ما مدى صحة حديث ابن عباس : ( صلَّى في فضاء ، وليس بين يديه شيء ) رواه أحمد أبو داود ؟
A-
A=
A+
السائل : يقول ما مدى صحة هذا الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في فضاء وليس بين يديه شيء ) رواه أحمد أبو داود ؟
الشيخ : هذا الحديث صحيح ، لكن هناك بعض القواعد الأصولية يجب ملاحظتها حينما يبدو للباحث أو الفقيه التعارض بين بعض الأحاديث ، من هذه القواعد : " إذا تعارض القول والفعل قُدِّم القول على الفعل " ، إذا تعارض قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع فعل له قُدِّم القول على الفعل ، لماذا ؟ لأنَّ القول شريعة عامة ، وجَّهه الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى الأمة ، أما الفعل فهو وإن كان أيضًا الأصل فيه أنه شريعة عامة ، لكن في كثير من الأحيان يكون حكمًا خاصا به - عليه السلام - دون سائر الناس ، وهذا لا يحتاج إلى ضرب للأمثلة ، وأحيانًا يكون ذاك الفعل صدر منه - عليه السلام - بحكم الضرورة أو الحاجة ، فيكون حينذاك معذورًا ، فيبقى القول الذي وُجِّه إلى الأمة دون أية معارضة ، من أجل هذا وذاك كان من الفقه الذي يجب مراعاته هو أن يُقدَّم القول على الفعل ، إلا إذا كان هناك دليل يدلُّ على أن القول نُسخ ، وهذا صعبٌ تصوره ، ولكن نحن نفترض إذا قام الدليل على نسخ القول بالفعل ذُهب إليه ، ولكن هذا نادرًا ما يكون ، وإن كان يقع فيه بعض الناس خطأً ، يعني - مثلًا - حديث : ( إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به ) ، وفيه : ( وإذا صلى قاعدًا ؛ فصلوا قعودًا أجمعين ) ، وفي رواية : ( إذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، هذا فيه أمر لمن صلى وراء الإمام الجالس بعذر أنه يجب عليه أن يتابعه فيجلس معه ، عُورض هذا الحديث بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه قاعدًا ، والناس من خلفه قيام ، فادَّعى بعضهم أن هذا الحديث ناسخ أن هذا الحديث الفعلي ناسخ للحديث القولي : ( وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، فرُدَّ على هذا البعض بأن الفعل ليس فيه من قوة التشريع ما يمكن أن ينسخ القول الفعلي القول الثابت من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بل الواجب - والحالة هذه - التوفيق بين الفعل والقول ، وهذا حينما يكون عندنا حجَّة أن القول متقدِّم على الفعل ، والفعل المُعارض له متأخِّر عنه ، حينذاك لا بد من التوفيق ، أما أن يُنسخ القول من أصله بمجرد أن وقع للرسول - عليه السلام - فعلًا بخلافه ؛ فهذا لا يجوز لما فيه من تعطيل التشريع العام الموجَّه إلى الأمة ، فإذا أمكن التوفيق وُفِّق ، وهذا أصل ضروري جدًّا ملاحظته .
وقد حاول بعض الأئمة السابقين التوفيق بين ما وقع للرسول في هذه الحادثة وبين قوله - عليه السلام - : ( فصلُّوا جلوسًا أجمعين ) ، فإن الإمام أحمد - رحمه الله - أعمل كلًّا من الحديثين القولي والفعلي في مكانه ، الحديث القولي جعله قاعدة مطردة ، لأن هذا طبيعة الأقوال النبوية ، أما الفعل الذي وقع من الرسول - عليه السلام - فالتزمه في حدود واقعه لم يلحق به صورًا أخرى ؛ فماذا قال ؟ قال : " إذا ابتدأ الإمام الصلاة جالسًا ؛ فعلى مَن خلفه أن يجلسوا معه ، أما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ، ثم عرض له ما أقعده ، فيستمرُّ المقتدون خلفه على قيامهم الأول " ، هذا منه من دقَّة فهمه - رحمه الله - ؛ لأن الحادثة هكذا كانت ، أي : كان - كما تعلمون - الإمام أبو بكر الصديق بحكم توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له حينما قال : ( مروا أبا بكر ؛ فليصل بالناس ) ، فهو صلى بالناس إمامًا قائمًا بطبيعة الحال ، فلما طلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس وتأخَّر أبو بكر ، وقام الأصيل مقام الوكيل ، ودخل جالسًا كانت صلاته تمامًا لصلاة الإمام الوكيل الذي ابتدأها من قيام ، فهكذا يقول الإمام أحمد - رحمه الله - ، يفرِّق بين ما إذا كان الإمام ابتدأ الصلاة قاعدًا فعليهم أن يقعدوا ، أما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم عرض له ما أقعده ؛ فهنا تأتي الحادثة الفعليَّة وتخصِّص القاعدة القولية . فهذا الجمع هو الذي ينبغي أن يُصار إليه ، لا أن يُقال إن حديث الأمر بالقعود منسوخ ؛ لأن الحادثة الفعلية ليست فيها الدلالة العامة التي تُعارض الحديث القولي ، فلا سبيل إلا إلى القول بنسخه .
نعم ، على أن هناك توفيقًا آخر وهو : لو كانت القصة - كما تصوَّرها الإمام أحمد - هو أن الإمام ابتدأ الصلاة من قعود ، وصلى مَن خلفه من قيام ، هذه صورة تعارض تمامًا قوله - عليه السلام - : ( فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، حينئذ يقال إن هذه الصورة الفعلية - أيضًا - لا تنهض بنسخ القول ، وإنما تنهض ببيان معناه ، لأننا نعلم أن الأصل في كل أمر أنه يفيد الوجوب ، إلا إذا قام الدليل على عدم الوجوب ، فإذا ثبت لدينا أن قوله - عليه السلام - هذا متقدِّم ، وفعله - عليه السلام - في الصورة التي تخيَّلناها دخل في الصلاة جالسًا ، والناس يصلُّون خلفه قيام خلاف الحديث تمامًا ، مع ذلك لا يجوز أن يقال هذا الحديث الفعلي نسخ الحديث القولي ، لأنه يمكن التوفيق بوجهٍ أقرب من تعطيل الحديث القولي ، فيقال الحديث الفعلي بيِّنَ أن الأمر في الحديث القولي ليس على الوجوب ، وإنما هو على الاستحباب ، فبقي قوله - عليه السلام - محكمًا غير منسوخ بطريقة التوفيق بين الحديث القولي والحديث الفعلي ، هذا لو كانت الحادثة الفعلية أولًا متأخرة عن القولي ، وثانيًا كانت بهذه الصورة الضيقة التي صوَّرناها ، فكيف وهي أولًا : لا يُعلم أنها متأخرة عن الحديث القولي ، وثانيًا لم تكن الصلاة هناك ابتدأها الإمام من قعود ، وإنما ابتدأها من قيام ؟ لذلك فالأمر بالصلاة خلف الإمام الجالس جلوسًا هو أمر محكم ، كلُّ ما يُمكن أن يُقال إن الأمر هل هو للوجوب كما هو ظاهره ؟ أم هو للاستحباب كما يقتضي الجمع بين الحادثة الفعلية والحديث القولي ؟
الجواب الذي نطمئنُّ إليه أن الأمر للوجوب لا يزال قائمًا ، وأن الحادثة الفعليَّة لا علم عندنا بأنها متأخرة عن الحديث القولي ، بل قد جاء في " مصنف عبد الرزاق " بسند صحيح عن أحد التابعين - وفي حفظي - أنه طاووس أو عطاء ، أحدهما يقينًا ، أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حادثة صلاته جالسًا قال مثل هذا الحديث : ( إذا صلى الإمام قائمًا ؛ فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجميعن ) ، هذا الحديث وإن كان مرسلًا ؛ فهو يؤكد بقاء الأمر في الحديث المتفق عليه على أصله ، لأنه لم يقم عندنا دليل على أن الحادثة الفعلية تأخرت عن قوله - عليه السلام - العام ، لهذا فالحديث لا يزال على أصله شرعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة مطلق ؛ ( إذا صلى الإمام جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، ولأجل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية أعني يؤيد أن الحديث ليس منسوخًا ، بحديث رواه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى بأصحابه يومًا الظهر جالسًا ، لأنه كان راكبًا دابته فرمته أرضًا ، فأصيب في عضده أو أكحله ، فلم يستطع أن يصلي قائمًا ، فصلى قاعدًا ، وقام الناس كعادتهم من خلفه قيام ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا ، ولما سلم - عليه الصلاة والسلام - من صلاته قال لهم : ( إن كدتم تفعلون آنفًا فعل فارس بعظمائها ، يقومون على رؤوس ملوكهم ، إنما جعل الإمام ليُؤتمَّ به ) وذكر الحديث : ( فإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " في هذا الحديث تعليل شرعي للأمر للمقتدين بالصلاة جلوسًا أجمعين خلف الإمام الجالس ، أما في هذه الظاهرة التي رآها الرسول - عليه السلام - من الصحابة كونه هو صلى جالسًا وصلوا هم قيامًا ، فيه مشابهة لأهل فارس الذين من عادتهم أن الملك يجلس على عرشه ، ويكون الناس من حوله قيامًا ، لهذا قال لهم : ( إن كدتم آنفًا تفعلون ) ، كدتم وما فعلتم ، لصوارف واضحة جدًّا ، منها أن كسرى حينما يجلس على عرشه ... من حوله قيامًا أمر مقصود ، لإظهار عجرفته وكبريائه ، بينما الصورة التي وقعت بين الصحابة والنبي لا يوجد شيء من هذا إطلاقًا ، هناك كسرى يجلس تعاظمًا ، مَن حوله يقومون تعظيمًا ، كل هذا وذاك ليس له وجود في صورة قيام الصحابة خلف الرسول - عليه السلام - ، رسول الله جلس وهو الذي بلَّغنا قول ربنا : (( وقوموا لله قانتين )) ، وهو الذي قال لعمران بن حصين : ( صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع ؛ فعلى جنب ) ، فحينذاك كيف يترك هو القيام لو استطاع إليه سبيلًا ؟! إذا هو جلس مضطرًّا فأين جلوس كسرى ؟ كسرى جلس متعاظمًا ، رسولنا جلس مضطرًّا ، ثم كسرى جلس ليحكم بين الناس يعني ويسيطر عليهم بأحكامه ، رسول الله جلس في الصلاة إظهارًا لعبوديته لربِّه ، فهذه فارقة أخرى بين جلوس كسرى وبين جلوس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالصحابة حينما قاموا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاموا كما قام أتباع كسرى وحاشية كسرى تعظيمًا له ، فالصحابة ما قاموا خلف النبي الجالس تعظيمًا له ، وإنما تحقيقًا لذاك المبدأ (( وقوموا لله قانتين )) ، فشتان بين الصورتين من حيث المقاصد والنوايا ! لكن هذه الشكلية لا يرضاها الرسول - عليه السلام - الذي سنَّ لنا ألا نتشبَّه بالكفار ، ولهذا قال لهم : ( إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس بعظمائها ، يقومون على رؤوس ملوكهم ) ، فأنتم قمتم على رأسي ، فماذا يفعلون ؟ قال لهم : ( إذا صلى قائمًا فصلُّوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجميعن ) ، يقول ابن تيمية : " هذا حكم مُعلَّل بعلَّة محكمة لا يتصور أن تنسخ ، وما كان من الأحكام مقرونًا بعلَّة محكمة لا تنسخ ؛ فهذا الحكم لا يجوز نسخه بمثل فعلٍ وقع من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم " . لا سيما - أؤكد - أنه ليس هناك ما يُثبت أن هذا الفعل وقع بعد القول ، إذًا يبقى قول الرسول - عليه السلام - : ( صلوا جلوسًا أجمعين ) محكمًا إلى يوم الدين .
غيره ؟
الشيخ : هذا الحديث صحيح ، لكن هناك بعض القواعد الأصولية يجب ملاحظتها حينما يبدو للباحث أو الفقيه التعارض بين بعض الأحاديث ، من هذه القواعد : " إذا تعارض القول والفعل قُدِّم القول على الفعل " ، إذا تعارض قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع فعل له قُدِّم القول على الفعل ، لماذا ؟ لأنَّ القول شريعة عامة ، وجَّهه الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى الأمة ، أما الفعل فهو وإن كان أيضًا الأصل فيه أنه شريعة عامة ، لكن في كثير من الأحيان يكون حكمًا خاصا به - عليه السلام - دون سائر الناس ، وهذا لا يحتاج إلى ضرب للأمثلة ، وأحيانًا يكون ذاك الفعل صدر منه - عليه السلام - بحكم الضرورة أو الحاجة ، فيكون حينذاك معذورًا ، فيبقى القول الذي وُجِّه إلى الأمة دون أية معارضة ، من أجل هذا وذاك كان من الفقه الذي يجب مراعاته هو أن يُقدَّم القول على الفعل ، إلا إذا كان هناك دليل يدلُّ على أن القول نُسخ ، وهذا صعبٌ تصوره ، ولكن نحن نفترض إذا قام الدليل على نسخ القول بالفعل ذُهب إليه ، ولكن هذا نادرًا ما يكون ، وإن كان يقع فيه بعض الناس خطأً ، يعني - مثلًا - حديث : ( إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به ) ، وفيه : ( وإذا صلى قاعدًا ؛ فصلوا قعودًا أجمعين ) ، وفي رواية : ( إذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، هذا فيه أمر لمن صلى وراء الإمام الجالس بعذر أنه يجب عليه أن يتابعه فيجلس معه ، عُورض هذا الحديث بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه قاعدًا ، والناس من خلفه قيام ، فادَّعى بعضهم أن هذا الحديث ناسخ أن هذا الحديث الفعلي ناسخ للحديث القولي : ( وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، فرُدَّ على هذا البعض بأن الفعل ليس فيه من قوة التشريع ما يمكن أن ينسخ القول الفعلي القول الثابت من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بل الواجب - والحالة هذه - التوفيق بين الفعل والقول ، وهذا حينما يكون عندنا حجَّة أن القول متقدِّم على الفعل ، والفعل المُعارض له متأخِّر عنه ، حينذاك لا بد من التوفيق ، أما أن يُنسخ القول من أصله بمجرد أن وقع للرسول - عليه السلام - فعلًا بخلافه ؛ فهذا لا يجوز لما فيه من تعطيل التشريع العام الموجَّه إلى الأمة ، فإذا أمكن التوفيق وُفِّق ، وهذا أصل ضروري جدًّا ملاحظته .
وقد حاول بعض الأئمة السابقين التوفيق بين ما وقع للرسول في هذه الحادثة وبين قوله - عليه السلام - : ( فصلُّوا جلوسًا أجمعين ) ، فإن الإمام أحمد - رحمه الله - أعمل كلًّا من الحديثين القولي والفعلي في مكانه ، الحديث القولي جعله قاعدة مطردة ، لأن هذا طبيعة الأقوال النبوية ، أما الفعل الذي وقع من الرسول - عليه السلام - فالتزمه في حدود واقعه لم يلحق به صورًا أخرى ؛ فماذا قال ؟ قال : " إذا ابتدأ الإمام الصلاة جالسًا ؛ فعلى مَن خلفه أن يجلسوا معه ، أما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ، ثم عرض له ما أقعده ، فيستمرُّ المقتدون خلفه على قيامهم الأول " ، هذا منه من دقَّة فهمه - رحمه الله - ؛ لأن الحادثة هكذا كانت ، أي : كان - كما تعلمون - الإمام أبو بكر الصديق بحكم توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له حينما قال : ( مروا أبا بكر ؛ فليصل بالناس ) ، فهو صلى بالناس إمامًا قائمًا بطبيعة الحال ، فلما طلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس وتأخَّر أبو بكر ، وقام الأصيل مقام الوكيل ، ودخل جالسًا كانت صلاته تمامًا لصلاة الإمام الوكيل الذي ابتدأها من قيام ، فهكذا يقول الإمام أحمد - رحمه الله - ، يفرِّق بين ما إذا كان الإمام ابتدأ الصلاة قاعدًا فعليهم أن يقعدوا ، أما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم عرض له ما أقعده ؛ فهنا تأتي الحادثة الفعليَّة وتخصِّص القاعدة القولية . فهذا الجمع هو الذي ينبغي أن يُصار إليه ، لا أن يُقال إن حديث الأمر بالقعود منسوخ ؛ لأن الحادثة الفعلية ليست فيها الدلالة العامة التي تُعارض الحديث القولي ، فلا سبيل إلا إلى القول بنسخه .
نعم ، على أن هناك توفيقًا آخر وهو : لو كانت القصة - كما تصوَّرها الإمام أحمد - هو أن الإمام ابتدأ الصلاة من قعود ، وصلى مَن خلفه من قيام ، هذه صورة تعارض تمامًا قوله - عليه السلام - : ( فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، حينئذ يقال إن هذه الصورة الفعلية - أيضًا - لا تنهض بنسخ القول ، وإنما تنهض ببيان معناه ، لأننا نعلم أن الأصل في كل أمر أنه يفيد الوجوب ، إلا إذا قام الدليل على عدم الوجوب ، فإذا ثبت لدينا أن قوله - عليه السلام - هذا متقدِّم ، وفعله - عليه السلام - في الصورة التي تخيَّلناها دخل في الصلاة جالسًا ، والناس يصلُّون خلفه قيام خلاف الحديث تمامًا ، مع ذلك لا يجوز أن يقال هذا الحديث الفعلي نسخ الحديث القولي ، لأنه يمكن التوفيق بوجهٍ أقرب من تعطيل الحديث القولي ، فيقال الحديث الفعلي بيِّنَ أن الأمر في الحديث القولي ليس على الوجوب ، وإنما هو على الاستحباب ، فبقي قوله - عليه السلام - محكمًا غير منسوخ بطريقة التوفيق بين الحديث القولي والحديث الفعلي ، هذا لو كانت الحادثة الفعلية أولًا متأخرة عن القولي ، وثانيًا كانت بهذه الصورة الضيقة التي صوَّرناها ، فكيف وهي أولًا : لا يُعلم أنها متأخرة عن الحديث القولي ، وثانيًا لم تكن الصلاة هناك ابتدأها الإمام من قعود ، وإنما ابتدأها من قيام ؟ لذلك فالأمر بالصلاة خلف الإمام الجالس جلوسًا هو أمر محكم ، كلُّ ما يُمكن أن يُقال إن الأمر هل هو للوجوب كما هو ظاهره ؟ أم هو للاستحباب كما يقتضي الجمع بين الحادثة الفعلية والحديث القولي ؟
الجواب الذي نطمئنُّ إليه أن الأمر للوجوب لا يزال قائمًا ، وأن الحادثة الفعليَّة لا علم عندنا بأنها متأخرة عن الحديث القولي ، بل قد جاء في " مصنف عبد الرزاق " بسند صحيح عن أحد التابعين - وفي حفظي - أنه طاووس أو عطاء ، أحدهما يقينًا ، أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حادثة صلاته جالسًا قال مثل هذا الحديث : ( إذا صلى الإمام قائمًا ؛ فصلوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجميعن ) ، هذا الحديث وإن كان مرسلًا ؛ فهو يؤكد بقاء الأمر في الحديث المتفق عليه على أصله ، لأنه لم يقم عندنا دليل على أن الحادثة الفعلية تأخرت عن قوله - عليه السلام - العام ، لهذا فالحديث لا يزال على أصله شرعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة مطلق ؛ ( إذا صلى الإمام جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، ولأجل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية أعني يؤيد أن الحديث ليس منسوخًا ، بحديث رواه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى بأصحابه يومًا الظهر جالسًا ، لأنه كان راكبًا دابته فرمته أرضًا ، فأصيب في عضده أو أكحله ، فلم يستطع أن يصلي قائمًا ، فصلى قاعدًا ، وقام الناس كعادتهم من خلفه قيام ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا ، ولما سلم - عليه الصلاة والسلام - من صلاته قال لهم : ( إن كدتم تفعلون آنفًا فعل فارس بعظمائها ، يقومون على رؤوس ملوكهم ، إنما جعل الإمام ليُؤتمَّ به ) وذكر الحديث : ( فإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجمعين ) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " في هذا الحديث تعليل شرعي للأمر للمقتدين بالصلاة جلوسًا أجمعين خلف الإمام الجالس ، أما في هذه الظاهرة التي رآها الرسول - عليه السلام - من الصحابة كونه هو صلى جالسًا وصلوا هم قيامًا ، فيه مشابهة لأهل فارس الذين من عادتهم أن الملك يجلس على عرشه ، ويكون الناس من حوله قيامًا ، لهذا قال لهم : ( إن كدتم آنفًا تفعلون ) ، كدتم وما فعلتم ، لصوارف واضحة جدًّا ، منها أن كسرى حينما يجلس على عرشه ... من حوله قيامًا أمر مقصود ، لإظهار عجرفته وكبريائه ، بينما الصورة التي وقعت بين الصحابة والنبي لا يوجد شيء من هذا إطلاقًا ، هناك كسرى يجلس تعاظمًا ، مَن حوله يقومون تعظيمًا ، كل هذا وذاك ليس له وجود في صورة قيام الصحابة خلف الرسول - عليه السلام - ، رسول الله جلس وهو الذي بلَّغنا قول ربنا : (( وقوموا لله قانتين )) ، وهو الذي قال لعمران بن حصين : ( صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع ؛ فعلى جنب ) ، فحينذاك كيف يترك هو القيام لو استطاع إليه سبيلًا ؟! إذا هو جلس مضطرًّا فأين جلوس كسرى ؟ كسرى جلس متعاظمًا ، رسولنا جلس مضطرًّا ، ثم كسرى جلس ليحكم بين الناس يعني ويسيطر عليهم بأحكامه ، رسول الله جلس في الصلاة إظهارًا لعبوديته لربِّه ، فهذه فارقة أخرى بين جلوس كسرى وبين جلوس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالصحابة حينما قاموا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاموا كما قام أتباع كسرى وحاشية كسرى تعظيمًا له ، فالصحابة ما قاموا خلف النبي الجالس تعظيمًا له ، وإنما تحقيقًا لذاك المبدأ (( وقوموا لله قانتين )) ، فشتان بين الصورتين من حيث المقاصد والنوايا ! لكن هذه الشكلية لا يرضاها الرسول - عليه السلام - الذي سنَّ لنا ألا نتشبَّه بالكفار ، ولهذا قال لهم : ( إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس بعظمائها ، يقومون على رؤوس ملوكهم ) ، فأنتم قمتم على رأسي ، فماذا يفعلون ؟ قال لهم : ( إذا صلى قائمًا فصلُّوا قيامًا ، وإذا صلى جالسًا ؛ فصلوا جلوسًا أجميعن ) ، يقول ابن تيمية : " هذا حكم مُعلَّل بعلَّة محكمة لا يتصور أن تنسخ ، وما كان من الأحكام مقرونًا بعلَّة محكمة لا تنسخ ؛ فهذا الحكم لا يجوز نسخه بمثل فعلٍ وقع من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم " . لا سيما - أؤكد - أنه ليس هناك ما يُثبت أن هذا الفعل وقع بعد القول ، إذًا يبقى قول الرسول - عليه السلام - : ( صلوا جلوسًا أجمعين ) محكمًا إلى يوم الدين .
غيره ؟
- الفتاوى الإماراتية - شريط : 11
- توقيت الفهرسة : 00:16:15
- نسخة مدققة إملائيًّا