شرح حديث أم الفضل ( 47 ) : ( لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك ، وإن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ من إساءتك خيرٌ لك ، لا تتمنَّ الموت ) .
A-
A=
A+
الشيخ : حديثا اليوم يبدأ بالحديث ( 47 ) من نسختي ، وهو حديث صحيح ، وهو قوله : وعن أمِّ الفضل - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل على العبَّاس وهو يشتكي ، فتمنَّى الموت ، فقال : يا عباس ، عمَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك ، وإن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ من إساءتك خيرٌ لك ، لا تتمنَّ الموت ) . رواه أحمد والحاكم واللفظ له وهو أتم ، وقال : صحيح على شرطهما .
هذا الحديث من جملة تلك الأحاديث التي سبق بعضها في الدرس السابق ، وفيها حضُّ المسلم على أن لا يتمنَّى الموت لمصيبةٍ أو ضررٍ ألمَّ به ، وإنما يتمنَّى من الله - عز وجل - أن يحيا حياة طيِّبة مباركة لِمَا سبق من أحاديث كثيرة ، ومن أجمَعِها قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( خيرُكم مَن طال عمره وحَسُنَ عمله ) ، فإذا طال عمر الإنسان وهو مسلم ويعمل عملًا صالحًا فمن الخسارة له أن يتمنَّى من الله - عز وجل - أن يُميته عاجلًا ؛ لذلك لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من عمِّه العباس وهو في حالة مرضٍ مؤلمٍ شديدٍ فيما يبدو حَمَلَه على أن فقد صبره وتمنَّى الموت من ربِّه - تبارك وتعالى - ، فوعظه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : ( يا عباس عمَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تتمنَّ الموت ) ، فإن تمنِّيك الموت يكون في حالة من حالتين ؛ إما أن تكون محسنًا فتنقضي حسناتك بانقضاء حياتك ، فيكون تمنِّيك للموت ليس من صالحك ، لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك ، وهذا واضح ، وعلى العكس من ذلك ؛ إن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ ؛ أي : تطلب العُتْبى ، والعُتْبى من الله - عز وجل - بأن تتوب إليه وتدارك ما فاتك من العمل الصالح فهو خير لك - أيضًا - ، أن تُؤخَّر تستعتب من إساءتك ، تتوب منها إلى الله وترجع إليه وتطلب منه الرِّضا خير لك . فإذًا أن يعيش المسلم حياة طويلة لا يستعجل الأمر ولا يطلب الموت حتى ولو كان مسيئًا في عمله ؛ لأنه يجد فرصةً يستدرك في الحياة الباقية له ما فاته من التوبة النَّصوح العاجلة .
( لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خيرٌ لك ، وإن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ من إساءتك خير لك ، لا تتمنَّ الموت ) .
والحديث الثاني - وهو في المعنى كالأول مع فوائد أخرى - : حيث قال - وهو حديث ( 49 ) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ؛ إما محسنًا فلعله يزداد ، وإما مسيئًا فلعله يستعتب ) . جاء هذا الحديث كما قال رواه البخاري واللفظ له ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتِيَه ، وإنه إذا مات انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا ) .
اللفظ الأول الذي هو للإمام البخاري يلتقي تمامًا مع حديث أم الفضل - رضي الله عنها - .
وهنا ملاحظة من الناحية العربية : في الحديث الأول : ( لا تتمنَّ الموت ) نهي مباشر موجَّه إلى عمِّه العباس ، أما هنا في الحديث الثاني فيقول : ( لا يتمنَّى ) فهو نفي بمعنى النهي ، واللفظ مُختلف ، ( لا يتمنى ) ( ولا يتمنَّ ) ، اللفظ يختلف بين أن يكون نهيًا وبين أن يكون نفيًا ، فيكون النفي بمعنى النهي ، هذه رواية البخاري : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ؛ إما محسنًا فلعله يزداد ، وإما مسيئًا فلعله يستعتب ) ، أما لفظ الإمام مسلم فهو يقول : ( لا يتمنَّى أحكم الموت ولا يدعو به ) ، ففي هنا في لفظ مسلم لفظة زائدة هي تنبيه إلى أمرٍ يقع فيه كثير من الناس ؛ لأن تمنِّي الموت هو دون أن يدعُوَ الإنسان على نفسه بالموت ، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هنا ينهى عن شيئين اثنين : عن التمنِّي للموت ، وعمَّا هو أكثر من ذلك ؛ وهو أن يدعُوَ الإنسان على نفسه بالهلاك ، ولا شك أنه يدخل في هذا النهي لا يدعو على نفسه بالموت أن يدعو - أيضًا - بالموت على مَن يحبُّه من ولده وزوجه وأهله ، ولا يجوز - أيضًا - للمسلم أن يدعو ليس فقط على نفسه بالموت ؛ بل على مَن يرضاه - أيضًا - له صاحبًا أو زوجًا أو ولدًا ؛ لأنَّ من مبادئ الإسلام قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يؤمن أحدكم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) . فما نهاك عنه ربُّك أو نبيُّك فيجب - أيضًا - ألَّا ترضى به لغيرك ممَّن يشاركك في إيمانك ؛ لا سيَّما إذا كان بينك وبينه مودَّة أو صلة رحم .
( لا يتمنَّى أحدكم الموت ولا يدعو به ) ، فينبغي أن نلاحظ أن هناك عادة خاصَّة من بعض النساء لهنَّ عبارة كأنها معتادة بينهنَّ ؛ تدعو على نفسها بالموت لأتفَهِ الأسباب ؛ فذلك مما لا ينبغي للمسلم أن يعوِّد لسانه على ذلك ، بل عليه أن يهذِّبه وأن يبتعد عن كلِّ ما فيه مخالفة للشرع ولو كانت المخالفةُ مخالفةً لفظيَّة ، فقد يقول قائل : إنَّ هذا الذي يدعو على نفسه أو على غيره بالموت كلمة تُقال ، وهو لا يعني ما يقول ، لو افترضنا أنَّ الأمر كذلك فذلك لا يُنجيه عن الوقوع في مخالفته لنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : ( ولا يدعو به من قبل أن يأتِيَه ) .
هنا ملاحظة : حيث قال - عليه السلام - : ( لا يدعو به من قبل أن يأتيه ) ، فيه إشعار لشيءٍ قد لا يشعر بحقيقته بعض الناس ؛ أَلَا وهو أنَّ الإنسان قد يمرض مرض الموت ويشعر به ، يصير عنده حساسية خاصَّة ، وهناك حوادث كثيرة وكثيرة جدًّا بأن الرجل الذي يحضره مرض الموت يشعر بأنه مرض الموت ؛ لذلك قال - عليه السلام - : ( فلا يدعو به من قبل أن يأتيه ) ، أما إذا جاءه وعلم ذلك فخيرٌ له أن يستريح مما يحيط بالموت من ضيقٍ أو من شدَّة والناس في ذلك يختلفون أشدَّ الاختلاف .
أريد أن أقول أنُّو ليس هذا من الاطلاع على الغيب ؛ لأن بعض إخواننا السلفيين الذين يريدون أن يتمسَّكوا بنصوص الكتاب والسنة تمسُّكًا تامًّا ، ومن أجل ذلك يحاربون كلَّ ما خالف الكتاب والسنة مما يُزعم أنه كرامة أو أنه كشف أو ما شابه ذلك ؛ فينبغي أن يعلم هؤلاء جميعًا أن هناك أمورًا خاصَّة لا ينبغي المبادرة إلى إنكارها ؛ لأنها لا تكون من باب الاطِّلاع على الغيب حيث لا يعلم الغيب إلا الله ، وإنما هو من باب التظنُّن من باب الإلهام ، وباب الإلهام لم يُغلق ولن يغلق إلى أن تقوم الساعة ؛ لأجل ذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في " صحيح البخاري " أنه قال : ( لقد كان فيمن قبلكم مُحدَّثون ، فإن يكُنْ في أمتي أحد فعمر ) ، محدَّثون أي : مُلهمون ، وليس هناك فرقٌ بين الإلهام وبين الوحي سوى أنَّ الوحي معصوم عن الخطأ ، أما الإلهام فليس معصومًا عن الخطأ ، فقد يُلهم الإنسان شيئًا ما ثم يتبيَّن له أنه كان في ... واهمًا ، والواقع والحادث يؤكد ... أو يحقِّقه ، هذا من جهة ، الفرق بين الوحي وبين الإلهام من ناحيتين ؛ الناحية الأولى أنَّ الوحي خاصٌّ بالأنبياء والرسل ؛ وهو فهم معصومون عن الخطأ ، أما الإلهام فهو يتعلَّق - أيضًا - بالصالحين من المؤمنين يتميَّز عن الوحي أنه قد يقع فيه خطأ ... .
وفارقٌ آخر هو أن الذي يُوحى إليه من الأنبياء والرسل حينما يتحدَّث بالوحي يتحدَّث به جازمًا يقينًا ؛ لأنَّ الشيطان لا يقرب مثل هذا الإنسان المُصطفى من الله - تبارك وتعالى - ، أما الذي يُلهم فليس عنده مثل هذا اليقين ، قد يغلب على ظنِّه أنه كما أُلهِمَ ، ولكن ليس عنده تلك العصمة التي أُعطِيَها الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - ، فإذا ما حلَّ مرض الموت بإنسانٍ ما فهنا تمنِّي الموت لا بأس به ، بل هناك حالة أخرى تُستثنى من هذا النهي الذي في هذه الأحاديث : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ) ، تلك الحالة هي إذا كثرت الفتن كما جاء في حديث معاذ بن جبل الطويل قال في آخره : ( وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبِضْني إليك غير مفتون ) ، فههنا يجوز - أيضًا - هذا الدعاء للخلاص من شرِّ الفتن ، ويُلاحظ إذًا أنَّ النهي عن تمنِّي الموت هو لِمَا نزل به من ضنكٍ من فقرٍ من مرضٍ من نحو ذلك مما ليس فيه فتنة في دينه في عقيدته ، وإنما فيه تعريض له لشيء من المتاعب والمصاعب ، فهنا ينبغي على المسلم أن يتلقَّى ذلك بالصبر وبالصبر الجميل حتى يُثاب من الله - تبارك وتعالى - ، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة : ( ما من مسلمٍ يُصاب بمصيبةٍ شوكة فما فوقها إلَّا كتب الله له بها حسنة ، وحطَّ عنه بها سيِّئة ، ورفع له بها درجة ) .
فإذًا هذا الإنسان لا يحسن به أن يدعُوَ على نفسه بالهلاك ، بل عليه أن يصبر ؛ فقد يكون مُحسِنًا فيزداد إحسانًا كما سمعتم ، وقد يكون مُسيئًا فأمامه فرصة ليعود إلى الله - عز وجل - ويسترضيه بأن يتوبَ إليه ويستغفره .
قال في رواية مسلم : ( لا يتمنَّى أحكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه ) جملة تعليلية ، ( وإنه إذا مات انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا ) ؛ إذًا هذه الجملة تعلِّل سبب نهي الرسول - عليه السلام - أمَّته أن يدعوا على أنفسهم بالموت أو أن يتمنَّوه .
والحديث الأخير في هذا الباب وهو صحيح - أيضًا - قال : وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت لضرٍّ نزل به ، فإن كان ولا بد فاعلًا فليقل : اللهم أحيِني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
في حديث أنس هذا هذه الفائدة هذه الزيادة ، وفيها فائدة جديدة لم تُذكر في الأحاديث السابقة ؛ ألا وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن كان ولا بدَّ فاعلًا ) ؛ يعني وصل به الضَّجر والملل من الحياة لسببٍ ما أو أكثر من سبب إلى أنه يتمنَّى الموت .
إذًا فليعدِّل موقفه في التمني ، وليقل : ( اللهم أحيِني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) ، وفي هذا خضوع الإنسان المسلم ورضاه لقضاء الله وقدره له ، فهو لا يدري ما قُدِّر له من خيرٍ أو شرٍّ ، لا يدري في ما إذا عُجِّلت وفاته أَذَلِكَ خيرٌ له أم إذا أخِّرت وفاته ، فهو يرجع إلى الله - عز وجل - العليم بكلِّ شيء وبخواتم الأمور ، فيُخاطب ربَّه - عز وجل - متضرِّعًا إليه بقوله : ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) .
فنحن نختم درسنا من هذا الكتاب بنفس هذا الدعاء الذي ختم المؤلف هذه الأصول ، فنقول نظرًا لأنَّنا نعيش في زمن فتنة ، بل وفتن عمَّت وطمَّت ، فنقول : اللهم أحيِنا ما كانت الحياة خيرًا لنا ، وتوفَّنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا .
وموعدنا - إن شاء الله - في الدرس الآتي الترغيب في الخوف وفضله ، والحمد لله رب العالمين .
هذا الحديث من جملة تلك الأحاديث التي سبق بعضها في الدرس السابق ، وفيها حضُّ المسلم على أن لا يتمنَّى الموت لمصيبةٍ أو ضررٍ ألمَّ به ، وإنما يتمنَّى من الله - عز وجل - أن يحيا حياة طيِّبة مباركة لِمَا سبق من أحاديث كثيرة ، ومن أجمَعِها قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( خيرُكم مَن طال عمره وحَسُنَ عمله ) ، فإذا طال عمر الإنسان وهو مسلم ويعمل عملًا صالحًا فمن الخسارة له أن يتمنَّى من الله - عز وجل - أن يُميته عاجلًا ؛ لذلك لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من عمِّه العباس وهو في حالة مرضٍ مؤلمٍ شديدٍ فيما يبدو حَمَلَه على أن فقد صبره وتمنَّى الموت من ربِّه - تبارك وتعالى - ، فوعظه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : ( يا عباس عمَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تتمنَّ الموت ) ، فإن تمنِّيك الموت يكون في حالة من حالتين ؛ إما أن تكون محسنًا فتنقضي حسناتك بانقضاء حياتك ، فيكون تمنِّيك للموت ليس من صالحك ، لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك ، وهذا واضح ، وعلى العكس من ذلك ؛ إن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ ؛ أي : تطلب العُتْبى ، والعُتْبى من الله - عز وجل - بأن تتوب إليه وتدارك ما فاتك من العمل الصالح فهو خير لك - أيضًا - ، أن تُؤخَّر تستعتب من إساءتك ، تتوب منها إلى الله وترجع إليه وتطلب منه الرِّضا خير لك . فإذًا أن يعيش المسلم حياة طويلة لا يستعجل الأمر ولا يطلب الموت حتى ولو كان مسيئًا في عمله ؛ لأنه يجد فرصةً يستدرك في الحياة الباقية له ما فاته من التوبة النَّصوح العاجلة .
( لا تتمنَّ الموت ؛ إن كنت محسنًا تزداد إحسانًا إلى إحسانك خيرٌ لك ، وإن كنت مسيئًا فأن تُؤخَّر تستعتِبْ من إساءتك خير لك ، لا تتمنَّ الموت ) .
والحديث الثاني - وهو في المعنى كالأول مع فوائد أخرى - : حيث قال - وهو حديث ( 49 ) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ؛ إما محسنًا فلعله يزداد ، وإما مسيئًا فلعله يستعتب ) . جاء هذا الحديث كما قال رواه البخاري واللفظ له ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتِيَه ، وإنه إذا مات انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا ) .
اللفظ الأول الذي هو للإمام البخاري يلتقي تمامًا مع حديث أم الفضل - رضي الله عنها - .
وهنا ملاحظة من الناحية العربية : في الحديث الأول : ( لا تتمنَّ الموت ) نهي مباشر موجَّه إلى عمِّه العباس ، أما هنا في الحديث الثاني فيقول : ( لا يتمنَّى ) فهو نفي بمعنى النهي ، واللفظ مُختلف ، ( لا يتمنى ) ( ولا يتمنَّ ) ، اللفظ يختلف بين أن يكون نهيًا وبين أن يكون نفيًا ، فيكون النفي بمعنى النهي ، هذه رواية البخاري : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ؛ إما محسنًا فلعله يزداد ، وإما مسيئًا فلعله يستعتب ) ، أما لفظ الإمام مسلم فهو يقول : ( لا يتمنَّى أحكم الموت ولا يدعو به ) ، ففي هنا في لفظ مسلم لفظة زائدة هي تنبيه إلى أمرٍ يقع فيه كثير من الناس ؛ لأن تمنِّي الموت هو دون أن يدعُوَ الإنسان على نفسه بالموت ، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هنا ينهى عن شيئين اثنين : عن التمنِّي للموت ، وعمَّا هو أكثر من ذلك ؛ وهو أن يدعُوَ الإنسان على نفسه بالهلاك ، ولا شك أنه يدخل في هذا النهي لا يدعو على نفسه بالموت أن يدعو - أيضًا - بالموت على مَن يحبُّه من ولده وزوجه وأهله ، ولا يجوز - أيضًا - للمسلم أن يدعو ليس فقط على نفسه بالموت ؛ بل على مَن يرضاه - أيضًا - له صاحبًا أو زوجًا أو ولدًا ؛ لأنَّ من مبادئ الإسلام قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يؤمن أحدكم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) . فما نهاك عنه ربُّك أو نبيُّك فيجب - أيضًا - ألَّا ترضى به لغيرك ممَّن يشاركك في إيمانك ؛ لا سيَّما إذا كان بينك وبينه مودَّة أو صلة رحم .
( لا يتمنَّى أحدكم الموت ولا يدعو به ) ، فينبغي أن نلاحظ أن هناك عادة خاصَّة من بعض النساء لهنَّ عبارة كأنها معتادة بينهنَّ ؛ تدعو على نفسها بالموت لأتفَهِ الأسباب ؛ فذلك مما لا ينبغي للمسلم أن يعوِّد لسانه على ذلك ، بل عليه أن يهذِّبه وأن يبتعد عن كلِّ ما فيه مخالفة للشرع ولو كانت المخالفةُ مخالفةً لفظيَّة ، فقد يقول قائل : إنَّ هذا الذي يدعو على نفسه أو على غيره بالموت كلمة تُقال ، وهو لا يعني ما يقول ، لو افترضنا أنَّ الأمر كذلك فذلك لا يُنجيه عن الوقوع في مخالفته لنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : ( ولا يدعو به من قبل أن يأتِيَه ) .
هنا ملاحظة : حيث قال - عليه السلام - : ( لا يدعو به من قبل أن يأتيه ) ، فيه إشعار لشيءٍ قد لا يشعر بحقيقته بعض الناس ؛ أَلَا وهو أنَّ الإنسان قد يمرض مرض الموت ويشعر به ، يصير عنده حساسية خاصَّة ، وهناك حوادث كثيرة وكثيرة جدًّا بأن الرجل الذي يحضره مرض الموت يشعر بأنه مرض الموت ؛ لذلك قال - عليه السلام - : ( فلا يدعو به من قبل أن يأتيه ) ، أما إذا جاءه وعلم ذلك فخيرٌ له أن يستريح مما يحيط بالموت من ضيقٍ أو من شدَّة والناس في ذلك يختلفون أشدَّ الاختلاف .
أريد أن أقول أنُّو ليس هذا من الاطلاع على الغيب ؛ لأن بعض إخواننا السلفيين الذين يريدون أن يتمسَّكوا بنصوص الكتاب والسنة تمسُّكًا تامًّا ، ومن أجل ذلك يحاربون كلَّ ما خالف الكتاب والسنة مما يُزعم أنه كرامة أو أنه كشف أو ما شابه ذلك ؛ فينبغي أن يعلم هؤلاء جميعًا أن هناك أمورًا خاصَّة لا ينبغي المبادرة إلى إنكارها ؛ لأنها لا تكون من باب الاطِّلاع على الغيب حيث لا يعلم الغيب إلا الله ، وإنما هو من باب التظنُّن من باب الإلهام ، وباب الإلهام لم يُغلق ولن يغلق إلى أن تقوم الساعة ؛ لأجل ذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في " صحيح البخاري " أنه قال : ( لقد كان فيمن قبلكم مُحدَّثون ، فإن يكُنْ في أمتي أحد فعمر ) ، محدَّثون أي : مُلهمون ، وليس هناك فرقٌ بين الإلهام وبين الوحي سوى أنَّ الوحي معصوم عن الخطأ ، أما الإلهام فليس معصومًا عن الخطأ ، فقد يُلهم الإنسان شيئًا ما ثم يتبيَّن له أنه كان في ... واهمًا ، والواقع والحادث يؤكد ... أو يحقِّقه ، هذا من جهة ، الفرق بين الوحي وبين الإلهام من ناحيتين ؛ الناحية الأولى أنَّ الوحي خاصٌّ بالأنبياء والرسل ؛ وهو فهم معصومون عن الخطأ ، أما الإلهام فهو يتعلَّق - أيضًا - بالصالحين من المؤمنين يتميَّز عن الوحي أنه قد يقع فيه خطأ ... .
وفارقٌ آخر هو أن الذي يُوحى إليه من الأنبياء والرسل حينما يتحدَّث بالوحي يتحدَّث به جازمًا يقينًا ؛ لأنَّ الشيطان لا يقرب مثل هذا الإنسان المُصطفى من الله - تبارك وتعالى - ، أما الذي يُلهم فليس عنده مثل هذا اليقين ، قد يغلب على ظنِّه أنه كما أُلهِمَ ، ولكن ليس عنده تلك العصمة التي أُعطِيَها الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - ، فإذا ما حلَّ مرض الموت بإنسانٍ ما فهنا تمنِّي الموت لا بأس به ، بل هناك حالة أخرى تُستثنى من هذا النهي الذي في هذه الأحاديث : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت ) ، تلك الحالة هي إذا كثرت الفتن كما جاء في حديث معاذ بن جبل الطويل قال في آخره : ( وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبِضْني إليك غير مفتون ) ، فههنا يجوز - أيضًا - هذا الدعاء للخلاص من شرِّ الفتن ، ويُلاحظ إذًا أنَّ النهي عن تمنِّي الموت هو لِمَا نزل به من ضنكٍ من فقرٍ من مرضٍ من نحو ذلك مما ليس فيه فتنة في دينه في عقيدته ، وإنما فيه تعريض له لشيء من المتاعب والمصاعب ، فهنا ينبغي على المسلم أن يتلقَّى ذلك بالصبر وبالصبر الجميل حتى يُثاب من الله - تبارك وتعالى - ، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة : ( ما من مسلمٍ يُصاب بمصيبةٍ شوكة فما فوقها إلَّا كتب الله له بها حسنة ، وحطَّ عنه بها سيِّئة ، ورفع له بها درجة ) .
فإذًا هذا الإنسان لا يحسن به أن يدعُوَ على نفسه بالهلاك ، بل عليه أن يصبر ؛ فقد يكون مُحسِنًا فيزداد إحسانًا كما سمعتم ، وقد يكون مُسيئًا فأمامه فرصة ليعود إلى الله - عز وجل - ويسترضيه بأن يتوبَ إليه ويستغفره .
قال في رواية مسلم : ( لا يتمنَّى أحكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه ) جملة تعليلية ، ( وإنه إذا مات انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا ) ؛ إذًا هذه الجملة تعلِّل سبب نهي الرسول - عليه السلام - أمَّته أن يدعوا على أنفسهم بالموت أو أن يتمنَّوه .
والحديث الأخير في هذا الباب وهو صحيح - أيضًا - قال : وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا يتمنَّى أحدكم الموت لضرٍّ نزل به ، فإن كان ولا بد فاعلًا فليقل : اللهم أحيِني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
في حديث أنس هذا هذه الفائدة هذه الزيادة ، وفيها فائدة جديدة لم تُذكر في الأحاديث السابقة ؛ ألا وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن كان ولا بدَّ فاعلًا ) ؛ يعني وصل به الضَّجر والملل من الحياة لسببٍ ما أو أكثر من سبب إلى أنه يتمنَّى الموت .
إذًا فليعدِّل موقفه في التمني ، وليقل : ( اللهم أحيِني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) ، وفي هذا خضوع الإنسان المسلم ورضاه لقضاء الله وقدره له ، فهو لا يدري ما قُدِّر له من خيرٍ أو شرٍّ ، لا يدري في ما إذا عُجِّلت وفاته أَذَلِكَ خيرٌ له أم إذا أخِّرت وفاته ، فهو يرجع إلى الله - عز وجل - العليم بكلِّ شيء وبخواتم الأمور ، فيُخاطب ربَّه - عز وجل - متضرِّعًا إليه بقوله : ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) .
فنحن نختم درسنا من هذا الكتاب بنفس هذا الدعاء الذي ختم المؤلف هذه الأصول ، فنقول نظرًا لأنَّنا نعيش في زمن فتنة ، بل وفتن عمَّت وطمَّت ، فنقول : اللهم أحيِنا ما كانت الحياة خيرًا لنا ، وتوفَّنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا .
وموعدنا - إن شاء الله - في الدرس الآتي الترغيب في الخوف وفضله ، والحمد لله رب العالمين .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 27
- توقيت الفهرسة : 00:19:45
- نسخة مدققة إملائيًّا