؛ أي : من الذين لم تبلغهم الدعوة ، وحينذاك لا يصح الاستدلال بردِّ هذه الأحاديث التي أشرت إليها ، وسيأتي التنصيص على بعضها ، لا يجوز ردُّها بمثل الآية السابقة (( و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، لأننا سنقول هذه الآية محكمة ، ولكن تطبيقها على كلِّ فرد من الأفراد الذين كانوا في أمة قد أُرسل إليهم رسول ؛ لا يمكننا أن نقول إن كل فرد لم تبلغه الدعوة ، أو على العكس من ذلك ، والعكس ليس موضع إشكال ، وهو أن كل فرد قد بلغتهم الدعوة ، لا نقول بلغتهم الدعوة فردًا فردًا ، كما أننا لا نقول لم تبلغهم الدعوة فردًا فردًا ، من لم تبلغه الدعوة ؛ فهو من أهل الفترة الذين لا يُعذَّبون بكفرهم وضلالهم ، فحينئذٍ إنما نقف أمام أحاديث صحيحة يصرح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إن فلانًا وفلانًا من أهل النار ، فلا يجوز أن يقال في هذه الحالة أن هذا ليس صحيحًا ، لأنه كان من أهل الفترة ، لأننا سنقول ما يدريك أنه أو أنهم من أهل الفترة وقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيهم أنهم من أهل النار ؟ كما جاء في " الصحيحين " - مثلًا - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرَّ ذات يوم راكبًا على دابته فشمست به ، وكادت أن ترميه ، فنظر فوجد قبرين ، فسأل من كان معه من الصحابة متى مات هؤلاء ؟ قالوا : في الجاهلية . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لولا أن تدافنوا لأسمعتكم عذاب القبر ) ، فالشاهد من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد بأن هذين المقبورين ماتا في الجاهلية ، ومع ذلك فإنهما يُعذَّبان ، ولو قال - عليه السلام - : ( لولا أن تدافنوا لأسمعتكم عذاب القبر ) ، هذا العذاب الذي شمست به دابَّته خوفًا من هذا العذاب الذي سمعته الدابة ، فهذا العذاب كان منصبًّا على رجلين ماتا في الجاهلية ، فحينئذٍ لازم هذا الحديث وأمثاله أنهما ماتا على الشرك وعلى الضلال من جهة ، وأنهما ليسوا ممَّن لم تبلغهم الدعوة ؛ لأنهم لو كانوا كذلك لم يستحقُّوا العذاب بصريح الآية السابقة (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ، كذلك قد جاء في غير ما حديث أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سُئل عن بعض الأجواد الكرماء الذين كان يُضرب بهم المثل بجودهم وكرمهم ممَّن ماتوا في الجاهلية ؛ هل نفعهم شيء من ذلك ؟ قال : ( لا ، إنه لم يقل يومًا ما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
وأخيرًا نأتي إلى مشكلة المشاكل بالنسبة لبعض الكُتَّاب المعاصرين الذي يتَّكئون على قاعدة أن أهل الفترة غير معذَّبين ، فيردُّون هذا الحديث الأخير ، أما ما سبق ذكره من الأحاديث ؛ فهذا يهمُّهم أن يتعرَّضوا لذكرها سلبًا أو إيجابًا ، لأنها لاعلاقة لها بعواطفهم ، بخلاف الحديث الذي سأذكره آتيًا ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إني استأذنتُ ربي في أن أزورَ قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ) ، فهذا الحديث باعتباره يتعلق بوالدة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو سيد البشر ، فكثير من الناس الذين يستسلمون لعواطفهم دون أن يُحكِّموا فيها شريعة ربهم ، وأن يسلِّموا لها تسليمًا يكبُر عليهم جدًّا أن يتقبَّلوه كما هو واجب كل مسلم في أن يكون موقفه تجاه حكم من أحكامه الله - عز وجل - كما قال - تبارك وتعالى - : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلِّموا تسليمًا )) ، فهم لا يسلمون لهذا الحديث تسليمًا كما أمرهم الله - عز وجل - في الآية المذكورة ، لأنهم لا تتَّسع قلوبهم بأن يعتقدوا بأن أمَّ سيد البشر هي من أهل النار ، مع علمهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول في حديث معروف في " صحيح مسلم " : ( من بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه ) ، والله - عز وجل - يقول : (( فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون )) ، فالأنساب يوم القيامة بالنسبة لمن مات على الشرك فلا فائدة منه إطلاقًا ، وهذا الحديث بخصوصه يدخل في هذا العموم ؛ أن النَّسب لا يفيد صاحبه إذا لم يكن مؤمنًا بالله ورسوله ، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( واستأذنتُ ربي في أن أستغفر لها ؛ فلم يأذن لي ) دليل واضح جدًّا أن والدة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من أهل النار ، مع أنها ماتت قبل أن يشبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فضلًا عن أنها ماتت قبل بعثته - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فهي إذًا ماتت في الجاهلية ؛ فهل هي من أهل الفترة ؛ أي : الذين لم تبلغهم الدعوة ؟
الجواب : لو كانت كذلك لما أبى الله - تبارك وتعالى - أن يأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يستغفر لها ، فإذًا هي ماتت على الشرك ، فمن مات على الشرك ؛ فلا تنفعه شفاعة الشافعين ، كذلك الحديث الآخر ، ولعله عند بعض الناس أشهر ، وهو - أيضًا - في " صحيح مسلم " من حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : ( أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : ( في النار ) ، ثم انصرف الرجل ، فقال - عليه الصلاة السلام - : ( هاتوا الرجل ) ، فلما رجع قال له - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إن أبي وأباك في النار ) ، فحكمه - أيضًا - - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث على والده الذي كان سبب وجوده أنه من أهل النار لَدليل واضح أنه ليس من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة ، لأنه لو كان كذلك لم يكن - أيضًا - من أهل النار ، بهذه الأحاديث لا يجوز لنا أن نقول : إن كل من كان قبل بعثة الرسول - عليه السلام - من المشركين هو من أهل الفترة ؛ لأننا بذلك نضرب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دونما حجة من عند أنفسنا ، إلا التمسك بعمومات لا تُفيد بالنسبة للنصوص الخاصة ، وحينئذٍ وجب الجمع بين ما دلَّت عليه الآية وما في معناها أن الله - عز وجل - لا يعذب أحدًا من عبده إلا بعد إرسال الرسول إليه .
ولعل من المفيد أن نذكر هنا شبهة أخرى تعترض سبيل أولئك الشَّاكِّين في بعض هذه الأحاديث المقطوع بصحَّتها عند أهل العلم ؛ حينما يقولون : إن هؤلاء الأفراد الذين جاءت الأحاديث لتصرِّح بأنهم من أهل النار لم تبلغهم الدعوة ؛ فنقول - حينذاك - : ما هو الدليل عندكم أن هذا الجنس من الناس المُعذَّبين ممن ماتوا في الجاهلية ؛ ما هو الدليل عندكم في النفي الذي تذكرونه ؛ أي : قولهم لم تبلغهم الدعوة ؟ لا يجدون جوابًا ، إلا أن يقولوا نحن نعلم يقينًا إن أبوي الرسول - مثلًا - وبعض أولئك الكرام الذين ماتوا في الجاهلية نعلم يقينًا أنهم ما أُرسل إليهم رسول ، هنا لا بد أن نقف قليلًا ، حينما قال الله - عز وجل - : (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) ؛ هل المقصود ببعثة الرسول التي تقوم الحجة بها على الناس الذين جحدوها وكفروا بها أن يأتيهم رسول بشخصه ومعه الدعوة من ربِّه إليهم أم يكفي أن تصل دعوة الرسول إلى أولئك الناس ؛ ولو بواسطة بعض أصحاب ذلك الرسول ، أو الذين جاؤوا من بعدهم ؟
هنا دقة الموضوع ، وأظن أنه لا يستطيع أحد أن يفسِّر الآية (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا )) أن المقصود ببعثة الرسول بشخصه فقط ، أو بمعنى أنه إذا مات الرسول ماتت الدعوة ، وأن هذه الدعوة لو بلغت ناسًا بواسطة أتباع الرسول الأولين ، أو أتباع أتباعهم وهكذا ؛ فلا تقوم حجة الله على الناس إلا في حالة بعثة الرسول بشخصه فقط ، لا أعتقد أن أحدًا يُضيِّق معنى هذه الآية فيقول : (( وما كنَّا معذبين حتى نبعث رسولًا )) بشخصه ؛ أي : كل قوم لا بد أن يأتيهم رسول بشخصه بدعوته ، ذلك لأن من المعلوم أولًا بالنص قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فُضِّلت على الأنبياء قبلي بخمس خصال ) ، وذكر فيها - عليه الصلاة والسلام - قوله : ( وأنه كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ) ، قوله - عليه السلام - : ( وبعثت إلى الناس كافة ) مع قوله - تعالى - : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا )) ، وقوله : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ؛ كل هذا وذاك يدل على أن بعثة الرسول - عليه السلام - ليست فقط لشخصه بل ، وببلوغ الدعوة إلى من بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - ، كذلك نقول حينما قال - عليه السلام - : ( وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصَّة ) ؛ لا يعني يبعث بشخصه فقط ، بل وبدعوته بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - ، هذه حقائق - في اعتقادي - لا يمكن لأحد أن يُماري أو يجادل فيها ؛ لأنه سيلزمه محظوران اثنان:
المحظور الأول : أن يعتقد أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة محصورة بالعرب الذين دعاهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - مباشرة إلى الإسلام ، أما بعد وفاته ؛ فقد انتهت دعوته - عليه السلام - وبعثته ورسالته .
والشيء الآخر - وهذا بلا شك باطل - والشيء الآخر مثله ، وهو أن يعتقد أولئك الشَّاكِّين المُرتابين في صحة تلك الأحاديث - وهي صحيحة دون خلاف بين العلماء - أن يعتقدوا أننا نحن اليوم - معشر المسلمين - وعددهم يبلغ عشرات الملايين ؛ لم تبلغنا الدعوة ! لماذا ؟ لأنه ما جاءنا رسول مباشرة ؛ فهل من عاقل يقول بمثل هذا القول الذي يلزمهم أن يقولوا به إذا ما قالوه في العرب الذين كانوا قُبيل بعثة الرسول - عليه السلام - ، وأنهم يقولون هؤلاء ما جاءهم رسول ، لكنهم يعلمون أنهم جاءتهم دعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - ، وهي دعوة التوحيد ، فكفر من كفر بها ، وآمن من آمن بها ، فإذًا لا فرق بين دعوة إبراهيم وإسماعيل من حيث شمولها لكل من بلغته الدعوة ولو بعد وفاة الرسول المرسل إليهم مباشرة ؛ لأنه ليس المقصود من بعثة الرسول هو الشخص ، وإنما المقصود دعوته ورسالته ، ذلك بأننا لو فرضنا إنسانًا في زمن الرسول المبعوث مباشرةً إلى قوم ما كانَ أصمَّ أبكم التقى مع الرسول المبعوث ولكنه هو لا يفقه شيئًا مما يقوله ؛ لما به من صمم وبكم ؛ فهذا لم تبلغه الدعوة ، وإن كان قد بلغه الرسول بشخصه ، والعكس كذلك ، حين نتصوَّر قومًا جاءتهم دعوة الرسول - عليه السلام - دون أن يروا الرسول بعينه وشخصه ، فقد قامت الحجَّة عليهم .
إذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك دون خلاف بين مسلمَين - ؛ فحينئذ جاء ... بالنسبة لتلك الأحاديث الصحيحة التي تشهد بأن أولئك الأشخاص هم من أهل النار ، فلازم ذلك أنهم قد بلغتهم الدعوة وأقيمت عليهم الحجة ، فلا جرم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم عليهم بأنهم من أهل النار ، فقول من يقول بالذات في هذه الأحاديث أن إسماعيل أو إبراهيم أو غيرهما من الأنبياء الذين أُرسلوا إلى العرب ما جاءهم رسول مباشرة ؛ فهذا كما لو قال قائل اليوم أن التابعين وأتباع التابعين إلى هذا الزمان وإلى آخر الزمان الذي لا يبقى على وجه الأرض مَن يشهد أن لا إله إلا الله ؛ إلا جاءت ريح طيبة وقبضت أرواحهم ، كل هؤلاء من المسلمين أتباع الصحابة ومَن بعدهم ؛ نقول : لم تبلغهم الدعوة ؛ لأنهم ما جاءهم الرسول !! فهل من عاقل يقول بمثل هذه الكلمة ؟ ظنِّي أنه لا أحد يقول ، إذًا نحن نلزمهم بأن يقولوا نفس الكلمة معنا ، لأنه ليس المقصود من إرسال الرسل فيما قبل الرسول - عليه السلام - هو أشخاصهم فقط ، بل المقصود دعوتهم - أيضًا - ... لا فرق بين قوم دعاهم الرسول مباشرة بدعوته ، وبين قوم أو أقوام آخرين جاءتهم دعوة الرسول بواسطة أتباع الرسول ، فكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء قد قامت حجة الله - عز وجل - على الناس جميعًا بطريقٍ من هاتين الطريقتين ؛ إما وصول دعوة الرسول بواسطته هو مباشرة ، أو وصول دعوة الرسول بواسطة غيره من أتباعه الذين آمنوا به ؛ فحينئذٍ نعرف من هم أهل الفترة .
وخلاصة ذلك أن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم دعوة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة منه إليهم ، أو بواسطة أحد أتباع هذا الرسول ، إلى هنا - فيما يبدو لي - ينتهي الجواب عن السؤال السابق ، ولكن لا بد لي من كلمة قصيرة حول الدعوة التي يجب أن تبلغ ناسًا لتكون حجة الله قائمة عليهم ؛ لأنهم قد تكون جاءتهم الدعوة بطريق غير طريق الرسول ، فلا تكون الحجة قائمة في هذه الحالة لتقصيرٍ وقع من هؤلاء المبلغين ، فقد ذكرت آنفًا أن الرسالة قد تبلغ بطريق من طريقتين :
الطريقة الأولى بشخص الرسول - وهذه بلا شك ولا ريب أقوى من الطريقة الأخرى - ، وهي أن تصل الدعوة إلى قوم ما بواسطة أتباع الرسول ، سواء كان هؤلاء الأتباع من أتباع الرسول مباشرة أو على التسلسل ، كما نقول في فهم حديث الرسول - عليه السلام - : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) ، فخير الناس أصحابه - عليه السلام - ؛ لأنهم هم الذين أُرسل إليهم الرسول مباشرة ، ثم التابعون لهؤلاء الأصحاب ، ثم أتباعهم .
فالطريقة الأخرى أن تصلَ الدعوة إلى ناسٍ ما بطريق أتباع الرسول ، سواء التابعين للصحابة أو أتباعهم ، أو من جاؤوا من بعدهم ، كما هو واقعنا اليوم .
الذي أريد أن أذكر به إتمامًا للفائدة ؛ أن الدعوة التي تصل إلى قومٍ ما بالطريقة الأخرى ، ليس بطريقة الرسول مباشرة ؛ يجب أن تكون هذه الدعوة قد بلغتهم صافيةً نقيَّةً ، لا تغيير فيها ولا تبديل ولا تحوير ؛ لأنها في هذه الحالة إذا بلغتهم كذلك تكون بلوغ الدعوة إليهم بواسطة الأتباع كما لو كانت وصلت إليهم بواسطة الرسول مباشرة ، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك ؛ أي : إن قومًا ما أو ناسًا ما بلغتهم دعوة الإسلام محرَّفة مُغيَّرة مبدَّلة ، وبخاصة ما كان منها متعلقًا في أصولها وفي عقيدتها ؛ فهؤلاء الناس أنا أول من يقول إنهم لم تبلغهم الدعوة ؛ لأن المقصود بلوغ الدعوة على صفائها وبياضها ونقائها ، أما والفَرَضُ الآن أنها بلغتهم مغيَّرة مبدَّلة ؛ فهؤلاء لم تبلغهم الدعوة ، وبالتالي لم تقم حجة الله - تبارك وتعالى - عليهم ، هذا الذي أردتُ أن أضيفَه إلى ما سبق من البيان لتتمَّ الفائدة - إن شاء الله - .
- رحلة الخير - شريط : 3
- توقيت الفهرسة : 00:20:19
- نسخة مدققة إملائيًّا