ما هي ضوابط المصالح المرسلة ومن هم الذين يقررون ذلك ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما هي ضوابط المصالح المرسلة ومن هم الذين يقررون ذلك ؟
A-
A=
A+
الحلبي : يسأل سائل فيقول كثر الكلام في هذا العصر حول مسألة المصالح المرسلة و فيها اجتهادات كثيرة يطرحها بعض النّاس سواء أكانوا من أهل العلم فضلا عن غيرهم و نريد من فضيلتكم أن تحدّثونا بإيجاز عن ضوابط هذه المصلحة ومن هم الّذين يقرّرون بأنّ هذا الأمر أو ذاك يعدّ من المصالح المرسلة للمسلمين ؟ وجزاكم الله خيرا .

الشيخ : لا شكّ أنّ الّذين يقرّرون أنّ هذا الشّيء هو من المصالح المرسلة هم أهل العلم , و أهل العلم مع الأسف الشّديد عددهم قليل جدّا في العالم الإسلامي إذا ما تذكّرنا ما هو العلم . فالعلم هو معرفة حكم الله عزّ وجلّ بالاعتماد أو معرفة حكم من أحكام الشّرع اعتمادا على كتاب الله و على سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فمن كان من المثقّفين عالما بالكتاب و السّنّة , عالما باللّغة العربيّة الّتي لا سبيل لفهم الكتاب و السّنّة إلاّ بها ثمّ كان على علمين اثنين لا بدّ منهما في زمننا هذا خلافا للجيل الأوّل من المسلمين ألا وهم أصحاب الرّسول صلّى الله عليه و سلّم فأصحاب الرّسول لم يكونوا بحاجة إلاّ أن يكونوا عالمين بما في الكتاب و عارفين بما جاء أو بما تحدّث به رسول الله صلّى الله عليه و سلّم , أمّا نحن اليوم فنحتاج بالإضافة إلى لما ذكرناه آنفا ممّا كان كلّ عالم في زمن في القرن الأوّل , كان ضروريّا بالنّسبة لذاك العالم أن يعرف الكتاب و السّنّة , أمّا اليوم فلا بدّ لكلّ عالم أن يكون ملمّا باللّغة العربيّة لا أقول أن يكون عربيّا لسبيبن اثنين , السّبب الأوّل أنّه من الممكن لمن لم يكن عربيّا ولادة و نسبا أن يصبح عربيّا لسانا و علما و التّاريخ يحدّث بكثير من العلماء الأعاجم الّذين بلغوا شأوا عظيما في العلم بالإسلام بل و فيهم من كانوا بارزين في علم اللّغة العربيّة وهم أصلهم من العجم فالشّاهد لا أقول أن يكون عربيّا فقط لهذا السّبب الّذي ذكرته و شيء آخر يقابل ذلك لأنّ كثيرا من العرب اليوم نسوا لغتهم فما عادوا يصلحون لأن يفهموا الكتاب و السّنّة بسليقتهم العربيّة ذلك لأنّه دخلت العجمة في لغة العرب في كلّ البلاد في هذه البلاد و في غيرها تتكلّم بالحديث الّذي تكلّم به الرّسول عليه السّلام فلا يكاد يفهمه العرب الّذين يلقى بين ظهرانيهم ذاك الحديث النّبوي , إذن لا بدّ اليوم حتّى للعرب أن يتعلّموا لغتهم من كتاب الله و من حديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هذا الشّيء الأوّل من ثلاثة أشياء الّتـي نحن بحاجة إليها اليوم . الشّيء الثّاني أن نعرف بما يسمّى بعلم أصول الفقه لأنّ هذا العلم مع الزّمن أحيط به و وضعت له قواعد و أصول و ضوابط و سجّلت في كتب أمّا السّلف الأوّل فلم يكونوا بحاجة إلى ذلك لما ذكرناه آنفا , الشّيء الثّالث و الأخير أنّنا بحاجة أن نكون أيضا على علم بما يسمّى بعلم مصطلح الحديث . العلم الأوّل علم أصول الفقه يساعدنا على فهم الكتاب و السّنّة و معرفة بما يسمّى بالنّاسخ و المنسوخ و العامّ و الخاصّ و المطلق و المقيّد , أمّا العلم الثّاني علم مصطلح الحديث أيضا هذا العلم لم يكن الأوّلون العلماء أيضا بحاجة إليه لأنّهم كانوا مستغنين عن الوسائط الّتي نحن لا بد لنا منها و أعني بالوسائط هي الأسانيد , أسانيد الأحاديث . علماء الحديث الّذين نقلوا لنا أحاديث الرّسول عليه السّلام من الصّحابة و أنت نازل هذان العلمان من لم يتقنهما لم يكن عالما أمّا في الزّمن الأوّل من كان عالما بالكتاب و السّنّة فهذا هو الفقيه , أمّا اليوم فلا بدّ أن يضمّ إلى ذلك ما ذكرناه آنفا و هي ثلاثة أشياء : المعرفة باللّغة العربيّة و العلم بأصول الفقه و أصول علم الحديث و الّذي يسمّى بعلم المصطلح . كثيرا ما يرد حديث يقرؤه إنسان مبتديء في علم الحديث فيقف عنده و يفهمه فهما صحيحا و لكن قد يحيط به أنّه لا يعلم من علم أصول الفقه أنّ هذا الحديث قد يكون منسوخا , قد يكون من العامّ المخصّص أو المطلق المقيّد أو يحيط به أنّه فهم الحديث فهما صحيحا لكن هو لا يدري أنّ هذا الحديث لا يصحّ بالنّسبة لعلم مصطلح الحديث و هذا الأمر الثّاني و الأمر الأوّل مع نسبة متفاوتة يقع فيه كثير من العلماء المشهورين اليوم و بخاصّة الدّكاترة المتخرّجين من الجامعات المعروفة في العصر الحاضر حيث أنّه لا يوجد اليوم عالم تخرّج من إحدى الجامعات و أتقن علم الحديث على الأقلّ قد يكون أتقن علم أصول الفقه و لكن لا يوجد ولو أفراد قليلين من الّذين تخرّجوا من الجامعات ثمّ تخصّصوا لمعرفة الحديث الصّحيح من الضّعيف إذا عرفنا من هو العالم اليوم عرفنا نقيضه و عرفنا المقصود حينئذ من قوله عليه الصّلاة و السّلام: ( إنّ الله لا ينتزع العلم انتزاعا من صدور العلماء و لكنّه يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالما اتخذ النّاس رؤوسا جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا ) فهؤلاء الّذين يتّخذهم النّاس علماء و ليسوا علماء يستفتون فيفتون النّاس فيضلّون و يضلّون غيرهم إذا عرفنا من هو العالم نقول هذا الجنس من العلماء هو الّذي يستطيع أن يحكم بأنّ هذه مصلحة مرسلة أم لا ؟ ما هي المصلحة المرسلة وكيف يمكن معرفتها ؟ المصلحة المرسلة هي وسيلة من الوسائل تحدث و تحقّق أو توصل إلى أمر مشروع , هذا الأمر المشروع مشروع بالنّصّ لكن الوسيلة محدثة فهل يجوز الأخذ بهذه الوسيلة ما دام أنّها تحقّق غرضا مشروعا هكذا يبدو لأوّل وهلة , أنّ هذا الغرض مشروع لكن الوسيلة لم تكن فهل يجوز الأخذ بهذه الوسيلة ما دام أنّها توصل إلى هدف أو غرض مشروع؟ الجواب قد و قد أي مش دائما و إنّما المسألة فيها تفصيل لا يستفاد إلاّ من قليل جدّا من كتب أهل العلم . أضرب لكم الآن وسيلة قد تكون مستعملة وهي تحقّق أمرا مشروعا لكن هل تكون هذه الوسيلة مشروعة أم لا ؟ حينما نطرح السؤال المثال ستعلمون أنّ هذا المثال لا يجوز الأخذ به ولو أنّه يحقّق أمرا مشروعا . ابتليت اليوم الكثير من المساجد بل قلّما يخلو مسجد من تسوية الصّفوف على الخيط الّذي يمدّ من الشّرق إلى الغرب لتسوية الصّفوف هذه وسيلة لم تكن من قبل لم يكن في مساجد المسلمين طيلة هذه القرون الأربعة عشر خطوط تمدّ في المساجد لتسوية الصّفوف , تسوية الصّفوف هدف شرعيّ كيف لا؟ ! و نعلم جميعا أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم كان يحضّ المسلمين على تسوية الصّفوف و كان يقول لهم أحيانا: ( ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها ) و كان يأمر بذلك فيقول: ( سوّوا صفوفكم فإنّ تسوية الصّفوف من تمام الصّلاة ) و في رواية ( من حسن الصّلاة ) ( لتسونّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم ) إذا تسوية الصّفوف لا شكّ أنّه مقصد شرعيّ , هذه الوسيلة يمكن أن يدخلها البعض ممّن لا يعلمون القول الفصل في المصلحة المرسلة و ما يجوز منها و ما لا يجوز يقول هذه وسيلة تحقّق غرضا شرعيّا فهي إذن من المصالح المرسلة نقول لا . لماذا ؟ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يأمر بتسوية الصّفوف و يبالغ فيها كما سمعتم , ترى ألم يكن يتّخذ وسيلة لتنظيم تسوية الصّفوف أم كان يدع الأمر هملا يكتفي فقط أن يقول قولا ثم ّ لا يحرص على تطبيقه عملا حاشاه من ذلك . كذلك سلفنا الصّالح الّذين جاؤوا من بعدهم كانوا يقتدون به عليه السّلام في الأمر بتسوية الصّفوف لكن يا ترى ألم يكونوا ينفّذون ما يأمرون به ؟ الجواب نعم . ماذا كان يفعل الرّسول صلّى الله عليه و سلّم حينما يأمرهم بتسوية الصّفوف ؟ هذا كلّه موضّح في السّنّة الصّحيحة يقول لفلان تقدّم و لفلان تأخّر وهكذا حتّى كأنّما يسوّي القداح أي السّهام , فإذا ما انتهى من تسوية الصّفوف قال الله أكبر لمّا كثر النّاس بعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المدينة و بالتّالي كثرت الصّفوف جعل الخليفة الرّاشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه رجلا يأمره بأن يسوّي الصّفوف و أن يتخلّل بينها فإذا ما رأى الصّفوف قد استوت أعلن فكبّر عثمان بن عفّان , كان بإمكان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الّذي كان يقول لهذا تقدّم و لذاك تأخّر يمدّ خيط و هذا الخيط أمر مبذول ليس هو كهذه المخترعات الّتي وجدت بعد أن تداول النّاس على إتقانها و إحسانها فالخيوط معروفة تماما و ميسورة و مبذولة ما فعل ذلك , إذن هنا نأتي إلى شيء يمكن اعتباره قاعدة تمنعنا من اتّخاذ وسيلة حدثت و ندّعي أنّها من المصالح المرسلة الّتي تحقّق مصلحة شرعيّة . فنقول أيّ سبب كان المقتضي للأخذ به في عهد النّبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لكنّه لم يفعل فلا يجوز للمسلمين أن يأخذوا به كوسيلة بدعوى أنّها تحقّق غرضا شرعيّا لأنّنا نقول أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم لم يفعل ذلك , أتيتكم الآن بمثال من واقع حياتنا نعود الآن إلى شيء لم يقع بعضه ووقع بعضه , لقد جاء في صحيح مسلم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يصلّي صلاة العيدين في المصلّى دون أذان و لا إقامة , و إلى اليوم كما تعلمون لا يزال المسلمون ينطلقون إلى صلاة العيد دون أذان و دون إقامة لماذا ؟ هكذا كان الأمر في عهده صلّى الله عليه و سلّم ليس هذا أي عدم شرعيّة الأذان و الإقامة في صلاة العيدين فقط بل و في صلوات أخرى يبدو بادي الرّأي أنّ التّأذين و الإقامة فيها يحقّق هدفا مشروعا مثل صلاة الاستسقاء مثلا لماذا لا يؤذّن لصلاة الاستسقاء وهي ليس لها وقت حتّى يتنبّه لها النّاس مثل ما يتنبّهون لصلاة العيد لمعرفتهم أنّ صلاة العيد تكون بعد طلوع الشّمس و ارتفاعها؟ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم لمّا كان يصلّي صلاة الاستسقاء ما أذّن لها. و أغرب من ذلك صلاة الكسوف و الخسوف حينما تنكسف الشّمس فالنّاس في غفلتهم ساهون في عملهم , في تجارتهم , في وظائفهم ما شرع لهذه الصّلاة أذان و لا إقامة كذلك و هذا أعجب العجب صلاة خسوف القمر حيث ينخسف في اللّيل وقد ينخسف في نصف اللّيل و النّاس مغرقون في النّوم هل يجوز لمسلم أن يسنّ للنّاس أّذانا لهذه الصّلوات مع أنّ الأمر واضح جدّا أنّها توقظ النّاس من نومهم و تنبّههم من غفلتهم ففي ذلك مصلحة شرعيّة ؟ الجواب لا . لماذا ؟ لأنّ المقتضي للأخذ بهذه الوسيلة وهي الأذان و الإقامة لهذه الصّلوات الّتي لم يؤذّن لها الرّسول و لا أقام لها كان الأخذ بهذه الوسيلة المقتضي للأخذ بها كان موجودا في عهده و مع ذلك فلن يشرع ذلك للنّاس فلا يجوز لنا أيضا أن نتّخذ ذلك من باب المصلحة المرسلة . الآن نأتي إلى مصلحة تحقّق هدفا شرعيّا لكنّها أيضا كمثال الخيط الّذي حدث و المسألة لها علاقة بالدّولة و هذا أمر مهمّ جدّا أن نعرف هل هذا مشروع أم لا ؟ مصلحة جباية الضّرائب فرض الضّرائب على النّاس الهدف منها واضح جدّا مساعدة الدّولة لتقوم بشؤون الأمّة أو بشؤون شعب من شعوب هذه الأمّة , فإذن هذا غرض مشروع و لكن هل يجوز بالأخذ بهذه الوسيلة من أجل أنّ الدّولة تكون غنيّة و تتمكّن من القيام بمصالح الأمّة؟ الجواب لا يجوز و يجوز أحيانا و إليكم التّفصيل , لا يجوز لأنّ الدّولة الّتي تفرض الضّرائب لتملئ خزينتها بالمال وهي بلا شكّ تحتاج إلى هذه المال خالفت سبيل الرّسول في جلب و جمع الأموال نحن نعلم جميعا أنّ الإسلام شرع للدّولة المسلمة وسائل لتكون خزينتها دائما ممتلئة بالمال لتقوم و تحقّق مصالح الأمّة المسلمة و منها دفع غائلة العدوّ فيما إذا هاجم العدوّ جانبا من جوانب بلاد الإسلام فلابدّ و الحالة هذه أن يكون في خزينة الدّولة أموالا فما هي السّبل الّتي شرعها الشّارع الحكيم على لسان نبيّه الكريم أوّل ذلك الزّكاة كما قال تعالى: (( خذ من أموالهم صدقة تطهرّهم و تزكّيهم بها )) الأموال الّتي يفرض عليها الزّكاة تنقسم إلى قسمين قسم لم يكلّف الشّارع الحكيم الدّولة بجمعها و تحصيلها وهي النّقدان الذّهب و الفضّة زكاة هذين النّقدين يعود إخراجها إلى المكلّفين و لا يجب بل لا يجوز للدّولة أن تفاتش و تحقّق في أموال الأغنياء و تطّلع على دخائل ما عندهم من الألوف أو الملايين ..

مواضيع متعلقة