متى يجوز لطالب العلم أن يشتغل بالأحاديث النبوية تصحيحًا وتضعيفًا ؟ وما هي الكتب التي يقرؤها حتى يصل إلى هذه الدرجة ؟ وهل هناك شروط معيَّنة لا بد أن تتوفَّر فيه ؟
A-
A=
A+
السائل : متى يجوز لطالب العلم أن يشتغل بالأحاديث النبوية تصحيحًا وتضعيفًا ؟ ما هي الكتب التي يقرؤها والموضوعات التي يلمُّ بها حتى يصل إلى هذه الدرجة ؟ هل هناك شروط يعني معيَّنة تتوفر فيه كما جعل الأقدمين شروط الاجتهاد في الفقه ؟
الشيخ : لا شكَّ أن طالب العلم إذا أراد أن يصل يومًا ما إلى معرفة تصحيح الأحاديث وتضعيفها - ولا أقول أن يصل يومًا ما إلى معرفة تخريخ الأحاديث - ؛ لأنَّ تخريج الأحاديث يحسنه كلُّ طالب مهما كانت ثقافته ضحلة ، أما التصحيح والتضعيف فلا يتمكَّن منه إلا من عاش دهرًا طويلًا وهو يمارس تطبيق ما درسه نظريًّا من علم الجرح والتعديل ، وعلم أصول الحديث ، وقواعد مصطلح الحديث ، فمن مضى على عمره وعلى حياته برهة طويلة يدرس هذا العلم حتى تمكَّن منه جيِّدًا نظريًّا ، ثم يحاول أن يطبِّق ذلك عمليًّا ، فهذا يحتاج في الحقيقة إلى سنين وسنين عديدة ، ويختلف ذلك بلا شك باختلاف طالب العلم من حيث تفرُّغه لهذا العلم وتخصُّصه فيه ، ومن حيث استطاعته أن ينصرف عمَّا يُلهيه عن هذا العلم ، فلا شك أن من أشهر الكتب المصطلح هي " الميزان في نقد الرجال " المعروف بـ " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " للإمام الحافظ الذهبي ، فهذا في معرفة طبقات الرجال في الرواية في الصحة والحسن والضعف من أحسن الكتب التي يسهل على المبتدئين بهذا العلم أن يتدارسوه بينهم ؛ لأنه خلاصة لكثير من الكتب القديمة التي لم تكن أيدي علماء الحديث في العصر الحاضر تطولها أيديهم ؛ لأنَّها كانت لا تزال في عالم المخطوطات ، فقد طُبع الآن كما يعلم بعضكم على الأقلِّ بعض المراجع الأساسية لكتاب " الميزان " للحافظ الذهبي ؛ كمثل " الضعفاء والمتروكين " لابن حبان ، ومثل " الضعفاء الكبير " للعقيلي ، ومثل " الكامل " لابن عدي ، وقبل ذلك طبع " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي ، فهذه الكتب هي أصول كتاب " الميزان " للذهبي ، ثم " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، فإذا تمرَّن طالب العلم على دراسة هذه الكتب في معرفة رواة الأحاديث سواء كانت هؤلاء الرواة سواء كان هؤلاء الرواة من رجال الستة أو من رجال غير الكتب الستة ، فيجدهم مبثوثين في هذا الكتاب ، وهو " ميزان الإعتدال في نقد الرجال " للذهبي ، ويجد هنالك طريقة يتفهَّم فيها كيف كان علماء الحديث يحكمون بأن فلانًا منكر الحديث ، أو إنه له مناكير ، أو إنه حسن الحديث ، أو إنه صحيح الحديث ثقة يحتج به ، هذا الأسلوب العملي في نقد الرواة يجده ظاهرًا هناك ، ولا يكفي بطبيعة الحال أنه مجرَّد ما قرأ هذا الكتاب عرف علم الجرح والتعديل ، لا ، يجب أن يقرأ كتبًا كثيرة وكثيرة جدًّا ، مثلًا كتاب " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، هذا كتاب خاصٌّ في رواة الكتب الستة ونحوها كـ " الأدب المفرد " للبخاري ، و " التاريخ " للبخاري ، و " خلق الأفعال " للبخاري ، رواة هذه الكتب الزايدة على الكتب الستة يجد تراجمها في " تهذيب التهذيب " ، لكن لا يجد تراجم لم يروِ لها أصحاب هذه الكتب إلا في مثل كتاب " الميزان " للحافظ الذهبي ، وهكذا يتمشَّى طالب العلم في دراسة هذه الكتب حتى يصبح عنده سليقة ومعرفة لتمييز ما قد يكون علماء الحديث أو علماء الجرح والتعديل قد اختلفوا فيه توثيقًا وتجريحًا ، فيستطيع فيما بعد أن يطبِّق القاعدة الأصولية الحديثية التي يقرؤها في علم المصطلح .
مثال على ذلك قولهم : " الجرح مقدَّم على التعديل " ، هذه عبارة مشهورة في هذا العلم ومتداولة على ألسنة أهل العلم ؛ " الجرح مقدَّم على التعديل " ؛ لكنَّه سيجد أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها وعمومها وشمولها ، بل هي مقيَّدة بقيد ؛ ألا وهو " الجرح مقدَّم على التعديل " ، إذا كان سبب الجرح مبيَّنًا موضَّحًا ؛ بمعنى إذا قال ابن معين - مثلًا - - وهو من أئمة الجرح والتعديل ، ومن معاصري الإمام أحمد - إذا قال في راوٍ ما : " ثقة " ، وقال فيه الإمام أحمد : " ضعيف " ، أو العكس مش مهم التحديد ، إنما المراد التمثيل ، فأيُّ القولين أيُّ قول من هذين القولين يُرجَّح على الآخر ، أَقَولُ من وثَّق - سواء كان أحمد أو ابن معين - أو العكس ؛ إذا أردنا أن نطبِّق القاعدة المذكورة " الجرح مقدَّم على التعديل " قدَّمنا إذًا قول المضعِّف على قول الموثِّق ، لكن هذ ليس على إطلاقه ؛ ما هو القيد ؟ قال إذا بُيِّن السبب ، أحدهما قال : " ثقة " ، والآخر قال : " ضعيف " ، ما قال - مثلًا - : " ضعيف سيِّئ الحفظ " ، ما قال : " ضعيف اختلط " ، أو نحو ذلك ؛ إذًا هذا ضعفٌ يمكن أن يُسمَّى جرح غير مبيَّن السبب ، فلا يُقدَّم على قول من وثَّق ، لكن انظروا الآن كيف التسلسل ، وهذا لا يستطيعه طالب العلم أن يصل إليه في بضع سنين دراسة نظرية ، بل في سنين طويلة وعديدة ، ثم يأتي من بعد ذلك تطبيق هذه الدراسة ؛ لأنَّ التطبيق سيكشف له ما قد يكون عليه خافيًا من الدراسة النظرية .
قلنا : قالوا : الجرح مقدم على التعديل ، هذا أولًا ، ثانيًا قالوا : ليس هذا على إطلاقه ، بل لا بدَّ أن يكون الجرح مبيَّنًا ، فإذا لم يكن مبيَّنًا فالثقة أو التعديل مقدَّم ، قالوا - ثالثًا - : لا يكفي أن يكون الجرح مبيَّنًا ، قد يقنع الإنسان بأن يقف في ثانيًا ، أولًا قالوا الجرح مقدم على التعديل ، ثانيًا قالوا : ليس هذا على إطلاقه ، وإنما إذا بُيِّن سبب الجرح ، هذا - أيضًا - ليس كافيًا ، بل يجب أن يكون السبب الجارح جرحًا في نفسه ، أن يكون جرحًا في نفسه ، وقد يقول قائل : وهذا لا تجدونه مبسوطًا في كتب المصطلح كما تسمعونه الآن موضَّحًا مبيَّنًا ، وإنما هذا مع الممارسة يصل إلى هذه الحقيقة الدارس لهذا العلم والمطبِّق له .
مثلًا قيل لفلان من المحدَّثين : لماذا لا تروي عن فلان ؟ قال : هذا مرجئ ، آ هذا سبب مبيَّن الجرح ، لكن هل هو جرح ؟ قالوا : لا ، الخلاف المذهبي ليس جرحًا ؛ لأن العبرة في الرواية شيئان اثنان : أولًا العدالة ؛ أي : أن يكون مسلم غير فاسق . وثانيًا : أن يكون حافظًا متقنًا لروايته ، أما والله فلان مرجئ ، وفلان خارجي ، فلان شيعي إلى آخره ، هذه تترك جانبًا ، فما دام الرواي لا يزال في دائرة المسلمين ، وما دام أنه تحقَّق بأنه ثقة ضابط حافظ ؛ فحديثه صحيح ، والجرح المذكور ليس جرحًا ، مع أنه جرح ، لكن هو في نفسه ليس جرحًا .
قيل لآخر : لماذا لا تروي عن فلان ؟ قال : سمعت صوت عودٍ في داره ، آ صوت العود ملاهي ، وإتيان الملاهي فسق ، فإذًا هذا ليس عدلًا ؛ أكذلك ؟ الجواب : لا ، لم ؟ أولًا : لأن الملاهي وآلات الطرب صحيح أنها تحرم في الإسلام لأحاديث كثيرة ، لكن نحن اليوم نستطيع أن نقول هذه القولة ؛ لأننا اطَّلعنا بفضل الله بسبب تأخُّر زمننا على أقوال المختلفين في هذه المسألة ، وعلى أدلَّتهم ؛ فترجَّح لدينا أنَّ آلات الطرب كلها حرام لا يجوز ، لكن الأمر ليس بهذه السهولة في ذلك الزمان ؛ حيث كان هناك مَن يرى أن لا شيء في آلات الطرب عن اجتهاد منهم ، فما كان مُختلفًا فيه في ذلك الزمان فلا يجوز إسقاط الاحتجاج به ؛ لأنه خالف اجتهاد الآخرين ، ولو كان مخطئًا في مخالفته ، هذا جرح ، ولكنه لا يُعدُّ به المجروح .
والأدق من ذلك أنَّ قول هذا القائل : سمعت عودًا من داره ؛ لو كان هو نفسه يرى تحريم العود - أيضًا - لا ينهض لكونه سببًا جارحًا ؛ لماذا ؟ لأن هذا الصوت يُمكن أن يكون صدرَ من دار جاره ، وليس من دار هذا الراوي ؛ لأن الدور تكون متقاربة ، وبخاصة في ذلك الزمان ؛ حيث لم تكن الدور مشيدة رفيعة البنيان كما هو في هذا الزمان ، ويحتمل أخيرًا أن يكون هذا الصوت صادرًا من داره ، ولكن ليس من شخصه ، وإنما إما من قريب له ، أو من ابن له عاص له ؛ لا يطيعه ولا يسمع كلامه ؛ فهو ليس مسؤولًا عنه ، إذًا بمثل هذه الأنواع من الجرح لا يصلح أن يكون سببًا مقبولًا الجرحُ به ، مثل هذه الدراسة إذا استمرَّ طالب العلم ، وطبَّق علم الجرح والتعديل على الأصول ، ومارس ذلك عمليًّا على الأقل نحو عشر سنوات ، ويكتب لنفسه ولا ينشر لينفعَ به غيره ، وهذا فيما لاحظتُه في هذا الزمان آفة طلاب العلم أنهم يستعجلون في الظُّهور كعلماء ، وفي علم أعرضَ عنه جماهير العلماء طيلة هذه القرون الكثيرة ؛ حيث لم يكن فيهم مَن يبرز في علم الحديث ؛ علم الجرح والتعديل ، علم التصحيح والتضعيف ، إلا أفراد قليلين جدًّا جدًّا ؛ لماذا ؟ لصعوبة هذا العلم ولدقَّته ، ومن صعوبته أنك تحكم على الحديث بالضعف ، وإذا بك بعد سنين طويلة تجد لهذا الحديث إسنادًا آخر ؛ أين ؟ في كتاب لم تكن قد وقفت عليه ، وكتب السنة بالمئات ، وأكثرها لا تزال في جملة المخطوطات ، لذلك كان مما ما جاء في كتب علم الحديث في المصطلح وأنا أجد إن هذه القاعدة لا تُراعى ؛ لماذا ؟ أَلَم يقرأها طالب العلم ؟ قرأها ، لكن مثل ما بيقولوا عندنا بالشام : " فات من هون طلع من هون " ، لم يتركَّز في ضميره في قلبه بحيث يكون مستحضرًا له دائمًا أبدًا ؛ ما هي ؟
قال الحافظ العراقي : إذا وقف طالب العلم على حديث إسناده ضعيف ؛ فله أن يقول في هذا الحديث : " إسناده ضعيف " ، ولا يقول : " حديث ضعيف " ؛ لأن هناك فرقًا بين قول : " إسناده ضعيف " ، وبين قول : " حديث ضعيف " ؛ لأن الأوَّل تطلق الضعف على السند ، وأنت مصيب ، أما إذا قلت - بسبب بضعف السند - : " الحديث ضعيف " ؛ فقد يتبيَّن خطؤك لماذا ؟ لأنك لم تقف على إسناد ثانٍ ، وهذا الإسناد الثاني على الأقل قد يقوِّي الأول ، بل وقد يكون هو في نفسه قويًّا ، فكيف ضعَّفت الحديث ؟ أما لو قلت : " إسناده ضعيف " فأنت صادق ، فأنت لا تلام ، أما إذا قلت : " هذا الحديث ضعيف " فقد تلام ، لأنه قد تجد أنت نفسك ، بل قد يأتي غيرك فيتعقَّبك ، ويقول لك : " هذا حديث ثابت " .
وأنا أقول لكم - بكل صراحة - : مع فضل الله - تبارك وتعالى - عليَّ ؛ حيث قضيت أكثر من نصف قرن من هذا العصر في هذا العلم ، مع ذلك قد يأتي طالب علم مبتدي فيستدرك عليَّ ، كيف يستدرك عليَّ ؟ لأنه ظهر كتاب الآن لم أكن أنا أطوله ، مع أنني عشتُ بين مخطوطات مكتبة الظاهرية ، وفيها كنوز عظيمة جدًّا ، يشهد على ذلك كلُّ من اطَّلع تخريجاتي للأحاديث ، لكن هل معنى ذلك أنني أحطتُ بمخطوطات الدنيا ؟ هذا أمر مستحيل ، فالآن تطبع بعض المخطوطات من - مثلًا - مكتبة دار الكتب المصرية ، تطبع الآن ، فيأتي إنسان مبتدئ في هذا العلم ، فيقول : أنت ضعَّفت الحديث الفلاني ! وهذا إسناد إما يقوِّي ذاك السند ، أو هو قوي في نفسه ، إلى آخره ، هذا يقع مع من ؟ مع الذي قضى نصف قرن من الزمان وزيادة في هذا العلم ، فماذا يكون شأن المبتدئين فيه ؟ لا شك أن عليهم أن يتَّئدوا ، وأن لا يستعجلوا الأمر ، وأنهم إذا اقتضى لهم أنهم قد أُوتوا حظًّا من الذاكرة ومن الحافظة ، ورغبة في هذا العلم أن لا يستعجلوا ، ولا بأس أن يؤلِّفوا لأنفسهم ، أما مجرَّد أن يشعر بأنه استطاع أن يرجع إلى كتاب " الميزان " و " لسان الميزان " و " التهذيب " ونحو ذلك ... ويقول أن فيه فلان ، وقد ضعَّفه فلان ، فأنا أرى الأخطاء الآن متجسِّدة تمامًا ؛ لأنَّ هناك بعض الأنواع من العلوم فيه دقَّة ، كما ذكرت لكم آنفًا فيما يتعلق بالجرح والتعديل ، ومن هذه الدقة الحديث الحسن ، الحديث الحسن الإمام الناقد الإمام الذهبي يقول في رسالة " الموقظة " : " إنه من أدقِّ أنواع علوم الحديث " ؛ الحديث الحسن هو من أدقِّ أنواع علوم الحديث ؛ لماذا ؟
لأن معنى كون هذا الحديث أو ذاك حسنًا أن فيه رجلًا مُختلف فيه ما بين موثِّق ومضعِّف ، فالذي يريد أن يحسِّن حديثه عليه أن يلخِّص جملة قصيرة جدًّا من ذاك الاختلاف الطويل المبثوث في ترجمة ذلك الراوي ، فهذا يقول فيه : " ثقة " ، وهذا يقول فيه : " لا بأس به " ، وهذا يقول : " ضعيف " ، وهذا يقول : " يروي مناكير " ، وربما قيل : " إنه منكر الأحاديث " ، وكثير وكثير جدًّا من طلاب العلم لا يعرفون الفرق بين : " له مناكير " و " بين منكر الحديث " ، ونحو ذلك من الفروق الهامة جدًّا ؛ فكيف يستطيع أن يلخِّص من هذا الاختلاف الشديد كلمة وهي : " هذا ضعيف الحديث " ، أو " حسن الحديث " ، أو " صحيح الحديث " ، من هنا تأتي الدِّقَّة ، ولذلك نجد كثير من الطلبة إذا وجدوا عالمًا في القديم أو في الحديث يحسِّن حديثًا يقول : " فيه فلان ، وقد قال فيه فلان : إنه ضعيف ، أو سيئ الحفظ " ، أو نحو ذلك ، فهو يتَّكئ على أقوال المضعِّفين ولا يعرِّج على أقوال الموثِّقين ، ثم لا يستخلص خلاصة من هذه الأقوال المختلفة ، وإنما هو مالَ إلى جانب ، والذي حمله على ذلك - الله أعلم بنيَّته - هو الجهل هو الهوى هو الغلط ؛ الله أعلم به !
ومن الدِّقَّة أنا قلت هذا الصعوبة واضحة الآن ؛ أنُّو أقوال علماء الجرح والتعديل مختلفة ، فهو عليه أن يأخذ خلاصة ، المبتدئ في هذا العلم أنصحه أن يعتمدَ في هذه الخلاصة على كتاب " التقريب " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، على كتاب " المغني في الضعفاء والمتروكين " للذهبي ، وإن كان هذا ليس من الوضوح ككتاب " التقريب " على كتاب " الكاشف " للذهبي - أيضًا - ؛ لأنه ملخَّص ولو بعض التلخيص ، أحسن كتاب في التلخيص وجدتُه هو " تقريب التهذيب " للحافظ ابن حجر ، هذا يُساعد المبتدي أن يدرك إذا كان أوتي ذكاءً أو فطنةً كيف قال : " فلان صدوق " ؛ مع أنه إذا رجع إلى الأصل " تهذيب التهذيب " يجد فيه طعنًا شديدًا ، فيستطيع بالاستعانة بحكم ابن حجر والرجوع إلى الأصل أن يكوِّن مع الزمن رأيًا ، أقول : هذا مما يفيده كلام الحافظ الذهبي ، لكن الدقة المتناهية أنَّ العالم الفرد تراه متناقضًا في نفسه ؛ أحيانًا يحسِّن وأحيانًا يضعِّف ، أحيانًا يحسِّن وأحيانًا يضعِّف .
الآن انتقل الموضوع بين شخص وشخص ، وانحصر في شخص واحد ، هذا الشخص الواحد يقرأ الترجمة مرَّة فيلخِّص منها أنه حسن الحديث ، لكن يمضي زمن ويمضي زمن فيتبيَّن له شيء كان خافيًا عليه ؛ فيحكم على هذا الرجل بأنه ضعيف ، ويضعِّف حديثه ، والذي لا علم عنده بهذه الدَّقائق وهذه الحقائق يقول هذا تناقض ، صحيح تناقض ، ولنرجع الآن إلى أقوال الفقهاء في المسألة الواحدة ، وبخاصة الإمام أحمد - رحمه الله - ، تجده يعطي أحكامًا مختلفة في المسألة الواحدة ؛ لماذا ؟
لأن الاجتهاد يتغيَّر ، والملاحظات تختلف باختلاف تقدُّم الإنسان في العلم والسِّنِّ والتجربة ، لعلكم تذكرون رواية تروى عن عمر الخطاب أنه سُئل عن قضيَّة تتعلَّق بفريضة من الإرث ، فأجاب برأي ، وبعد سنة تقريبًا سُئل نفس السؤال ، فأجاب بجواب آخر ؛ قيل له : من قبل أجبت بغير هذا ؟ فأجاب : " ذاك على ما أفتَينا به ، وهذا على ما نفتي به الآن " ، يشير إلى أن اجتهاد العالم قد يتغيَّر ، هذا في الفقه ؛ فما بالكم في رُواة الحديث الذين تختلف فيهم أقوال أئمَّة الجرح والتعديل ، فنفس الطـالب يختلف رأيه مرَّة عن أخرى ، فمن لا علم عنده ولا يعرف السبب في ذلك يستغرب ، فلا استغراب إذًا من اختلاف علماء الحديث في الراوي الواحد ، نرجع إلى الأصول ؛ البخاري يقول كذا وأحمد يقول كذا ؛ لأن ذلك راجع إلى الاجتهاد ، وإلى دراسة أحاديث هذا الراوي الذي يوثَّق أو يضعَّف ، فكلا بحسب ما فتح الله عليه ويسَّر له من العلم .
خلاصة القول : طالب العلم عليه أن يصبر على طلب هذا العلم ؛ لأنه في الحقيقة من أدقِّ علوم الشريعة ، ولذلك كان من فضائل هذه الأمة أن تفرَّدت بعلم الحديث والإسناد على سائر الأمم ؛ كما شهد بذلك بعض غير المسلمين الدارسين ممَّن يُسمَّون بالمستشرقين ، شهدوا بأن هذه الأمة تميَّزت بهذه الخصلة بمعرفة الروايات القديمة بطريق الإسناد ، فلا جرم أنه ثبت عن الإمام عبد الله بن المبارك من شيوخ الإمام أحمد أنه قال : " الإسناد من الدين " ؛ الإسناد من الدين ؛ لأنه لولا الإسناد لَأصاب دين الإسلام ما أصاب دين اليهود والنصارى ، فهم الآن لا يستطيعون أن يثبتوا مطلقًا شيئًا يتعلَّق بهدي موسى أو عيسى ، كتاب " التوراة " و " الإنجيل " اللَّذان نزلا من السماء على قلب موسى وعيسى - عليهم السلام - قد تغيَّر وتبدَّل ؛ فما بالكم بأقوال هذين النَّبيين الكريمين ، لقد ذهبت أدراج الرياح ، فلا يستطيع اليهود والنصارى أن يعرفوا ما صحَّ عن أنبيائهم من قبلُ ؛ بخلاف المسلمين - والحمد لله - ؛ فهم بسبب هذا الإسناد ، وبفضل ما يسَّر الله لعلماء الحديث من تتبُّع تراجم رواة هذه الإسانيد نستطيع اليوم أن نقول : قال رسول الله ، كان رسول الله ، يفعل ، رأى كذا ، فعل كذا ، غزا كذا ، إلى آخره ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، (( ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون )) .
تفضل مين في ؟ تفضل .
الشيخ : لا شكَّ أن طالب العلم إذا أراد أن يصل يومًا ما إلى معرفة تصحيح الأحاديث وتضعيفها - ولا أقول أن يصل يومًا ما إلى معرفة تخريخ الأحاديث - ؛ لأنَّ تخريج الأحاديث يحسنه كلُّ طالب مهما كانت ثقافته ضحلة ، أما التصحيح والتضعيف فلا يتمكَّن منه إلا من عاش دهرًا طويلًا وهو يمارس تطبيق ما درسه نظريًّا من علم الجرح والتعديل ، وعلم أصول الحديث ، وقواعد مصطلح الحديث ، فمن مضى على عمره وعلى حياته برهة طويلة يدرس هذا العلم حتى تمكَّن منه جيِّدًا نظريًّا ، ثم يحاول أن يطبِّق ذلك عمليًّا ، فهذا يحتاج في الحقيقة إلى سنين وسنين عديدة ، ويختلف ذلك بلا شك باختلاف طالب العلم من حيث تفرُّغه لهذا العلم وتخصُّصه فيه ، ومن حيث استطاعته أن ينصرف عمَّا يُلهيه عن هذا العلم ، فلا شك أن من أشهر الكتب المصطلح هي " الميزان في نقد الرجال " المعروف بـ " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " للإمام الحافظ الذهبي ، فهذا في معرفة طبقات الرجال في الرواية في الصحة والحسن والضعف من أحسن الكتب التي يسهل على المبتدئين بهذا العلم أن يتدارسوه بينهم ؛ لأنه خلاصة لكثير من الكتب القديمة التي لم تكن أيدي علماء الحديث في العصر الحاضر تطولها أيديهم ؛ لأنَّها كانت لا تزال في عالم المخطوطات ، فقد طُبع الآن كما يعلم بعضكم على الأقلِّ بعض المراجع الأساسية لكتاب " الميزان " للحافظ الذهبي ؛ كمثل " الضعفاء والمتروكين " لابن حبان ، ومثل " الضعفاء الكبير " للعقيلي ، ومثل " الكامل " لابن عدي ، وقبل ذلك طبع " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي ، فهذه الكتب هي أصول كتاب " الميزان " للذهبي ، ثم " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، فإذا تمرَّن طالب العلم على دراسة هذه الكتب في معرفة رواة الأحاديث سواء كانت هؤلاء الرواة سواء كان هؤلاء الرواة من رجال الستة أو من رجال غير الكتب الستة ، فيجدهم مبثوثين في هذا الكتاب ، وهو " ميزان الإعتدال في نقد الرجال " للذهبي ، ويجد هنالك طريقة يتفهَّم فيها كيف كان علماء الحديث يحكمون بأن فلانًا منكر الحديث ، أو إنه له مناكير ، أو إنه حسن الحديث ، أو إنه صحيح الحديث ثقة يحتج به ، هذا الأسلوب العملي في نقد الرواة يجده ظاهرًا هناك ، ولا يكفي بطبيعة الحال أنه مجرَّد ما قرأ هذا الكتاب عرف علم الجرح والتعديل ، لا ، يجب أن يقرأ كتبًا كثيرة وكثيرة جدًّا ، مثلًا كتاب " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، هذا كتاب خاصٌّ في رواة الكتب الستة ونحوها كـ " الأدب المفرد " للبخاري ، و " التاريخ " للبخاري ، و " خلق الأفعال " للبخاري ، رواة هذه الكتب الزايدة على الكتب الستة يجد تراجمها في " تهذيب التهذيب " ، لكن لا يجد تراجم لم يروِ لها أصحاب هذه الكتب إلا في مثل كتاب " الميزان " للحافظ الذهبي ، وهكذا يتمشَّى طالب العلم في دراسة هذه الكتب حتى يصبح عنده سليقة ومعرفة لتمييز ما قد يكون علماء الحديث أو علماء الجرح والتعديل قد اختلفوا فيه توثيقًا وتجريحًا ، فيستطيع فيما بعد أن يطبِّق القاعدة الأصولية الحديثية التي يقرؤها في علم المصطلح .
مثال على ذلك قولهم : " الجرح مقدَّم على التعديل " ، هذه عبارة مشهورة في هذا العلم ومتداولة على ألسنة أهل العلم ؛ " الجرح مقدَّم على التعديل " ؛ لكنَّه سيجد أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها وعمومها وشمولها ، بل هي مقيَّدة بقيد ؛ ألا وهو " الجرح مقدَّم على التعديل " ، إذا كان سبب الجرح مبيَّنًا موضَّحًا ؛ بمعنى إذا قال ابن معين - مثلًا - - وهو من أئمة الجرح والتعديل ، ومن معاصري الإمام أحمد - إذا قال في راوٍ ما : " ثقة " ، وقال فيه الإمام أحمد : " ضعيف " ، أو العكس مش مهم التحديد ، إنما المراد التمثيل ، فأيُّ القولين أيُّ قول من هذين القولين يُرجَّح على الآخر ، أَقَولُ من وثَّق - سواء كان أحمد أو ابن معين - أو العكس ؛ إذا أردنا أن نطبِّق القاعدة المذكورة " الجرح مقدَّم على التعديل " قدَّمنا إذًا قول المضعِّف على قول الموثِّق ، لكن هذ ليس على إطلاقه ؛ ما هو القيد ؟ قال إذا بُيِّن السبب ، أحدهما قال : " ثقة " ، والآخر قال : " ضعيف " ، ما قال - مثلًا - : " ضعيف سيِّئ الحفظ " ، ما قال : " ضعيف اختلط " ، أو نحو ذلك ؛ إذًا هذا ضعفٌ يمكن أن يُسمَّى جرح غير مبيَّن السبب ، فلا يُقدَّم على قول من وثَّق ، لكن انظروا الآن كيف التسلسل ، وهذا لا يستطيعه طالب العلم أن يصل إليه في بضع سنين دراسة نظرية ، بل في سنين طويلة وعديدة ، ثم يأتي من بعد ذلك تطبيق هذه الدراسة ؛ لأنَّ التطبيق سيكشف له ما قد يكون عليه خافيًا من الدراسة النظرية .
قلنا : قالوا : الجرح مقدم على التعديل ، هذا أولًا ، ثانيًا قالوا : ليس هذا على إطلاقه ، بل لا بدَّ أن يكون الجرح مبيَّنًا ، فإذا لم يكن مبيَّنًا فالثقة أو التعديل مقدَّم ، قالوا - ثالثًا - : لا يكفي أن يكون الجرح مبيَّنًا ، قد يقنع الإنسان بأن يقف في ثانيًا ، أولًا قالوا الجرح مقدم على التعديل ، ثانيًا قالوا : ليس هذا على إطلاقه ، وإنما إذا بُيِّن سبب الجرح ، هذا - أيضًا - ليس كافيًا ، بل يجب أن يكون السبب الجارح جرحًا في نفسه ، أن يكون جرحًا في نفسه ، وقد يقول قائل : وهذا لا تجدونه مبسوطًا في كتب المصطلح كما تسمعونه الآن موضَّحًا مبيَّنًا ، وإنما هذا مع الممارسة يصل إلى هذه الحقيقة الدارس لهذا العلم والمطبِّق له .
مثلًا قيل لفلان من المحدَّثين : لماذا لا تروي عن فلان ؟ قال : هذا مرجئ ، آ هذا سبب مبيَّن الجرح ، لكن هل هو جرح ؟ قالوا : لا ، الخلاف المذهبي ليس جرحًا ؛ لأن العبرة في الرواية شيئان اثنان : أولًا العدالة ؛ أي : أن يكون مسلم غير فاسق . وثانيًا : أن يكون حافظًا متقنًا لروايته ، أما والله فلان مرجئ ، وفلان خارجي ، فلان شيعي إلى آخره ، هذه تترك جانبًا ، فما دام الرواي لا يزال في دائرة المسلمين ، وما دام أنه تحقَّق بأنه ثقة ضابط حافظ ؛ فحديثه صحيح ، والجرح المذكور ليس جرحًا ، مع أنه جرح ، لكن هو في نفسه ليس جرحًا .
قيل لآخر : لماذا لا تروي عن فلان ؟ قال : سمعت صوت عودٍ في داره ، آ صوت العود ملاهي ، وإتيان الملاهي فسق ، فإذًا هذا ليس عدلًا ؛ أكذلك ؟ الجواب : لا ، لم ؟ أولًا : لأن الملاهي وآلات الطرب صحيح أنها تحرم في الإسلام لأحاديث كثيرة ، لكن نحن اليوم نستطيع أن نقول هذه القولة ؛ لأننا اطَّلعنا بفضل الله بسبب تأخُّر زمننا على أقوال المختلفين في هذه المسألة ، وعلى أدلَّتهم ؛ فترجَّح لدينا أنَّ آلات الطرب كلها حرام لا يجوز ، لكن الأمر ليس بهذه السهولة في ذلك الزمان ؛ حيث كان هناك مَن يرى أن لا شيء في آلات الطرب عن اجتهاد منهم ، فما كان مُختلفًا فيه في ذلك الزمان فلا يجوز إسقاط الاحتجاج به ؛ لأنه خالف اجتهاد الآخرين ، ولو كان مخطئًا في مخالفته ، هذا جرح ، ولكنه لا يُعدُّ به المجروح .
والأدق من ذلك أنَّ قول هذا القائل : سمعت عودًا من داره ؛ لو كان هو نفسه يرى تحريم العود - أيضًا - لا ينهض لكونه سببًا جارحًا ؛ لماذا ؟ لأن هذا الصوت يُمكن أن يكون صدرَ من دار جاره ، وليس من دار هذا الراوي ؛ لأن الدور تكون متقاربة ، وبخاصة في ذلك الزمان ؛ حيث لم تكن الدور مشيدة رفيعة البنيان كما هو في هذا الزمان ، ويحتمل أخيرًا أن يكون هذا الصوت صادرًا من داره ، ولكن ليس من شخصه ، وإنما إما من قريب له ، أو من ابن له عاص له ؛ لا يطيعه ولا يسمع كلامه ؛ فهو ليس مسؤولًا عنه ، إذًا بمثل هذه الأنواع من الجرح لا يصلح أن يكون سببًا مقبولًا الجرحُ به ، مثل هذه الدراسة إذا استمرَّ طالب العلم ، وطبَّق علم الجرح والتعديل على الأصول ، ومارس ذلك عمليًّا على الأقل نحو عشر سنوات ، ويكتب لنفسه ولا ينشر لينفعَ به غيره ، وهذا فيما لاحظتُه في هذا الزمان آفة طلاب العلم أنهم يستعجلون في الظُّهور كعلماء ، وفي علم أعرضَ عنه جماهير العلماء طيلة هذه القرون الكثيرة ؛ حيث لم يكن فيهم مَن يبرز في علم الحديث ؛ علم الجرح والتعديل ، علم التصحيح والتضعيف ، إلا أفراد قليلين جدًّا جدًّا ؛ لماذا ؟ لصعوبة هذا العلم ولدقَّته ، ومن صعوبته أنك تحكم على الحديث بالضعف ، وإذا بك بعد سنين طويلة تجد لهذا الحديث إسنادًا آخر ؛ أين ؟ في كتاب لم تكن قد وقفت عليه ، وكتب السنة بالمئات ، وأكثرها لا تزال في جملة المخطوطات ، لذلك كان مما ما جاء في كتب علم الحديث في المصطلح وأنا أجد إن هذه القاعدة لا تُراعى ؛ لماذا ؟ أَلَم يقرأها طالب العلم ؟ قرأها ، لكن مثل ما بيقولوا عندنا بالشام : " فات من هون طلع من هون " ، لم يتركَّز في ضميره في قلبه بحيث يكون مستحضرًا له دائمًا أبدًا ؛ ما هي ؟
قال الحافظ العراقي : إذا وقف طالب العلم على حديث إسناده ضعيف ؛ فله أن يقول في هذا الحديث : " إسناده ضعيف " ، ولا يقول : " حديث ضعيف " ؛ لأن هناك فرقًا بين قول : " إسناده ضعيف " ، وبين قول : " حديث ضعيف " ؛ لأن الأوَّل تطلق الضعف على السند ، وأنت مصيب ، أما إذا قلت - بسبب بضعف السند - : " الحديث ضعيف " ؛ فقد يتبيَّن خطؤك لماذا ؟ لأنك لم تقف على إسناد ثانٍ ، وهذا الإسناد الثاني على الأقل قد يقوِّي الأول ، بل وقد يكون هو في نفسه قويًّا ، فكيف ضعَّفت الحديث ؟ أما لو قلت : " إسناده ضعيف " فأنت صادق ، فأنت لا تلام ، أما إذا قلت : " هذا الحديث ضعيف " فقد تلام ، لأنه قد تجد أنت نفسك ، بل قد يأتي غيرك فيتعقَّبك ، ويقول لك : " هذا حديث ثابت " .
وأنا أقول لكم - بكل صراحة - : مع فضل الله - تبارك وتعالى - عليَّ ؛ حيث قضيت أكثر من نصف قرن من هذا العصر في هذا العلم ، مع ذلك قد يأتي طالب علم مبتدي فيستدرك عليَّ ، كيف يستدرك عليَّ ؟ لأنه ظهر كتاب الآن لم أكن أنا أطوله ، مع أنني عشتُ بين مخطوطات مكتبة الظاهرية ، وفيها كنوز عظيمة جدًّا ، يشهد على ذلك كلُّ من اطَّلع تخريجاتي للأحاديث ، لكن هل معنى ذلك أنني أحطتُ بمخطوطات الدنيا ؟ هذا أمر مستحيل ، فالآن تطبع بعض المخطوطات من - مثلًا - مكتبة دار الكتب المصرية ، تطبع الآن ، فيأتي إنسان مبتدئ في هذا العلم ، فيقول : أنت ضعَّفت الحديث الفلاني ! وهذا إسناد إما يقوِّي ذاك السند ، أو هو قوي في نفسه ، إلى آخره ، هذا يقع مع من ؟ مع الذي قضى نصف قرن من الزمان وزيادة في هذا العلم ، فماذا يكون شأن المبتدئين فيه ؟ لا شك أن عليهم أن يتَّئدوا ، وأن لا يستعجلوا الأمر ، وأنهم إذا اقتضى لهم أنهم قد أُوتوا حظًّا من الذاكرة ومن الحافظة ، ورغبة في هذا العلم أن لا يستعجلوا ، ولا بأس أن يؤلِّفوا لأنفسهم ، أما مجرَّد أن يشعر بأنه استطاع أن يرجع إلى كتاب " الميزان " و " لسان الميزان " و " التهذيب " ونحو ذلك ... ويقول أن فيه فلان ، وقد ضعَّفه فلان ، فأنا أرى الأخطاء الآن متجسِّدة تمامًا ؛ لأنَّ هناك بعض الأنواع من العلوم فيه دقَّة ، كما ذكرت لكم آنفًا فيما يتعلق بالجرح والتعديل ، ومن هذه الدقة الحديث الحسن ، الحديث الحسن الإمام الناقد الإمام الذهبي يقول في رسالة " الموقظة " : " إنه من أدقِّ أنواع علوم الحديث " ؛ الحديث الحسن هو من أدقِّ أنواع علوم الحديث ؛ لماذا ؟
لأن معنى كون هذا الحديث أو ذاك حسنًا أن فيه رجلًا مُختلف فيه ما بين موثِّق ومضعِّف ، فالذي يريد أن يحسِّن حديثه عليه أن يلخِّص جملة قصيرة جدًّا من ذاك الاختلاف الطويل المبثوث في ترجمة ذلك الراوي ، فهذا يقول فيه : " ثقة " ، وهذا يقول فيه : " لا بأس به " ، وهذا يقول : " ضعيف " ، وهذا يقول : " يروي مناكير " ، وربما قيل : " إنه منكر الأحاديث " ، وكثير وكثير جدًّا من طلاب العلم لا يعرفون الفرق بين : " له مناكير " و " بين منكر الحديث " ، ونحو ذلك من الفروق الهامة جدًّا ؛ فكيف يستطيع أن يلخِّص من هذا الاختلاف الشديد كلمة وهي : " هذا ضعيف الحديث " ، أو " حسن الحديث " ، أو " صحيح الحديث " ، من هنا تأتي الدِّقَّة ، ولذلك نجد كثير من الطلبة إذا وجدوا عالمًا في القديم أو في الحديث يحسِّن حديثًا يقول : " فيه فلان ، وقد قال فيه فلان : إنه ضعيف ، أو سيئ الحفظ " ، أو نحو ذلك ، فهو يتَّكئ على أقوال المضعِّفين ولا يعرِّج على أقوال الموثِّقين ، ثم لا يستخلص خلاصة من هذه الأقوال المختلفة ، وإنما هو مالَ إلى جانب ، والذي حمله على ذلك - الله أعلم بنيَّته - هو الجهل هو الهوى هو الغلط ؛ الله أعلم به !
ومن الدِّقَّة أنا قلت هذا الصعوبة واضحة الآن ؛ أنُّو أقوال علماء الجرح والتعديل مختلفة ، فهو عليه أن يأخذ خلاصة ، المبتدئ في هذا العلم أنصحه أن يعتمدَ في هذه الخلاصة على كتاب " التقريب " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، على كتاب " المغني في الضعفاء والمتروكين " للذهبي ، وإن كان هذا ليس من الوضوح ككتاب " التقريب " على كتاب " الكاشف " للذهبي - أيضًا - ؛ لأنه ملخَّص ولو بعض التلخيص ، أحسن كتاب في التلخيص وجدتُه هو " تقريب التهذيب " للحافظ ابن حجر ، هذا يُساعد المبتدي أن يدرك إذا كان أوتي ذكاءً أو فطنةً كيف قال : " فلان صدوق " ؛ مع أنه إذا رجع إلى الأصل " تهذيب التهذيب " يجد فيه طعنًا شديدًا ، فيستطيع بالاستعانة بحكم ابن حجر والرجوع إلى الأصل أن يكوِّن مع الزمن رأيًا ، أقول : هذا مما يفيده كلام الحافظ الذهبي ، لكن الدقة المتناهية أنَّ العالم الفرد تراه متناقضًا في نفسه ؛ أحيانًا يحسِّن وأحيانًا يضعِّف ، أحيانًا يحسِّن وأحيانًا يضعِّف .
الآن انتقل الموضوع بين شخص وشخص ، وانحصر في شخص واحد ، هذا الشخص الواحد يقرأ الترجمة مرَّة فيلخِّص منها أنه حسن الحديث ، لكن يمضي زمن ويمضي زمن فيتبيَّن له شيء كان خافيًا عليه ؛ فيحكم على هذا الرجل بأنه ضعيف ، ويضعِّف حديثه ، والذي لا علم عنده بهذه الدَّقائق وهذه الحقائق يقول هذا تناقض ، صحيح تناقض ، ولنرجع الآن إلى أقوال الفقهاء في المسألة الواحدة ، وبخاصة الإمام أحمد - رحمه الله - ، تجده يعطي أحكامًا مختلفة في المسألة الواحدة ؛ لماذا ؟
لأن الاجتهاد يتغيَّر ، والملاحظات تختلف باختلاف تقدُّم الإنسان في العلم والسِّنِّ والتجربة ، لعلكم تذكرون رواية تروى عن عمر الخطاب أنه سُئل عن قضيَّة تتعلَّق بفريضة من الإرث ، فأجاب برأي ، وبعد سنة تقريبًا سُئل نفس السؤال ، فأجاب بجواب آخر ؛ قيل له : من قبل أجبت بغير هذا ؟ فأجاب : " ذاك على ما أفتَينا به ، وهذا على ما نفتي به الآن " ، يشير إلى أن اجتهاد العالم قد يتغيَّر ، هذا في الفقه ؛ فما بالكم في رُواة الحديث الذين تختلف فيهم أقوال أئمَّة الجرح والتعديل ، فنفس الطـالب يختلف رأيه مرَّة عن أخرى ، فمن لا علم عنده ولا يعرف السبب في ذلك يستغرب ، فلا استغراب إذًا من اختلاف علماء الحديث في الراوي الواحد ، نرجع إلى الأصول ؛ البخاري يقول كذا وأحمد يقول كذا ؛ لأن ذلك راجع إلى الاجتهاد ، وإلى دراسة أحاديث هذا الراوي الذي يوثَّق أو يضعَّف ، فكلا بحسب ما فتح الله عليه ويسَّر له من العلم .
خلاصة القول : طالب العلم عليه أن يصبر على طلب هذا العلم ؛ لأنه في الحقيقة من أدقِّ علوم الشريعة ، ولذلك كان من فضائل هذه الأمة أن تفرَّدت بعلم الحديث والإسناد على سائر الأمم ؛ كما شهد بذلك بعض غير المسلمين الدارسين ممَّن يُسمَّون بالمستشرقين ، شهدوا بأن هذه الأمة تميَّزت بهذه الخصلة بمعرفة الروايات القديمة بطريق الإسناد ، فلا جرم أنه ثبت عن الإمام عبد الله بن المبارك من شيوخ الإمام أحمد أنه قال : " الإسناد من الدين " ؛ الإسناد من الدين ؛ لأنه لولا الإسناد لَأصاب دين الإسلام ما أصاب دين اليهود والنصارى ، فهم الآن لا يستطيعون أن يثبتوا مطلقًا شيئًا يتعلَّق بهدي موسى أو عيسى ، كتاب " التوراة " و " الإنجيل " اللَّذان نزلا من السماء على قلب موسى وعيسى - عليهم السلام - قد تغيَّر وتبدَّل ؛ فما بالكم بأقوال هذين النَّبيين الكريمين ، لقد ذهبت أدراج الرياح ، فلا يستطيع اليهود والنصارى أن يعرفوا ما صحَّ عن أنبيائهم من قبلُ ؛ بخلاف المسلمين - والحمد لله - ؛ فهم بسبب هذا الإسناد ، وبفضل ما يسَّر الله لعلماء الحديث من تتبُّع تراجم رواة هذه الإسانيد نستطيع اليوم أن نقول : قال رسول الله ، كان رسول الله ، يفعل ، رأى كذا ، فعل كذا ، غزا كذا ، إلى آخره ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، (( ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون )) .
تفضل مين في ؟ تفضل .