إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام ومتى يكون ذلك ؟
A-
A=
A+
السائل : يقول السائل .
الشيخ : السؤال الثاني يقول - السائل الأول - : إذا كان النسخ لا يصحُّ إلا من قِبَلِ الشارع نفسه ؛ فهل يصحُّ في الاجتهاد تغيير ما لم ينسَخْه الشارع من الأحكام ، ومتى يكون ذلك ؟
مما هو مُجمع عليه بين علماء المسلمين أنَّ النسخ لا يمكن أن يقع بعد استقرار الأحكام الشرعية ، وذلك لا يظهر يقينًا إلا بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فأيُّ حكم انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، واستقرَّ ذلك الحكم على وجه ؛ فلا يمكن أن يُنسَخَ هذا الحكم بعده - عليه الصلاة والسلام - بوجهٍ من الوجوه ، ولعلنا نذكر جميعًا أن معنى النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه من أصله ، وليس من هذا القبيل ما قد يُشير إليه السائل في قوله : فهل يصحُّ في الاجتهاد تغيير ما لم ينسَخْه الشارع من الأحكام ؟ ومتى يكون ذلك ؟
لا يمكن أن يكون نسخ حكم استقرَّ أنه حكم ثابت كما ذكرنا ، واستمرَّ ذلك إلى آخر رمق في حياته الرسول - عليه السلام - ؛ لا يمكن لمثل هذا الحكم أن يُنسَخَ بأيِّ وجه من الوجوه ، لكن الذي يمكن أن يقع في ظروف وملابسات خاصَّة توقيف حكم من الأحكام الثابتة غير المنسوخة ، توقيفه إلى أمدٍ معيَّن بسبب ظروف أحاطت بالناس فأوجبت تأخير ذلك الحكم إلى زمن معيَّن ؛ مثلًا : جعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الطلاق الثلاث الذي كان في عهد الرسول - عليه السلام - طلقة واحدة ، وكذلك في عهد أبي بكر الصديق ، وكذلك في شطرٍ من خلافة عمر نفسه ، بعد ذلك جعل عمر - رضي الله عنه - هذا الطلاق ثلاثًا ، فمن طلَّق ثلاثًا في عدَّة واحدة اعتبره نافذًا ثلاثًا على خلاف ما كان الأمر عليه في عهد الرسول - عليه السلام - وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر نفسه كما ذكرنا .
يذهب بعض الفقهاء المتأخِّرين الذين رأوا جمهور علماء المسلمين تبنَّوا هذا الحكم وكأنَّه حكم لازم وثابت إلى يوم الدين ، يرون بأن تنفيذ عمر للطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا لا يمكن أن يكون إلا ولديه ناسخ ، يقولون هذا لأنَّه لا يجدون في نصوص السنة فضلًا عن نصوص الكتاب ما يُمكنهم أن يُذعنوا أنَّ ما فَعَلَه عمر هو حكم ثابت قبل الرسول - عليه السلام - ، لا يجدون إلا أن يقولوا أنَّ عمر ما صار إلى هذا إلا ولديه نصٌّ ناسخٌ للحكم السابق ؛ وهو أن الطلاق بلفظ الثلاث يُعتبر طلقة ، ولعلَّ الحاضرين جميعًا يفقهون إيش معنى طلاق بلفظ الثلاث ، وأنه يُعتبر ثلاثًا في اجتهاد عمر ، ولم يكن كذلك في زمن الرسول - عليه السلام - وأبي بكر وشطر من خلافة عمر ؛ كأني أرى من الضروري أن أقف قليلًا هنا لأبيِّنَ لكم الفرق لأنُّو ناحية اختلف بها كثير من الناس اليوم .
الأصل في الطَّلاق الشرعي أنَّ من يريد أن يطلِّق زوجته طلاقًا شرعيًّا يُشترط في هذا الطلاق أن تتوفَّر فيه شروط عديدة ، ولسنا الآن في صددها ، وإنما أذكر هذا الشرط الواحد ؛ وهو ألا يجمع الطلاقات الثلاث التي قال الله فيها : (( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )) . (( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ )) في كل مرَّة إمساك بمعروف - يعني بعد ما طلَّق - أو تسريح بإحسان ، (( فَإِنْ طَلَّقَهَا )) في الثالثة (( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )) . هذا من شروط الطلاق الشرعي أن يطلِّق ، ثم يفكِّر هل يُمسكها يرجعها إلى نفسه أم يخلي سبيلها ، والله يعوِّضه خيرًا منها ويعوِّضها خيرًا منه ؟
جعل الله - عز وجل - له ساحة تفكير وهي العدَّة ، فالمرأة بعد أن طلَّقها زوجة ، فعدَّتها ثلاثة قروء ، ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريبًا ، فيفكِّر الرجل في هذه المرأة يُعيدها أم لا يعيدها ، فإذا انتهت العدَّة أصبحت المرأة حرَّة ، وليس له سبيل على إرجاعها ، وقبل العدَّة يستطيع أن يُعيدَها إليه بدون نكاح ، ولكن تُحسب عليه طلقة .
ثم أعاد النظر فرأى أن هذه المرأة لا تستقيم معه ، فطلَّقها طلقة أخرى ثانية بعد أن أعادها إليه وحُسِبت عليه الطلقة الثانية ، وهكذا كل طلقة فيها عدَّة ، فإمَّا يُخلي سبيلها فتصبح حرَّة ، وإما أن يُعيدها إليه في أثناء العدَّة فبيكون سجَّل عليه الطلقة الأولى والثانية وهكذا ، فإذا استعجل الزوج الأمر فقال لزوجته : طلَّقتك ثلاثًا ، روحي أنت طالق أنت طالق أنت طالق ؛ هنا نقطة الخلاف ؛ هل هذا الطلاق بمعنى حرمت عليه وبانت منه بينونة كبرى ، (( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )) ، أم هذا يُعتبر طلقة واحدة ؛ لأنه عدَّة واحدة ، مو ثلاث عدَّات ، كلُّ طلقة لا بدَّ أن يكون معها عدَّة في الطلاق الشرعي ؟ = -- يرحمك الله -- = كان الأمر في عهد الرسول - عليه السلام - وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر أنَّ من قال لزوجته : أنت طالق ثلاثًا كأنه قال لها : أنت طالق بس ، طلقة واحدة تعتبر ؛ أي : إنَّ لفظة الثلاث تعتبر لفظة واحدة ؛ لأن الطلاق الشرعي مقرون بعدَّة ، لما قال : أنت طالق ثلاثًا كم عدَّة ؟ واحدة ؛ إذًا هذه طلقة واحدة ، ويضرب لهذا مثلًا ابن تيمية مثلًا جميلًا يقول : مَثَلُ الذي يقول لزوجته أنت طالق ثلاثًا من الناحية الشرعية كمثل الذي يقول : " سبحان الله ثلاثًا وثلاثين " ، هل سُجِّلت عليه ثلاثًا وثلاثين تسبيحة ولَّا تسبيحة واحدة ؟ تسبيحة واحدة ؛ ليه ؟ لأنه ما قال : " سبحان الله سبحان الله سبحان الله ... " ثلاثًا وثلاثين ، وإنما قال : " سبحان الله ثلاثًا وثلاثين " ؛ إذًا " ثلاثًا وثلاثين " كلمة لغو هنا ؛ لأنها ليست كالذي عدَّ فعلًا وقال : سبحان الله سبحان الله سبحان الله ثلاثًا وثلاثين .
الخلاصة : الأمر كان في عهد الرسول - عليه السلام - أن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثًا طلقة واحدة ، كذلك في عهد أبي بكر ، كذلك في عهد عمر ، ثم بدا لعمر رأيٌ ؛ وهو أنه قال : إنَّ الناس قد استعجلوا أمرًا كانت لهم فيه أناة - يعني صبر وأمد وطولة بال - ؛ فأرى أن أجعلها عليهم ثلاثًا " ، هذا حكم اجتهاد من عمر بن الخطاب صدر منه لأمرٍ عَرَضَ ؛ وهو ما أشار إليه بالقول : " إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة " ، هذا الاستعجال لم يكن في زمن الرسول ، ولم يكن في زمن أبي بكر ، ولم يكن في الشطر الأول من خلافة عمر ، أو كان وما تنبَّه له عمر ، فحينما تنبَّه قال : " أرى أن أجعلها عليهم ثلاثًا " فجعلها ثلاثًا ، هذا حكم من عمر لا ينسخ الحكم السابق ، والذي حكمَ به عمر نفسه ، كيف يحكم عمر في الشطر الأول من خلافته بأنَّ مَن قال لزوجته : أنت طالق ثلاثًا هو طلقة واحدة ؟ لا بد أنه حكم بذلك بمثل ما حكم سَلَفُه الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، وأبو بكر ما حكم بذلك إلا لأنَّه تلقَّى ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ؛ إذًا يستحيل أن يُقال : عمر نسخ هذا الحكم ، بل يستحيل أن يُقال : إنَّ عمر كان عنده دليل ينسخ هذا الحكم ؛ لأنه لو كان عنده كيف حَكَمَ قبل ذلك بخلافه ؟ ولو افترضنا أنه كان غافلًا عنه كيف نفترض أنَّه غفل عنه هو والصحابة جميعًا في خلافته الأولى ؟ ثم كيف غفل عن ذلك أبو بكر الصديق ؟ ثم كيف فارق الرسول - عليه السلام - الصحابة جميعًا وهذا الطلاق إنما هو طلقة واحدة ؟
لا يمكن إذًا أن يُلغى حكم مُحكم ثابت عند وفاة الرسول - عليه السلام - باجتهاد مجتهد مهما كان هذا المجتهد عالمًا كعمر ، وإنما قد يرى هذا المجتهد أن يوقف الحكم السابق لأمرٍ عَرَضَ لم يكن عارضًا في السابق ، وقد عرفتم ماذا عرض ؛ وهو قول عمر : " قد كان لهم فيه أناة فاستعجلوا الأمر " ؛ أي : ما صبروا ، صار الواحد يطلِّق ، ويجمع الطلاق بلفظ الثلاث وهذا خلاف السنة ، فتأديبًا لهم وحملًا لهم على اتباع السنة رأى أن يجعلَ الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا .
من هذا القبيل تمامًا وبعض الكُتَّاب المعاصرين اليوم ممَّن عندهم الفقه المسمَّى بالفقه المقارن وليس عندهم الفقه الذي ذكرَه الرسول - عليه السلام - في الحديث الصحيح : ( مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين ) ؛ لأنَّ هذا الفقه هو التفهُّم للكتاب والسنة ، وجلَّ - إن لم نَقُلْ كل - الذين يدرسون اليوم الفقه المقارن - مع الأسف الشديد - لا يدرسونه استنادًا على الكتاب والسنة ؛ لأنَّ باب الاجتهاد مُغلق عندهم ، وإنما يدرسون على ضوء ما جاءهم من أقاويل ، ثم يكون المرجِّح عندهم ما يسمُّونه بمراعاة المصلحة ، بمراعاة ما يُلائم الناس اليوم بسبب ما يعيشون فيه من أجواء لم يكن من قبلهم يعيشونها ، فهم يأخذون من الأحكام ما يناسب هذا الزمان ، ولا يأخذون من تلك الأحكام التي اختلفَ فيها العلماء ما قام الدليل الصحيح من الكتاب والسنة على ترجيحه ؛ من هذا القبيل تمسُّك البعض في سبيل تأييد القاعدة التي - أيضًا - تُساء استعمالها أشدَّ الإساءة ؛ قاعدة : " الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان " .
يحتجون على هذه القاعدة برفع عمر بن الخطاب لمصرف المؤلَّفة قلوبهم من الزكاة ، يحتجُّون على ذلك بفعل عمر ، وعمر أوقف هذا المصرف ، وقال : بأن الله - عز وجل - لمَّا فَرَضَ للمؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة إنما كان ذلك والإسلام بحاجة إلى دعم وإلى نصرة وإلى تأييد ، أمَّا وقد ... الله الإسلام في الأرض فلسْتُ بحاجة إلى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ؛ كأن عمر - رضي الله عنه - يفهم أنَّ مصرف المؤلَّفة قلوبهم كانت العلَّة فقط هو حاجة الإسلام إلى دعم ، وإلى دفع أذى بعض الناس ممَّن لا يزالون بين الإسلام وبين الكفر بين المؤلفة قلوبهم ، ولكن الحق - كما تدل عليه السيرة النبوية ، وكما ذهب إلى ذلك كثير من المفسِّرين أمثال الحافظ ابن كثير - أنَّ مصرف المؤلفة قلوبهم ليس لهذه الغاية فقط ، بل استجلاب - أيضًا - قلوب الناس إلى لإيمان وإلى الإسلام ، ولو لم يكن نحن نخشى الضَّرر منهم والتأثير على ضعفاء القلوب من المسلمين ؛ فهم - أعني بعض الكُتَّاب أو المتفقِّهة في العصر الحاضر - يحتجُّون بفعل عمر هذا بأنَّ الزمان يتطلَّب تغيير هذا الحكم ، ولذلك فهذا رأي لعمر ، ونحن إن جاز لنا أن نخطِّئ عمر فإنما نقول أنه فَهِمَ الآية في فهم محدود ، ولا يجوز أن نقول : إنه نَسَخَ الحكم الذي كان مستقرًّا - حاشا - ، أما أنَّ نصاب أو مصرف زكاة المؤلفة قلوبهم فهذا بمنتهى حكمة التشريع للمسلمين ، ونحن الآن نشعر تمامًا بحاجة الدولة المسلمة لو وُجدت إلى صرف نسبة معيَّنة من أموال الزكاة إلى ناسٍ كفَّار ، كفَّار لم يسلموا بعد ؛ أن تصرف إليهم أموال لاستجلاب قلوبهم إلينا كما قال الشاعر :
أحسِنْ إلى الناسِ تستعبِدْ قلوبَهُمُ *** فطالَمَا استعبَدَ الإنسانَ إحسانُ
نحن بحاجةٍ من باب أولى أن نُنفِقَ على ناس أسلموا في بلاد الغربة في بلاد الكفر فنقوِّيهم ، ونأخذ بعضدهم بهذه الأموال التي نعطيها ، كيف يُقال أن الإسلام ليس بحاجة ؟ الإسلام دائمًا بحاجة لتكثير سواده بكلِّ طريق مشروع ؛ لا سيَّما ما نصَّ عليه ربُّنا - عز وجل - في القرآن الكريم .
هذا ما يتيسَّر من الجواب عن هذا السؤال .
الشيخ : السؤال الثاني يقول - السائل الأول - : إذا كان النسخ لا يصحُّ إلا من قِبَلِ الشارع نفسه ؛ فهل يصحُّ في الاجتهاد تغيير ما لم ينسَخْه الشارع من الأحكام ، ومتى يكون ذلك ؟
مما هو مُجمع عليه بين علماء المسلمين أنَّ النسخ لا يمكن أن يقع بعد استقرار الأحكام الشرعية ، وذلك لا يظهر يقينًا إلا بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فأيُّ حكم انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، واستقرَّ ذلك الحكم على وجه ؛ فلا يمكن أن يُنسَخَ هذا الحكم بعده - عليه الصلاة والسلام - بوجهٍ من الوجوه ، ولعلنا نذكر جميعًا أن معنى النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه من أصله ، وليس من هذا القبيل ما قد يُشير إليه السائل في قوله : فهل يصحُّ في الاجتهاد تغيير ما لم ينسَخْه الشارع من الأحكام ؟ ومتى يكون ذلك ؟
لا يمكن أن يكون نسخ حكم استقرَّ أنه حكم ثابت كما ذكرنا ، واستمرَّ ذلك إلى آخر رمق في حياته الرسول - عليه السلام - ؛ لا يمكن لمثل هذا الحكم أن يُنسَخَ بأيِّ وجه من الوجوه ، لكن الذي يمكن أن يقع في ظروف وملابسات خاصَّة توقيف حكم من الأحكام الثابتة غير المنسوخة ، توقيفه إلى أمدٍ معيَّن بسبب ظروف أحاطت بالناس فأوجبت تأخير ذلك الحكم إلى زمن معيَّن ؛ مثلًا : جعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الطلاق الثلاث الذي كان في عهد الرسول - عليه السلام - طلقة واحدة ، وكذلك في عهد أبي بكر الصديق ، وكذلك في شطرٍ من خلافة عمر نفسه ، بعد ذلك جعل عمر - رضي الله عنه - هذا الطلاق ثلاثًا ، فمن طلَّق ثلاثًا في عدَّة واحدة اعتبره نافذًا ثلاثًا على خلاف ما كان الأمر عليه في عهد الرسول - عليه السلام - وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر نفسه كما ذكرنا .
يذهب بعض الفقهاء المتأخِّرين الذين رأوا جمهور علماء المسلمين تبنَّوا هذا الحكم وكأنَّه حكم لازم وثابت إلى يوم الدين ، يرون بأن تنفيذ عمر للطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا لا يمكن أن يكون إلا ولديه ناسخ ، يقولون هذا لأنَّه لا يجدون في نصوص السنة فضلًا عن نصوص الكتاب ما يُمكنهم أن يُذعنوا أنَّ ما فَعَلَه عمر هو حكم ثابت قبل الرسول - عليه السلام - ، لا يجدون إلا أن يقولوا أنَّ عمر ما صار إلى هذا إلا ولديه نصٌّ ناسخٌ للحكم السابق ؛ وهو أن الطلاق بلفظ الثلاث يُعتبر طلقة ، ولعلَّ الحاضرين جميعًا يفقهون إيش معنى طلاق بلفظ الثلاث ، وأنه يُعتبر ثلاثًا في اجتهاد عمر ، ولم يكن كذلك في زمن الرسول - عليه السلام - وأبي بكر وشطر من خلافة عمر ؛ كأني أرى من الضروري أن أقف قليلًا هنا لأبيِّنَ لكم الفرق لأنُّو ناحية اختلف بها كثير من الناس اليوم .
الأصل في الطَّلاق الشرعي أنَّ من يريد أن يطلِّق زوجته طلاقًا شرعيًّا يُشترط في هذا الطلاق أن تتوفَّر فيه شروط عديدة ، ولسنا الآن في صددها ، وإنما أذكر هذا الشرط الواحد ؛ وهو ألا يجمع الطلاقات الثلاث التي قال الله فيها : (( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )) . (( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ )) في كل مرَّة إمساك بمعروف - يعني بعد ما طلَّق - أو تسريح بإحسان ، (( فَإِنْ طَلَّقَهَا )) في الثالثة (( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )) . هذا من شروط الطلاق الشرعي أن يطلِّق ، ثم يفكِّر هل يُمسكها يرجعها إلى نفسه أم يخلي سبيلها ، والله يعوِّضه خيرًا منها ويعوِّضها خيرًا منه ؟
جعل الله - عز وجل - له ساحة تفكير وهي العدَّة ، فالمرأة بعد أن طلَّقها زوجة ، فعدَّتها ثلاثة قروء ، ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريبًا ، فيفكِّر الرجل في هذه المرأة يُعيدها أم لا يعيدها ، فإذا انتهت العدَّة أصبحت المرأة حرَّة ، وليس له سبيل على إرجاعها ، وقبل العدَّة يستطيع أن يُعيدَها إليه بدون نكاح ، ولكن تُحسب عليه طلقة .
ثم أعاد النظر فرأى أن هذه المرأة لا تستقيم معه ، فطلَّقها طلقة أخرى ثانية بعد أن أعادها إليه وحُسِبت عليه الطلقة الثانية ، وهكذا كل طلقة فيها عدَّة ، فإمَّا يُخلي سبيلها فتصبح حرَّة ، وإما أن يُعيدها إليه في أثناء العدَّة فبيكون سجَّل عليه الطلقة الأولى والثانية وهكذا ، فإذا استعجل الزوج الأمر فقال لزوجته : طلَّقتك ثلاثًا ، روحي أنت طالق أنت طالق أنت طالق ؛ هنا نقطة الخلاف ؛ هل هذا الطلاق بمعنى حرمت عليه وبانت منه بينونة كبرى ، (( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )) ، أم هذا يُعتبر طلقة واحدة ؛ لأنه عدَّة واحدة ، مو ثلاث عدَّات ، كلُّ طلقة لا بدَّ أن يكون معها عدَّة في الطلاق الشرعي ؟ = -- يرحمك الله -- = كان الأمر في عهد الرسول - عليه السلام - وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر أنَّ من قال لزوجته : أنت طالق ثلاثًا كأنه قال لها : أنت طالق بس ، طلقة واحدة تعتبر ؛ أي : إنَّ لفظة الثلاث تعتبر لفظة واحدة ؛ لأن الطلاق الشرعي مقرون بعدَّة ، لما قال : أنت طالق ثلاثًا كم عدَّة ؟ واحدة ؛ إذًا هذه طلقة واحدة ، ويضرب لهذا مثلًا ابن تيمية مثلًا جميلًا يقول : مَثَلُ الذي يقول لزوجته أنت طالق ثلاثًا من الناحية الشرعية كمثل الذي يقول : " سبحان الله ثلاثًا وثلاثين " ، هل سُجِّلت عليه ثلاثًا وثلاثين تسبيحة ولَّا تسبيحة واحدة ؟ تسبيحة واحدة ؛ ليه ؟ لأنه ما قال : " سبحان الله سبحان الله سبحان الله ... " ثلاثًا وثلاثين ، وإنما قال : " سبحان الله ثلاثًا وثلاثين " ؛ إذًا " ثلاثًا وثلاثين " كلمة لغو هنا ؛ لأنها ليست كالذي عدَّ فعلًا وقال : سبحان الله سبحان الله سبحان الله ثلاثًا وثلاثين .
الخلاصة : الأمر كان في عهد الرسول - عليه السلام - أن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثًا طلقة واحدة ، كذلك في عهد أبي بكر ، كذلك في عهد عمر ، ثم بدا لعمر رأيٌ ؛ وهو أنه قال : إنَّ الناس قد استعجلوا أمرًا كانت لهم فيه أناة - يعني صبر وأمد وطولة بال - ؛ فأرى أن أجعلها عليهم ثلاثًا " ، هذا حكم اجتهاد من عمر بن الخطاب صدر منه لأمرٍ عَرَضَ ؛ وهو ما أشار إليه بالقول : " إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة " ، هذا الاستعجال لم يكن في زمن الرسول ، ولم يكن في زمن أبي بكر ، ولم يكن في الشطر الأول من خلافة عمر ، أو كان وما تنبَّه له عمر ، فحينما تنبَّه قال : " أرى أن أجعلها عليهم ثلاثًا " فجعلها ثلاثًا ، هذا حكم من عمر لا ينسخ الحكم السابق ، والذي حكمَ به عمر نفسه ، كيف يحكم عمر في الشطر الأول من خلافته بأنَّ مَن قال لزوجته : أنت طالق ثلاثًا هو طلقة واحدة ؟ لا بد أنه حكم بذلك بمثل ما حكم سَلَفُه الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، وأبو بكر ما حكم بذلك إلا لأنَّه تلقَّى ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ؛ إذًا يستحيل أن يُقال : عمر نسخ هذا الحكم ، بل يستحيل أن يُقال : إنَّ عمر كان عنده دليل ينسخ هذا الحكم ؛ لأنه لو كان عنده كيف حَكَمَ قبل ذلك بخلافه ؟ ولو افترضنا أنه كان غافلًا عنه كيف نفترض أنَّه غفل عنه هو والصحابة جميعًا في خلافته الأولى ؟ ثم كيف غفل عن ذلك أبو بكر الصديق ؟ ثم كيف فارق الرسول - عليه السلام - الصحابة جميعًا وهذا الطلاق إنما هو طلقة واحدة ؟
لا يمكن إذًا أن يُلغى حكم مُحكم ثابت عند وفاة الرسول - عليه السلام - باجتهاد مجتهد مهما كان هذا المجتهد عالمًا كعمر ، وإنما قد يرى هذا المجتهد أن يوقف الحكم السابق لأمرٍ عَرَضَ لم يكن عارضًا في السابق ، وقد عرفتم ماذا عرض ؛ وهو قول عمر : " قد كان لهم فيه أناة فاستعجلوا الأمر " ؛ أي : ما صبروا ، صار الواحد يطلِّق ، ويجمع الطلاق بلفظ الثلاث وهذا خلاف السنة ، فتأديبًا لهم وحملًا لهم على اتباع السنة رأى أن يجعلَ الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا .
من هذا القبيل تمامًا وبعض الكُتَّاب المعاصرين اليوم ممَّن عندهم الفقه المسمَّى بالفقه المقارن وليس عندهم الفقه الذي ذكرَه الرسول - عليه السلام - في الحديث الصحيح : ( مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين ) ؛ لأنَّ هذا الفقه هو التفهُّم للكتاب والسنة ، وجلَّ - إن لم نَقُلْ كل - الذين يدرسون اليوم الفقه المقارن - مع الأسف الشديد - لا يدرسونه استنادًا على الكتاب والسنة ؛ لأنَّ باب الاجتهاد مُغلق عندهم ، وإنما يدرسون على ضوء ما جاءهم من أقاويل ، ثم يكون المرجِّح عندهم ما يسمُّونه بمراعاة المصلحة ، بمراعاة ما يُلائم الناس اليوم بسبب ما يعيشون فيه من أجواء لم يكن من قبلهم يعيشونها ، فهم يأخذون من الأحكام ما يناسب هذا الزمان ، ولا يأخذون من تلك الأحكام التي اختلفَ فيها العلماء ما قام الدليل الصحيح من الكتاب والسنة على ترجيحه ؛ من هذا القبيل تمسُّك البعض في سبيل تأييد القاعدة التي - أيضًا - تُساء استعمالها أشدَّ الإساءة ؛ قاعدة : " الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان " .
يحتجون على هذه القاعدة برفع عمر بن الخطاب لمصرف المؤلَّفة قلوبهم من الزكاة ، يحتجُّون على ذلك بفعل عمر ، وعمر أوقف هذا المصرف ، وقال : بأن الله - عز وجل - لمَّا فَرَضَ للمؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة إنما كان ذلك والإسلام بحاجة إلى دعم وإلى نصرة وإلى تأييد ، أمَّا وقد ... الله الإسلام في الأرض فلسْتُ بحاجة إلى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ؛ كأن عمر - رضي الله عنه - يفهم أنَّ مصرف المؤلَّفة قلوبهم كانت العلَّة فقط هو حاجة الإسلام إلى دعم ، وإلى دفع أذى بعض الناس ممَّن لا يزالون بين الإسلام وبين الكفر بين المؤلفة قلوبهم ، ولكن الحق - كما تدل عليه السيرة النبوية ، وكما ذهب إلى ذلك كثير من المفسِّرين أمثال الحافظ ابن كثير - أنَّ مصرف المؤلفة قلوبهم ليس لهذه الغاية فقط ، بل استجلاب - أيضًا - قلوب الناس إلى لإيمان وإلى الإسلام ، ولو لم يكن نحن نخشى الضَّرر منهم والتأثير على ضعفاء القلوب من المسلمين ؛ فهم - أعني بعض الكُتَّاب أو المتفقِّهة في العصر الحاضر - يحتجُّون بفعل عمر هذا بأنَّ الزمان يتطلَّب تغيير هذا الحكم ، ولذلك فهذا رأي لعمر ، ونحن إن جاز لنا أن نخطِّئ عمر فإنما نقول أنه فَهِمَ الآية في فهم محدود ، ولا يجوز أن نقول : إنه نَسَخَ الحكم الذي كان مستقرًّا - حاشا - ، أما أنَّ نصاب أو مصرف زكاة المؤلفة قلوبهم فهذا بمنتهى حكمة التشريع للمسلمين ، ونحن الآن نشعر تمامًا بحاجة الدولة المسلمة لو وُجدت إلى صرف نسبة معيَّنة من أموال الزكاة إلى ناسٍ كفَّار ، كفَّار لم يسلموا بعد ؛ أن تصرف إليهم أموال لاستجلاب قلوبهم إلينا كما قال الشاعر :
أحسِنْ إلى الناسِ تستعبِدْ قلوبَهُمُ *** فطالَمَا استعبَدَ الإنسانَ إحسانُ
نحن بحاجةٍ من باب أولى أن نُنفِقَ على ناس أسلموا في بلاد الغربة في بلاد الكفر فنقوِّيهم ، ونأخذ بعضدهم بهذه الأموال التي نعطيها ، كيف يُقال أن الإسلام ليس بحاجة ؟ الإسلام دائمًا بحاجة لتكثير سواده بكلِّ طريق مشروع ؛ لا سيَّما ما نصَّ عليه ربُّنا - عز وجل - في القرآن الكريم .
هذا ما يتيسَّر من الجواب عن هذا السؤال .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 22
- توقيت الفهرسة : 00:40:19
- نسخة مدققة إملائيًّا