فوائد حديث إسلام عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - .
A-
A=
A+
عيد عباسي : ننتقل إلى فقه هذا الخبر :
أوَّلًا : فيه منقبة ظاهرة لهذا الصحابي الكريم ؛ حيث كان منذ الجاهلية ذا عقل رشيد وتفكير سليم وشخصية قوية وإخلاص في طلب الحق ؛ فلم يرضَ عبادة الأصنام ولا تعظيم الأوثان ، ولم تعجبه عقائد الجاهلية ، ولم يكن إمَّعة يُساير الناس في ضلالهم ، بل كان ينتظر ظهور الدين الحق ، فلما أن بَلَغَه رحل إلى صاحبه واستوثق منه ، فآمَنَ دون إبطاء .
ثانيًا : فيه أن كثيرًا من العرب فى الجاهلية كانوا على الفطرة السليمة التي لم تفسد ، وكانوا مستعدين للانضمام إلى دعوة الحقِّ حينما تظهر ، وهؤلاء كانوا مادة الإسلام وأنصاره وسواده الأعظم .
ثالثًا : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على علم أكيد بأنه منتصر ، وأن العاقبة له ، وأن دعوته هي الغالبة ، وذلك ظاهر في قوله - عليه السلام - لعمرو : ( فامكث في أهلك حتى يمكِّن لرسوله ، فإذا سمعت بي قد ظهرتُ فالحَقْ بي ) ، وأصرح منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيوشك الله - تعالى - أن يَفِيَ بما ترى ويُحيي الإسلام ) . وثَمَّة أحاديث أخرى فيها مثل هذا التوكيد منه - صلى الله عليه وسلم - بأن دينه سيظهر ، وقبل ذلك كله قولُ الله - عز وجل - : (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )) ، ومثل ذلك طبعًا في زماننا .
رابعًا : فيه استحسان استغلال الإنسان الفرص المناسبة لقضاء حاجاته ؛ لأن الفرص إذا حالَتْ وذهبت فقلَّما تعود ، ويُقاس نجاح الإنسان ويظهر ذكاؤه في اختياره الوقت المناسب للأمر المناسب ، والإنسان المناسب وبالأسلوب المناسب لتأمين رغباته ، فقد رأى أبو نجيح المجال مناسبًا لإلقاء أسئلته فألقاها ، فأفاد واستفاد ، وأخذ الجواب طبعًا بتوسُّع كما يريد ، بينما لو كان في وقت آخر الرسول - عليه السلام - فيه مشغولًا لَكان أخذ أجوبةً مجملةً ، أو ربما أجَّلَ له بعضها ، أو - مثلًا - لم يتفرَّغ له ، وهذا درس نستفيده - أيضًا - من مثل هذا الحديث .
خامسًا : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكرِّر بعض النصائح والأوامر مرَّات ومرَّات نظرًا لأهميتها ، ولترسخ في النفوس والأذهان ، وهذه قاعدة تربوية هامة يلجأ إليها المربُّون ، ويحسن - أيضًا - أن يأخذ الدرس منها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ، يدل عليه ما رواه عنه صاحب حديث أبو نجيح أنه سمع ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الركعتين الخاشعتين مرات تفوق العشرين ، فلم يكن يأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكرِّر مثل هذا ، فالتكرار أحيانًا كثيرة فيه فائدة ، والقرآن كرَّر بعض الآيات التي فيها تذكير وتقريع للقلوب كما في سورة الرحمن : (( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) ، وأمثالها - أيضًا - في سور أخرى ؛ فهذا ليس عبثًا ، وليس تكرارًا ، وليس مملًّا ، إنما هو لغرض هام لتترسَّخ القواعد الهامة والأفكار التي يُريد صاحبها أن تكون ثابتة في الأذهان لتترسَّخ في النفوس وتثبت ، ولا يمكن أن تثبت إلا بالتكرار ؛ لأن المرة الواحدة أو الاثنتين أو الثلاثة يمكن أن تُنسى ، أو يكون بعض مَن يريد أن يسمعها لم يكن حاضرًا ، فالتكرار فيه مثل هذه الفوائد ، طبعًا والحكمة تكون في وضعه في محله ، وأحيانًا التكرار يكون مملًّا ، وأحيانًا يكون حسنًا ، وكما قيل في تعريف البلاغة قديمًا : " البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال " ؛ أن يوافق كلامك مقتضى ما يقتضيه الحال الذي أنت فيه .
قد يكون الإنسان في موضع الناس أتوا إليه من مكان بعيد ، وفرَّغوا أنفسهم وأذهانهم لسماع كلامه ، وهم مستعدُّون للاستماع إليه - مثلًا - ساعة أو ساعتين ، فإذا اختصر في الكلام لم يكن حكيمًا ولم يكن بليغًا ، هنا يحسن الإسهاب والشرح والبيان ، بينما في مشهد آخر قد يكون الناس في ضيق في حرج في أمر هام فيهم وفيهم ، فلا يحسن الإطالة ولا يحسن الإسهاب ، بل يحسن الاقتصار ما أمكن . وهكذا هذه هي الحكمة وهذه هي البلاغة ، وربنا - تبارك وتعالى - يقول : (( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )) ؛ فهذا التكرار في مكان مناسب أسلوب تربوي ناجح ، فَطِنَ له المربون ، واستعملوه في المدارس وغيرها ، فلجؤوا إلى تكرار الشعارات التي تمثِّل أهدافًا ما أو أفكارًا ما ؛ فهذا من حيث الطريقة طريقة جيدة ، لكن المهم أن تُستعمل في الغرض الجيد - أيضًا - حتى تفيد الفائدة المطلوبة .
سادسًا : في الخبر بيان فضيلة صلاة ، فضيلة هامة في الصلاة ؛ وهي فضيلة الخشوع ، وأن ينشغل الإنسان بذكر الله ، ويتفكَّر في عظمته ، ويتدبَّر في معاني الآيات والأذكار التي يقرؤها ، وأن ركعتين بهذه الأوصاف يخرج بهما الإنسان من ذنوبه كلها كيوم ولدته أمه ، ولعل هذا يذكِّرنا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - حينما قال : " وَدِدْتُ لو أن لي ركعتين متقبَّلتين " ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يقول : (( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )) ، فقبول ركعتين معنى ذلك أن هذا الإنسان متَّقٍ ، وحسبه بذلك بشارة ونجاحًا وفوزًا .
هذا الأجر لمثل هذا العمل صلاة ركعتين خاشعتين كرم إلهي عظيم ، وأجر ربَّاني كبير ، لم يلبث أبو أمامة الصحابي الآخر أن استغربه لما سمعه ، وهكذا أحيانًا تمرُّ بنا الأحاديث التي فيها مثل هذا الكرم والثواب العظيم ، فعلينا أن لا نستغربها ؛ فالله - عز وجل - ذو الفضل العظيم ، ولا يعظم عليه شيء ، وهو يتفضَّل بالخير على أشياء أحيانًا تكون بنظر الناس بسيطة ، لكن فيها إثبات العبودية الحقَّة من هذا من القائم بها لله - عز وجل - ، وبذلك يستحقُّ ذلك الأجر العظيم ، فأعاد أبو أمامة سؤالَ عمرو طالبًا منه أن يتثبَّت منه ، فَلَرُبَّما كان مخطئًا أو ناسيًا أو غافلًا ، ولكنَّ عمرًا أكَّدَ له الخبر تأكيدًا لا مجال فيه لشكٍّ أو الخطأ ، وهذا يدلنا على اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصح المسلمين بالخشوع في الصلاة وحسن أدائها لِمَا علمه من عظيم أجر مَن يفعل ذلك ، وهو الشَّفوق على أمته ، الناصح لها ، المحبُّ لها كل الخير ، فدفعه هذا لإعادة تذكير المسلمين بهذا الفضل مرات ومرات ، ولا شك أننا أحوج ما نكون إلى الاستفادة من هذا .
نحن نعترف بأننا في غالب صلواتنا نصليها صلاةً هكذا أداء للأذكار والقراءات ، أما القلب فيكون غافلًا متلهِّيًا مشغولًا ، وهذا لا شك يُنقص من الثواب ، صحيح يرفع المسؤولية في العقاب إذا كانت الأركان كاملة ، ولكن الثواب لا يكون إلا بقدر الخشوع . ثم إن الفوائد والغايات التي تترتَّب عليها الصلاة ، والتي رما إليها الشارع الحكيم - سبحانه وتعالى - لا تتحقَّق إلا بمثل هذا الخشوع ، فلنخشَعْ في صلاتنا ، ولنتفكَّر فيها ، ولا نُؤخذ بالكثرة ؛ أنُّو الله أفَقْنا من الليل نصلي - مثلًا - ركعات كثيرة ، حسبنا ركعتين نؤدي فيهما الطمأنينة والخشوع ونتفكَّر في معانيهما ، ونسبِّح ونطيل التسبيح ، ونطيل القنوت والسجود والقيام ؛ فذلك خير من ركعات كثيرة يصليها أحدنا فلا يخشع فيها ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا ، وربما ركعتان من هذا النوع تكون خيرًا من حياة الإنسان كلها ، كل حياته تكون عبثًا وحسرةً وترةً عليه يوم القيامة إلا مثل هذه الرُّكَيعات التي يشعر فيها بالشفافية وبالخشوع ورقَّة النفس وصفاء البال والخشوع العظيم لله - عز وجل - ، فيبكي ويخشع ويتضرَّع ، فتكون مثل هذه الساعة خيرًا من عمره كله ، فليس العمر بطول الأيام والليالي ، إنما هو بما فيها من الخير ، ولا خير مثل هذا الخير العظيم .
سابعًا : في الخبر بيان فضيلة الوضوء أيضًا ؛ فهو بالإضافة إلى فوائده الصحية والنفسية له ذلك الثواب الكبير في تكفير الذنوب ومغفرتها ، فذنوب كلِّ عضو تتساقط مع الماء الذي يُغادره عقبَ غسله أو مسحه ، فما أكرم الله - تعالى - ! وما أرحمه بعباده ! وكم من الأبواب فَتَحَها لتمحو خطايا الإنسان وتزيلها ، فيا له من شقيٍّ هذا الإنسان الذي يكون مآله بعد ذلك دخول النار . وضوء يغسل يديه تزول مع الماء خطايا يديه ، يغسل وجهه فتزول خطايا وجهه ، وهكذا فالإنسان الذي يبقى بعد ذلك مستحقًّا النار معنى ذلك أنه إنسان مصرٌّ على المعصية ، ومعاصيه لا تُعَدُّ ولا تحصى ؛ بحيث أن مثل هذه الأبواب من الخير لا تكفِّرها .
ثامنًا : في الخبر التزام الصحابة طاعةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول يوم يدخلون في الإسلام ، فَهُم جنود نظاميون يشعرون بالمسؤولية ويعلمون حقَّ قائدهم عليهم بالطاعة ، لا يصدرون في أمر من الأمور الهامة إلا عن رأيه ومشورته ، فهذا أبو نجيح يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أن أقَرَّ بالشهادتين ، ويعلن له أنه طوع أمره ، وهو يسأله عمَّا يفعل ، وهل يبقى في مكة أم يقيم لدى قومه ، وينتظر إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيأمره - عليه الصلاة والسلام - بالرجوع إلى قومه ريثما يظهر الإسلام أو يأتيه أمره . وهذا يبيِّن أن الإسلام دين طاعة كما قال - تعالى - : (( فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) ، وأنه دين تنظيم الأمور ، وألا تكون هكذا ارتجالية سبهللًا ، فالإسلام دين نظام ، وهو يعلِّمنا في عباداته النظام بأجلى صوره وأعظم مشاهده .
تاسعًا : في الخبر بيان أوقات الصلاة المكروهة ، وهي عقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قيد رمح أو رمحين ، ثانيًا عند استواء الشمس ريثما تميل عن وسط السماء ، ثالثًا حين اصفرار الشمس وتدنِّيها للغروب ، ولا نقول في الحالة الثالثة أو الوقت الثالث : إن وقت الكراهة حين بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس ، وإنما قلت : حين اصفرار الشمس ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن ثمَّة أحاديث تبيِّن أو تقيِّد النهي الموجود في أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة ) ؛ إذًا إذا صليتم والشمس مرتفعة فلا بأس ، ومثل ذلك - أيضًا - آثار عن الصحابة ، وقد وفَّى هذه المسألة أستاذنا في كتابه " السلسلة الصحيحة " في رقم الحديث : ( 200 ) .
ولا شك أن كراهة الصلاة في هذه الأوقات من قبيل كراهة التحريم الذي يُقال فيه لا كراهة في التنزيه الذي هو خلاف الأولى ، وخاصَّة أن هذا التشبُّه الواقع هنا في أخصِّ أمور العبادة وهي الصلاة ؛ فقد رأيتُم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - علَّلَ النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أن الكفار يسجدون للشمس حين تطلع وحين تستوي وحين تغيب ، فالتشبُّه بالكفار لا يكون أمرًا مكروهًا تنزيهًا ، وإنما هو حرام ؛ فلذلك الكراهة نحملها على الأصل الذي وَرَدَ في أسلوب الكتاب والسنة للكراهة وهو التحريم ، كما نرى في أمثال قوله - تعالى - حينما ذكر أنواعًا من المحرمات ، ومنها الشرك بالله في سورة الإسراء : (( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ )) إلى آخره ، ثم قال : (( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا )) ، ومثل قوله - عليه الصلاة والسلام - - أيضًا - : ( إن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ) ؛ فليست هي من باب خلاف الأولى ، يعني جائزة لكن الأفضل تركها ، وإنما هي من قبيل الحرام ؛ فإضاعة المال حرام ، وهو من الإسراف والتبذير .
وهذه نقطة يجب الانتباه لها ، فكثيرًا ما ضَلَّ ناس وشذُّوا واستنتجوا أحكامًا باطلة بسبب عدم مراعاتهم لدلالات الألفاظ في الكتاب والسنة ، ففسروا بعض هذه الألفاظ باصطلاحات حادثة طَرَأَتْ بعد مئات السنين ، مثلًا اصطلاحات الفقهاء المكروه ، ومثلًا النوافل وما شابه ذلك . كلمة المكروه في اصطلاح المتأخرين إنما هو مكروه تنزيهًا خاصة عند الشافعية ، وكذلك - مثلًا - كلمة ينبغي أو لا ينبغي ، لا ينبغي بمعنى يعني يحسن أن لا يُفعل ، بينما نجد في القرآن أنها تستعمل بأشد الحرام ، كما قال - تعالى - مثلًا : (( وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا )) ؛ فهي بمعنى الشيء المنكر أشد النكارة ، فيجب التنبُّه إلى مثل هذه الملاحظة ففيها نجاة من كثير من السَّقطات والعثرات . ألفاظ وردت في الكتاب والسنة يجب أن نفسِّرها بمثل ما كانت تعني في ذلك الوقت ، لا بمثل ما استُحدِثَ لها من اصطلاحات ومن معانٍ ومن دلالات طارئة .
عاشرًا : في الخبر فضيلة صلاة الليل ، وأن الثلث الأخير من الليل هو أفضل من غيره من الأوقات ؛ من حيث الصلاة والدعاء والذكر ؛ فإنها أعظم أجرًا فيه ، وأحرى بالاستجابة والقبول ، ومشهودة بملائكة الليل وملائكة النهار كما ثَبَتَ في السنة ، ولا شك أن من أهمِّ أسباب ذلك بُعْدُ صلاة الليل عن الرياء والشهرة ، وفراغ الإنسان منها من المشاغل وإن كان لتحقُّق الخشوع فيها أوسع من غيره ، ففيها يتواطأ القلب واللسان على الصلاة ، وفي ذلك يقول الله - عز وجل - : (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا )) ، فـ (( أَشَدُّ وَطْئًا )) أي : مواطئةً واستجماعًا للنفس والفكر في ذلك الوقت تكون على أشدِّها ، (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ )) صلاة الليل ، (( هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا )) .
الفائدة الحادية عشرة : في الخبر أنَّ العمل داخل في مسمَّى الإيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الإيمان أنه الصبر والسماحة ، وأن أفضل خصاله الخلق الحسن ، وفي ذلك نصوص كثيرة معروفة ، وهو مذهب السلف وجمهور أهل السنة أنَّ العمل من الإيمان ؛ فليس الإيمان تصديقًا في القلب فقط أو نطقًا باللسان ، وإنما هو تصديق بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالأركان ؛ فهذه الثلاثة هي التي تُنشِئُ الإيمان ؛ يعني المراد بذلك الإيمان الكامل ، ولا شك أنه له درجات ، وأن هناك أقلَّه هو التصديق القلبي مع النطق إذا لم يكن هناك إكراه أو مانع ، والعمل يزيد في الإيمان ، وهذا - أيضًا - مما يتَّصل بالبحث في الإيمان يزيد وينقص ؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ما فيه إيمان يبقى ثابتًا كما هو ، وإنما هو إما أن يزيد أو أن ينقص بحسب الإنسان تقدُّمه في طاعة الله - عز وجل - وإقباله عليها ، أو تقصيره وإطاعته شياطين الإنس والجن .
طبعًا في مسألة الإيمان هناك بحث مفصَّل لسنا الآن في صدده ، لكن لا بأس بأن أذكر لكم - أيضًا - بالمناسبة شيء - أيضًا - يُخطئ فيه كثيرون ؛ إذ أحيانًا يُذكر الإيمان والإسلام في جملة واحدة ، في آية واحدة أو حديث واحد في سياق واحد ، فإذا ذُكِرَ الإيمان والإسلام في سياق واحد فيُراد بالإيمان ما وَرَدَ تعريفه في حديث جبريل ، قال : ( ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشرِّه ) ، ويُراد بالإسلام ما ورد - أيضًا - في حديث جبريل ؛ وهو أن الإسلام ( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ) ، الأصل فيه فرق بين الإسلام والإيمان ، لكن هذا الفرق متى يُلاحظ ؟ إذا اجتمعا في موضع واحد ، أما إذا ورد لفظ الإيمان في آية وحدَه ، أو ورد لفظ الإسلام في نصٍّ وحده دون أن يُذكر معه اللفظ آخر ؛ فيُراد بكلٍّ منهما ما يُراد بالاثنين معًا ، إذا ورد الإيمان في آية ولم يرد معه الإسلام فيراد به الإيمان والإسلام جميعًا ، مثلًا : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )) ... .
أوَّلًا : فيه منقبة ظاهرة لهذا الصحابي الكريم ؛ حيث كان منذ الجاهلية ذا عقل رشيد وتفكير سليم وشخصية قوية وإخلاص في طلب الحق ؛ فلم يرضَ عبادة الأصنام ولا تعظيم الأوثان ، ولم تعجبه عقائد الجاهلية ، ولم يكن إمَّعة يُساير الناس في ضلالهم ، بل كان ينتظر ظهور الدين الحق ، فلما أن بَلَغَه رحل إلى صاحبه واستوثق منه ، فآمَنَ دون إبطاء .
ثانيًا : فيه أن كثيرًا من العرب فى الجاهلية كانوا على الفطرة السليمة التي لم تفسد ، وكانوا مستعدين للانضمام إلى دعوة الحقِّ حينما تظهر ، وهؤلاء كانوا مادة الإسلام وأنصاره وسواده الأعظم .
ثالثًا : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على علم أكيد بأنه منتصر ، وأن العاقبة له ، وأن دعوته هي الغالبة ، وذلك ظاهر في قوله - عليه السلام - لعمرو : ( فامكث في أهلك حتى يمكِّن لرسوله ، فإذا سمعت بي قد ظهرتُ فالحَقْ بي ) ، وأصرح منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيوشك الله - تعالى - أن يَفِيَ بما ترى ويُحيي الإسلام ) . وثَمَّة أحاديث أخرى فيها مثل هذا التوكيد منه - صلى الله عليه وسلم - بأن دينه سيظهر ، وقبل ذلك كله قولُ الله - عز وجل - : (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )) ، ومثل ذلك طبعًا في زماننا .
رابعًا : فيه استحسان استغلال الإنسان الفرص المناسبة لقضاء حاجاته ؛ لأن الفرص إذا حالَتْ وذهبت فقلَّما تعود ، ويُقاس نجاح الإنسان ويظهر ذكاؤه في اختياره الوقت المناسب للأمر المناسب ، والإنسان المناسب وبالأسلوب المناسب لتأمين رغباته ، فقد رأى أبو نجيح المجال مناسبًا لإلقاء أسئلته فألقاها ، فأفاد واستفاد ، وأخذ الجواب طبعًا بتوسُّع كما يريد ، بينما لو كان في وقت آخر الرسول - عليه السلام - فيه مشغولًا لَكان أخذ أجوبةً مجملةً ، أو ربما أجَّلَ له بعضها ، أو - مثلًا - لم يتفرَّغ له ، وهذا درس نستفيده - أيضًا - من مثل هذا الحديث .
خامسًا : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكرِّر بعض النصائح والأوامر مرَّات ومرَّات نظرًا لأهميتها ، ولترسخ في النفوس والأذهان ، وهذه قاعدة تربوية هامة يلجأ إليها المربُّون ، ويحسن - أيضًا - أن يأخذ الدرس منها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ، يدل عليه ما رواه عنه صاحب حديث أبو نجيح أنه سمع ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الركعتين الخاشعتين مرات تفوق العشرين ، فلم يكن يأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكرِّر مثل هذا ، فالتكرار أحيانًا كثيرة فيه فائدة ، والقرآن كرَّر بعض الآيات التي فيها تذكير وتقريع للقلوب كما في سورة الرحمن : (( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) ، وأمثالها - أيضًا - في سور أخرى ؛ فهذا ليس عبثًا ، وليس تكرارًا ، وليس مملًّا ، إنما هو لغرض هام لتترسَّخ القواعد الهامة والأفكار التي يُريد صاحبها أن تكون ثابتة في الأذهان لتترسَّخ في النفوس وتثبت ، ولا يمكن أن تثبت إلا بالتكرار ؛ لأن المرة الواحدة أو الاثنتين أو الثلاثة يمكن أن تُنسى ، أو يكون بعض مَن يريد أن يسمعها لم يكن حاضرًا ، فالتكرار فيه مثل هذه الفوائد ، طبعًا والحكمة تكون في وضعه في محله ، وأحيانًا التكرار يكون مملًّا ، وأحيانًا يكون حسنًا ، وكما قيل في تعريف البلاغة قديمًا : " البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال " ؛ أن يوافق كلامك مقتضى ما يقتضيه الحال الذي أنت فيه .
قد يكون الإنسان في موضع الناس أتوا إليه من مكان بعيد ، وفرَّغوا أنفسهم وأذهانهم لسماع كلامه ، وهم مستعدُّون للاستماع إليه - مثلًا - ساعة أو ساعتين ، فإذا اختصر في الكلام لم يكن حكيمًا ولم يكن بليغًا ، هنا يحسن الإسهاب والشرح والبيان ، بينما في مشهد آخر قد يكون الناس في ضيق في حرج في أمر هام فيهم وفيهم ، فلا يحسن الإطالة ولا يحسن الإسهاب ، بل يحسن الاقتصار ما أمكن . وهكذا هذه هي الحكمة وهذه هي البلاغة ، وربنا - تبارك وتعالى - يقول : (( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )) ؛ فهذا التكرار في مكان مناسب أسلوب تربوي ناجح ، فَطِنَ له المربون ، واستعملوه في المدارس وغيرها ، فلجؤوا إلى تكرار الشعارات التي تمثِّل أهدافًا ما أو أفكارًا ما ؛ فهذا من حيث الطريقة طريقة جيدة ، لكن المهم أن تُستعمل في الغرض الجيد - أيضًا - حتى تفيد الفائدة المطلوبة .
سادسًا : في الخبر بيان فضيلة صلاة ، فضيلة هامة في الصلاة ؛ وهي فضيلة الخشوع ، وأن ينشغل الإنسان بذكر الله ، ويتفكَّر في عظمته ، ويتدبَّر في معاني الآيات والأذكار التي يقرؤها ، وأن ركعتين بهذه الأوصاف يخرج بهما الإنسان من ذنوبه كلها كيوم ولدته أمه ، ولعل هذا يذكِّرنا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - حينما قال : " وَدِدْتُ لو أن لي ركعتين متقبَّلتين " ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يقول : (( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )) ، فقبول ركعتين معنى ذلك أن هذا الإنسان متَّقٍ ، وحسبه بذلك بشارة ونجاحًا وفوزًا .
هذا الأجر لمثل هذا العمل صلاة ركعتين خاشعتين كرم إلهي عظيم ، وأجر ربَّاني كبير ، لم يلبث أبو أمامة الصحابي الآخر أن استغربه لما سمعه ، وهكذا أحيانًا تمرُّ بنا الأحاديث التي فيها مثل هذا الكرم والثواب العظيم ، فعلينا أن لا نستغربها ؛ فالله - عز وجل - ذو الفضل العظيم ، ولا يعظم عليه شيء ، وهو يتفضَّل بالخير على أشياء أحيانًا تكون بنظر الناس بسيطة ، لكن فيها إثبات العبودية الحقَّة من هذا من القائم بها لله - عز وجل - ، وبذلك يستحقُّ ذلك الأجر العظيم ، فأعاد أبو أمامة سؤالَ عمرو طالبًا منه أن يتثبَّت منه ، فَلَرُبَّما كان مخطئًا أو ناسيًا أو غافلًا ، ولكنَّ عمرًا أكَّدَ له الخبر تأكيدًا لا مجال فيه لشكٍّ أو الخطأ ، وهذا يدلنا على اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصح المسلمين بالخشوع في الصلاة وحسن أدائها لِمَا علمه من عظيم أجر مَن يفعل ذلك ، وهو الشَّفوق على أمته ، الناصح لها ، المحبُّ لها كل الخير ، فدفعه هذا لإعادة تذكير المسلمين بهذا الفضل مرات ومرات ، ولا شك أننا أحوج ما نكون إلى الاستفادة من هذا .
نحن نعترف بأننا في غالب صلواتنا نصليها صلاةً هكذا أداء للأذكار والقراءات ، أما القلب فيكون غافلًا متلهِّيًا مشغولًا ، وهذا لا شك يُنقص من الثواب ، صحيح يرفع المسؤولية في العقاب إذا كانت الأركان كاملة ، ولكن الثواب لا يكون إلا بقدر الخشوع . ثم إن الفوائد والغايات التي تترتَّب عليها الصلاة ، والتي رما إليها الشارع الحكيم - سبحانه وتعالى - لا تتحقَّق إلا بمثل هذا الخشوع ، فلنخشَعْ في صلاتنا ، ولنتفكَّر فيها ، ولا نُؤخذ بالكثرة ؛ أنُّو الله أفَقْنا من الليل نصلي - مثلًا - ركعات كثيرة ، حسبنا ركعتين نؤدي فيهما الطمأنينة والخشوع ونتفكَّر في معانيهما ، ونسبِّح ونطيل التسبيح ، ونطيل القنوت والسجود والقيام ؛ فذلك خير من ركعات كثيرة يصليها أحدنا فلا يخشع فيها ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا ، وربما ركعتان من هذا النوع تكون خيرًا من حياة الإنسان كلها ، كل حياته تكون عبثًا وحسرةً وترةً عليه يوم القيامة إلا مثل هذه الرُّكَيعات التي يشعر فيها بالشفافية وبالخشوع ورقَّة النفس وصفاء البال والخشوع العظيم لله - عز وجل - ، فيبكي ويخشع ويتضرَّع ، فتكون مثل هذه الساعة خيرًا من عمره كله ، فليس العمر بطول الأيام والليالي ، إنما هو بما فيها من الخير ، ولا خير مثل هذا الخير العظيم .
سابعًا : في الخبر بيان فضيلة الوضوء أيضًا ؛ فهو بالإضافة إلى فوائده الصحية والنفسية له ذلك الثواب الكبير في تكفير الذنوب ومغفرتها ، فذنوب كلِّ عضو تتساقط مع الماء الذي يُغادره عقبَ غسله أو مسحه ، فما أكرم الله - تعالى - ! وما أرحمه بعباده ! وكم من الأبواب فَتَحَها لتمحو خطايا الإنسان وتزيلها ، فيا له من شقيٍّ هذا الإنسان الذي يكون مآله بعد ذلك دخول النار . وضوء يغسل يديه تزول مع الماء خطايا يديه ، يغسل وجهه فتزول خطايا وجهه ، وهكذا فالإنسان الذي يبقى بعد ذلك مستحقًّا النار معنى ذلك أنه إنسان مصرٌّ على المعصية ، ومعاصيه لا تُعَدُّ ولا تحصى ؛ بحيث أن مثل هذه الأبواب من الخير لا تكفِّرها .
ثامنًا : في الخبر التزام الصحابة طاعةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول يوم يدخلون في الإسلام ، فَهُم جنود نظاميون يشعرون بالمسؤولية ويعلمون حقَّ قائدهم عليهم بالطاعة ، لا يصدرون في أمر من الأمور الهامة إلا عن رأيه ومشورته ، فهذا أبو نجيح يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أن أقَرَّ بالشهادتين ، ويعلن له أنه طوع أمره ، وهو يسأله عمَّا يفعل ، وهل يبقى في مكة أم يقيم لدى قومه ، وينتظر إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيأمره - عليه الصلاة والسلام - بالرجوع إلى قومه ريثما يظهر الإسلام أو يأتيه أمره . وهذا يبيِّن أن الإسلام دين طاعة كما قال - تعالى - : (( فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )) ، وأنه دين تنظيم الأمور ، وألا تكون هكذا ارتجالية سبهللًا ، فالإسلام دين نظام ، وهو يعلِّمنا في عباداته النظام بأجلى صوره وأعظم مشاهده .
تاسعًا : في الخبر بيان أوقات الصلاة المكروهة ، وهي عقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قيد رمح أو رمحين ، ثانيًا عند استواء الشمس ريثما تميل عن وسط السماء ، ثالثًا حين اصفرار الشمس وتدنِّيها للغروب ، ولا نقول في الحالة الثالثة أو الوقت الثالث : إن وقت الكراهة حين بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس ، وإنما قلت : حين اصفرار الشمس ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن ثمَّة أحاديث تبيِّن أو تقيِّد النهي الموجود في أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة ) ؛ إذًا إذا صليتم والشمس مرتفعة فلا بأس ، ومثل ذلك - أيضًا - آثار عن الصحابة ، وقد وفَّى هذه المسألة أستاذنا في كتابه " السلسلة الصحيحة " في رقم الحديث : ( 200 ) .
ولا شك أن كراهة الصلاة في هذه الأوقات من قبيل كراهة التحريم الذي يُقال فيه لا كراهة في التنزيه الذي هو خلاف الأولى ، وخاصَّة أن هذا التشبُّه الواقع هنا في أخصِّ أمور العبادة وهي الصلاة ؛ فقد رأيتُم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - علَّلَ النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أن الكفار يسجدون للشمس حين تطلع وحين تستوي وحين تغيب ، فالتشبُّه بالكفار لا يكون أمرًا مكروهًا تنزيهًا ، وإنما هو حرام ؛ فلذلك الكراهة نحملها على الأصل الذي وَرَدَ في أسلوب الكتاب والسنة للكراهة وهو التحريم ، كما نرى في أمثال قوله - تعالى - حينما ذكر أنواعًا من المحرمات ، ومنها الشرك بالله في سورة الإسراء : (( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ )) إلى آخره ، ثم قال : (( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا )) ، ومثل قوله - عليه الصلاة والسلام - - أيضًا - : ( إن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ) ؛ فليست هي من باب خلاف الأولى ، يعني جائزة لكن الأفضل تركها ، وإنما هي من قبيل الحرام ؛ فإضاعة المال حرام ، وهو من الإسراف والتبذير .
وهذه نقطة يجب الانتباه لها ، فكثيرًا ما ضَلَّ ناس وشذُّوا واستنتجوا أحكامًا باطلة بسبب عدم مراعاتهم لدلالات الألفاظ في الكتاب والسنة ، ففسروا بعض هذه الألفاظ باصطلاحات حادثة طَرَأَتْ بعد مئات السنين ، مثلًا اصطلاحات الفقهاء المكروه ، ومثلًا النوافل وما شابه ذلك . كلمة المكروه في اصطلاح المتأخرين إنما هو مكروه تنزيهًا خاصة عند الشافعية ، وكذلك - مثلًا - كلمة ينبغي أو لا ينبغي ، لا ينبغي بمعنى يعني يحسن أن لا يُفعل ، بينما نجد في القرآن أنها تستعمل بأشد الحرام ، كما قال - تعالى - مثلًا : (( وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا )) ؛ فهي بمعنى الشيء المنكر أشد النكارة ، فيجب التنبُّه إلى مثل هذه الملاحظة ففيها نجاة من كثير من السَّقطات والعثرات . ألفاظ وردت في الكتاب والسنة يجب أن نفسِّرها بمثل ما كانت تعني في ذلك الوقت ، لا بمثل ما استُحدِثَ لها من اصطلاحات ومن معانٍ ومن دلالات طارئة .
عاشرًا : في الخبر فضيلة صلاة الليل ، وأن الثلث الأخير من الليل هو أفضل من غيره من الأوقات ؛ من حيث الصلاة والدعاء والذكر ؛ فإنها أعظم أجرًا فيه ، وأحرى بالاستجابة والقبول ، ومشهودة بملائكة الليل وملائكة النهار كما ثَبَتَ في السنة ، ولا شك أن من أهمِّ أسباب ذلك بُعْدُ صلاة الليل عن الرياء والشهرة ، وفراغ الإنسان منها من المشاغل وإن كان لتحقُّق الخشوع فيها أوسع من غيره ، ففيها يتواطأ القلب واللسان على الصلاة ، وفي ذلك يقول الله - عز وجل - : (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا )) ، فـ (( أَشَدُّ وَطْئًا )) أي : مواطئةً واستجماعًا للنفس والفكر في ذلك الوقت تكون على أشدِّها ، (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ )) صلاة الليل ، (( هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا )) .
الفائدة الحادية عشرة : في الخبر أنَّ العمل داخل في مسمَّى الإيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الإيمان أنه الصبر والسماحة ، وأن أفضل خصاله الخلق الحسن ، وفي ذلك نصوص كثيرة معروفة ، وهو مذهب السلف وجمهور أهل السنة أنَّ العمل من الإيمان ؛ فليس الإيمان تصديقًا في القلب فقط أو نطقًا باللسان ، وإنما هو تصديق بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالأركان ؛ فهذه الثلاثة هي التي تُنشِئُ الإيمان ؛ يعني المراد بذلك الإيمان الكامل ، ولا شك أنه له درجات ، وأن هناك أقلَّه هو التصديق القلبي مع النطق إذا لم يكن هناك إكراه أو مانع ، والعمل يزيد في الإيمان ، وهذا - أيضًا - مما يتَّصل بالبحث في الإيمان يزيد وينقص ؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ما فيه إيمان يبقى ثابتًا كما هو ، وإنما هو إما أن يزيد أو أن ينقص بحسب الإنسان تقدُّمه في طاعة الله - عز وجل - وإقباله عليها ، أو تقصيره وإطاعته شياطين الإنس والجن .
طبعًا في مسألة الإيمان هناك بحث مفصَّل لسنا الآن في صدده ، لكن لا بأس بأن أذكر لكم - أيضًا - بالمناسبة شيء - أيضًا - يُخطئ فيه كثيرون ؛ إذ أحيانًا يُذكر الإيمان والإسلام في جملة واحدة ، في آية واحدة أو حديث واحد في سياق واحد ، فإذا ذُكِرَ الإيمان والإسلام في سياق واحد فيُراد بالإيمان ما وَرَدَ تعريفه في حديث جبريل ، قال : ( ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشرِّه ) ، ويُراد بالإسلام ما ورد - أيضًا - في حديث جبريل ؛ وهو أن الإسلام ( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ) ، الأصل فيه فرق بين الإسلام والإيمان ، لكن هذا الفرق متى يُلاحظ ؟ إذا اجتمعا في موضع واحد ، أما إذا ورد لفظ الإيمان في آية وحدَه ، أو ورد لفظ الإسلام في نصٍّ وحده دون أن يُذكر معه اللفظ آخر ؛ فيُراد بكلٍّ منهما ما يُراد بالاثنين معًا ، إذا ورد الإيمان في آية ولم يرد معه الإسلام فيراد به الإيمان والإسلام جميعًا ، مثلًا : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )) ... .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 261
- توقيت الفهرسة : 01:14:05
- نسخة مدققة إملائيًّا