مما لا شك فيه أن الابتداع في الدين منهيٌّ عنه ؛ لكن هل المصالح المرسلة تدخل ضمن الابتداع أم هي شيء آخر ؟
A-
A=
A+
السائل : يقول : نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الابتداع في الدين ؛ فكيف ما يسمَّى بالمصالح المرسلة ؟
الشيخ : فكيف ؟
السائل : المصالح المرسلة هل هي من الابتداع أم شيءٌ آخر ؟
الشيخ : المصالح المرسلة أوَّلًا : ليس لها علاقة بموضوع الابتداع في الدين ، وهذه نقطة مهمة جدًّا ؛ ذلك لأنَّ الابتداع في الدين إنما يقصده المبتدع بتلك البدعة زيادة التقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - ، المبتدع في الدين إنما يُريد من بدعته أن يزداد بها تقرُّبًا إلى الله - تبارك وتعالى - ، هذا هو قصد المبتدع ؛ ولذلك تأتي عليه كلُّ النصوص التي تحرِّم الابتداع في الدين ، أول ذلك الآية الكريمة : (( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا )) ، تمَّت النعمة عليكم ؛ فلم يبقَ هناك مجال لأحدٍ أن يتَّبع عبادةً يزداد بها تقرُّبًا إلى الله ، كيف وقد قال رسول الله : ( ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ) ؟ فإيه بقى تأتي بعبادة تدَّعي أنها تقرِّبك إلى الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ لم ] يأت بها ، هذا مما يلزم المبتدع في الدين ، وليس كذلك بالنسبة للذي جاء بأمر جديد لكن لا بقصد زيادة التقرُّب إلى الله ، وإنما بقصد أن هذا الأمر الذي حدث يؤدِّي إلى أمر مشروع بالنَّصِّ ، وأنا كنت ذكرت من أيام قليلة الفرق بين البدعة وبين المصلحة المُرسلة ، ذكرت هذا الفرق ليس بهذه الصَّراحة ، لكن لتوضيح أنَّ ليس كلُّ ما يحدث بعد الرسول - عليه السلام - يُحكَم عليه بالبدعة المذمومة في الإسلام ، وإنما الذي يحدث بعد الرسول بقصد زيادة التقرُّب إلى الله - عز وجل - فهو الذي ينطبق عليه كلُّ النصوص السابقة بالإشارة إليها ، ومنها قوله - عليه السلام - ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .
ذكرت يومئذٍ من الأمثلة إخراج عمر بن الخطاب لليهود من خيبر ، لا شك أن هذا الإخراج حَدَثَ بعد وفاة الرسول - عليه السلام - ، وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - وبعد مدَّة من خلافة عمر بن الخطاب ؛ فهل هذه بدعة في الدين ؟ الجواب : لا ؛ لأن البدعة في الدين هو أمر مُحدث بقصد زيادة التقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - ، أما شيء حدث لا يُقصد به زيادة التقرُّب إلى الله ، وإنما يُقصد به تنفيذ حكم من أحكام الله منصوص على هذا الحكم في كتاب الله ، فهنا تجدون أنَّ عمر بن الخطاب لما أخرج اليهود من خيبر إنما نفَّذ شرطًا من شروط النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما صالح اليهود على ألَّا يخرجوا من خيبر وأن يظلُّوا فيها - هذه القرية - ويعملوا فيها ، ولهم الشطر مما تُنبِتُه الأرض ، وللرسول - عليه السلام - الشطر الأخر ، كان مما شَرَطَ الرسول عليهم قال : ( إنما نُقرِّكم فيها ما نشاء ) ، هذا الشرط ما هو أبدي ، وإنما بما يبدو لنا نحن المسلمين ، ( نقرِّكم فيها ما نشاء ) ، فلما بدا لعمر بن الخطاب أن المسلمين لم يعودوا بحاجة إلى استغلال علم اليهود في الحرث والزرع والضَّرع استغنى عنهم ، وقال لهم : يلَّا ؛ انصرفوا إلى أرض الله الواسعة ؛ تمامًا كما هو واقع في كثير من البلاد الإسلامية اليوم يضطرُّون إلى أن يستجلبوا موظَّفين أجانب ، وقد يكونوا كفَّارًا لكي يستفيدوا منهم في إدارة شؤون البلاد والتوسُّع في خيراتها والنواحي الزرعية والاقتصادية وإلى آخره ، فإذا ما صار أهل البلاد أنفسهم على علمٍ بذلك استغنوا عن هؤلاء ، وقيل لهم : ارجعوا من حيث أتيتم .
الشاهد : أن عمر لما أخرج اليهود من خيبر هذا أمر جديد ما وقع في عهد الرسول - عليه السلام - ، لكن هذا الأمر الجديد له أصل أصيل في الشرع ؛ وهو الشرط الذي ذكرناه آنفًا لِمَا شرطه الرسول - عليه الصلاة والسلام - على اليهود ؛ فالمصلحة المرسلة هي صحيح سبب حادث جديد ، ولكن يؤدي إلى تحقيق مصلحة مشروعة بالنَّصِّ ، ومع ذلك فهنا تفصيل دقيق ، وهو الشيء الذي ينبغي أن يعرِفَه طلاب العلم .
المصلحة التي جدَّت وتحقِّق فائدة شرعية منصوص عليها في الشرع ، مثلًا الطائرة هذه والسيارة هذه أشياء لم تكن في الزمن السابق ، فإذا المسلم استعمَلَها لتحقيق هدف شرعي إسلامي ، فهذا يدخل في باب المصالح المرسلة ؛ يعني المصالح المتروكة للزمن ، فلكلِّ زمن ملابساته مبتكراته ومخترعاته ، فإذا المسلمين اليوم حرصوا على اقتناء السيارات والطيارات لا أقول فقط لقضاء الحاجات الضرورية والكمالية ، لكن أقول للتقوِّي ليتمكَّن المسلمون على صدِّ عدوان الكفار ؛ فهل حينئذٍ نقاتل الكفار بالآلات القديمة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا بدعوى أن هذه الوسائل الجديدة هي من محدثات الأمور ؟
الجواب : لا ، هذه الوسائل الجديدة لا تدخل في محدثات الأمور ؛ لأن محدثات الأمور المذمومة شرعًا هي التي تكون في الدين ، أما هذه الوسائل فهي أمور دنيوية ، ولكن نحن نأخذ بها خاصَّة في موضوع التمكُّن على أعداء الله في كلِّ بلاد الله ، وحينَ ذاك يدخل هذا النص لتحقيق أمر من أوامر الله ؛ ألا وهو قوله - تبارك وتعالى - : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) ؛ إذًا إذا أخذنا بهذه الأمور المُحدثة اليوم والوسائل تقوِّينا ضد خصومنا وأعدائنا نكون أخذنا بمصالح مرسلة ؛ لأنها تحقِّق أمرًا مشروعًا ، وهو التقوِّي على أعداء الله .
ننزل درجة ، الآن نحن - مع الأسف الشديد - متأخرين جدًّا في هذا المجال من حيث الاستعداد للقوة المعروفة اليوم لِمُلاقاة ومجابهة أعداء الله ، يجوز لنا أن نأخذ بهذه الوسائل من باب أن الله - عز وجل - أنعم على عباده حين قال : (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) فالدَّواب كانت معروفة ، لكن خلق (( لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُون )) ، يومئذٍ السفن في البحار كأنها الجبال الشامخة تمشي في البحار وتخوض فيها ، واليوم ما شاء الله تجد الباخرة كأنها بلدة وسط البحر ، وتجد الطائرة كأنها قصر يطير في السماء وهكذا ، هذه الوسائل أشار الله - عز وجل - إليها أنها من فضل الله - تبارك وتعالى - على عباده بها ؛ ولذلك منَّ عليهم بقوله : (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) ، وفي آية أخرى تتميمًا للتَّذكير بالنعمة : وإيش الآية الأخرى ؟ (( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ )) ، فهذه الطائرة التي نراها اليوم بل السيارة هي ممَّا خلق الله - عز وجل - ممَّا لا يعلمها أسلافنا الأُوَل .
إذًا من جملة اتخاذ أيِّ وسيلة - وسيلة مش هدف وقصد لزيادة التقرُّب إلى الله - أي وسيلة حدثت يجوز أن نأخُذَ بها وأن نتبنَّاها لنا كأمر جائز في شريعتنا ما دامت تحقِّق أمرًا مشروعًا للناس ، لكن مع ذلك هذه الوسائل التي حدثت فيما بعد لا يجوز اتِّخاذها ولا إدخالها في باب المصالح المرسلة إلا بشرطين اثنين :
أوَّلًا : ألَّا تكون هذه الوسيلة كانت ممكنةَ الأخذ بها في عهد الرسول ، ومع ذلك فالرسول - عليه السلام - ما أخذ بها ولا تبنَّاها ، مثاله : اليوم في ضرائب في كلِّ البلاد الإسلامية ؛ مع الأسف تُفرَض على الشعوب المسلمة بحُكم أن مصلحة الدولة تقتضي فرض هذه الضرائب التي تُسمَّى بلغة الشرع بالمكوس ومنها الجمارك ، يُقال : هذه الوسيلة حدثت بعد الرسول - عليه السلام - ، ولا يبرِّر التمسُّك بها أن المقصود بها تحقيق هدف لصالح الأمة ؛ لأننا نقول هذه الوسيلة كان من المُمكن أن يأخذ الرسول - صلواته الله وسلامه - بها لما كانت الشريعة تنزل عليه تترى ، ومع ذلك اكتفى بفرض الزكاة لإنماء بيت مال المسلمين ، واكتفى بأسباب أخرى منها المغانم التي يغنَمُها المسلمون بحروبهم للكفار وغير ذلك من الأشياء التي تُفصَّل في كتب الحديث وكتب الفقه .
فاتِّخاذ وسيلة اليوم لنفس تحقيق الغرض وهو مصالح الدولة وهو إنماء خزينتها بالمال ما دامت الوسيلة كان من الممكن اتخاذها في عهد الرسول - عليه السلام - ولم يتَّخذها ، فيكون اتِّخاذها لنفس الغرض إحداثًا في الدين .
ومثال أقرب وأقرب من هذا بكثير ، ولعلَّ كثيرًا من الحاضرين لم يسمعوا به :
كلنا يعلم أن الزكاة المفروضة كانت تُجمع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموظَّفين يُعرفون بالسُّعاة ، يعرفون اليوم بالجُباة ، أما قديمًا فيُسمَّى من يجبي الأموال الساعي ، وجمعه السُّعاة يطوفون على أصحابين البقر والمواشي وأصحابين الأراضي التمر والقمح والشعير فيجمعون كلَّ شيء من هذه الأجناس في الموسم ، ويسوقونها إلى بيت مال المسلمين ، وفي نظام دقيق جدًّا مفصَّل كل التفصيل في كتب السنة وكتب الحديث ، لكن لعل الكثير من الحاضرين لا يعلمون أو لا يتنبَّهون أن هؤلاء السُّعاة ما كانوا يجمعون زكاة النقدين ، ما كانو يجمعون من الأغنياء زكاة النقدين ، وما كانوا يفحصون خزائن الأغنياء ، هات لشوف أنت إيش عندك مال ؟ في المئة اثنين ونصفـ يعمل حساب ويأخذ منه ، هذا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، بخلاف زكاة المواشي والزُّروع ، فكان لها موظَّفون مختصُّون في جمعها من الذين وجبت الزكاة عليهم فيها ، أما زكاة النقدين زكاة الذهب والفضة فهذا قد وَكل الشارع الحكيم أمرَها إلى المسلم الغني ، فهو الذي يُكلَّف بإخراج هذه الزكاة دون أن يكون عليه مُطالب أو رقيب أو حسيب ، فلو أن دولةً ما اليوم أرادت أن تجمع زكاة الأموال النقدين كما كانوا من قبل في عهد الرسول - عليه السلام - يجمعون زكاة المواشي والزروع بواسطة السُّعاة يكون هذا ابتداع في الدين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شرع للمسلمين أن يُعطوا زكاة للسُّعاة الموظَّفين الذين يذهبون إلى أصحابين تلك الأموال فيجمعونها منهم ، هذا الرسول - عليه السلام - الذي شرع من الله - تبارك وتعالى - هذا الجمع بهذه الطريقة ما شرع لأولئك السُّعاة ومن أولئك الجُباة أن يجمعوا زكاة النقدين ، فالذي شرع ذلك ما شرع هذا ، فإذا جئنا نحن وشرعنا من عندنا وسيلة جديدة كان المقتضي لتشريعها في عهد الرسول - عليه السلام - ومع ذلك ما شرعه يكون هذا من الابتداع في الدين .
ومثال أخير - وبذلك أظن يكفي لشرح موضوع المصالح المرسلة ؛ أنَّها كل وسيلة تؤدي إلى تحقيق أمر شرعي ، لكن بشرط أنُّو تكون هذه الوسيلة حدثت فيما بعد ، ولم يكن المقتضي للأخذ بمقتضاها في عهد الرسول - عليه السلام - - فمثل أخير ذكرته بمناسبة قريبة لكن إتمامًا للفائدة أذكِّر بهذا السبب : وهو الأذان لصلاة الاستسقاء أو لصلاة الكسوف هذا لا يشرع ؛ لأن الرسول - عليه السلام - صلى صلاة الكسوف وما أذَّن ، كان المُقتضي لجمع الناس بطريقة الأذان موجودًا في عهد الرسول ومع ذلك ما شرع لهم هذه الوسيلة مع أنَّها مشروعة بالنسبة للصلوات الخمس ، وبالتالي أن لا يُشرع لها أي وسيلة أخرى كما وقع لي كنت في الشارقة يوم خُسف القمر ، يمكن خُسف عندكم - أيضًا - هنا ؟
سائل آخر : نعم .
الشيخ : ونحن غرباء عن تلك البلدة في نصف الليل تقريبًا نسمع ضوضاء وغوغاء حولنا وما نفهم لغتهم جيِّدًا ، بعد ذلك أحد عائلتي يلفت نظري ونحن كنا في الغرفة أنُّو القمر قد انخسف ؛ حينئذٍ تنبَّهنا بأن الأمر عبارة عن تكبير وتهليل من مُختلف النواحي ، فقلنا في أنفسنا أن هذا طبعًا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، وإنما كان يجمع الناس لمثل هذه الصلاة بمثل قول المؤذِّن : " الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة " ، مع ذلك قلت : هذه الوسيلة التي رأيناها هناك في الإمارات خير من الوسيلة التي نعرفها في بلادنا السورية ؛ هناك تسمع ضجيجًا عجيبًا ، والضرب على الأواني النحاسية ، الأواني التي يطبخون عليها يضربون عليها ضربًا مزعج جدًّا ، فتسمع ضجج في البلد كله ، هذه أثر من آثار التقاليد الخرافية المحضة ؛ لأنُّو من السَّائد عندنا هناك أن الكسوف سببه قالوا : الحوت يفغر فاه فيُحاول أن يبتلع القمر ، ولذلك فهم يخوِّفون هذا الحوت المزعوم بمثل ذلك الضرب الإيش ؟ المزعج .
فقلت أنا على كل حال : لا يُشرع لصلاة الكسوف الأذان الذي لا يأتينا أحسن منه ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله . فإذًا المصلحة المرسلة هي كلُّ سبب يؤدِّي إلى تحقيق أمر شرعي منصوص عليه في الكتاب والسنة ، لكن هذا السبب لم يكن المقتضي للأخذ به قائمًا في عهد الرسول - عليه السلام - ، فإذا كان قائمًا والرسول لم يتبنَّه ؛ فحينئذٍ لا يجوز لنا أن نتبنَّاه .
الشيخ : فكيف ؟
السائل : المصالح المرسلة هل هي من الابتداع أم شيءٌ آخر ؟
الشيخ : المصالح المرسلة أوَّلًا : ليس لها علاقة بموضوع الابتداع في الدين ، وهذه نقطة مهمة جدًّا ؛ ذلك لأنَّ الابتداع في الدين إنما يقصده المبتدع بتلك البدعة زيادة التقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - ، المبتدع في الدين إنما يُريد من بدعته أن يزداد بها تقرُّبًا إلى الله - تبارك وتعالى - ، هذا هو قصد المبتدع ؛ ولذلك تأتي عليه كلُّ النصوص التي تحرِّم الابتداع في الدين ، أول ذلك الآية الكريمة : (( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا )) ، تمَّت النعمة عليكم ؛ فلم يبقَ هناك مجال لأحدٍ أن يتَّبع عبادةً يزداد بها تقرُّبًا إلى الله ، كيف وقد قال رسول الله : ( ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ) ؟ فإيه بقى تأتي بعبادة تدَّعي أنها تقرِّبك إلى الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ لم ] يأت بها ، هذا مما يلزم المبتدع في الدين ، وليس كذلك بالنسبة للذي جاء بأمر جديد لكن لا بقصد زيادة التقرُّب إلى الله ، وإنما بقصد أن هذا الأمر الذي حدث يؤدِّي إلى أمر مشروع بالنَّصِّ ، وأنا كنت ذكرت من أيام قليلة الفرق بين البدعة وبين المصلحة المُرسلة ، ذكرت هذا الفرق ليس بهذه الصَّراحة ، لكن لتوضيح أنَّ ليس كلُّ ما يحدث بعد الرسول - عليه السلام - يُحكَم عليه بالبدعة المذمومة في الإسلام ، وإنما الذي يحدث بعد الرسول بقصد زيادة التقرُّب إلى الله - عز وجل - فهو الذي ينطبق عليه كلُّ النصوص السابقة بالإشارة إليها ، ومنها قوله - عليه السلام - ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .
ذكرت يومئذٍ من الأمثلة إخراج عمر بن الخطاب لليهود من خيبر ، لا شك أن هذا الإخراج حَدَثَ بعد وفاة الرسول - عليه السلام - ، وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - وبعد مدَّة من خلافة عمر بن الخطاب ؛ فهل هذه بدعة في الدين ؟ الجواب : لا ؛ لأن البدعة في الدين هو أمر مُحدث بقصد زيادة التقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - ، أما شيء حدث لا يُقصد به زيادة التقرُّب إلى الله ، وإنما يُقصد به تنفيذ حكم من أحكام الله منصوص على هذا الحكم في كتاب الله ، فهنا تجدون أنَّ عمر بن الخطاب لما أخرج اليهود من خيبر إنما نفَّذ شرطًا من شروط النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما صالح اليهود على ألَّا يخرجوا من خيبر وأن يظلُّوا فيها - هذه القرية - ويعملوا فيها ، ولهم الشطر مما تُنبِتُه الأرض ، وللرسول - عليه السلام - الشطر الأخر ، كان مما شَرَطَ الرسول عليهم قال : ( إنما نُقرِّكم فيها ما نشاء ) ، هذا الشرط ما هو أبدي ، وإنما بما يبدو لنا نحن المسلمين ، ( نقرِّكم فيها ما نشاء ) ، فلما بدا لعمر بن الخطاب أن المسلمين لم يعودوا بحاجة إلى استغلال علم اليهود في الحرث والزرع والضَّرع استغنى عنهم ، وقال لهم : يلَّا ؛ انصرفوا إلى أرض الله الواسعة ؛ تمامًا كما هو واقع في كثير من البلاد الإسلامية اليوم يضطرُّون إلى أن يستجلبوا موظَّفين أجانب ، وقد يكونوا كفَّارًا لكي يستفيدوا منهم في إدارة شؤون البلاد والتوسُّع في خيراتها والنواحي الزرعية والاقتصادية وإلى آخره ، فإذا ما صار أهل البلاد أنفسهم على علمٍ بذلك استغنوا عن هؤلاء ، وقيل لهم : ارجعوا من حيث أتيتم .
الشاهد : أن عمر لما أخرج اليهود من خيبر هذا أمر جديد ما وقع في عهد الرسول - عليه السلام - ، لكن هذا الأمر الجديد له أصل أصيل في الشرع ؛ وهو الشرط الذي ذكرناه آنفًا لِمَا شرطه الرسول - عليه الصلاة والسلام - على اليهود ؛ فالمصلحة المرسلة هي صحيح سبب حادث جديد ، ولكن يؤدي إلى تحقيق مصلحة مشروعة بالنَّصِّ ، ومع ذلك فهنا تفصيل دقيق ، وهو الشيء الذي ينبغي أن يعرِفَه طلاب العلم .
المصلحة التي جدَّت وتحقِّق فائدة شرعية منصوص عليها في الشرع ، مثلًا الطائرة هذه والسيارة هذه أشياء لم تكن في الزمن السابق ، فإذا المسلم استعمَلَها لتحقيق هدف شرعي إسلامي ، فهذا يدخل في باب المصالح المرسلة ؛ يعني المصالح المتروكة للزمن ، فلكلِّ زمن ملابساته مبتكراته ومخترعاته ، فإذا المسلمين اليوم حرصوا على اقتناء السيارات والطيارات لا أقول فقط لقضاء الحاجات الضرورية والكمالية ، لكن أقول للتقوِّي ليتمكَّن المسلمون على صدِّ عدوان الكفار ؛ فهل حينئذٍ نقاتل الكفار بالآلات القديمة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا بدعوى أن هذه الوسائل الجديدة هي من محدثات الأمور ؟
الجواب : لا ، هذه الوسائل الجديدة لا تدخل في محدثات الأمور ؛ لأن محدثات الأمور المذمومة شرعًا هي التي تكون في الدين ، أما هذه الوسائل فهي أمور دنيوية ، ولكن نحن نأخذ بها خاصَّة في موضوع التمكُّن على أعداء الله في كلِّ بلاد الله ، وحينَ ذاك يدخل هذا النص لتحقيق أمر من أوامر الله ؛ ألا وهو قوله - تبارك وتعالى - : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) ؛ إذًا إذا أخذنا بهذه الأمور المُحدثة اليوم والوسائل تقوِّينا ضد خصومنا وأعدائنا نكون أخذنا بمصالح مرسلة ؛ لأنها تحقِّق أمرًا مشروعًا ، وهو التقوِّي على أعداء الله .
ننزل درجة ، الآن نحن - مع الأسف الشديد - متأخرين جدًّا في هذا المجال من حيث الاستعداد للقوة المعروفة اليوم لِمُلاقاة ومجابهة أعداء الله ، يجوز لنا أن نأخذ بهذه الوسائل من باب أن الله - عز وجل - أنعم على عباده حين قال : (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) فالدَّواب كانت معروفة ، لكن خلق (( لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُون )) ، يومئذٍ السفن في البحار كأنها الجبال الشامخة تمشي في البحار وتخوض فيها ، واليوم ما شاء الله تجد الباخرة كأنها بلدة وسط البحر ، وتجد الطائرة كأنها قصر يطير في السماء وهكذا ، هذه الوسائل أشار الله - عز وجل - إليها أنها من فضل الله - تبارك وتعالى - على عباده بها ؛ ولذلك منَّ عليهم بقوله : (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) ، وفي آية أخرى تتميمًا للتَّذكير بالنعمة : وإيش الآية الأخرى ؟ (( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ )) ، فهذه الطائرة التي نراها اليوم بل السيارة هي ممَّا خلق الله - عز وجل - ممَّا لا يعلمها أسلافنا الأُوَل .
إذًا من جملة اتخاذ أيِّ وسيلة - وسيلة مش هدف وقصد لزيادة التقرُّب إلى الله - أي وسيلة حدثت يجوز أن نأخُذَ بها وأن نتبنَّاها لنا كأمر جائز في شريعتنا ما دامت تحقِّق أمرًا مشروعًا للناس ، لكن مع ذلك هذه الوسائل التي حدثت فيما بعد لا يجوز اتِّخاذها ولا إدخالها في باب المصالح المرسلة إلا بشرطين اثنين :
أوَّلًا : ألَّا تكون هذه الوسيلة كانت ممكنةَ الأخذ بها في عهد الرسول ، ومع ذلك فالرسول - عليه السلام - ما أخذ بها ولا تبنَّاها ، مثاله : اليوم في ضرائب في كلِّ البلاد الإسلامية ؛ مع الأسف تُفرَض على الشعوب المسلمة بحُكم أن مصلحة الدولة تقتضي فرض هذه الضرائب التي تُسمَّى بلغة الشرع بالمكوس ومنها الجمارك ، يُقال : هذه الوسيلة حدثت بعد الرسول - عليه السلام - ، ولا يبرِّر التمسُّك بها أن المقصود بها تحقيق هدف لصالح الأمة ؛ لأننا نقول هذه الوسيلة كان من المُمكن أن يأخذ الرسول - صلواته الله وسلامه - بها لما كانت الشريعة تنزل عليه تترى ، ومع ذلك اكتفى بفرض الزكاة لإنماء بيت مال المسلمين ، واكتفى بأسباب أخرى منها المغانم التي يغنَمُها المسلمون بحروبهم للكفار وغير ذلك من الأشياء التي تُفصَّل في كتب الحديث وكتب الفقه .
فاتِّخاذ وسيلة اليوم لنفس تحقيق الغرض وهو مصالح الدولة وهو إنماء خزينتها بالمال ما دامت الوسيلة كان من الممكن اتخاذها في عهد الرسول - عليه السلام - ولم يتَّخذها ، فيكون اتِّخاذها لنفس الغرض إحداثًا في الدين .
ومثال أقرب وأقرب من هذا بكثير ، ولعلَّ كثيرًا من الحاضرين لم يسمعوا به :
كلنا يعلم أن الزكاة المفروضة كانت تُجمع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموظَّفين يُعرفون بالسُّعاة ، يعرفون اليوم بالجُباة ، أما قديمًا فيُسمَّى من يجبي الأموال الساعي ، وجمعه السُّعاة يطوفون على أصحابين البقر والمواشي وأصحابين الأراضي التمر والقمح والشعير فيجمعون كلَّ شيء من هذه الأجناس في الموسم ، ويسوقونها إلى بيت مال المسلمين ، وفي نظام دقيق جدًّا مفصَّل كل التفصيل في كتب السنة وكتب الحديث ، لكن لعل الكثير من الحاضرين لا يعلمون أو لا يتنبَّهون أن هؤلاء السُّعاة ما كانوا يجمعون زكاة النقدين ، ما كانو يجمعون من الأغنياء زكاة النقدين ، وما كانوا يفحصون خزائن الأغنياء ، هات لشوف أنت إيش عندك مال ؟ في المئة اثنين ونصفـ يعمل حساب ويأخذ منه ، هذا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، بخلاف زكاة المواشي والزُّروع ، فكان لها موظَّفون مختصُّون في جمعها من الذين وجبت الزكاة عليهم فيها ، أما زكاة النقدين زكاة الذهب والفضة فهذا قد وَكل الشارع الحكيم أمرَها إلى المسلم الغني ، فهو الذي يُكلَّف بإخراج هذه الزكاة دون أن يكون عليه مُطالب أو رقيب أو حسيب ، فلو أن دولةً ما اليوم أرادت أن تجمع زكاة الأموال النقدين كما كانوا من قبل في عهد الرسول - عليه السلام - يجمعون زكاة المواشي والزروع بواسطة السُّعاة يكون هذا ابتداع في الدين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شرع للمسلمين أن يُعطوا زكاة للسُّعاة الموظَّفين الذين يذهبون إلى أصحابين تلك الأموال فيجمعونها منهم ، هذا الرسول - عليه السلام - الذي شرع من الله - تبارك وتعالى - هذا الجمع بهذه الطريقة ما شرع لأولئك السُّعاة ومن أولئك الجُباة أن يجمعوا زكاة النقدين ، فالذي شرع ذلك ما شرع هذا ، فإذا جئنا نحن وشرعنا من عندنا وسيلة جديدة كان المقتضي لتشريعها في عهد الرسول - عليه السلام - ومع ذلك ما شرعه يكون هذا من الابتداع في الدين .
ومثال أخير - وبذلك أظن يكفي لشرح موضوع المصالح المرسلة ؛ أنَّها كل وسيلة تؤدي إلى تحقيق أمر شرعي ، لكن بشرط أنُّو تكون هذه الوسيلة حدثت فيما بعد ، ولم يكن المقتضي للأخذ بمقتضاها في عهد الرسول - عليه السلام - - فمثل أخير ذكرته بمناسبة قريبة لكن إتمامًا للفائدة أذكِّر بهذا السبب : وهو الأذان لصلاة الاستسقاء أو لصلاة الكسوف هذا لا يشرع ؛ لأن الرسول - عليه السلام - صلى صلاة الكسوف وما أذَّن ، كان المُقتضي لجمع الناس بطريقة الأذان موجودًا في عهد الرسول ومع ذلك ما شرع لهم هذه الوسيلة مع أنَّها مشروعة بالنسبة للصلوات الخمس ، وبالتالي أن لا يُشرع لها أي وسيلة أخرى كما وقع لي كنت في الشارقة يوم خُسف القمر ، يمكن خُسف عندكم - أيضًا - هنا ؟
سائل آخر : نعم .
الشيخ : ونحن غرباء عن تلك البلدة في نصف الليل تقريبًا نسمع ضوضاء وغوغاء حولنا وما نفهم لغتهم جيِّدًا ، بعد ذلك أحد عائلتي يلفت نظري ونحن كنا في الغرفة أنُّو القمر قد انخسف ؛ حينئذٍ تنبَّهنا بأن الأمر عبارة عن تكبير وتهليل من مُختلف النواحي ، فقلنا في أنفسنا أن هذا طبعًا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، وإنما كان يجمع الناس لمثل هذه الصلاة بمثل قول المؤذِّن : " الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة " ، مع ذلك قلت : هذه الوسيلة التي رأيناها هناك في الإمارات خير من الوسيلة التي نعرفها في بلادنا السورية ؛ هناك تسمع ضجيجًا عجيبًا ، والضرب على الأواني النحاسية ، الأواني التي يطبخون عليها يضربون عليها ضربًا مزعج جدًّا ، فتسمع ضجج في البلد كله ، هذه أثر من آثار التقاليد الخرافية المحضة ؛ لأنُّو من السَّائد عندنا هناك أن الكسوف سببه قالوا : الحوت يفغر فاه فيُحاول أن يبتلع القمر ، ولذلك فهم يخوِّفون هذا الحوت المزعوم بمثل ذلك الضرب الإيش ؟ المزعج .
فقلت أنا على كل حال : لا يُشرع لصلاة الكسوف الأذان الذي لا يأتينا أحسن منه ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله . فإذًا المصلحة المرسلة هي كلُّ سبب يؤدِّي إلى تحقيق أمر شرعي منصوص عليه في الكتاب والسنة ، لكن هذا السبب لم يكن المقتضي للأخذ به قائمًا في عهد الرسول - عليه السلام - ، فإذا كان قائمًا والرسول لم يتبنَّه ؛ فحينئذٍ لا يجوز لنا أن نتبنَّاه .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 6
- توقيت الفهرسة : 00:29:23
- نسخة مدققة إملائيًّا