مواصلة الكلام على حجِّيَّة المفهوم .
A-
A=
A+
الشيخ : ... من الأشياء التي ينبغي على طالب العلم أن يكون على انتباه وحذر منها حتى لا يقع في شيء من الإفراط أو التفريط ، أو أن يُفضِّل كلام المخلوق على كلام الخالق - سبحانه وتعالى - ، الدليل على أن المفهوم حجَّة بالقيد السابق - أي : لم يخالف منطوقًا - هو أن الله - تبارك وتعالى - ذكر في كتابه فقال : (( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) ، هذا شرط ، مفهومه أنه عليكم جناح أن تقصروا إن لم تخافوا ، وهذا ما أُلقي في بال بعض الصحابة لما سمع هذه الآية ، فتوجَّه بسبب هذا الذي ألقي في نفسه بالسؤال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلًا : " يا رسول الله ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ " ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( صدقة تصدَّق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته ) ، أين الدليل؟ الدليل أن الصحابيَّ العربيَّ فهمَ أن هذا الشرط له مفهوم ، ولو لا ذلك ما كان به من حاجة إلى أن يتوجَّه بالسؤال الذي يدفع عنه الشبهة والإشكال ، ما كان به حاجة إلى أن يتوجه بذلك إلى الرسول - عليه السلام - ليقول له : " ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ " ، هو كأنه يقول : يا رسول الله ، ربنا اشترط علينا في رفع المؤاخذة والجناح في القصر إذا ضربنا في الأرض أي : سافرنا إذا كنَّا خائفين ، ونحن الآن وقد وطَّد الله الإسلام في الأرض توطيدًا ، ولم يبقَ هناك خوفٌ من المشركين ، بل قضى الله على المشركين فأمنَّا ؛ فما بالنا نقصر ؟ أنتم تعلمون جميعًا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجَّ حجّة الوداع ، وليس في طريقه شيء من الخوف إطلاقًا ، ومع ذلك من ساعة خروجه من المدينة ظلَّ يقصر هو والصحابة حتى رجع إليها ، وكما يقول عثمان بن عفّان : " ونحن مطمئنُّون غير خائفين " ، فجاء هذا السؤال .
هذا الحديث مما يتعلق بموضوعي السابق كنت طرقته لكم ، فيه - أيضًا - تنبيه إلى طريق من طرق الاستنباط في الفقه ، لما ذكرت لكم قول أبي بكر : " مزامير الشيطان في بيت رسول الله ؟! " ، وعطفت على ذلك أحاديث أخرى ، فقلت وبنيت على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع شيئا وأقرَّه ولم ينكره ؛ فكأنه هو قال ذلك ؛ لأنه أقرَّه ، هنا لما سمع الصحابي يقول : " ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ " ، لا شك وضح لكم أن الصّحابي اعتدَّ هنا بالمفهوم ، بالتالي ما قال له الرسول أنت تحتجُّ بالمفهوم ، والمفهوم لا حجّة فيه ، بمعنى - لا سمح الله - لو كان منطق النبي وفهمه لهذه النقطة بالذات على ما يذهب إليه الحنفية ؛ أي : من أن المفهوم ليس فيه حجَّة ، أو بعبارة أخرى : لو أن الحنفي المتمذهب بالمذهب هذا أُورد عليه هذا السؤال من أحدهم ، ماذا يكون جوابه ؟ سيخطِّئه ، سيقول له : أنت تحتج بالمفهوم والمفهوم لا حجّة فيه ، هل كان هذا هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ كلَّا ، وإنما سكت عن سؤاله مقرًّا له ، ثم أزال إشكاله بقوله هذا سبب القول ، هو الأمر كما تقول ، الفهم كما تفهم ، لكن انتبه هناك شيء خفيَ عليك ، فالأمر كما تقول ، لكن الله تفضَّل على عباده وتصدَّق عليهم ، وأنتم من عباده ؛ فاقبلوا صدقته .
فالمفهوم حجَّة بنص هذه الآية التي فهمها الصحابي ، وأقر الرسول - عليه السلام - فهمه ، وأزال إشكاله بقوله : ( صدقة تصدَّق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته ) .
ومن تمام الحجة بهذه الرواية أن أحد التابعين قال - أمام عمر فيما يغلب على ظنِّي - : " لو أني أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَسألته " . قال له عمر : " عمَّ تسأله ؟ " . قال : " عن هذه الآية ؛ (( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) " ، وها نحن اليوم ... يقول هذا الكلام ، نقصر وليس هناك خوف ... قال : " لقد سألت رسول الله " - الصحابي وهو عمر يقول - : " لقد سألت رسول الله عما كنت تريد أن تسأله ، فأجابني بقوله : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته ) " .
هذا الحديث مما يتعلق بموضوعي السابق كنت طرقته لكم ، فيه - أيضًا - تنبيه إلى طريق من طرق الاستنباط في الفقه ، لما ذكرت لكم قول أبي بكر : " مزامير الشيطان في بيت رسول الله ؟! " ، وعطفت على ذلك أحاديث أخرى ، فقلت وبنيت على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع شيئا وأقرَّه ولم ينكره ؛ فكأنه هو قال ذلك ؛ لأنه أقرَّه ، هنا لما سمع الصحابي يقول : " ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟ " ، لا شك وضح لكم أن الصّحابي اعتدَّ هنا بالمفهوم ، بالتالي ما قال له الرسول أنت تحتجُّ بالمفهوم ، والمفهوم لا حجّة فيه ، بمعنى - لا سمح الله - لو كان منطق النبي وفهمه لهذه النقطة بالذات على ما يذهب إليه الحنفية ؛ أي : من أن المفهوم ليس فيه حجَّة ، أو بعبارة أخرى : لو أن الحنفي المتمذهب بالمذهب هذا أُورد عليه هذا السؤال من أحدهم ، ماذا يكون جوابه ؟ سيخطِّئه ، سيقول له : أنت تحتج بالمفهوم والمفهوم لا حجّة فيه ، هل كان هذا هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ كلَّا ، وإنما سكت عن سؤاله مقرًّا له ، ثم أزال إشكاله بقوله هذا سبب القول ، هو الأمر كما تقول ، الفهم كما تفهم ، لكن انتبه هناك شيء خفيَ عليك ، فالأمر كما تقول ، لكن الله تفضَّل على عباده وتصدَّق عليهم ، وأنتم من عباده ؛ فاقبلوا صدقته .
فالمفهوم حجَّة بنص هذه الآية التي فهمها الصحابي ، وأقر الرسول - عليه السلام - فهمه ، وأزال إشكاله بقوله : ( صدقة تصدَّق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته ) .
ومن تمام الحجة بهذه الرواية أن أحد التابعين قال - أمام عمر فيما يغلب على ظنِّي - : " لو أني أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَسألته " . قال له عمر : " عمَّ تسأله ؟ " . قال : " عن هذه الآية ؛ (( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) " ، وها نحن اليوم ... يقول هذا الكلام ، نقصر وليس هناك خوف ... قال : " لقد سألت رسول الله " - الصحابي وهو عمر يقول - : " لقد سألت رسول الله عما كنت تريد أن تسأله ، فأجابني بقوله : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته ) " .
- الفتاوى الإماراتية - شريط : 7
- توقيت الفهرسة : 00:00:45
- نسخة مدققة إملائيًّا