تتمة الكلام على كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع التنبيه على بعض الأخطاء ومناقشة بعض السنن المختلف فيها كالبسملة .
A-
A=
A+
الشيخ : ... - عز وجل - يقول : (( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) ، فالبسملة إذًا يقرؤها الإمام سرًّا ، أما الفاتحة فلا بدَّ من قراءتها جهرًا اتِّباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والسنَّة في قراءة البسملة وآيات الفاتحة أن يُقطِّعَها آية آية كما ثبت ذلك عن أمِّ سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قرأ القرآن قطَّعه آية آية ، ثم قرأ : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) إلى آخر الفاتحة ، فلا بد أن يقف على رأس الآي يأخذ نَفسًا ليطمئنَّ في قراءته ولا يضطرب ولا يستعجل ؛ فإنَّ الاستعجال في القراءة يُنافي الأمر الوارد في القرآن ؛ ألا وهو قوله - تعالى - : (( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )) ، ثم يُسَنُّ بعد الفاتحة أن يختِمَها بقوله : آمين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول ذلك بعد الفاتحة ، وأمر مَن خلفه أن يقولوها إذا قال الإمام ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ؛ فإنه مَن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غَفَرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه ) .
وإذا كانت الصلاة جهرية فقد ثبت في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر بـ " آمين " ، ولم يثبت ذلك في حقِّ المقتدين ، وهذا المذهب - كما يبدو لي - هو أعدل المذاهب وأقربها إلى السنة ؛ لأن بعض المذاهب تذهب إلى أنه لا يقول : آمين الإمام إطلاقًا ولا المقتدون ، وبعضها تذهب إلى أن الإمام يقول ذلك سرًّا ، والمقتدون كذلك بالتالي سرًّا ، ومذهب الإمام الشافعي الذي عليه أصحابه اليوم إلى أنَّ الإمام والمأمومين جميعًا يجهرون بـ " آمين " ، ولكن مذهب الإمام الشافعي نفسه الجديد الذي صرَّح به في كتابه " الأم " هو أنَّ الإمام يجهر بالتأمين خلافًا للمقتدين . هذا المذهب هو الذي تدلُّ عليه السنة الصحيحة ؛ لأنه ثَبَتَ جهره - عليه السلام - بالتأمين ولم يثبُتْ جهر المقتدين خلفه بالتأمين .
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة مع التأمين سُنَّ في حقِّ كل مصلٍّ أن يقرأ بعد الفاتحة ما تيسر له من القرآن وخاصَّة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك يختلف باختلاف الصلوات كما هو مفصَّل في أمَّهات الكتب الفقهية والحديثية ، وبصورة خاصة في كتابي " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنك تراها " ، فمن شاء التوسُّع فعليه بهذا الكتاب أو غيرها .
وبعد أن يفرغ الإمام من قراءة القرآن كله في الركعة يُكبِّر راكعًا رافعًا يديه كما رفع يديه في التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام ، ورفعُ اليدين هنا ثابتٌ بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكذلك عند رفع الرأس من الرُّكوع ، ولم يأتِ حديثٌ صحيح يُوجب تركَ الرفع في هذَين الموطنَين ؛ ولذلك أقول : إنَّ بقاء الاختلاف في سُنِّيَّة الرفع في هذَين الموطنين ما هو سببه إلا تعصُّب الناس لمذاهبهم ، وإلَّا كيف يسوغ للمسلم بعد أن يعلم ثبوت الرفع في هذين المكانين في أكثر من عشرين حديثًا عن أكثر من عشرين صحابيًّا كلهم صرَّحوا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ؟ فكيف يجوز له أن يَدَعَ الرفع في هذين المحلَّين ؛ لا لشيء إلا لأنه ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأصحابه : ألا أصلِّي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ فرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لم يَعُدْ ؟
هذا الحديث هو كل ... النُّفاة الذين ينفون سنِّيَّة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه ، وهذا من عجائب الإصرار على مخالفة السنة ؛ فإن هؤلاء النُّفاة هم مع العلماء كلهم الذين قرَّروا تلك القاعدة الأصولية التي تقول : المثبت مُقدَّم على النافي ، إذا جاء خبران صحيحان أحدهما يُثبت أمرًا والآخر ينفيه ؛ فالمُثبت مقدَّم على النافي . وجاء الإمام البخاري على ذلك بمَثَل معروف في سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك حينما حجَّ حجة الوداع ، فقد اختلف الصحابة هل صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الكعبة أم لا ؟ فجاء الخبر صحيحًا من رواية بلال ومن نقل عبد الله بن عمر عنه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل الكعبة وصلى بين العمودين ، ثم جاء خبرٌ آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يدخُلِ الكعبة ولم يصلِّ في جوفها ، وإنما صلى خارجًا منها مستقبلًا لها . فهذا خبر ابن عباس ينفي وخبر بلال يُثبت ؛ فبأيِّ الخبرين أخذ أهل العلم ؟
أخذوا بخبر بلال المُثبت ؛ ذلك لأن المثبت مقدَّم على النافي عندهم جميعًا ، وما ذلك إلا لأن المثبت أحاط بعلمٍ لم يُحِطْ به ذلك النافي ، ولهذا اتَّفقوا على هذه الجملة : " المثبت مقدَّم على النافي " ، فلو افترضنا أن ابن مسعودٍ لم يخالِفْه إلا فردٌ واحد من الصحابة ؛ هذا الفرد أثبَتَ الرفع عند الركوع والرفع منه ، أما ابن مسعود فنفى ، فينبغي أن يُقال بناءً على ما سبق من القاعدة : " المثبت مقدَّم على النافي " ، فكيف وقد اتَّفق أكثر من عشرين صحابيًّا على إثبات الرفع هذا عند الركوع والرفع منه خلافًا لِمَا نفى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ؟!
لذلك كان من الواجب على المسلم أن يُثبت هذه السنة وأن يعمل بها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا تحقيقًا لأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السابق : ( صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي ) ، فقد علمنا من إخبار هؤلاء الصحابة الأجلَّة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرفع يديه ، فينبغي إذا صلينا أن نرفع أيدينا جميعًا ، وبذلك نقضي على ظاهرةٍ من ظواهر الخلاف التي تُشاهَد بين المسلمين ؛ بعضهم لا يرفع ، وبعضهم يرفع .
وفي الركوع نعلم أن السنة الاطمئنان في الركوع بنحو ثلاثة تسبيحات ، وكلما أكثر وأطال الركوع كان أفضل ؛ إلا أن يكون إمامًا ، فهو مُلزمٌ حينَ ذاك بأن لا يُطيلَ أكثر من إطالة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولكن - أيضًا - لا ينبغي له أن يُخفِّفَ الصلاة تخفيفًا يُخِلُّ بالاطمئنان الذي هو ركنٌ من أركان الصلاة ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاةَ لرجلٍ لا يقيمُ صُلبَه بين ركوعه وسجوده ) ، فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في نفي صلاة مَن لا يطمئنُّ في الركوع والسجود ، ونفي الصلاة يعني بطلانها ، فإذا كان يصلي إمامًا فلا بد من الاطمئنان بنحو تسبيحتَين أو ثلاثة ، أما إذا صلى وحدَه فعليه أن يُطيل ما شاء .
لكن كما قلنا - ونكرِّر التنبيه على ما قلنا - : لا ينبغي نخفف مراعاة للناس ؛ لأن مراعاة الناس في التخفيف لا حدود لها ، وإلى هذه الحقيقة أشار عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - حينما قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يؤمُّنا في صلاة الفجر بالصَّافَّات صفًا ، وإن كان لا يُخفِّف عنَّا ) أو كما قال ، كان يؤمهم ، - الآن تذكرت لفظ الحديث - ، قال ابن عمر : ( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيأمُرُنا بالتخفيف ، وإن كان لَيُؤمُّنا في صلاة الفجر بالصَّافَّات صفًّا ) ؛ كأنه يشير إلى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كان يأمر بالتخفيف ما كان لِيُخالف فعلُه قولَه ؛ ولذلك فهو يشير إلى أن قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسورة الصافات في صلاة الفجر لا يُنافي التخفيف ؛ لذلك لا ينبغي أن نحمِلَ قوله - عليه السلام - : ( إن منكم لمنفِّرين إذا أمَّ أحدكم فليخفِّف ، فإن وراءه الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة ) ؛ لا ينبغي أن نُفسِّر هذا الحديث بالتخفيف الغير مطلوب ، غير مقيَّد بالسنة بالكتاب والسنة ، وإلا عاد الأمر فوضى ، وربما يأتي زمان يطلب المُقتدون من الإمام أن يقرَأَ بهم فقط بفاتحة الكتاب ، ويحتجُّ بمثل هذه الحديث ؛ فالحجة عليه حينئذٍ هو السنة ، ( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيأمُرُنا بالتخفيف ، وإن كان لَيؤمُّنا بالصَّافَّات صفًّا ) ؛ ولذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما أنكَرَ على معاذ بن جبلٍ إطالَتَه الصلاة حتى خرج من صلاة ذلك الرجل صاحب النَّواضح أمره - عليه السلام - أن يقرأ بعد الفاتحة بالشمس وضحاها ، ونحو ذلك في صلاة العشاء ، ولم يأمُرْه بأن يقتصر فقط على الفاتحة ؛ مع العلم أن الاقتصار عليها يجزي في الصلاة ؛ لأنها هي الركن ، أما القراءة بعدها فهي سنَّة .
فالخلاصة : أنه بعد أن يقرأ الإمام ما تيسَّر له من القرآن يُكبِّر رافعًا يديه ، ثم يُسبِّح على الأقل ثلاثة تسبيحات تحقيقًا للاطمئنان ، فلا يُخفِّف أكثر من ذلك مراعاةً للمقتدين خلفه ، ثم يرفع يديه - أيضًا - مُكبِّرًا ، يرفع يديه مكبِّرًا كما ذكرنا ، ويتابع الصلاة على النحو المذكور في مطوَّلات الكتب -- ... -- فهذا الحديث الذي يرويه لنا وائل بن حجر نأخذ منه أمرين اثنين : أحدهما بمنطوق الحديث ، والآخر بفحواه ومضمونه ، أما منطوقه فهو أن الرسول - عليه السلام - جَهَرَ بآمين ؛ فهذه السنة إذًا أن يجهر الإمام بآمين .
وأما ما يُفهم من فحوى الحديث هو أنَّ المقتدين لا يجهرون بآمين ؛ لأنه لو كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لو كانوا يجهرون مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين جهره لَمَا اقتصر وائلٌ على إخبارنا بجهر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط ، بل ولَقالَ : جهر هو وأصحابه كما جاء في حديث أبي هريرة في " سنن ابن ماجة " من أنَّه قال : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قال : آمين رفع بها صوته ، ورفع بها مَن خلفه أصواتهم ؛ حتى أن للمسجد للجَّة " ؛ فلو كان - هذا الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي هريرة إسناده ضعيفٌ لا تقوم به حجة - ، فلو كان وائل بن حُجر سمع - أيضًا - أصحاب النبي يرفعون صوتهم بآمين كما سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمقتضى بحسن الظَّنِّ به من حيث النقل أوَّلًا ، ومن حيث حسن حفظه ثانيًا ... مقتدين بآمين كالإمام ؛ بناءً على عموم قوله - عليه السلام - : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، فذكر بعض الإخوان والأساتذة هنا أنه مادام هناك نصٌّ عامٌّ : ( صلُّوا كما رأيتموني أصلي ) ، وما دام أننا أثبتنا أن الرسول - عليه السلام - كان يجهر بآمين ؛ فإذًا علينا نحن في حالة الاقتداء به أن نجهر بآمين ، فكان الجواب أنَّ جهر المقتدين بآمين لم يكن واقعًا من الصحابة الذين كانوا يصلُّون وراء النبي ؛ بدليل أن وائل بن حُجر إنما روى لنا : جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بآمين ، ولم يروِ لنا جهر أتباعه من بعده من خلفه بآمين ؛ فدل على أن هناك فرقًا بين الإمام فيجهر بآمين ، وبين المقتدين فلا يجهرون بآمين .
غيره ؟
وإذا كانت الصلاة جهرية فقد ثبت في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر بـ " آمين " ، ولم يثبت ذلك في حقِّ المقتدين ، وهذا المذهب - كما يبدو لي - هو أعدل المذاهب وأقربها إلى السنة ؛ لأن بعض المذاهب تذهب إلى أنه لا يقول : آمين الإمام إطلاقًا ولا المقتدون ، وبعضها تذهب إلى أن الإمام يقول ذلك سرًّا ، والمقتدون كذلك بالتالي سرًّا ، ومذهب الإمام الشافعي الذي عليه أصحابه اليوم إلى أنَّ الإمام والمأمومين جميعًا يجهرون بـ " آمين " ، ولكن مذهب الإمام الشافعي نفسه الجديد الذي صرَّح به في كتابه " الأم " هو أنَّ الإمام يجهر بالتأمين خلافًا للمقتدين . هذا المذهب هو الذي تدلُّ عليه السنة الصحيحة ؛ لأنه ثَبَتَ جهره - عليه السلام - بالتأمين ولم يثبُتْ جهر المقتدين خلفه بالتأمين .
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة مع التأمين سُنَّ في حقِّ كل مصلٍّ أن يقرأ بعد الفاتحة ما تيسر له من القرآن وخاصَّة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك يختلف باختلاف الصلوات كما هو مفصَّل في أمَّهات الكتب الفقهية والحديثية ، وبصورة خاصة في كتابي " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنك تراها " ، فمن شاء التوسُّع فعليه بهذا الكتاب أو غيرها .
وبعد أن يفرغ الإمام من قراءة القرآن كله في الركعة يُكبِّر راكعًا رافعًا يديه كما رفع يديه في التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام ، ورفعُ اليدين هنا ثابتٌ بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكذلك عند رفع الرأس من الرُّكوع ، ولم يأتِ حديثٌ صحيح يُوجب تركَ الرفع في هذَين الموطنَين ؛ ولذلك أقول : إنَّ بقاء الاختلاف في سُنِّيَّة الرفع في هذَين الموطنين ما هو سببه إلا تعصُّب الناس لمذاهبهم ، وإلَّا كيف يسوغ للمسلم بعد أن يعلم ثبوت الرفع في هذين المكانين في أكثر من عشرين حديثًا عن أكثر من عشرين صحابيًّا كلهم صرَّحوا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ؟ فكيف يجوز له أن يَدَعَ الرفع في هذين المحلَّين ؛ لا لشيء إلا لأنه ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأصحابه : ألا أصلِّي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ فرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لم يَعُدْ ؟
هذا الحديث هو كل ... النُّفاة الذين ينفون سنِّيَّة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه ، وهذا من عجائب الإصرار على مخالفة السنة ؛ فإن هؤلاء النُّفاة هم مع العلماء كلهم الذين قرَّروا تلك القاعدة الأصولية التي تقول : المثبت مُقدَّم على النافي ، إذا جاء خبران صحيحان أحدهما يُثبت أمرًا والآخر ينفيه ؛ فالمُثبت مقدَّم على النافي . وجاء الإمام البخاري على ذلك بمَثَل معروف في سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك حينما حجَّ حجة الوداع ، فقد اختلف الصحابة هل صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الكعبة أم لا ؟ فجاء الخبر صحيحًا من رواية بلال ومن نقل عبد الله بن عمر عنه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل الكعبة وصلى بين العمودين ، ثم جاء خبرٌ آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يدخُلِ الكعبة ولم يصلِّ في جوفها ، وإنما صلى خارجًا منها مستقبلًا لها . فهذا خبر ابن عباس ينفي وخبر بلال يُثبت ؛ فبأيِّ الخبرين أخذ أهل العلم ؟
أخذوا بخبر بلال المُثبت ؛ ذلك لأن المثبت مقدَّم على النافي عندهم جميعًا ، وما ذلك إلا لأن المثبت أحاط بعلمٍ لم يُحِطْ به ذلك النافي ، ولهذا اتَّفقوا على هذه الجملة : " المثبت مقدَّم على النافي " ، فلو افترضنا أن ابن مسعودٍ لم يخالِفْه إلا فردٌ واحد من الصحابة ؛ هذا الفرد أثبَتَ الرفع عند الركوع والرفع منه ، أما ابن مسعود فنفى ، فينبغي أن يُقال بناءً على ما سبق من القاعدة : " المثبت مقدَّم على النافي " ، فكيف وقد اتَّفق أكثر من عشرين صحابيًّا على إثبات الرفع هذا عند الركوع والرفع منه خلافًا لِمَا نفى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ؟!
لذلك كان من الواجب على المسلم أن يُثبت هذه السنة وأن يعمل بها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا تحقيقًا لأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السابق : ( صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي ) ، فقد علمنا من إخبار هؤلاء الصحابة الأجلَّة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرفع يديه ، فينبغي إذا صلينا أن نرفع أيدينا جميعًا ، وبذلك نقضي على ظاهرةٍ من ظواهر الخلاف التي تُشاهَد بين المسلمين ؛ بعضهم لا يرفع ، وبعضهم يرفع .
وفي الركوع نعلم أن السنة الاطمئنان في الركوع بنحو ثلاثة تسبيحات ، وكلما أكثر وأطال الركوع كان أفضل ؛ إلا أن يكون إمامًا ، فهو مُلزمٌ حينَ ذاك بأن لا يُطيلَ أكثر من إطالة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولكن - أيضًا - لا ينبغي له أن يُخفِّفَ الصلاة تخفيفًا يُخِلُّ بالاطمئنان الذي هو ركنٌ من أركان الصلاة ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاةَ لرجلٍ لا يقيمُ صُلبَه بين ركوعه وسجوده ) ، فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في نفي صلاة مَن لا يطمئنُّ في الركوع والسجود ، ونفي الصلاة يعني بطلانها ، فإذا كان يصلي إمامًا فلا بد من الاطمئنان بنحو تسبيحتَين أو ثلاثة ، أما إذا صلى وحدَه فعليه أن يُطيل ما شاء .
لكن كما قلنا - ونكرِّر التنبيه على ما قلنا - : لا ينبغي نخفف مراعاة للناس ؛ لأن مراعاة الناس في التخفيف لا حدود لها ، وإلى هذه الحقيقة أشار عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - حينما قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يؤمُّنا في صلاة الفجر بالصَّافَّات صفًا ، وإن كان لا يُخفِّف عنَّا ) أو كما قال ، كان يؤمهم ، - الآن تذكرت لفظ الحديث - ، قال ابن عمر : ( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيأمُرُنا بالتخفيف ، وإن كان لَيُؤمُّنا في صلاة الفجر بالصَّافَّات صفًّا ) ؛ كأنه يشير إلى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كان يأمر بالتخفيف ما كان لِيُخالف فعلُه قولَه ؛ ولذلك فهو يشير إلى أن قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسورة الصافات في صلاة الفجر لا يُنافي التخفيف ؛ لذلك لا ينبغي أن نحمِلَ قوله - عليه السلام - : ( إن منكم لمنفِّرين إذا أمَّ أحدكم فليخفِّف ، فإن وراءه الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة ) ؛ لا ينبغي أن نُفسِّر هذا الحديث بالتخفيف الغير مطلوب ، غير مقيَّد بالسنة بالكتاب والسنة ، وإلا عاد الأمر فوضى ، وربما يأتي زمان يطلب المُقتدون من الإمام أن يقرَأَ بهم فقط بفاتحة الكتاب ، ويحتجُّ بمثل هذه الحديث ؛ فالحجة عليه حينئذٍ هو السنة ، ( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيأمُرُنا بالتخفيف ، وإن كان لَيؤمُّنا بالصَّافَّات صفًّا ) ؛ ولذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما أنكَرَ على معاذ بن جبلٍ إطالَتَه الصلاة حتى خرج من صلاة ذلك الرجل صاحب النَّواضح أمره - عليه السلام - أن يقرأ بعد الفاتحة بالشمس وضحاها ، ونحو ذلك في صلاة العشاء ، ولم يأمُرْه بأن يقتصر فقط على الفاتحة ؛ مع العلم أن الاقتصار عليها يجزي في الصلاة ؛ لأنها هي الركن ، أما القراءة بعدها فهي سنَّة .
فالخلاصة : أنه بعد أن يقرأ الإمام ما تيسَّر له من القرآن يُكبِّر رافعًا يديه ، ثم يُسبِّح على الأقل ثلاثة تسبيحات تحقيقًا للاطمئنان ، فلا يُخفِّف أكثر من ذلك مراعاةً للمقتدين خلفه ، ثم يرفع يديه - أيضًا - مُكبِّرًا ، يرفع يديه مكبِّرًا كما ذكرنا ، ويتابع الصلاة على النحو المذكور في مطوَّلات الكتب -- ... -- فهذا الحديث الذي يرويه لنا وائل بن حجر نأخذ منه أمرين اثنين : أحدهما بمنطوق الحديث ، والآخر بفحواه ومضمونه ، أما منطوقه فهو أن الرسول - عليه السلام - جَهَرَ بآمين ؛ فهذه السنة إذًا أن يجهر الإمام بآمين .
وأما ما يُفهم من فحوى الحديث هو أنَّ المقتدين لا يجهرون بآمين ؛ لأنه لو كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لو كانوا يجهرون مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين جهره لَمَا اقتصر وائلٌ على إخبارنا بجهر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط ، بل ولَقالَ : جهر هو وأصحابه كما جاء في حديث أبي هريرة في " سنن ابن ماجة " من أنَّه قال : " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قال : آمين رفع بها صوته ، ورفع بها مَن خلفه أصواتهم ؛ حتى أن للمسجد للجَّة " ؛ فلو كان - هذا الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي هريرة إسناده ضعيفٌ لا تقوم به حجة - ، فلو كان وائل بن حُجر سمع - أيضًا - أصحاب النبي يرفعون صوتهم بآمين كما سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمقتضى بحسن الظَّنِّ به من حيث النقل أوَّلًا ، ومن حيث حسن حفظه ثانيًا ... مقتدين بآمين كالإمام ؛ بناءً على عموم قوله - عليه السلام - : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، فذكر بعض الإخوان والأساتذة هنا أنه مادام هناك نصٌّ عامٌّ : ( صلُّوا كما رأيتموني أصلي ) ، وما دام أننا أثبتنا أن الرسول - عليه السلام - كان يجهر بآمين ؛ فإذًا علينا نحن في حالة الاقتداء به أن نجهر بآمين ، فكان الجواب أنَّ جهر المقتدين بآمين لم يكن واقعًا من الصحابة الذين كانوا يصلُّون وراء النبي ؛ بدليل أن وائل بن حُجر إنما روى لنا : جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بآمين ، ولم يروِ لنا جهر أتباعه من بعده من خلفه بآمين ؛ فدل على أن هناك فرقًا بين الإمام فيجهر بآمين ، وبين المقتدين فلا يجهرون بآمين .
غيره ؟
- تسجيلات متفرقة - شريط : 35
- توقيت الفهرسة : 00:44:54
- نسخة مدققة إملائيًّا