ما التوجيه الصحيح لحديث من سن في الإسلام سنة حسنة . ؟
A-
A=
A+
السائل : عندما نبين لبعض الناس مثل هذا الكلام الذي تفضلت به, جزاك الله خيرا, يقول مستشهدا بحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) فحبذا لو توضح لنا كيف نرد عليه الرد الصحيح السليم؟
الشيخ : الحقيقة أن هذا السؤال بالنسبة لكثير من الناس مهم جدا, ذلك لأن له علاقة قوية بما أشرت في تضاعيف كلامي السابق, أنه ليس لنا أن نستحسن, فقد يقول قائل: كيف هذا؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة, دون أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها, ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة, دون أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
فجوابا على ذلك أقول: لقد تعلمنا من كتب علماء التفسير, أن من الطرق التي يتمكن بها طالب العلم من فهم الآية فهما سليما وصحيحا, أن يتعرف على سبب نزولها, إذا كان لها سبب نزول, فإن ذلك يساعد مساعدة قوية للوصول إلى الفهم الصحيح لها, بعد أن يستعمل مع التعرف على سبب النزول استعمال الآداب العربية التي تساعد على فهم الكلام العربي, وبخاصة كلام رب العالمين تبارك وتعالى, تعلمنا هذا منهم, فاقتبست أنا فائدة, فقلت كما قالوا هم في معرفة أسباب نزول الآية, إنها مساعدة كبيرة لفهم الآية فهما صحيحا, اقتبست من ذلك فقلت كذلك: مما يساعد على فهم الحديث النبوي فهما صحيحا, أن نتعرف على سبب ورود الحديث, هناك في القرآن سبب النزول, أما في الحديث سبب الورود, أي أن نعرف المناسبة التي قال الرسول عليه السلام الحديث فيها, وستعلمون جيدا أهمية هذه القاعدة, أن نعرف سبب ورود الحديث, سيتبين لكم كم الفرق بين من عرف سبب الورود, ومن غفل عن هذا السبب ولم يعرفه.
هذا الحديث: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) مما رواه الإمام مسلم في صحيحه, من رواية جرير بن عبد الله البجلي, رضي الله تعالى عنه قال: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجاءه أعراب مجتابي النمار, متقلدي السيوف, عامتهم من مضر, بل كلهم من مضر, فلما رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه " تمعر وجهه يعني: تغيرت ملامح وجهه إلى ما يدل على حزنه عليه السلام, حينما رأى علامات الفقر على هؤلاء الناس, الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم, " فقام في الصحابة خطيبا, وتلا قول الله تبارك وتعالى : (( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتن إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين )) ثم وعظهم, وكان من وعظه إياهم أن قال لهم : ( تصدق رجل بدرهمه بديناره, بصاع بره بصاع شعيره ) .
تصدق فعل ماض كما يقول علماء النحو, لكنه بمعنى الأمر, أي ليتصدق, تصدق رجل أي ليتصدق الرجل منكم بما تيسر له من الصدقات, من نقود دراهم أو دنانير, من طعام قمح أو شعير أو تمر أو نحو ذلك, " فتحرك أول من تحرك رجل من الذين سمعوا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم, وذهب سريعا إلى داره, ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقات, فوضعها أمام الرسول عليه السلام, فقام الآخرون وذهب كل واحد منهم, ليعود بما تيسر لهم من الصدقات, فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات كأكوام الجبال, أكوام, فلما رأى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبة " تنور وجهه كأنه مذهبة, المذهبة هي الفضة المطلية بالذهب, فيتلألأ جمالا, هكذا يشبه راوي الحديث, وهو جرير بن عبد الله البجلي, كيف اختلفت انطباعات الرسول عليه السلام أخيرا على انطباعاته الأولى, يقول في الأول: ( تمعر وجهه ) عليه السلام, ويقول عنه أخيرا: ( تنور وجهه عليه السلام كأنه مذهبة ) . "
وهذا السبب واضح, أو هذا التغير والتنور سببه واضح, لأنه فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم باستجابة أصحابه لأمره إياهم بالصدقة, فوسعوا على أولئك الأعراب الذين جاؤوا إليه عليه السلام في حالة فقر مدقع, تنور وجهه عليه السلام كأنه مذهبة, ثم قال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخر الحديث, انظروا الآن كم يخطيء هؤلاء الناس الذين يستدلون بهذا الحديث على بدعهم, التي استحسنوها بمجرد عقولهم, إن لم نقل اتباعا منهم لأهوائهم, أين للبدعة هنا مكان في هذه الحادثة التي سمعتموها منقولة عن صحيح مسلم, لا تجدون هنا شيئا يمكن أن يذكر أو أن يوصف ببدعة إطلاقا, إنما هو الصدقة, والصدقة كانت مشروعة قبل أن يخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة حاثا لهم على الصدقة, لأنكم سمعتم أن من خطبته عليه السلام في هذه الحادثة, أن تلى عليهم الآية الكريمة: (( وأنفقوا من ما رزقناكم ... )) إلى آخرها, فإذا ليس هناك ما يمكن أن يدخل في باب البدعة الحسنة زعموا! لأن الصدقة مشروعة بنص القرآن, والسنة وإجماع الأمة.
إذا حينما يفسرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة اصطدم هذا التفسير وليس الحديث, اصطدم هذا التفسير بالواقع, لأن الواقع لا يوجد فيه ما يمكن أن يجتمع بالبدعة إطلاقا, أما إذا فسر بالمعنى العربي, سن بمعنى فتح طريقا, فهذا واضح جدا, لأن ذاك الرجل الأول هو الذي فتح الطريق بين يدي الصحابة الآخرين حينما ذهب ليرجع بما تيسر له من الصدقة, فاتبعه الآخرون على ذلك, فكان هو قد سن لهم الصدقة في ذلك المجلس, أما الذي حسنها والذي شرعها وجعلها للناس دينا ليس هو ولا الرسول عليه السلام, وإنما هو رب العالمين, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من التشريع شيء, إنما هو كما قال تعالى مخاطبا إياه بالآية: ... .ولذلك من الخطأ الفاحش جدا, الخطأ اللفظي ما نقرأه في بعض الجرائد والمجلات وبعض المحاضرات قال المشرع, من هو المشرع؟ يعني المقنن, ما يقصدون بذلك رب العالمين, وهنا نذكر قول ربنا عز وجل: (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) فالله وحده عز وجل هو المشرع, والشاهد أن ذاك الصحابي الأول لم يكن له شيء في هذه الحادثة سوى أنه فتح الطريق, ذكر الآخرين بأن عليهم أن يستجيبوا لما حضهم الرسول عليه السلام من الصدقة, فكان له أجر هذه الصدقة وأجر الصدقات الأخرى التي تصدق بها الذين ساروا مسيرته, واقتدوا به رضي الله تعالى عنهم جمعيا.
هذا ما يتعلق بمعرفة أسباب ورود الحديث, وأننا إذا عرفنا هذا السبب حينئذ ضربنا لتأويلهم الحديث بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, ضربنا بتفسيرهم هذا عرض الحائط, وقلنا لهم: هاتوا وين البدعة في هذه الحادثة, ولذلك قلت مرة أو أكثر من مرة, إذا لم يكن في الحادثة كما سمعتم, حادث حدث يمكن أن لا يكون شرعا معروفا من قبل, وإنما هو شيء حسن استحسنه أحد الحاضرين فيكون بدعة, قلنا حينئذ لا يتفق قوله عليه السلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) وقد قالها بمناسبة صدقة مع التفسير الذي يقوله بعض الخلف من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, كنت أقول وأقرر ذلك أحيانا, لا يمكن لرجل عربي, بل لا يمكن أن يقول لرجل أعجمي مثلي, أنا ألباني, أن يقول من سن في الإسلام سنة حسنة بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, بمناسبة الصدقة, هذا رجل عربي مستعرب أصله أعجمي, عار عليه أن يقول مثل هذا الكلام, من سن في الإسلام سنة حسنة بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, بمناسبة الحادثة التي لم يقع فيها إلا الصدقة, فكيف ينسب هذا المعنى الأعجمي, بل الذي يرفضه حتى الأعجمي المستعرب, كيف ينسب هذا المعنى إلى أفصح من نطق بالضاد, هذا خطأ فاحش جدا, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
هذا شيء نستفيده فقط من معرفتنا لسبب الحديث, وكما قلت لكم آنفا, علماء التفسير يقولون: معرفة سبب نزول الآية يساعد على معرفة معناها, والباقي من اللغة العربية وآدابها, كذلك معرفة سبب ورود الحديث يساعد على معرفة الحديث, ثم الباقي من آداب العربية ولغتها.
أقول شيئا آخر بغض النظر عن هذا الأمر الأول, وهو سبب ورود الحديث؛ الحديث يقول: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) ثم في الفقرة الثانية: ( من سن في الإسلام سنة سيئة ) نسأل هؤلاء الناس الذين يتجرؤون على مقام الشارع الحكيم, الذي امتن علينا بالآية التي بدأنا الكلام حولها: (( اليوم أكملت لكم دينكم ... )) فيحسنون و يفتحون من الدين ما أغلق بابه وختمت النوافل من قبل.. الله عز وجل كما ذكرنا في الحديث السابق.
نقول لهؤلاء: ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة ومعرفة السنة السيئة؟ آلعقل أم الشرع؟ هذا السؤال مهم جدا, وهو في اعتقادي إن كانوا منصفين مرتضين طالبين الحق, سيقولون أحد شيئين, وحينذاك يتبين ما في نفوس هؤلاء, أو قلوب هؤلاء, من علم أو جهل, السنة الحسنة والسنة السيئة في هذا الحديث, معرفة ذلك أهو طريق النقل أم طريق العقل, إن قالوا طريق النقل, قلنا أصبتم, فلنقف ههنا لنبحث, وإن قالوا طريق العقل خرجوا عن أهل السنة والجماعة, وألحقوا ببعض الفرق الضالة, منها المعتزلة الذين يظنوا كثير من الناس أنها فرقة مضت وانقضت وانقرضت, والواقع أن هذه الفرقة لا تزال آثارها منبثة في جماهير الناس, حتى في أهل السنة زعموا, لأن منهج أولئك منهج هؤلاء, منهج هؤلاء في تحكيمهم لعقولهم هو منهج أولئك تماما, قلت لكم آنفا في أثناء الكلام, عن هذا الموضوع الهام, إذا أنكر على بعضهم بدعة من هذه البدع, سيقول لك: شو فيها يا أخي؛ أترون هذا حكم النقل أم حكم العقل؟!
أما أنا فأقول: لا العقل ولا النقل, وإنما حكموا أهواءهم وعاداتهم , فإذا هم أصابوا الجواب وقالوا: لا, معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة مرجعنا ذلك إلى الشرع إلى النقل؛ إذا قفوا معنا إلى هاهنا, إذا قلنا هذا الأمر هو من السنة الحسنة, إذا اتفقنا على أن معرفة ذلك من النقل, فهات النقل الذي يدل على أن هذا الشيء الذي أنت تستحسنه جاء عليه النقل وليس العقل, وهنا تنقمع المجادلة مع هؤلاء, لأن مصيرهم سيكون إما الخضوع للحق حينما يعجزون عن الإتيان بالنقل الذي يحسن بدعتهم, وإما أن يكابروا ويجادلوا بالباطل, حينئذ نقول لهم كما قال تعالى: (( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )) . إذا التحسين هنا للشيء واستقباحه إنما يكون بالرجوع إلى النقل, وإذا رجعنا إلى النقل استرحنا جميعا, وارتفع الخلاف.
أنا سأضرب لكم مثلا بسيطا جدا, غير المسألة التي طرحناها سابقا, وقدمنا لها هذه الكلمة, المصافحة التي يفعلها الناس اليوم بعد الصلاة, بكون أنا والشيخ داخلين المسجد, تلاقينا وتصافحنا وتحادثنا, وكل شيء فعلناه, صلينا تقبل الله, تقبل الله, ما هذا؟! بدعة حسنة, طيب شو دليلك أنه هي بدعة حسنة, سوف لا يقول لك أن الرسول فعل ذلك, لأنه يعرف أن هذه بدعة, وسوف لا يقول لك أن الرسول عليه السلام أمر بذلك, لأنه لا سبيل الى التعرف على مثل هذا الأمر, إذا حجتهم كحجة الأولين: (( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )) .
فهذا جواب السؤال السابق أن حديث: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخره, لا يدل على أن في الإسلام بدعة حسنة, وإنما في الإسلام بدعة حسنة, وإنما في الإسلام سنة حسنة, ومعرفة السنة الحسنة هو من طريق السنة, وليس من طريق العقل أو العادة أو الهوى.
الشيخ : الحقيقة أن هذا السؤال بالنسبة لكثير من الناس مهم جدا, ذلك لأن له علاقة قوية بما أشرت في تضاعيف كلامي السابق, أنه ليس لنا أن نستحسن, فقد يقول قائل: كيف هذا؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة, دون أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها, ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة, دون أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
فجوابا على ذلك أقول: لقد تعلمنا من كتب علماء التفسير, أن من الطرق التي يتمكن بها طالب العلم من فهم الآية فهما سليما وصحيحا, أن يتعرف على سبب نزولها, إذا كان لها سبب نزول, فإن ذلك يساعد مساعدة قوية للوصول إلى الفهم الصحيح لها, بعد أن يستعمل مع التعرف على سبب النزول استعمال الآداب العربية التي تساعد على فهم الكلام العربي, وبخاصة كلام رب العالمين تبارك وتعالى, تعلمنا هذا منهم, فاقتبست أنا فائدة, فقلت كما قالوا هم في معرفة أسباب نزول الآية, إنها مساعدة كبيرة لفهم الآية فهما صحيحا, اقتبست من ذلك فقلت كذلك: مما يساعد على فهم الحديث النبوي فهما صحيحا, أن نتعرف على سبب ورود الحديث, هناك في القرآن سبب النزول, أما في الحديث سبب الورود, أي أن نعرف المناسبة التي قال الرسول عليه السلام الحديث فيها, وستعلمون جيدا أهمية هذه القاعدة, أن نعرف سبب ورود الحديث, سيتبين لكم كم الفرق بين من عرف سبب الورود, ومن غفل عن هذا السبب ولم يعرفه.
هذا الحديث: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) مما رواه الإمام مسلم في صحيحه, من رواية جرير بن عبد الله البجلي, رضي الله تعالى عنه قال: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجاءه أعراب مجتابي النمار, متقلدي السيوف, عامتهم من مضر, بل كلهم من مضر, فلما رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه " تمعر وجهه يعني: تغيرت ملامح وجهه إلى ما يدل على حزنه عليه السلام, حينما رأى علامات الفقر على هؤلاء الناس, الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم, " فقام في الصحابة خطيبا, وتلا قول الله تبارك وتعالى : (( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتن إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين )) ثم وعظهم, وكان من وعظه إياهم أن قال لهم : ( تصدق رجل بدرهمه بديناره, بصاع بره بصاع شعيره ) .
تصدق فعل ماض كما يقول علماء النحو, لكنه بمعنى الأمر, أي ليتصدق, تصدق رجل أي ليتصدق الرجل منكم بما تيسر له من الصدقات, من نقود دراهم أو دنانير, من طعام قمح أو شعير أو تمر أو نحو ذلك, " فتحرك أول من تحرك رجل من الذين سمعوا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم, وذهب سريعا إلى داره, ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقات, فوضعها أمام الرسول عليه السلام, فقام الآخرون وذهب كل واحد منهم, ليعود بما تيسر لهم من الصدقات, فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات كأكوام الجبال, أكوام, فلما رأى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبة " تنور وجهه كأنه مذهبة, المذهبة هي الفضة المطلية بالذهب, فيتلألأ جمالا, هكذا يشبه راوي الحديث, وهو جرير بن عبد الله البجلي, كيف اختلفت انطباعات الرسول عليه السلام أخيرا على انطباعاته الأولى, يقول في الأول: ( تمعر وجهه ) عليه السلام, ويقول عنه أخيرا: ( تنور وجهه عليه السلام كأنه مذهبة ) . "
وهذا السبب واضح, أو هذا التغير والتنور سببه واضح, لأنه فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم باستجابة أصحابه لأمره إياهم بالصدقة, فوسعوا على أولئك الأعراب الذين جاؤوا إليه عليه السلام في حالة فقر مدقع, تنور وجهه عليه السلام كأنه مذهبة, ثم قال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخر الحديث, انظروا الآن كم يخطيء هؤلاء الناس الذين يستدلون بهذا الحديث على بدعهم, التي استحسنوها بمجرد عقولهم, إن لم نقل اتباعا منهم لأهوائهم, أين للبدعة هنا مكان في هذه الحادثة التي سمعتموها منقولة عن صحيح مسلم, لا تجدون هنا شيئا يمكن أن يذكر أو أن يوصف ببدعة إطلاقا, إنما هو الصدقة, والصدقة كانت مشروعة قبل أن يخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة حاثا لهم على الصدقة, لأنكم سمعتم أن من خطبته عليه السلام في هذه الحادثة, أن تلى عليهم الآية الكريمة: (( وأنفقوا من ما رزقناكم ... )) إلى آخرها, فإذا ليس هناك ما يمكن أن يدخل في باب البدعة الحسنة زعموا! لأن الصدقة مشروعة بنص القرآن, والسنة وإجماع الأمة.
إذا حينما يفسرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة اصطدم هذا التفسير وليس الحديث, اصطدم هذا التفسير بالواقع, لأن الواقع لا يوجد فيه ما يمكن أن يجتمع بالبدعة إطلاقا, أما إذا فسر بالمعنى العربي, سن بمعنى فتح طريقا, فهذا واضح جدا, لأن ذاك الرجل الأول هو الذي فتح الطريق بين يدي الصحابة الآخرين حينما ذهب ليرجع بما تيسر له من الصدقة, فاتبعه الآخرون على ذلك, فكان هو قد سن لهم الصدقة في ذلك المجلس, أما الذي حسنها والذي شرعها وجعلها للناس دينا ليس هو ولا الرسول عليه السلام, وإنما هو رب العالمين, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من التشريع شيء, إنما هو كما قال تعالى مخاطبا إياه بالآية: ... .ولذلك من الخطأ الفاحش جدا, الخطأ اللفظي ما نقرأه في بعض الجرائد والمجلات وبعض المحاضرات قال المشرع, من هو المشرع؟ يعني المقنن, ما يقصدون بذلك رب العالمين, وهنا نذكر قول ربنا عز وجل: (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) فالله وحده عز وجل هو المشرع, والشاهد أن ذاك الصحابي الأول لم يكن له شيء في هذه الحادثة سوى أنه فتح الطريق, ذكر الآخرين بأن عليهم أن يستجيبوا لما حضهم الرسول عليه السلام من الصدقة, فكان له أجر هذه الصدقة وأجر الصدقات الأخرى التي تصدق بها الذين ساروا مسيرته, واقتدوا به رضي الله تعالى عنهم جمعيا.
هذا ما يتعلق بمعرفة أسباب ورود الحديث, وأننا إذا عرفنا هذا السبب حينئذ ضربنا لتأويلهم الحديث بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, ضربنا بتفسيرهم هذا عرض الحائط, وقلنا لهم: هاتوا وين البدعة في هذه الحادثة, ولذلك قلت مرة أو أكثر من مرة, إذا لم يكن في الحادثة كما سمعتم, حادث حدث يمكن أن لا يكون شرعا معروفا من قبل, وإنما هو شيء حسن استحسنه أحد الحاضرين فيكون بدعة, قلنا حينئذ لا يتفق قوله عليه السلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) وقد قالها بمناسبة صدقة مع التفسير الذي يقوله بعض الخلف من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, كنت أقول وأقرر ذلك أحيانا, لا يمكن لرجل عربي, بل لا يمكن أن يقول لرجل أعجمي مثلي, أنا ألباني, أن يقول من سن في الإسلام سنة حسنة بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, بمناسبة الصدقة, هذا رجل عربي مستعرب أصله أعجمي, عار عليه أن يقول مثل هذا الكلام, من سن في الإسلام سنة حسنة بمعنى من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة, بمناسبة الحادثة التي لم يقع فيها إلا الصدقة, فكيف ينسب هذا المعنى الأعجمي, بل الذي يرفضه حتى الأعجمي المستعرب, كيف ينسب هذا المعنى إلى أفصح من نطق بالضاد, هذا خطأ فاحش جدا, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
هذا شيء نستفيده فقط من معرفتنا لسبب الحديث, وكما قلت لكم آنفا, علماء التفسير يقولون: معرفة سبب نزول الآية يساعد على معرفة معناها, والباقي من اللغة العربية وآدابها, كذلك معرفة سبب ورود الحديث يساعد على معرفة الحديث, ثم الباقي من آداب العربية ولغتها.
أقول شيئا آخر بغض النظر عن هذا الأمر الأول, وهو سبب ورود الحديث؛ الحديث يقول: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) ثم في الفقرة الثانية: ( من سن في الإسلام سنة سيئة ) نسأل هؤلاء الناس الذين يتجرؤون على مقام الشارع الحكيم, الذي امتن علينا بالآية التي بدأنا الكلام حولها: (( اليوم أكملت لكم دينكم ... )) فيحسنون و يفتحون من الدين ما أغلق بابه وختمت النوافل من قبل.. الله عز وجل كما ذكرنا في الحديث السابق.
نقول لهؤلاء: ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة ومعرفة السنة السيئة؟ آلعقل أم الشرع؟ هذا السؤال مهم جدا, وهو في اعتقادي إن كانوا منصفين مرتضين طالبين الحق, سيقولون أحد شيئين, وحينذاك يتبين ما في نفوس هؤلاء, أو قلوب هؤلاء, من علم أو جهل, السنة الحسنة والسنة السيئة في هذا الحديث, معرفة ذلك أهو طريق النقل أم طريق العقل, إن قالوا طريق النقل, قلنا أصبتم, فلنقف ههنا لنبحث, وإن قالوا طريق العقل خرجوا عن أهل السنة والجماعة, وألحقوا ببعض الفرق الضالة, منها المعتزلة الذين يظنوا كثير من الناس أنها فرقة مضت وانقضت وانقرضت, والواقع أن هذه الفرقة لا تزال آثارها منبثة في جماهير الناس, حتى في أهل السنة زعموا, لأن منهج أولئك منهج هؤلاء, منهج هؤلاء في تحكيمهم لعقولهم هو منهج أولئك تماما, قلت لكم آنفا في أثناء الكلام, عن هذا الموضوع الهام, إذا أنكر على بعضهم بدعة من هذه البدع, سيقول لك: شو فيها يا أخي؛ أترون هذا حكم النقل أم حكم العقل؟!
أما أنا فأقول: لا العقل ولا النقل, وإنما حكموا أهواءهم وعاداتهم , فإذا هم أصابوا الجواب وقالوا: لا, معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة مرجعنا ذلك إلى الشرع إلى النقل؛ إذا قفوا معنا إلى هاهنا, إذا قلنا هذا الأمر هو من السنة الحسنة, إذا اتفقنا على أن معرفة ذلك من النقل, فهات النقل الذي يدل على أن هذا الشيء الذي أنت تستحسنه جاء عليه النقل وليس العقل, وهنا تنقمع المجادلة مع هؤلاء, لأن مصيرهم سيكون إما الخضوع للحق حينما يعجزون عن الإتيان بالنقل الذي يحسن بدعتهم, وإما أن يكابروا ويجادلوا بالباطل, حينئذ نقول لهم كما قال تعالى: (( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )) . إذا التحسين هنا للشيء واستقباحه إنما يكون بالرجوع إلى النقل, وإذا رجعنا إلى النقل استرحنا جميعا, وارتفع الخلاف.
أنا سأضرب لكم مثلا بسيطا جدا, غير المسألة التي طرحناها سابقا, وقدمنا لها هذه الكلمة, المصافحة التي يفعلها الناس اليوم بعد الصلاة, بكون أنا والشيخ داخلين المسجد, تلاقينا وتصافحنا وتحادثنا, وكل شيء فعلناه, صلينا تقبل الله, تقبل الله, ما هذا؟! بدعة حسنة, طيب شو دليلك أنه هي بدعة حسنة, سوف لا يقول لك أن الرسول فعل ذلك, لأنه يعرف أن هذه بدعة, وسوف لا يقول لك أن الرسول عليه السلام أمر بذلك, لأنه لا سبيل الى التعرف على مثل هذا الأمر, إذا حجتهم كحجة الأولين: (( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )) .
فهذا جواب السؤال السابق أن حديث: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخره, لا يدل على أن في الإسلام بدعة حسنة, وإنما في الإسلام بدعة حسنة, وإنما في الإسلام سنة حسنة, ومعرفة السنة الحسنة هو من طريق السنة, وليس من طريق العقل أو العادة أو الهوى.
- سلسلة الهدى والنور - شريط : 61
- توقيت الفهرسة : 00:21:49
- نسخة مدققة إملائيًّا