هل قول : " كفر دون كفر " ينطبق على الشرك - أيضًا - ؛ فيكون هناك " شرك دون شرك " ؛ شرك مخرج عن ملة الإسلام ، وشرك لا يخرج عن ملة الإسلام ؟ ومتى يكون شركًا اعتقاديًّا ومتى يكون عمليًّا ؟
A-
A=
A+
السائل : قول : " كفر دون كفر " هل ينطبق على الشرك أيضًا ؛ أن يكون لفظ : " شرك دون شرك " ، شرك مخرج عن ملة الإسلام ، وشرك لا يخرج عن ملة الإسلام ؟ ومتى يكون شركًا اعتقاديًّا ؟ ومتى يكون شركًا عمليًّا ؟
الشيخ : ... المسألة واحدة ؛ سواء قلنا : كفر اعتقادي أو كفر علمي ، أو قلنا : شرك اعتقادي أو قلنا : شرك عملي ؛ لا بد في الشرك الذي يُخرج به صاحبه من الملة أن يقترنَ به الاعتقاد في المخالف للكتاب والسنة ، والأمثلة من السنة التي هي تبيِّن لنا مثل هذه الحقائق وتجلِّيها كثيرة ، مثلًا لما سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عمر بن الخطاب يحلف بأبيه ؛ قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ، مَن كان منكم حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليصمت ) . قال عمر : " فما حلفت بعد ذلك بغير الله ذاكرًا ولا آثرًا " ؛ يعني ولو على سبيل الحكاية ، ما ذكر أنُّو فلان قال : " بأبي " ، ما نقل ذلك وهذا من تقواه وورعه - رضي الله عنه - .
الشاهد : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سمع عمر يحلف بأبيه ما كفَّرَه ، وما أخرجه عن دينه ، ويجب أن نعلم أنَّ من لوازم إخراج المسلم عن دينه التَّفريق بينه وبين زوجه ، مش مجرَّد كلمة نقولها : أنُّو والله هذا كفر وارتدَّ عن دينه ، وكل شيء بقى على ما هو عليه ، هذا له لوزام ، منها أنه إذا كان متزوِّجًا أنه يفرِّق الشرع بينه وبين زوجته حتى يتوب ويعود عن شركه وعن كفره إلى الإيمان الصحيح ، كذلك لمَّا خَطَبَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاتَ يومٍ وقام رجل ليقولَ له : ما شاء الله وشئت يا رسول الله . قال : ( أَجَعَلتَنِي لله ندًّا ؟! قل ما شاء الله وحدَه ) . فنجد ههنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزِدْ على أكثر من الإنكار الشديد على هذا الذي قالَ له : ما شاء الله وشئت ، لكنه ما رتَّبَ ما يترتَّب من لوازم فيما لو كان ذلك الإنسان أشرك بمعنى ارتَدَّ عن دينه ، وإنما اكتفى بأن بيَّنَ له أن هذا شرك .
أبدع من هذا وأبعد عن أن يكون مثل هذا شرك ردَّة أن رجلًا من الصحابة رأى في المنام كأنه يمشي في بعض أزقة المدينة ، فلَقِيَ رجلًا من اليهود ، فقال المسلم لليهودي : نِعْمَ القوم أنتم معشر يهود لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : عزير ابن الله . فعارضه اليهودي وقال للمسلم : ونِعْمَ القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم استمرَّ في منامه يمشي حتى لَقِيَ رجلًا من النصارى ، فقال له : نِعْمَ القوم أنتم معشر النصارى لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : عيسى ابن الله . فقال ذلك النصراني للمسلم : ونِعْمَ القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ولما أصبح الصباح انطلق إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقصَّ عليه الرؤيا ، فقال : ( هل قصَصْتَ على أحد ؟ ) . قال : لا . فقام الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - خطيبًا فيهم ، ثم قال : ( لقد كنتُ أسمع منكم كلمةً ، فيحمِلُني الحياء - هنا الشاهد - يحمِلُني الحياء على أن لا أنكر ذلك عليكم ، حتى قَصَّ عليَّ فلان بأنه رأى كذا وكذا ، أَلَا فلا يقولَنَّ أحدكم : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن ليقل : ما شاء الله وحده ) . وفي رواية في هذا الحديث أو الذي قبله : ( ولكن ليقُلْ ما شاء الله ثم ما شاء محمد ) . الأصل أن يقول : ما شاء الله وحدَه ، هذا أحسن من الشرك ، فإن كان ولا بد أن يذكر محمَّدًا فيذكره بحرف " ثم " ؛ لأنها تفيد أدنى مرتبة ، أما الواو فتفيد الشرك ؛ لذلك أنكر الرسول - عليه السلام - على ذاك الذي خاطَبَه بقوله مباشرةً : ما شاء الله وشئت ، وأنكر - أيضًا - ما دلَّت عليه الرؤيا من أن الصحابة يقولون أحيانًا : ما شاء الله وشاء محمد .
موضع الاستشهاد في هذا الحديث أوضح من الاستشهاد بالحديث السابق الذي قبلَه ؛ ذلك أنَّ هذا القول لو كان شرك ردَّة ما سكت عنه الرسول - عليه السلام - قيدَ شعرة ولا لحظة واحدة ؛ لأنه كما تعلمون جميعًا ما بَعَثَ اللهُ الرسل ، ولا أنزل الكتب إلا لإحلال التوحيد محلَّ الشرك ؛ فلا مهاودة في ذلك إطلاقًا ، ولكن هذا النوع من الشرك لما كان شركًا عمليًّا ولم يكن شركًا اعتقاديًّا لم يأذَنِ الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينبِّهَهم على ذلك إلا حينما رأى ذلك الرائي رؤياه وقَصَّها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحذَّرَهم من ذلك .
والواقع أني أريد أن أذكِّر بشيء ربما أكثر الناس عنه غافلون ؛ يجب أن نعلَمَ أنه لا فرق في الإسلام بين الكفر والشرك خلاف ما هو الشَّائع والذائع بين علماء المسلمين فضلًا عن غيرهم ؛ أي : يجب أن نعلم أن كلَّ كفر شرك ، وكل شرك كفر ؛ فليس هناك كفر ليس بشرك كما يتوهَّم بعض الناس ، نعم هناك كفر غير شرك لغةً ، أما شرعًا فكلُّ كفر هو شرك ، وهذا تجدونه صريحًا في المحاروة التي قَصَّها الله - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم بين الكافر صاحب الجنَّتين وبين صاحبه المؤمن ، فالمحاروة التي جَرَتْ بينهما تدلُّكم دلالةً صريحةً على أن مَن أنكر البعث - مثلًا - فهو مشرك ، مع أن هذا لا يُقال عنه في عرف العلماء أنه مشرك ؛ لأنه يؤمن بأن خالق الكون واحد ، وربما يعبده ... واحدة ، ولكنه ينكر البعث ، فلو تصوَّرنا إنسانًا مؤمنًا بكلِّ نواحي الإيمان ، ولكنه أنكَرَ شيئًا من الإسلام ؛ فالمعروف عادة أنُّو بإنكاره كفر ، هذا كفر لا شك ، لكنه - أيضًا - أشرك ، والسِّرُّ في هذا ، أو قبل ذلك لعلَّنا نذكِّركم بالآيات الواردة في السورة المذكورة ؛ حيث قال الله - عز وجل - : (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً )) ، هذا في العرف السائد أشرَكَ أم كفرَ ؟ قولوا ؛ هذا في العرف السائد أشرك أم كفر ؟
السائل : كفر .
الشيخ : كفر ؛ ليه ؟ لأنه أنكر البعث والنشور والقيامة ، (( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا )) .
أي : لا أشرك بربي أحدًا كما أشركتَ أنتَ ؛ أين الشرك ؟ سأشرحه لك . ثم نتابع الآيات : (( وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا )) . إذًا هو هذا الرجل الذي أنكَرَ البعث والقيامة اعترف بنفسه أنه أشرك مع ربِّه وشهد عليه بذلك صاحبُه المؤمن ، لكنه هو الله ربِّي ولا أشرك بربي أحدًا كما أشرت أمس ، أين الشرك في القضية ؟ الشرك هو يكمنُ في أنَّ كل مَن أنكر ما جاء في الشرع فقد اتَّخذ عقلَه إلهَه ، وحكَّمَه في كلِّ ما يقرُّ أو ينكر ، فمن هنا جاء الشرك بالنسبة لكلِّ مَن يكفر ؛ لذلك فيبقى السؤال في السابق ولو أننا أجبنا عليه مجاراةً للعرف السائد ؛ يبقى السؤال صوري شكلي ؛ يعني هل الشرك - أيضًا - فيه شرك اعتقادي وشرك عملي ؟ هذا سؤال صوري ؛ لأنُّو لا فرق في الشرع بين الشرك وبين الكفر ، فكلُّ مشرك كافر ، وكل كافر مشرك ، ولكن لا بد من التَّفريق في الكفر أو الشرك ، فهما لفظان مترادفان شرعًا ؛ لا بد من التفريق بينما كان منه قد استقرَّ في قلب صاحبه فهو مرتد عن دينه ، وتجري عليه أحكام الرِّدَّة ، وبين أن يكون قد استقرَّ في قلبه الإيمان ، ولكنه يخالط هذا الإيمان في ببعض الأمور ، فيعصي الله - عز وجل - .
ولولا هذا التفصيل لم ينجُ مسلم من الكفر إذا كان الكفر كفرًا واحدًا ، لماذا ؟ يقول الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - : ( ولو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ، ولَجاءَ بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله ؛ فيغفر لهم ) ؛ أي : إن من طبيعة الإنسان أنه يذنب ، وإذا كان أذنب وقد كفر فالقضية مشكلة ، وإذا جاء جاءٍ أو أتى آتٍ بتفريق ؛ فأيُّ تفريق جاء به فهو مردود عليه ، إذا قال : نحن نحكم بالكفر على مَن جاء إطلاق لفظة الكفر عليه ؛ ما أظن أنه يستطيع أن يطَّرد ذلك ، وهذا نحن مثال من أمثلة كثيرة جدًّا ، وقتال المسلم كفر ، لا يقول : المسلمون أجمعوا بعد رأي ابن عباس تفرَّد به ثم رجع عنه أن القاتل المؤمن كافر ولا توبة له ، فالمسلمون مجمعون أن القاتل حكمُه إلى الله ؛ إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له ، وهذا صريح القرآن الكريم - أيضًا - في الآية المشهورة : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) .
انظروا الآن كيف تتجاوب نصوص الشريعة بعد فهمِها فهمًا صحيحًا ، (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ )) ؛ إذا فرَّقنا بين الكفر والشرك فهناك اليوم في أوروبا ديانة يسمُّونها بالديانة الطبيعية ؛ يعني هؤلاء لا يؤمنون بالكتب والرسل ، وإنما دروسهم وبحوثهم أودَى بهم إلى الإيمان بأنَّ لهذا الكون خالقًا واحدًا لا شريك له ، لكن لا يؤمنون بكلِّ ما جاء في شرعنا بصورة خاصَّة ، هل الله يغفر لهؤلاء ؟ إذا فُسِّرت الآية : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ )) يمكن أن يغفر الله لمثل هؤلاء لأنهم ليسوا مشركين ، لأنهم يؤمنون بالله واحدًا لا شريك له ، وأنا فعلًا رأيت أحد كبار العلماء المصريين قد استدلَّ بهذه الآية أنه يجوز أن الله - عز وجل - لا يعذِّب هؤلاء الكفار الذين آمنوا بوجود الله - عز وجل - لأنهم ليسوا مشركين ! هذا جاءه بسبب التفريق بين الشرك والكفر ، لكننا إذا فَهِمنا أن الشرك كفر ، وأن الكفر شرك ؛ حينئذٍ تكون الآية واضحة الدلالة أنَّ كلَّ مَن كَفَرَ ، لا نقول الآن لفظ أشرك ، كلُّ مَن كَفَرَ بالله - عز وجل - أيَّ نوعٍ من أنواع الكفر الاعتقادي فلا يغفره الله - تبارك وتعالى - . (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) ؛ أي : ما دون ذلك من الكفر الكبير الذي لا كفرَ بعده ، فالله - عز وجل - يغفره .
الشيخ : ... المسألة واحدة ؛ سواء قلنا : كفر اعتقادي أو كفر علمي ، أو قلنا : شرك اعتقادي أو قلنا : شرك عملي ؛ لا بد في الشرك الذي يُخرج به صاحبه من الملة أن يقترنَ به الاعتقاد في المخالف للكتاب والسنة ، والأمثلة من السنة التي هي تبيِّن لنا مثل هذه الحقائق وتجلِّيها كثيرة ، مثلًا لما سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عمر بن الخطاب يحلف بأبيه ؛ قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ، مَن كان منكم حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليصمت ) . قال عمر : " فما حلفت بعد ذلك بغير الله ذاكرًا ولا آثرًا " ؛ يعني ولو على سبيل الحكاية ، ما ذكر أنُّو فلان قال : " بأبي " ، ما نقل ذلك وهذا من تقواه وورعه - رضي الله عنه - .
الشاهد : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سمع عمر يحلف بأبيه ما كفَّرَه ، وما أخرجه عن دينه ، ويجب أن نعلم أنَّ من لوازم إخراج المسلم عن دينه التَّفريق بينه وبين زوجه ، مش مجرَّد كلمة نقولها : أنُّو والله هذا كفر وارتدَّ عن دينه ، وكل شيء بقى على ما هو عليه ، هذا له لوزام ، منها أنه إذا كان متزوِّجًا أنه يفرِّق الشرع بينه وبين زوجته حتى يتوب ويعود عن شركه وعن كفره إلى الإيمان الصحيح ، كذلك لمَّا خَطَبَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاتَ يومٍ وقام رجل ليقولَ له : ما شاء الله وشئت يا رسول الله . قال : ( أَجَعَلتَنِي لله ندًّا ؟! قل ما شاء الله وحدَه ) . فنجد ههنا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزِدْ على أكثر من الإنكار الشديد على هذا الذي قالَ له : ما شاء الله وشئت ، لكنه ما رتَّبَ ما يترتَّب من لوازم فيما لو كان ذلك الإنسان أشرك بمعنى ارتَدَّ عن دينه ، وإنما اكتفى بأن بيَّنَ له أن هذا شرك .
أبدع من هذا وأبعد عن أن يكون مثل هذا شرك ردَّة أن رجلًا من الصحابة رأى في المنام كأنه يمشي في بعض أزقة المدينة ، فلَقِيَ رجلًا من اليهود ، فقال المسلم لليهودي : نِعْمَ القوم أنتم معشر يهود لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : عزير ابن الله . فعارضه اليهودي وقال للمسلم : ونِعْمَ القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم استمرَّ في منامه يمشي حتى لَقِيَ رجلًا من النصارى ، فقال له : نِعْمَ القوم أنتم معشر النصارى لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : عيسى ابن الله . فقال ذلك النصراني للمسلم : ونِعْمَ القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله ؛ فتقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ولما أصبح الصباح انطلق إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقصَّ عليه الرؤيا ، فقال : ( هل قصَصْتَ على أحد ؟ ) . قال : لا . فقام الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - خطيبًا فيهم ، ثم قال : ( لقد كنتُ أسمع منكم كلمةً ، فيحمِلُني الحياء - هنا الشاهد - يحمِلُني الحياء على أن لا أنكر ذلك عليكم ، حتى قَصَّ عليَّ فلان بأنه رأى كذا وكذا ، أَلَا فلا يقولَنَّ أحدكم : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن ليقل : ما شاء الله وحده ) . وفي رواية في هذا الحديث أو الذي قبله : ( ولكن ليقُلْ ما شاء الله ثم ما شاء محمد ) . الأصل أن يقول : ما شاء الله وحدَه ، هذا أحسن من الشرك ، فإن كان ولا بد أن يذكر محمَّدًا فيذكره بحرف " ثم " ؛ لأنها تفيد أدنى مرتبة ، أما الواو فتفيد الشرك ؛ لذلك أنكر الرسول - عليه السلام - على ذاك الذي خاطَبَه بقوله مباشرةً : ما شاء الله وشئت ، وأنكر - أيضًا - ما دلَّت عليه الرؤيا من أن الصحابة يقولون أحيانًا : ما شاء الله وشاء محمد .
موضع الاستشهاد في هذا الحديث أوضح من الاستشهاد بالحديث السابق الذي قبلَه ؛ ذلك أنَّ هذا القول لو كان شرك ردَّة ما سكت عنه الرسول - عليه السلام - قيدَ شعرة ولا لحظة واحدة ؛ لأنه كما تعلمون جميعًا ما بَعَثَ اللهُ الرسل ، ولا أنزل الكتب إلا لإحلال التوحيد محلَّ الشرك ؛ فلا مهاودة في ذلك إطلاقًا ، ولكن هذا النوع من الشرك لما كان شركًا عمليًّا ولم يكن شركًا اعتقاديًّا لم يأذَنِ الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينبِّهَهم على ذلك إلا حينما رأى ذلك الرائي رؤياه وقَصَّها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحذَّرَهم من ذلك .
والواقع أني أريد أن أذكِّر بشيء ربما أكثر الناس عنه غافلون ؛ يجب أن نعلَمَ أنه لا فرق في الإسلام بين الكفر والشرك خلاف ما هو الشَّائع والذائع بين علماء المسلمين فضلًا عن غيرهم ؛ أي : يجب أن نعلم أن كلَّ كفر شرك ، وكل شرك كفر ؛ فليس هناك كفر ليس بشرك كما يتوهَّم بعض الناس ، نعم هناك كفر غير شرك لغةً ، أما شرعًا فكلُّ كفر هو شرك ، وهذا تجدونه صريحًا في المحاروة التي قَصَّها الله - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم بين الكافر صاحب الجنَّتين وبين صاحبه المؤمن ، فالمحاروة التي جَرَتْ بينهما تدلُّكم دلالةً صريحةً على أن مَن أنكر البعث - مثلًا - فهو مشرك ، مع أن هذا لا يُقال عنه في عرف العلماء أنه مشرك ؛ لأنه يؤمن بأن خالق الكون واحد ، وربما يعبده ... واحدة ، ولكنه ينكر البعث ، فلو تصوَّرنا إنسانًا مؤمنًا بكلِّ نواحي الإيمان ، ولكنه أنكَرَ شيئًا من الإسلام ؛ فالمعروف عادة أنُّو بإنكاره كفر ، هذا كفر لا شك ، لكنه - أيضًا - أشرك ، والسِّرُّ في هذا ، أو قبل ذلك لعلَّنا نذكِّركم بالآيات الواردة في السورة المذكورة ؛ حيث قال الله - عز وجل - : (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً )) ، هذا في العرف السائد أشرَكَ أم كفرَ ؟ قولوا ؛ هذا في العرف السائد أشرك أم كفر ؟
السائل : كفر .
الشيخ : كفر ؛ ليه ؟ لأنه أنكر البعث والنشور والقيامة ، (( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا )) .
أي : لا أشرك بربي أحدًا كما أشركتَ أنتَ ؛ أين الشرك ؟ سأشرحه لك . ثم نتابع الآيات : (( وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا )) . إذًا هو هذا الرجل الذي أنكَرَ البعث والقيامة اعترف بنفسه أنه أشرك مع ربِّه وشهد عليه بذلك صاحبُه المؤمن ، لكنه هو الله ربِّي ولا أشرك بربي أحدًا كما أشرت أمس ، أين الشرك في القضية ؟ الشرك هو يكمنُ في أنَّ كل مَن أنكر ما جاء في الشرع فقد اتَّخذ عقلَه إلهَه ، وحكَّمَه في كلِّ ما يقرُّ أو ينكر ، فمن هنا جاء الشرك بالنسبة لكلِّ مَن يكفر ؛ لذلك فيبقى السؤال في السابق ولو أننا أجبنا عليه مجاراةً للعرف السائد ؛ يبقى السؤال صوري شكلي ؛ يعني هل الشرك - أيضًا - فيه شرك اعتقادي وشرك عملي ؟ هذا سؤال صوري ؛ لأنُّو لا فرق في الشرع بين الشرك وبين الكفر ، فكلُّ مشرك كافر ، وكل كافر مشرك ، ولكن لا بد من التَّفريق في الكفر أو الشرك ، فهما لفظان مترادفان شرعًا ؛ لا بد من التفريق بينما كان منه قد استقرَّ في قلب صاحبه فهو مرتد عن دينه ، وتجري عليه أحكام الرِّدَّة ، وبين أن يكون قد استقرَّ في قلبه الإيمان ، ولكنه يخالط هذا الإيمان في ببعض الأمور ، فيعصي الله - عز وجل - .
ولولا هذا التفصيل لم ينجُ مسلم من الكفر إذا كان الكفر كفرًا واحدًا ، لماذا ؟ يقول الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - : ( ولو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ، ولَجاءَ بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله ؛ فيغفر لهم ) ؛ أي : إن من طبيعة الإنسان أنه يذنب ، وإذا كان أذنب وقد كفر فالقضية مشكلة ، وإذا جاء جاءٍ أو أتى آتٍ بتفريق ؛ فأيُّ تفريق جاء به فهو مردود عليه ، إذا قال : نحن نحكم بالكفر على مَن جاء إطلاق لفظة الكفر عليه ؛ ما أظن أنه يستطيع أن يطَّرد ذلك ، وهذا نحن مثال من أمثلة كثيرة جدًّا ، وقتال المسلم كفر ، لا يقول : المسلمون أجمعوا بعد رأي ابن عباس تفرَّد به ثم رجع عنه أن القاتل المؤمن كافر ولا توبة له ، فالمسلمون مجمعون أن القاتل حكمُه إلى الله ؛ إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له ، وهذا صريح القرآن الكريم - أيضًا - في الآية المشهورة : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) .
انظروا الآن كيف تتجاوب نصوص الشريعة بعد فهمِها فهمًا صحيحًا ، (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ )) ؛ إذا فرَّقنا بين الكفر والشرك فهناك اليوم في أوروبا ديانة يسمُّونها بالديانة الطبيعية ؛ يعني هؤلاء لا يؤمنون بالكتب والرسل ، وإنما دروسهم وبحوثهم أودَى بهم إلى الإيمان بأنَّ لهذا الكون خالقًا واحدًا لا شريك له ، لكن لا يؤمنون بكلِّ ما جاء في شرعنا بصورة خاصَّة ، هل الله يغفر لهؤلاء ؟ إذا فُسِّرت الآية : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ )) يمكن أن يغفر الله لمثل هؤلاء لأنهم ليسوا مشركين ، لأنهم يؤمنون بالله واحدًا لا شريك له ، وأنا فعلًا رأيت أحد كبار العلماء المصريين قد استدلَّ بهذه الآية أنه يجوز أن الله - عز وجل - لا يعذِّب هؤلاء الكفار الذين آمنوا بوجود الله - عز وجل - لأنهم ليسوا مشركين ! هذا جاءه بسبب التفريق بين الشرك والكفر ، لكننا إذا فَهِمنا أن الشرك كفر ، وأن الكفر شرك ؛ حينئذٍ تكون الآية واضحة الدلالة أنَّ كلَّ مَن كَفَرَ ، لا نقول الآن لفظ أشرك ، كلُّ مَن كَفَرَ بالله - عز وجل - أيَّ نوعٍ من أنواع الكفر الاعتقادي فلا يغفره الله - تبارك وتعالى - . (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) ؛ أي : ما دون ذلك من الكفر الكبير الذي لا كفرَ بعده ، فالله - عز وجل - يغفره .
- تسجيلات متفرقة - شريط : 217
- توقيت الفهرسة : 01:03:41
- نسخة مدققة إملائيًّا