هناك مَن يرى أن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالعبادات ملزمة للمسلم أن يعتقد بها ؛ في حين أنهم لا يرون ذلك بالنسبة للأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا ؛ كحديث تأبير النخل ، وتمركز جيش المسلمين في غزوة بدر عند الماء ؟
A-
A=
A+
عيد عباسي : سؤال ثاني : هناك مَن يرى في الأيام الحاضرة أن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالعبادات ملزمة للمسلم أن يعتقد بها ؛ في حين أنهم لا يرون ذلك بالنسبة للأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا ، ويرون أن العقل البشري يمكن له أن يحكم عليها بالصحة والبطلان تبعًا لتطوُّر الفكر ومكتشفات العلم ، ويؤيدون ما يذهبون إليه بأحاديث في تأبير النخل ، وأحاديث في تمركز جيش المسلمين في غزوة بدر عند الماء ، كما أنهم يقولون في الصحابة : " إنهم رجال ونحن رجال " ، وإنهم خاضعون للنصر والظفر بسلوكهم وأقوالهم شأن أيٍّ من الرجال ، فالرجاء بيان الرأي في ذلك مع الشكر ؟
الشيخ : هذا السؤال كما لاحظتوا يتضمَّن ... سؤالين ؛ أوَّلهما يتعلق بالرسول - عليه السلام - وأقواله ، والتَّفريق المزعوم بين ما له علاقة بالدين والعبادة وما له علاقة بغير ذلك ، والسؤال الثاني الذي يتعلق بالصحابة ، ولستُ أدري ما أراد السَّائل من الربط بين السؤال الأول والآخَر إلا أن يكون يعني حكاية عن أولئك الناس أن هذه الأحاديث التي ترد عن الرسول - عليه السلام - مرفوعةً إليه ، إنما وفيها إشكال أو فيها مخالفة للعلم زعموا كحديث الذبابة - مثلًا - : ( إذا وقعَ الذباب في إناء أحدكم فليغمِسْه ) إلى آخره ، فلعل السَّائل يعني بالسؤال الثاني أنَّ مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها في سؤاله الأول ، والتي ليست من أمور الدين في شيء في زعمهم ؛ إنما رواها هؤلاء الصحابة ، وهؤلاء الصحابة إنما ها هم بشر مثلنا ، فيجوز عليهم الخطأ ؛ فكأنُّو إذًا قصد السَّائل فيما يشرحه عن أولئك الناس في هذا الزمان أنهم يقولون : ما جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما له علاقة بالدين والعبادة المحضة فنحن له خاضعون وله مستسلمون ، أما ما جاءنا عنهم من غير ذلك ممَّا له علاقة بالكون والفلك والبحار والجبال ونحو ذلك من أمور الطبيعة فنحن لسنا مُكلَّفين ولا متعبَّدين بالخضوع لها والاستسلام لها لِأمرين اثنين :
الأمر الأول : أننا إذا سلَّمنا صحة هذه الأحاديث صحة نسبتها إلى الرسول - عليه السلام - فالرسول بشر ، ويجري عليه ما يجري على البشر إلا فيما يتعلق بالدين ، وهذه الأمور في زعمهم ليس لها علاقة بالدين ، فإذا جاءت مخالفةً لِمَا ثَبَتَ في العلم والعلم التجربي ؛ فحينئذٍ نحكم بأن ذلك من أخطاء الرسول - عليه السلام - في الأمور الدنيوية ، ومثال ذلك ما جاء في السؤال حديث تأبير النخل ، أو يقولون أنَّ الذي روى الحديث ونسبه إلى الرسول - عليه السلام - هو الصحابي أو مَن دونه ؛ فهو ليس بمعصوم ، فقد يكون قد أخطأ ، فدَلَّنا على كون هذا الحديث خطأً العلمُ والعلم التجربي زعموا ، نحن نقول : لا شك ، ولا نحابي نحن في دين الله أحدًا ، ولا نمشي في ما يتعلق بالرسول - عليه السلام - بعواطفنا ، وإنما بعقولنا وعلمنا المستقى من كتاب الله ومن حديث رسول الله ، نحن نقول : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس معصومًا في كلِّ شيء ، لكنه معصوم في كلِّ شيء أن يُقَرَّ على شيء من هذه الأشياء وهو مخطئ في ذلك ؛ فهنا شيئان يجب التمييز بينَهما ، الشيء الأول : أن الرسول - عليه السلام - قد يخطئ ، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من الأدلة على ذلك ؛ لأن القرآن يقول : (( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ )) ، ما الذي لا يفهم من هذا أنه كان الأولى أن لا يأذن لهم ؟ ... هذا خطأ ، كذلك (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى )) إلى آخره ، أشياء وأشياء كثيرة جدًّا .
أخيرًا : يأتي حديث تأبير النخل ، قال لهم : لو تركتم النخل بدون تأبير - يعني بدون تطعيم كانوا يعرفونه بالتجربة - لَكان خَرَجَ خيرًا ممَّا تفعلونه ، وشاء الله - عز وجل - أن يطبِّق في هذه الحادثة بعينها سنَّته - عز وجل - في النخل ، فجاء النخل شيصًا ؛ يعني عبارة عن بذرة وقشرة ما فيها لب ؛ ناشف يعني ، فجاؤوا إليه يقولون : كذا وكذا ... كذا . قال : ( إنما أنا بشر ؛ فإذا أمَرْتُكم بشيء من أمر الله - عز وجل - فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم ؛ فأنتم أعلم بأمور دنياكم ) انتهى الحديث .
فنحن نلاحظ أن قضية تأبير النخل قضية مهنية دنيوية محضة لا ضيرَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عيب ولا نقص ألَّا يكون مؤبِّرًا ، ألَّا يكون مزارعًا ، ألَّا يكون حدَّادًا نجَّارًا و و إلى آخره ؛ ليه ؟ لأن هذه أمور دنيوية ، لكن فيما يتعلَّق بالدين والدين ليس فقط عبادات كما يزعم هؤلاء الذين يحكي عنهم السَّائل ؛ الدين فيه أمور تتعلَّق بالعبادات ، وفيه أمور تتعلَّق بالمغيَّبات ، وفيه أمور تتعلَّق بالنُّظُم يسمُّونها اليوم في الاصطلاح الجديد بالاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية وإلى غير ذلك ممَّا هو معلوم فالإسلام جاء كاملًا ، جاء شاملًا لكلِّ ما يحتاجه البشر من نُظُم : فـ (( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ؛ ولذلك فإذا جاء حديث ما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقولون : إنه مِن أمور الدنيا وليس من أمور الدين ، مثاله - مثلًا - حديث الذبابة الذي ذكرناه آنفًا ، ومثال ذلك - مثلًا - : ( الحبة السوداء شفاء من كلِّ داء إلا السَّام ) - إلا الموت - ، وهذا منه شيء كثير وكثير جدًّا .
بعد أن يصحَّ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك لا يجوز أن نجعل هذا نوع من أمور الدنيا التي لنا الخِيَرة فيها ، لنا أن نأخذ بها وأن لا نأخذ ، أن نصوِّبها أو نخطِّئها ؛ لا ، والسبب في ذلك من ناحيتين ؛ الناحية الأولى ما ذكرتُه آنفًا ؛ أن الرسول - عليه السلام - إن أخطأ - وقليلًا ما يخطئ - فلا يُقَرُّ على خطئه ، فإذا جاء الحديث وقد تلقَّاه الصحابة وتلقَّاه مَن بعدهم وهكذا جيل عن جيل حتى وَصَلَتْنا هذه الأحاديث على أنها حقٌّ وصدقٌ من حيث الرواية ، ومن حيث أن الرسول - عليه السلام - تكلَّم بها وأقَرَّه الله - تبارك وتعالى - عليها ، فلا يمكن - والحالة هذه - أن نقول : أن هذه من أمور الدنيا ، هذا من ناحية ... .
أنا أقول : عجبًا من هؤلاء الناس ، لو أن إنسانًا عاديًّا ليس له من خُلُقِه ومن كماله ما هو جزء من مليون جزء من كلام الرسول - عليه السلام - ، لو قال : ( إذا وَقَعَ الذباب في إناء أحدكم فَلْيغمِسْه ثم ليُخرِجْه ؛ فإن في أحد جناحَيه داء وفي الآخر دواء ) . ماذا نقول عن هذا الإنسان ؟ نقول كما قيل في بعض القضايا أو في بعض العلماء لمَّا قيل لبعض الظُّرفاء الأدباء : فلان كذا وكذا في العلم وفي حفظه للحديث ، فذهب فزارَه ، فلما خرج من عنده سألوه : كيف رأيته ؟ قال : هو إما أنه أحفظ الناس أو أكذب الناس ، هو أحفظ الناس أو أكذب الناس ؛ ليه ؟ لأنُّو عم يحفظ فعلًا أشياء هذا الرجل الذي زارَه يكاد يكون قرنًا له من حيث الحفظ والراوية ، ولكن سَمَّعه أشياء ما سمع هذا الداخل عليه والزائر له في حياته كلها ؛ إذًا هو إما أنه من أحفظ الناس أو أكذب الناس .
كذلك أنا أقول : إذا إنسان عادي تحدَّث بهذا الأمر الغريب قال : في هذه الحشرة الصغيرة في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ؛ ماذا نقول عنه ؟ إما أنه دجَّال وإما أنه أُوتِيَ من العلم ما لم يُؤتَ الناس ، لا مناص من أحد شيئين ؛ أما أن يقال ممكن هذا يكون هذا باجتهاد من عنده ، وهو - مثلًا - ما تعاطى أيَّ علم لا طب لا جراحة لا تشريح ولا ولا أي شيء ؛ مع ذلك يُقال : قالوا : هذا برأيه ؟ لا ، هذا صنيع الدجالين ؛ لذلك أنا أقول : هؤلاء الناس بسطاء في العقول ؛ إنهم ينسبون للرسول - عليه السلام - إلى أنه يتحدَّث عن أمور غيبية ودقيقة ودقيقة جدًّا ؛ حتى العلم هذا الذي يفخرون به اليوم لم يدندن حول هذه الحقيقة بعد ولا استطاع ، على الرغم من أن بعض المتحمِّسين يقولوا أنُّو ثبت حديث الذباب علميًّا ؛ نقول نحن ثبت شيء منه ، لكن التفصيل الذي تضمَّنه الحديث لسا بعد ما تحدَّث عنه هذا العلم التجربي التشريحي هذا ، ولعله يمكن أن يصلوا يومًا ما ؛ ذلك لأن العلم اليوم يقول : إن الذبابة تحمل في جناحيها وفي بدنها - أيضًا - نوع من الجراثيم ، أظن أنهم يسمُّونها بالبكتيريا ، وهذه الجراثيم تفتك وتقتل الجراثيم الضارَّة ، هذا كل ما قاله الطب ، وهذا فعلًا لم يكن معلومًا من قبل ، لكن الحديث يأتي بتفصيل دقيق ؛ يقول : الجرثوم القاتل في أحد جناحيه ، والجرثوم القاتل للجرثوم القاتل في الجناح الآخر ، هذا الطِّبُّ لا يعرفه أبدًا ؛ مصداقًا لقوله - تعالى - : (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )) ؛ إذًا كيف نقول : إن الرسول - عليه السلام - هذا قاله برأيٍ من عنده ؟! هذا لو قلناه أنا لو قاله إنسان عنِّي أنا ؛ أقول عم يطعن فيَّ ؛ ليش ؟ عم ينسبني أنَّني أقول رجمًا بالغيب !! حاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلَّم بمثل هذا الكلام .
إذًا ما دام صحَّ الحديث فوجب الإيمان به ووجبَ إدخاله في زمرة الدين ، والدين ليس فقط عبادة وصلاة وحج ، وإنما كل شيء جاء عن الله ورسوله ، ورسوله قد أُقِرَّ على ما قاله ولو باجتهادٍ من عند نفسه فهو دين ، كذلك - مثلًا - الحديث الآخر والأحاديث في هذا كثيرة وكثيرة جدًّا : ( الحبَّة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت ) . هل يقول هذا إنسان اجتهادًا من عند نفسه ؟ ما يقول هذا إلا الدَّجَّالون الذي يريدون أن يُسيطروا على عقول الناس وأن يبتزُّوا منهم أموالهم بالباطل ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عن ذلك ؛ فهو إذًا يقول ما رأى ، يقول ما سمع من الله - تبارك وتعالى - ؛ لذلك فالأحاديث التي تصحُّ عن الرسول - عليه السلام - وقد جاءت مقرَّرة ولم تُنسخ ولو بخبر أن يقول : هذا كان رأي من عندي ، كما سمعتم في تأبير النخل ؛ فحكمها حكم الصلاة والزكاة وكل من الأحاديث التي لها علاقة بشريعة الله - تبارك وتعالى - .
وهذه الأحاديث رَوَاها أولئك الصحابة أولئك التابعون أولئك الآخَرون الذين جاؤوا من بعدهم الذين رَوَوا لنا القسم الأول من الدين الذي يريد هؤلاء الناس أن يجعلوه هو الدين كله ، فنحن نقول لهؤلاء المُحدَثين المبتدعين في الدين كما قال سلفنا الأول للمبتدعين السابقين حينما جاؤوا ببدعة التفريق بين الحديث له علاقة بالأحكام ، فكان الراوي ثقة يُحتَجُّ بهذا الحديث ، وبين هذا الحديث أو مثل هذا الحديث يأتي ليس له علاقة بالأحكام ، وإنما له علاقة بالعقيدة له علاقة بالغيب ؛ قالوا هؤلاء المبتدعة القدامى : لا نأخذ هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر ، فرَدَّ عليهم علماء السنة سلفنا الصالح فقالوا : الذين رَوَوا لنا أحاديث العبادات هم الذين رَوَوا لنا أحاديث العقائد ؛ فلماذا نقول هذا الثقة في هذا الحديث ثقة ، وفي ذاك الحديث ليس بثقة وهو هو ؟ بل قد يكون ثقتان هناك ، كلٌّ منهما ، كلاهما ليس كلٌّ منهما ؛ كلاهما رَوَيا حديثًا في العبادات ، فيُحتج به ، ورَوَيَا حديثًا آخر في غير العبادات في العقائد وفي الغيبيات فلا يُحتج به ؛ هذا التفريق كان قديمًا ثم قضى عليه علماء السلف بجهودهم العلمية ، ثم ذرَّت قرنَها هذه البدعة في العصر الحاضر بطريقة أخرى بطريقة علمية زعموا ، هناك كانوا يقولون : إن العقل لا يقبل الحديث في العقائد إلا ما يكون متواتر ، وهنا يقولون - أيضًا - : العقل لا يقبل حديث جاء في أمور يتعلَّق بالعلوم الطبية أو التجربية أو نحو ذلك ، والعلم ما حقَّقَها بعد ؛ نحن نقول : أأنتم أعلم أم الله - تبارك وتعالى - ؟! والله - عز وجل - قد أوحى إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - ما أوحى من أمورٍ فيها تكليف لنا من الناحية العملية من جهة ، وتكليف لنا من الناحية الفكرية والاعتقادية من جهة أخرى ؛ ليبلونا أنؤمن أم نكفر .
نحن نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المؤمنين بكلِّ ما صح عن نبيِّنا - عليه الصلاة والسلام - من رواية الرواة الثقات . وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : كان جاء في آخر السؤال ذُكِر كمثال مع حديث تأبير النخل حديث المنزل .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : إي نعم .
هذا منزل أنزَلَكَه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : ( لا ، إنما هو الحرب والرأي والمكيدة ) . قال : فأنا أرى أن تنزل في مكان كذا . هذه القصة على شهرتها في كتب السيرة فهي قصة غير ثابتة من الناحية الحديثية ، ولذلك فلا يصح اتِّخاذها مثالًا لذاك الانحراف على انحرافه ، وقد بيَّنت ضعف هذه القصة في كتابي الذي طُبع منذ عهد قريب بعنوان : " دفاع عن الحديث الشريف " .
الشيخ : هذا السؤال كما لاحظتوا يتضمَّن ... سؤالين ؛ أوَّلهما يتعلق بالرسول - عليه السلام - وأقواله ، والتَّفريق المزعوم بين ما له علاقة بالدين والعبادة وما له علاقة بغير ذلك ، والسؤال الثاني الذي يتعلق بالصحابة ، ولستُ أدري ما أراد السَّائل من الربط بين السؤال الأول والآخَر إلا أن يكون يعني حكاية عن أولئك الناس أن هذه الأحاديث التي ترد عن الرسول - عليه السلام - مرفوعةً إليه ، إنما وفيها إشكال أو فيها مخالفة للعلم زعموا كحديث الذبابة - مثلًا - : ( إذا وقعَ الذباب في إناء أحدكم فليغمِسْه ) إلى آخره ، فلعل السَّائل يعني بالسؤال الثاني أنَّ مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها في سؤاله الأول ، والتي ليست من أمور الدين في شيء في زعمهم ؛ إنما رواها هؤلاء الصحابة ، وهؤلاء الصحابة إنما ها هم بشر مثلنا ، فيجوز عليهم الخطأ ؛ فكأنُّو إذًا قصد السَّائل فيما يشرحه عن أولئك الناس في هذا الزمان أنهم يقولون : ما جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما له علاقة بالدين والعبادة المحضة فنحن له خاضعون وله مستسلمون ، أما ما جاءنا عنهم من غير ذلك ممَّا له علاقة بالكون والفلك والبحار والجبال ونحو ذلك من أمور الطبيعة فنحن لسنا مُكلَّفين ولا متعبَّدين بالخضوع لها والاستسلام لها لِأمرين اثنين :
الأمر الأول : أننا إذا سلَّمنا صحة هذه الأحاديث صحة نسبتها إلى الرسول - عليه السلام - فالرسول بشر ، ويجري عليه ما يجري على البشر إلا فيما يتعلق بالدين ، وهذه الأمور في زعمهم ليس لها علاقة بالدين ، فإذا جاءت مخالفةً لِمَا ثَبَتَ في العلم والعلم التجربي ؛ فحينئذٍ نحكم بأن ذلك من أخطاء الرسول - عليه السلام - في الأمور الدنيوية ، ومثال ذلك ما جاء في السؤال حديث تأبير النخل ، أو يقولون أنَّ الذي روى الحديث ونسبه إلى الرسول - عليه السلام - هو الصحابي أو مَن دونه ؛ فهو ليس بمعصوم ، فقد يكون قد أخطأ ، فدَلَّنا على كون هذا الحديث خطأً العلمُ والعلم التجربي زعموا ، نحن نقول : لا شك ، ولا نحابي نحن في دين الله أحدًا ، ولا نمشي في ما يتعلق بالرسول - عليه السلام - بعواطفنا ، وإنما بعقولنا وعلمنا المستقى من كتاب الله ومن حديث رسول الله ، نحن نقول : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس معصومًا في كلِّ شيء ، لكنه معصوم في كلِّ شيء أن يُقَرَّ على شيء من هذه الأشياء وهو مخطئ في ذلك ؛ فهنا شيئان يجب التمييز بينَهما ، الشيء الأول : أن الرسول - عليه السلام - قد يخطئ ، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من الأدلة على ذلك ؛ لأن القرآن يقول : (( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ )) ، ما الذي لا يفهم من هذا أنه كان الأولى أن لا يأذن لهم ؟ ... هذا خطأ ، كذلك (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى )) إلى آخره ، أشياء وأشياء كثيرة جدًّا .
أخيرًا : يأتي حديث تأبير النخل ، قال لهم : لو تركتم النخل بدون تأبير - يعني بدون تطعيم كانوا يعرفونه بالتجربة - لَكان خَرَجَ خيرًا ممَّا تفعلونه ، وشاء الله - عز وجل - أن يطبِّق في هذه الحادثة بعينها سنَّته - عز وجل - في النخل ، فجاء النخل شيصًا ؛ يعني عبارة عن بذرة وقشرة ما فيها لب ؛ ناشف يعني ، فجاؤوا إليه يقولون : كذا وكذا ... كذا . قال : ( إنما أنا بشر ؛ فإذا أمَرْتُكم بشيء من أمر الله - عز وجل - فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم ؛ فأنتم أعلم بأمور دنياكم ) انتهى الحديث .
فنحن نلاحظ أن قضية تأبير النخل قضية مهنية دنيوية محضة لا ضيرَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عيب ولا نقص ألَّا يكون مؤبِّرًا ، ألَّا يكون مزارعًا ، ألَّا يكون حدَّادًا نجَّارًا و و إلى آخره ؛ ليه ؟ لأن هذه أمور دنيوية ، لكن فيما يتعلَّق بالدين والدين ليس فقط عبادات كما يزعم هؤلاء الذين يحكي عنهم السَّائل ؛ الدين فيه أمور تتعلَّق بالعبادات ، وفيه أمور تتعلَّق بالمغيَّبات ، وفيه أمور تتعلَّق بالنُّظُم يسمُّونها اليوم في الاصطلاح الجديد بالاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية وإلى غير ذلك ممَّا هو معلوم فالإسلام جاء كاملًا ، جاء شاملًا لكلِّ ما يحتاجه البشر من نُظُم : فـ (( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ؛ ولذلك فإذا جاء حديث ما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقولون : إنه مِن أمور الدنيا وليس من أمور الدين ، مثاله - مثلًا - حديث الذبابة الذي ذكرناه آنفًا ، ومثال ذلك - مثلًا - : ( الحبة السوداء شفاء من كلِّ داء إلا السَّام ) - إلا الموت - ، وهذا منه شيء كثير وكثير جدًّا .
بعد أن يصحَّ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك لا يجوز أن نجعل هذا نوع من أمور الدنيا التي لنا الخِيَرة فيها ، لنا أن نأخذ بها وأن لا نأخذ ، أن نصوِّبها أو نخطِّئها ؛ لا ، والسبب في ذلك من ناحيتين ؛ الناحية الأولى ما ذكرتُه آنفًا ؛ أن الرسول - عليه السلام - إن أخطأ - وقليلًا ما يخطئ - فلا يُقَرُّ على خطئه ، فإذا جاء الحديث وقد تلقَّاه الصحابة وتلقَّاه مَن بعدهم وهكذا جيل عن جيل حتى وَصَلَتْنا هذه الأحاديث على أنها حقٌّ وصدقٌ من حيث الرواية ، ومن حيث أن الرسول - عليه السلام - تكلَّم بها وأقَرَّه الله - تبارك وتعالى - عليها ، فلا يمكن - والحالة هذه - أن نقول : أن هذه من أمور الدنيا ، هذا من ناحية ... .
أنا أقول : عجبًا من هؤلاء الناس ، لو أن إنسانًا عاديًّا ليس له من خُلُقِه ومن كماله ما هو جزء من مليون جزء من كلام الرسول - عليه السلام - ، لو قال : ( إذا وَقَعَ الذباب في إناء أحدكم فَلْيغمِسْه ثم ليُخرِجْه ؛ فإن في أحد جناحَيه داء وفي الآخر دواء ) . ماذا نقول عن هذا الإنسان ؟ نقول كما قيل في بعض القضايا أو في بعض العلماء لمَّا قيل لبعض الظُّرفاء الأدباء : فلان كذا وكذا في العلم وفي حفظه للحديث ، فذهب فزارَه ، فلما خرج من عنده سألوه : كيف رأيته ؟ قال : هو إما أنه أحفظ الناس أو أكذب الناس ، هو أحفظ الناس أو أكذب الناس ؛ ليه ؟ لأنُّو عم يحفظ فعلًا أشياء هذا الرجل الذي زارَه يكاد يكون قرنًا له من حيث الحفظ والراوية ، ولكن سَمَّعه أشياء ما سمع هذا الداخل عليه والزائر له في حياته كلها ؛ إذًا هو إما أنه من أحفظ الناس أو أكذب الناس .
كذلك أنا أقول : إذا إنسان عادي تحدَّث بهذا الأمر الغريب قال : في هذه الحشرة الصغيرة في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ؛ ماذا نقول عنه ؟ إما أنه دجَّال وإما أنه أُوتِيَ من العلم ما لم يُؤتَ الناس ، لا مناص من أحد شيئين ؛ أما أن يقال ممكن هذا يكون هذا باجتهاد من عنده ، وهو - مثلًا - ما تعاطى أيَّ علم لا طب لا جراحة لا تشريح ولا ولا أي شيء ؛ مع ذلك يُقال : قالوا : هذا برأيه ؟ لا ، هذا صنيع الدجالين ؛ لذلك أنا أقول : هؤلاء الناس بسطاء في العقول ؛ إنهم ينسبون للرسول - عليه السلام - إلى أنه يتحدَّث عن أمور غيبية ودقيقة ودقيقة جدًّا ؛ حتى العلم هذا الذي يفخرون به اليوم لم يدندن حول هذه الحقيقة بعد ولا استطاع ، على الرغم من أن بعض المتحمِّسين يقولوا أنُّو ثبت حديث الذباب علميًّا ؛ نقول نحن ثبت شيء منه ، لكن التفصيل الذي تضمَّنه الحديث لسا بعد ما تحدَّث عنه هذا العلم التجربي التشريحي هذا ، ولعله يمكن أن يصلوا يومًا ما ؛ ذلك لأن العلم اليوم يقول : إن الذبابة تحمل في جناحيها وفي بدنها - أيضًا - نوع من الجراثيم ، أظن أنهم يسمُّونها بالبكتيريا ، وهذه الجراثيم تفتك وتقتل الجراثيم الضارَّة ، هذا كل ما قاله الطب ، وهذا فعلًا لم يكن معلومًا من قبل ، لكن الحديث يأتي بتفصيل دقيق ؛ يقول : الجرثوم القاتل في أحد جناحيه ، والجرثوم القاتل للجرثوم القاتل في الجناح الآخر ، هذا الطِّبُّ لا يعرفه أبدًا ؛ مصداقًا لقوله - تعالى - : (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )) ؛ إذًا كيف نقول : إن الرسول - عليه السلام - هذا قاله برأيٍ من عنده ؟! هذا لو قلناه أنا لو قاله إنسان عنِّي أنا ؛ أقول عم يطعن فيَّ ؛ ليش ؟ عم ينسبني أنَّني أقول رجمًا بالغيب !! حاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلَّم بمثل هذا الكلام .
إذًا ما دام صحَّ الحديث فوجب الإيمان به ووجبَ إدخاله في زمرة الدين ، والدين ليس فقط عبادة وصلاة وحج ، وإنما كل شيء جاء عن الله ورسوله ، ورسوله قد أُقِرَّ على ما قاله ولو باجتهادٍ من عند نفسه فهو دين ، كذلك - مثلًا - الحديث الآخر والأحاديث في هذا كثيرة وكثيرة جدًّا : ( الحبَّة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت ) . هل يقول هذا إنسان اجتهادًا من عند نفسه ؟ ما يقول هذا إلا الدَّجَّالون الذي يريدون أن يُسيطروا على عقول الناس وأن يبتزُّوا منهم أموالهم بالباطل ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عن ذلك ؛ فهو إذًا يقول ما رأى ، يقول ما سمع من الله - تبارك وتعالى - ؛ لذلك فالأحاديث التي تصحُّ عن الرسول - عليه السلام - وقد جاءت مقرَّرة ولم تُنسخ ولو بخبر أن يقول : هذا كان رأي من عندي ، كما سمعتم في تأبير النخل ؛ فحكمها حكم الصلاة والزكاة وكل من الأحاديث التي لها علاقة بشريعة الله - تبارك وتعالى - .
وهذه الأحاديث رَوَاها أولئك الصحابة أولئك التابعون أولئك الآخَرون الذين جاؤوا من بعدهم الذين رَوَوا لنا القسم الأول من الدين الذي يريد هؤلاء الناس أن يجعلوه هو الدين كله ، فنحن نقول لهؤلاء المُحدَثين المبتدعين في الدين كما قال سلفنا الأول للمبتدعين السابقين حينما جاؤوا ببدعة التفريق بين الحديث له علاقة بالأحكام ، فكان الراوي ثقة يُحتَجُّ بهذا الحديث ، وبين هذا الحديث أو مثل هذا الحديث يأتي ليس له علاقة بالأحكام ، وإنما له علاقة بالعقيدة له علاقة بالغيب ؛ قالوا هؤلاء المبتدعة القدامى : لا نأخذ هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر ، فرَدَّ عليهم علماء السنة سلفنا الصالح فقالوا : الذين رَوَوا لنا أحاديث العبادات هم الذين رَوَوا لنا أحاديث العقائد ؛ فلماذا نقول هذا الثقة في هذا الحديث ثقة ، وفي ذاك الحديث ليس بثقة وهو هو ؟ بل قد يكون ثقتان هناك ، كلٌّ منهما ، كلاهما ليس كلٌّ منهما ؛ كلاهما رَوَيا حديثًا في العبادات ، فيُحتج به ، ورَوَيَا حديثًا آخر في غير العبادات في العقائد وفي الغيبيات فلا يُحتج به ؛ هذا التفريق كان قديمًا ثم قضى عليه علماء السلف بجهودهم العلمية ، ثم ذرَّت قرنَها هذه البدعة في العصر الحاضر بطريقة أخرى بطريقة علمية زعموا ، هناك كانوا يقولون : إن العقل لا يقبل الحديث في العقائد إلا ما يكون متواتر ، وهنا يقولون - أيضًا - : العقل لا يقبل حديث جاء في أمور يتعلَّق بالعلوم الطبية أو التجربية أو نحو ذلك ، والعلم ما حقَّقَها بعد ؛ نحن نقول : أأنتم أعلم أم الله - تبارك وتعالى - ؟! والله - عز وجل - قد أوحى إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - ما أوحى من أمورٍ فيها تكليف لنا من الناحية العملية من جهة ، وتكليف لنا من الناحية الفكرية والاعتقادية من جهة أخرى ؛ ليبلونا أنؤمن أم نكفر .
نحن نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المؤمنين بكلِّ ما صح عن نبيِّنا - عليه الصلاة والسلام - من رواية الرواة الثقات . وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : كان جاء في آخر السؤال ذُكِر كمثال مع حديث تأبير النخل حديث المنزل .
عيد عباسي : ... .
الشيخ : إي نعم .
هذا منزل أنزَلَكَه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : ( لا ، إنما هو الحرب والرأي والمكيدة ) . قال : فأنا أرى أن تنزل في مكان كذا . هذه القصة على شهرتها في كتب السيرة فهي قصة غير ثابتة من الناحية الحديثية ، ولذلك فلا يصح اتِّخاذها مثالًا لذاك الانحراف على انحرافه ، وقد بيَّنت ضعف هذه القصة في كتابي الذي طُبع منذ عهد قريب بعنوان : " دفاع عن الحديث الشريف " .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 219
- توقيت الفهرسة : 00:18:19
- نسخة مدققة إملائيًّا