كثر في السنوات الأخيرة اجتهاد الشباب في نقد الرجال وتصحيح الأحاديث وتضعيفها ، بل وصل الأمر إلى التَّعقيب على بعض العلماء المتقدِّمين والمتأخرين ، وذلك بتصحيح ما ضعَّفوه أو العكس ؛ فما هو تقييمكم لتلك الأعمال في نظركم سلبًا وإيجابًا ؟ وما هي توجيهاتكم في هذا الأمر ؟
A-
A=
A+
السائل : كثر في السنوات الأخيرة اجتهاد الشباب في نقد الرجال وتصحيح الأحاديث وتضعيفها ، بل وصل الأمر إلى التَّعقيب على بعض العلماء المتقدِّمين والمتأخرين ، وذلك بتصحيح ما ضعَّفوه أو العكس ، والسؤال هو : ما هو تقييم تلك الأعمال في نظركم سلبًا وإيجابًا ؟ وما هي توجيهاتكم في هذا الأمر ؟ سؤال بعده شبيه به : ما هي الشروط التي ينبغي توافرها في طالب العلم حتى يحق له الحكم على الأحاديث صحة وضعفًا ؟ وبعده سؤال آخر لكم يتعلق بنفس الموضوع : لماذا لا تكتفون بالأحاديث التي رواها الإمام مسلم في " صحيحه " بالحكم عليها بالصحة ؛ لأننا نراكم تارةً تحكمون بحسن بعضها وتارةً بضعف أخرى منها ؟
أعيد عليكم ؟
الشيخ : لأ ، صار هنا عدَّة أسئلة لو أنَّك أجَّلت بعضها .
نحن ننصح على كل حال الناشئين من إخواننا الطلاب في هذا العلم أن يتريَّثوا وألَّا يستعجلوا ؛ لأن هذا العلم كما أنا لمسته لمس اليد يحتاج إلى أمور عديدة جدًّا ، من أهمها أن يجمع بين فقه أصول الحديث وأن يفهمها جيدًا ، وأن يتمرَّن عليها دهرًا طويلًا ، وألَّا يبادر من أجل ذلك إلى أن يؤلِّف لغيره وإنما يؤلِّف لنفسه ؛ حتَّى يشعر بأنه صار أهلًا لأن يصحِّح وأن يضعِّف كما فعل الأئمة المتقدِّمون .
قلت : نحن نعرف هذا من أنفسنا ، ونعرف ذلك من غيرنا ؛ فالحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - الذي سُمِّي بحقٍّ بأمير المؤمنين في الحديث ، له كتب كثيرة وكثيرة جدًّا ، هو يقول ويشهد بنفسه على نفسه وكفى به شهيدًا ؛ لأنه لا يرضى عن شيء من كتبه إلا " فتح الباري " ، " فتح الباري " ظلَّ يعمل فيه نحو عشرين سنة ؛ ولذلك حصل على رضاه على هذا الكتاب ، أما الكتب الأخرى الظاهر أنها كانت مما ألَّفها في إبَّان طلبه للعلم ، تمامًا كما يفعل الطلاب الناشئون اليوم .
أنا أعرف من نفسي من أول ما ألَّفت هو الكتاب الذي أعزو إليه في كثير من مؤلفاتي الأخيرة ، وهو الذي ترون أو تسمعون اسمه " الروض النضير " ، وتمام اسمه : " في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير " ، وهو عندي مجلدان ضخمان ، كان - وهذا ما طلب مني الكثير من إخواننا - كان عليَّ أن أبادر لطبع هذا الكتاب لسببين اثنين : أوَّلًا : أن " معجم الطبراني الصغير " لم يكن مطبوعًا إلا الطبعة الهندية القديمة ، وتعرفون طبعات الهند مع أنهم سبَّاقون لنشر كتب الحديث ، لكن كانت الطبعات عندهم متأخِّرة ، فكان عليَّ أن أنشر هذا الكتاب " معجم الطبراني الصغير " يُطبع بتعليقي عليه وتخريجي وترتيبي ، لكن لم أفعل ولن أفعل ؛ لماذا ؟ لأني أنا أستدرك على نفسي بنفسي أشياء ، أضرب لكم مثلًا أصبح بفضل الله - عز وجل - معروفًا الآن في العالم الإسلامي ؛ حيث لم يكُنْ قبل ربع من الزمان أحدٌ يسمع به ، كنت مع أولئك الناس الذين يثقون بتوثيق ابن حبان ، فكان إذا جاءني حديث في " المعجم الطبراني الصغير " وكل رجاله ثقات سوى واحد منهم وثَّقه ابن حبان فنصححه ؛ اعتمادًا على ابن حبان ، لكن ما كنت يومئذٍ قد قرأت - مثلًا - مقدمة الحافظ ابن حجر في " اللسان " ، كذلك كلام ابن عبد الهادي في الرَّد على السبكي " الصارم المنكي " ، أو وهذا يقع لكثير من الطلاب نقرأ الشيء ثم لا يرسخ في الذِّهن رسوخًا يعمل عمله في قلب صاحبه ، ثم يدفعه إلى العمل الصالح الصحيح ، وعلى ذلك مشيت في هذا الكتاب .
الآن نقول كيف نصحح هذا الحديث وفيه من وثَّقه ابن حبان ؟! وهذا المثال سهل الآن تمامًا ، وتأتي أمثلة وأمثلة كثيرة جدًّا ، ومن أدقِّها ما يتعلق بنفس الموضوع ؛ يتوهَّم الآن طلاب العلم أن كلَّ راوٍ وثَّقه ابن حبان فقط فلا يُوثق بتوثيقه ، وهذا ليس على إطلاقه ، وقد شرحت هذا في بعض الجلسات ، وسيأتي مشروحًا بأكثر في الكتاب الذي هو الآن تحت الطبع " تمام المنَّة في التعليق على فقه السنة " . فينبغي على طلاب العلم أن يتريَّثوا إذا ألَّفوا أو جمعوا فلأنفسهم ، يظهر الفرق فيما بعد بينما ألَّفوا في إبَّان طلبهم للعلم وفيما بعد أن يمضي على طلبهم وتمرُّسهم في هذا العلم ما شاء الله من السنين .
التبكير في التأليف يكون سببًا لكثرة الأخطاء ، وبهذا التفصيل الذي ذكرتُه آنفًا أعلِّل أنا شخصيًّا كثرة الأخطاء من بعض العلماء ، مثلًا من أظهر الأمثلة " تلخيص مستدرك الحاكم " للحافظ الذهبي ، تجد فيه العجب العُجاب من تصحيحه تبعًا للحاكم أحاديث هو يحكم في بعضها على بعضها بالوضع ؛ فضلًا عن بعضٍ آخر يحكم عليها بالضَّعف ، ما هو السبب ؟ تلخيص كتاب كما يفعل الناس اليوم اختصار كتاب ، وهذا يظنُّونه بالأمر السهل ، بينما هذا يحتاج إلى علم وناضج ، فالظاهر - والله أعلم - أن الحافظ الذهبي لخَّص " المستدرك " قبل أن ينضج علميًّا ؛ كذلك - مثلًا - نجد الحافظ السيوطي وهذا لعلكم قرأتموه في مقدَّمتي لـ " صحيح الجامع وضعيف الجامع " يقول : صانه عمَّا تفرَّد به كذَّابٌ أو وضَّاع ، بينما تجد فيه أحاديث حكم هو بوضعها في كتابين اثنين :
الكتاب الأول : " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " ، وهو كتاب يتعقَّب فيه ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات " ، لكنه يسلِّم له بعشرات الأحاديث بأنها موضوعة ، وهذا التسليم واضح جدًّا حينما يحكي خلاصة كلام ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع ، ثم لا يُتبِعُه بقوله : قلت ، لكن جاء الحديث من طريق أخرى لعله يقول : أولى وثانية وثالثة إلى آخره ، يحاول بذلك أن يُنقذ الحديث من الوضع ، لا بأس في هذا ، ولكن في كثير من الأحاديث أقرَّ الحافظ السيوطي في مؤلِّفه هذا ابن الجوزي على الوضع ، مع ذلك تجد هذه الأحاديث موجودة في " الجامع الصغير " ، وكذلك في الزيادة على " الجامع الصغير " .
كتابه الثاني أهم بكثير ؛ لأنه كالاستدراك على " موضوعات ابن الجوزي " ؛ أي : أن ابن الجوزي فاتَتْه أحاديث ضعيفة - عفوًا - موضوعة كثيرة ، وهو جاء وألَّف كتابًا " ذيل الأحاديث الموضوعة " ، كلُّ هذه الأحاديث التي أورَدَها السيوطي في هذا الكتاب " ذيل الأحاديث الموضوعة " هي عنده موضوعة ، لكنك ستعجب حينما تجد قسمًا كبيرًا منها في " الجامع الصغير " ، كيف نوفِّق بين هذا وهذا ؟ هو ما ذكرتُه لكم آنفًا ؛ هو جمع " الجامع الصغير " قبل أن يبدأ بالتحرير وتصفية الأحاديث الضعيفة الموضوعة ، أو قبل أن يتمكَّن من هذا العلم كما ينبغي أن نقول ، فوقع في هذا التَّناقض العجيب الغريب ، هذا سبب يكون من آثاره أن الناس يتهافتون على العلم دون أن ينضجوا وأن يكونوا أهلًا للعلم .
أنا في الواقع شخصيًّا أقول الآن بعد الإجابة عن هذا السؤال : أنا بقدر ما أنا أُسَرُّ حينما أجد شبابًا ينقدون علماء صالحين أو حاضرين ، وأنا منهم - مثلًا - حينما أجِدُهم ينتقدونَني فأنا أُسَرُّ ؛ لماذا ؟ لأنه قبل أقل من عشر سنين أو نحو ذلك لم يكُنْ أحد يستطيع أن يعيبَ على الألباني كلمة واحدة فيما يتعلَّق بعلم الحديث ، فالحمد لله ما شاء الله الآن بالعشرات والمئات في العالم الإسلامي ، فهذا يبشِّر بخير ؛ لأنه كما يُقال : " أول الغيث قطر ثم ينهمر " ، وهذا ينفعني أنا وغيري من أمثالي ولا يضرُّونا ، لكن هؤلاء يضرُّون أنفسهم ؛ لأنه أنا بالنسبة إليِّ أقول كما يقول العلماء قديمًا وحديثًا : " قد يجد في المفضول ما لا يجد في الفاضل " ؛ فلا عيبَ أن ينتقِدَ التلميذُ شيخَه ؛ فكيف إذا لم يكن متتلمذًا عليه ؟ لا غرابة ، لكن إن أصاب هنا وهناك فسوف يُخطِئ في عشرات أخرى ، ويظنُّ أنه أحسن صنعًا ؛ بينما الواقع سيشهد بشهادته فيما بعد سنين بأنه كان مستعجلًا ، وقد قيل من الحِكَم : " من استعجل الشيء قبل أوانه ابتُلِيَ بحرمانه " ، هذا شيء .
وشيء أخير : أنا أخشى ما أخشى أن يصبح التأليفُ في هذا العصر داءً وبالًا ، وهو يتعلَّق بعدم الإخلاص في طلب العلم وفي نشره ؛ لأن التأليف هو وسيلة اليوم كما تعلمون لنشر العلم ، وتعلمون جميعًا أنَّ العلم إذا لم يكن خالصًا لوجه الله نشرًا لدرسٍ أو محاضرةٍ أو كتابٍ أو نحو ذلك إذا لم يكن خالصًا لوجه الله كان وبالًا على صاحبه ، كما تعلمون من حديث أبي هريرة الطويل الذي فيه عبرة لِمَن يعتبر ، الذي يبتدأ بقوله - عليه السلام - : ( أوَّل من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة ؛ عالم ، ومجاهد ، وغني ) إلى آخر الحديث ، فأنا أخشى ما أخشاه أن يكون الحافز والدافع على تأليف هؤلاء الشباب الناشئين في هذا العلم ليس هو النصح والتَّنبيه ، وإنما هو أن يظهروا وأن تُسجَّل أسماؤهم في زمرة المؤلفين .
وأخيرًا تأتي حكمة أخرى لتقول : " حبُّ الظُّهور يقطع الظُّهور " ؛ لأنه يُنافي الإخلاص لربِّ العالمين .
أعيد عليكم ؟
الشيخ : لأ ، صار هنا عدَّة أسئلة لو أنَّك أجَّلت بعضها .
نحن ننصح على كل حال الناشئين من إخواننا الطلاب في هذا العلم أن يتريَّثوا وألَّا يستعجلوا ؛ لأن هذا العلم كما أنا لمسته لمس اليد يحتاج إلى أمور عديدة جدًّا ، من أهمها أن يجمع بين فقه أصول الحديث وأن يفهمها جيدًا ، وأن يتمرَّن عليها دهرًا طويلًا ، وألَّا يبادر من أجل ذلك إلى أن يؤلِّف لغيره وإنما يؤلِّف لنفسه ؛ حتَّى يشعر بأنه صار أهلًا لأن يصحِّح وأن يضعِّف كما فعل الأئمة المتقدِّمون .
قلت : نحن نعرف هذا من أنفسنا ، ونعرف ذلك من غيرنا ؛ فالحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - الذي سُمِّي بحقٍّ بأمير المؤمنين في الحديث ، له كتب كثيرة وكثيرة جدًّا ، هو يقول ويشهد بنفسه على نفسه وكفى به شهيدًا ؛ لأنه لا يرضى عن شيء من كتبه إلا " فتح الباري " ، " فتح الباري " ظلَّ يعمل فيه نحو عشرين سنة ؛ ولذلك حصل على رضاه على هذا الكتاب ، أما الكتب الأخرى الظاهر أنها كانت مما ألَّفها في إبَّان طلبه للعلم ، تمامًا كما يفعل الطلاب الناشئون اليوم .
أنا أعرف من نفسي من أول ما ألَّفت هو الكتاب الذي أعزو إليه في كثير من مؤلفاتي الأخيرة ، وهو الذي ترون أو تسمعون اسمه " الروض النضير " ، وتمام اسمه : " في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير " ، وهو عندي مجلدان ضخمان ، كان - وهذا ما طلب مني الكثير من إخواننا - كان عليَّ أن أبادر لطبع هذا الكتاب لسببين اثنين : أوَّلًا : أن " معجم الطبراني الصغير " لم يكن مطبوعًا إلا الطبعة الهندية القديمة ، وتعرفون طبعات الهند مع أنهم سبَّاقون لنشر كتب الحديث ، لكن كانت الطبعات عندهم متأخِّرة ، فكان عليَّ أن أنشر هذا الكتاب " معجم الطبراني الصغير " يُطبع بتعليقي عليه وتخريجي وترتيبي ، لكن لم أفعل ولن أفعل ؛ لماذا ؟ لأني أنا أستدرك على نفسي بنفسي أشياء ، أضرب لكم مثلًا أصبح بفضل الله - عز وجل - معروفًا الآن في العالم الإسلامي ؛ حيث لم يكُنْ قبل ربع من الزمان أحدٌ يسمع به ، كنت مع أولئك الناس الذين يثقون بتوثيق ابن حبان ، فكان إذا جاءني حديث في " المعجم الطبراني الصغير " وكل رجاله ثقات سوى واحد منهم وثَّقه ابن حبان فنصححه ؛ اعتمادًا على ابن حبان ، لكن ما كنت يومئذٍ قد قرأت - مثلًا - مقدمة الحافظ ابن حجر في " اللسان " ، كذلك كلام ابن عبد الهادي في الرَّد على السبكي " الصارم المنكي " ، أو وهذا يقع لكثير من الطلاب نقرأ الشيء ثم لا يرسخ في الذِّهن رسوخًا يعمل عمله في قلب صاحبه ، ثم يدفعه إلى العمل الصالح الصحيح ، وعلى ذلك مشيت في هذا الكتاب .
الآن نقول كيف نصحح هذا الحديث وفيه من وثَّقه ابن حبان ؟! وهذا المثال سهل الآن تمامًا ، وتأتي أمثلة وأمثلة كثيرة جدًّا ، ومن أدقِّها ما يتعلق بنفس الموضوع ؛ يتوهَّم الآن طلاب العلم أن كلَّ راوٍ وثَّقه ابن حبان فقط فلا يُوثق بتوثيقه ، وهذا ليس على إطلاقه ، وقد شرحت هذا في بعض الجلسات ، وسيأتي مشروحًا بأكثر في الكتاب الذي هو الآن تحت الطبع " تمام المنَّة في التعليق على فقه السنة " . فينبغي على طلاب العلم أن يتريَّثوا إذا ألَّفوا أو جمعوا فلأنفسهم ، يظهر الفرق فيما بعد بينما ألَّفوا في إبَّان طلبهم للعلم وفيما بعد أن يمضي على طلبهم وتمرُّسهم في هذا العلم ما شاء الله من السنين .
التبكير في التأليف يكون سببًا لكثرة الأخطاء ، وبهذا التفصيل الذي ذكرتُه آنفًا أعلِّل أنا شخصيًّا كثرة الأخطاء من بعض العلماء ، مثلًا من أظهر الأمثلة " تلخيص مستدرك الحاكم " للحافظ الذهبي ، تجد فيه العجب العُجاب من تصحيحه تبعًا للحاكم أحاديث هو يحكم في بعضها على بعضها بالوضع ؛ فضلًا عن بعضٍ آخر يحكم عليها بالضَّعف ، ما هو السبب ؟ تلخيص كتاب كما يفعل الناس اليوم اختصار كتاب ، وهذا يظنُّونه بالأمر السهل ، بينما هذا يحتاج إلى علم وناضج ، فالظاهر - والله أعلم - أن الحافظ الذهبي لخَّص " المستدرك " قبل أن ينضج علميًّا ؛ كذلك - مثلًا - نجد الحافظ السيوطي وهذا لعلكم قرأتموه في مقدَّمتي لـ " صحيح الجامع وضعيف الجامع " يقول : صانه عمَّا تفرَّد به كذَّابٌ أو وضَّاع ، بينما تجد فيه أحاديث حكم هو بوضعها في كتابين اثنين :
الكتاب الأول : " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " ، وهو كتاب يتعقَّب فيه ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات " ، لكنه يسلِّم له بعشرات الأحاديث بأنها موضوعة ، وهذا التسليم واضح جدًّا حينما يحكي خلاصة كلام ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع ، ثم لا يُتبِعُه بقوله : قلت ، لكن جاء الحديث من طريق أخرى لعله يقول : أولى وثانية وثالثة إلى آخره ، يحاول بذلك أن يُنقذ الحديث من الوضع ، لا بأس في هذا ، ولكن في كثير من الأحاديث أقرَّ الحافظ السيوطي في مؤلِّفه هذا ابن الجوزي على الوضع ، مع ذلك تجد هذه الأحاديث موجودة في " الجامع الصغير " ، وكذلك في الزيادة على " الجامع الصغير " .
كتابه الثاني أهم بكثير ؛ لأنه كالاستدراك على " موضوعات ابن الجوزي " ؛ أي : أن ابن الجوزي فاتَتْه أحاديث ضعيفة - عفوًا - موضوعة كثيرة ، وهو جاء وألَّف كتابًا " ذيل الأحاديث الموضوعة " ، كلُّ هذه الأحاديث التي أورَدَها السيوطي في هذا الكتاب " ذيل الأحاديث الموضوعة " هي عنده موضوعة ، لكنك ستعجب حينما تجد قسمًا كبيرًا منها في " الجامع الصغير " ، كيف نوفِّق بين هذا وهذا ؟ هو ما ذكرتُه لكم آنفًا ؛ هو جمع " الجامع الصغير " قبل أن يبدأ بالتحرير وتصفية الأحاديث الضعيفة الموضوعة ، أو قبل أن يتمكَّن من هذا العلم كما ينبغي أن نقول ، فوقع في هذا التَّناقض العجيب الغريب ، هذا سبب يكون من آثاره أن الناس يتهافتون على العلم دون أن ينضجوا وأن يكونوا أهلًا للعلم .
أنا في الواقع شخصيًّا أقول الآن بعد الإجابة عن هذا السؤال : أنا بقدر ما أنا أُسَرُّ حينما أجد شبابًا ينقدون علماء صالحين أو حاضرين ، وأنا منهم - مثلًا - حينما أجِدُهم ينتقدونَني فأنا أُسَرُّ ؛ لماذا ؟ لأنه قبل أقل من عشر سنين أو نحو ذلك لم يكُنْ أحد يستطيع أن يعيبَ على الألباني كلمة واحدة فيما يتعلَّق بعلم الحديث ، فالحمد لله ما شاء الله الآن بالعشرات والمئات في العالم الإسلامي ، فهذا يبشِّر بخير ؛ لأنه كما يُقال : " أول الغيث قطر ثم ينهمر " ، وهذا ينفعني أنا وغيري من أمثالي ولا يضرُّونا ، لكن هؤلاء يضرُّون أنفسهم ؛ لأنه أنا بالنسبة إليِّ أقول كما يقول العلماء قديمًا وحديثًا : " قد يجد في المفضول ما لا يجد في الفاضل " ؛ فلا عيبَ أن ينتقِدَ التلميذُ شيخَه ؛ فكيف إذا لم يكن متتلمذًا عليه ؟ لا غرابة ، لكن إن أصاب هنا وهناك فسوف يُخطِئ في عشرات أخرى ، ويظنُّ أنه أحسن صنعًا ؛ بينما الواقع سيشهد بشهادته فيما بعد سنين بأنه كان مستعجلًا ، وقد قيل من الحِكَم : " من استعجل الشيء قبل أوانه ابتُلِيَ بحرمانه " ، هذا شيء .
وشيء أخير : أنا أخشى ما أخشى أن يصبح التأليفُ في هذا العصر داءً وبالًا ، وهو يتعلَّق بعدم الإخلاص في طلب العلم وفي نشره ؛ لأن التأليف هو وسيلة اليوم كما تعلمون لنشر العلم ، وتعلمون جميعًا أنَّ العلم إذا لم يكن خالصًا لوجه الله نشرًا لدرسٍ أو محاضرةٍ أو كتابٍ أو نحو ذلك إذا لم يكن خالصًا لوجه الله كان وبالًا على صاحبه ، كما تعلمون من حديث أبي هريرة الطويل الذي فيه عبرة لِمَن يعتبر ، الذي يبتدأ بقوله - عليه السلام - : ( أوَّل من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة ؛ عالم ، ومجاهد ، وغني ) إلى آخر الحديث ، فأنا أخشى ما أخشاه أن يكون الحافز والدافع على تأليف هؤلاء الشباب الناشئين في هذا العلم ليس هو النصح والتَّنبيه ، وإنما هو أن يظهروا وأن تُسجَّل أسماؤهم في زمرة المؤلفين .
وأخيرًا تأتي حكمة أخرى لتقول : " حبُّ الظُّهور يقطع الظُّهور " ؛ لأنه يُنافي الإخلاص لربِّ العالمين .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 23
- توقيت الفهرسة : 00:41:32
- نسخة مدققة إملائيًّا